التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

١
٢

٣
٤

الجزء السادس

ثبت بالسور المدنية مرتبة حسب نزولها الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هكذا :

١ ـ البقرة

٩ ـ الطلاق

١٧ ـ التغابن

٢ ـ الأنفال

١٠ ـ البينة

١٨ ـ الصف

٣ ـ آل عمران

١١ ـ الحشر

١٩ ـ الجمعة

٤ ـ الأحزاب

١٢ ـ النور

٢٠ ـ الفتح

٥ ـ الممتحنة

١٣ ـ المنافقون

٢١ ـ المائدة

٦ ـ النساء

١٤ ـ المجادلة

٢٢ ـ التوبة

٧ ـ الحديد

١٥ ـ الحجرات

٢٣ ـ النصر

٨ ـ محمد

١٦ ـ التحريم

١٧ ـ التغابن

على أننا سوف نخالف ترتيب بعض هذه السور ؛ لأن في بعضها دلالات تكاد تكون قطعية على أن ترتيبها ؛ حسب ما رواه المصحف الذي اعتمدناه ؛ لا يمكن أن يكون صحيحا ومبررا.

من ذلك سورة الممتحنة التي ذكرت كخامسة السور المدنية ترتيبا ، مع أنها تحتوي إشارات إلى وقائع جرت بعد صلح الحديبية ، الذي أشير إليه في سورة الفتح ، التي جاء ترتيبها العشرين ، والتي احتوت سورة المائدة إشارة إليها. ولذلك سوف نؤخر تفسير سورة الممتحنة إلى بعد سورتي الفتح والمائدة. ومن ذلك سورة الجمعة التي ذكرت كتاسعة عشرة ، مع أن فيها تنديدا بمواقف اليهود يدل

٥

على أنها نزلت قبل التنكيل بجميع يهود المدينة. ولذلك سوف نقدم تفسيرها على سورة الأحزاب التي ذكرت فيها آخر وقائع التنكيل بيهود المدينة.

ومن ذلك سورة الحديد التي ذكرت كسابعة السور ترتيبا مع أنها تحتوي إشارة إلى ما بعد الفتح المكي ، الذي وقع بعد صلح الحديبية بسنتين. ولذلك سوف نؤخر تفسيرها إلى ما بعد تفسير سورة الممتحنة التي فيها إشارة إلى حركة الفتح المكي قبيل وقوعه.

ومن ذلك سورة الحشر ، التي جاء ترتيبها الحادية عشرة ، مع أنها نزلت في مناسبة وقعة إجلاء بني النضير التي كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق المشار إليها في سورة الأحزاب ؛ ولذلك سوف نقدم تفسيرها على هذه السورة. وعلى هذا فسوف يكون ترتيب تفسير السور المدنية في هذا الجزء والأجزاء التالية كما يلي :

البقرة ـ الأنفال ـ آل عمران ـ الحشر ـ الجمعة ـ الأحزاب ـ النساء ـ محمد ـ الطلاق ـ البينة ـ النور ـ المنافقون ـ المجادلة ـ الحجرات ـ التحريم ـ التغابن ـ الفتح ـ المائدة ـ الممتحنة ـ الحديد ـ التوبة ـ النصر ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

السور المفسّرة في هذا الجزء (١)

١ ـ الحج

٢ ـ الرحمن

٣ ـ الإنسان

٤ ـ الزلزلة

٥ ـ البقرة

__________________

(١) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء

٦

سورة الحجّ

في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة الله على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين. وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر الله وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة الله في كونه. وبعذاب الله للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها ، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين ، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها ، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم (عليه‌السلام) وما جعل الله لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس.

والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية ، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية ، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنيّة.

والآيات المرويّة مدنيتها هي [١٩ ـ ٢٢] في رواية و [١٩ ـ ٢٤] في رواية أخرى ، ثم الآيات [٣٨ ـ ٤١ و ٥٢ ـ ٥٥ و ٥٨ ـ ٦٠].

والمتمعن في الآيات [١٩ ـ ٢٤] ومضمونها ، يجد أن أسلوبها ومضمونها

٧

مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [٥٢ ـ ٥٥]. أما الآيات [٣٨ ـ ٤١ و ٥٨ ـ ٦٠] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها ، مع احتمال أن تكون ـ وبخاصة الآيات [٣٨ ـ ٤١] ـ مكية أيضا ؛ لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك.

وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه ، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [٢٥ ـ ٢٧] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكونا مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد.

وعلى كل حال ، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها ، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية.

وفي هذه السورة موضعان يسجد عندهما سجود تلاوة ، وهما الآيتان [١٨ و ٧٧] وقد ورد في صدد ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر قال : «قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان قال : نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» (١). وروى هذا الحديث الإمام أحمد بفرق مهم وهو أن عقبة قال : «يا رسول الله ، أفضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم» (٢). وهناك حديث رواه أبو داود عن خالد بن معدان «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» (٣). وحديث رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم قال : «سجد عمر سجدتين في الحجّ ـ أي في سورة الحجّ ـ وهو بالجابية ، وقال إنّ هذه فضلت بسجدتين» (٤).

والحديث الأول وارد في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة ، والأحاديث الأخرى محتملة الصحّة. وسجدات التلاوة منحصرة في السور المكيّة. فبالإضافة

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) من تفسير السورة لابن كثير.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه.

٨

إلى ما في الأحاديث من تنويه بفضل هذه السورة ، فإن فيها ، والحالة هذه ، دلالة على مكيتها ، والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢)) [١ ـ ٢]

(١) الزلزلة : معناها اللغوي شدّة التحريك وإزالتها للأشياء عن أماكنها.

في الآيتين : حثّ للناس على تقوى الله والتزام حدوده. وتحذير من هول يوم القيامة ، الذي يحاسب الناس فيه على أعمالهم. وتشبيهه بالزلزلة العظيمة ، التي تذهل الأمهات ، حين ما تحدث ، عن أطفالهن وتجهض الحاملات ، ويبدو الناس كالمخمورين ولو لم يشربوا خمرا ؛ بسبب الرعب الشديد والاضطراب اللذين يستوليان عليهم.

ولقد روى الطبري وغيره (١) روايات متعددة الصيغ مع اتفاقها بالجوهر ، في صدد هذه الآيات ، جاء في واحدة منها رواها الطبري عن عمران بن الحصين قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض مغازيه ، وقد فاوت السير بأصحابه ، إذ نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، فجثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله ، قال : هل تدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم ينادي آدم ويناديه ربّه ابعث بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، قال : فأبلس القوم فما وضح منهم ضاحك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا اعملوا وأبشروا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم

__________________

(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري أيضا.

٩

إلّا كثرتاه فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج ، قال : أبشروا وأما أنتم في الناس إلّا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في جناح الدابة». وفي بعض صيغ الروايات التي يرويها الطبري ، ذكر أن الآيتين نزلتا حينئذ حيث يقتضي هذا إذا صحّت الرواية أن تكون الآيتان مدنيتين. غير أن الرواية التي أوردناها لا تذكر ذلك صراحة وكل ما ذكرته أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى بهذه الآية. وفي بعض صيغ الروايات ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها عليهم وليس فيها خبر نزولها حينئذ. وشيء من الرواية التي أوردناها رواه الشيخان في سياق تفسير الآيتين ، ولكن ليس في نصّهما أنهما نزلتا حينئذ ، وهذا هو نصّ حديث الشيخين عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى يا آدم ، فيقول : لبّيك وسعديك والخير بين يديك ، فيقول : أخرج بعث النّار ، قال : وما بعث النار؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير ، وتضع كلّ ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. قالوا : يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد؟ قال : أبشروا فإنّ منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا. ثم قال : والذي نفسي بيده ، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبّرنا ، فقال : ما أنتم في الناس إلّا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» (١).

وأسلوب الآيتين من الأساليب المكية ، وصلتهما قويّة بالآيات التالية لهما التي تذكر البعث وارتياب الناس وجدلهم فيه ، وتبرهن على قدرة الله تعالى عليه ؛ حتى ليصحّ أن يقال إنهما مقدمة لما بعدهما. مما يجعلنا نستبعد نزولهما في العهد المدني ، ونرجّح نزولهما في العهد المكي ، ونفسّر ما جاء في الروايات بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها عليهم في أثناء الغزوة ، وفي موقف أو ظرف شاءت حكمته أن يذكر أصحابه بهول يوم القيامة ويعظهم ويبشرهم ويطمئنهم في الوقت نفسه ؛ فالتبس الأمر على الرواة. ومع واجب الإيمان بما يصحّ عن رسول الله من خبر المشاهد

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٥٩.

١٠

الأخروية فإن هذه الحكمة ملموحة في الحديث الذي يرويه الشيخان ، والذي لا يذكر مناسبة النزول التي ترويها الروايات ، والله أعلم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)) [٣ ـ ٤]

(١) مريد : متمرد.

وفي هاتين الآيتين : إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون في وجود الله وربوبيته الشاملة واستحقاقه وحده للعبادة بغير علم ولا برهان ؛ اتباعا لوسوسة كلّ شيطان متمرّد يضلّ من يتبعه عن طريق الحقّ ويوصله إلى عذاب السعير.

وقد روى المفسرون (١) أن الآيتين نزلتا في النضر بن الحارث أحد أشداء مجادلي كفار قريش مع النبي ومناوئيهم له. وهذا الشخص تكرر اسمه في مناسبة كثير من المواقف الجدلية التي حكتها الآيات المكية.

وأسلوب الآيتين تنديدي عام من جهة ، وفيهما قرينة على أن التنديد فيهما موجّه إلى فريق من الكفار الذين يسيرون في مواقفهم الجحودية والجدلية وراء تلقين زعماء كفار من جهة ثانية. وهما تعقيب بياني على المطلع فيما هو المتبادر من جهة ثالثة ؛ فقد احتوى المطلع هتافا بالناس ليتقوا الله من اليوم العظيم ، فجاءت الآيتان تذكر موقف بعض الناس الضّالين الذين يجادلون في الله ويستمعون إلى وساوس الشياطين. وفيهما على كلّ حال صورة من صور المواقف الجدليّة التعجيزية ، التي لا يسندها منطق ولا حقّ ولا برهان ، والتي كان يقفها الكفار من الدعوة النبويّة بتأثير زعماء الضلال والمناوأة ، الذين يمكن أن يكونوا قصدوا في جملة (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) من جهة رابعة.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

١١

وهذا لا يمنع بالطبع أن يكون في الآيتين إشارة إلى شخص وقف موقفا جدليا تعجيزيا قبل نزول السورة ؛ فكان ذلك مناسبة لهذه الإشارة.

ولقد انطوى في الآيتين ، مع خصوصيتهما الزمنية ، تلقين قوي مستمر المدى والشمول بتقبيح من يتّصف بالصفات المذكورة فيهما ، وتقبيح هذه الصفات والحثّ على اجتنابها مما تكرر في مناسبات عديدة مماثلة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)) [٥ ـ ٧]

(١) مضغة : قطعة اللحم التي تتطور من العلقة والنطفة.

(٢) مخلّقة وغير مخلّقة : قال المفسرون : إن المخلّقة هي المضغة التي تتشكل جنينا ، وغير المخلقة هي التي تسقط من الرحم دون أن تتشكّل.

(٣) ربت : نمت وتفتحت.

في هذه الآيات خطاب للناس بسبيل البرهنة على البعث بعد الموت : فإذا كانوا في ريب من ذلك فعليهم :

١ ـ أن يفكروا في نشأتهم وأطوارها. فقد خلق الله أوّلهم من تراب ثم جعلهم يتناسلون عن طريق النطفة ، حيث تتطور النطفة إلى علقة دم ، والعلقة إلى مضغة لحم ، ومن المضغ ما يسقط قبل أن تتخلّق ، ومنها ما يستقر في الرحم

١٢

فتتخلّق على صورة الإنسان وتبقى إلى مدة معينة ، ثم طفلا ثم يبلغ أشدّه من القوّة والتمييز. ومن الناس من يتوفّون من قبل أن يمتدّ بهم العمر ، ومنهم من يمتدّ بهم فيضعفون بعد قوة ويفقدون وعيهم بعد التمييز ، حتى لا يكادون يعلمون شيئا مما كانوا يعلمونه. ففي هذا بيان لهم ومثال على عظيم قدرة الله.

٢ ـ وعليهم أن يفكروا في الأرض فإنّها تكون هامدة جامدة ، فإذا ما أنزل الله عليها الماء ، اهتزت ونفشت وتفتحت وأنبتت النباتات المتنوعة البهيجة.

ففي هذا وذاك ما من شأنه أن يقنعهم بأن الله هو الحقّ ، وأنه لا يمكن أن يكون خلق الخلق إلّا بالحق ، وأنه قادر على كلّ شيء ، وأنه قادر بطبيعة الحال على إحياء الموتى ثانية. وبأن ما أخبر به رسوله من مجيء الساعة وبعث من في القبور إلى الحياة حق لا ريب فيه.

والآيات غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة ؛ حيث ما تزال تهتف بالناس. فقد بدأت السورة بإنذارهم بزلزلة الساعة والإهابة لهم لتقوى الله ، وعقبت بذكر فئات الناس الذين يجادلون في الله ، فجاءت هذه الآيات تقيم للناس البرهان على قيام الساعة ، وسخف المجادلين في الله وضلالهم بما يرونه في أنفسهم وفي الأرض.

وهذا الأسلوب بل وهذه المعاني والأمثلة لإقناع الناس بالبعث وقدرة الله عليه وحكمته ، مما تكرر في القرآن كثيرا في مناسبات حكاية مواقف الجدل التي كانت تتكرر كثيرا في الموضوع ، والتي كانت مسألة البعث بعد الموت من أهمّ مواضيعها ومثيراتها. وقد يكون في الآيات دلالة على أنها وما قبلها نزلت في موقف من هذه المواقف.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات عدّة أحاديث. منها حديث عزاه إلى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : «حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الصادق المصدوق ، أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ،

١٣

فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقيّ أو سعيد ، ثمّ ينفخ فيه الروح» (١). ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والبرص والجذام». وحديث من بابه مع زيادة مهمة رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أيضا قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلّا صرف الله عنه أنواعا من البلاء الجنون والجذام والبرص. فإذا بلغ خمسين سنة ليّن الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وسمّي أسير الله ، وأحبّه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين تقبّل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في أرضه ، وشفع في أهل بيته».

والحديث الأول متّصل بموضوع القدر ، وقد أوردناه مع زيادته في التعليق الذي علقنا به على هذا الموضوع في سياق سورة القمر ، فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر.

والحثّ على الإخلاص له والتزام حدود الدين الإسلامي ـ وهذا هو المقصود من جملة ما من معمّر في الإسلام ـ والتبشير والتطمين للمسلمين من الحكمة الملموحة في الأحاديث الأخرى إن صحت ، والله أعلم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ

__________________

(١) روى ابن كثير هذا الحديث بصيغ أخرى ومن طرق أخرى. وهذا الحديث وارد في التاج ج ١ ص ٣٢ عزوا إلى الأربعة (أي البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود) بزيادة مهمة وهي : «فو الله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ؛ وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».

١٤

يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)) [٨ ـ ١٠]

(١) ثاني عطفه : لاوي جانبه. والقصد من التعبير وصف المندد به بالكبر والتبختر في الوقفة والمشية.

في هذه الآيات :

١ ـ إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يجادل ويكابر في الله وآياته بدون علم ولا هدى ولا برهان من كتاب صادق ، متكبرا متبخترا مشتدّا في العناد ليؤثر على غيره ويمنعه عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته.

٢ ـ وإنذار شديد له ، فله الخزي والهوان في الدنيا وله عذاب الحريق في الآخرة. وهذا جزاؤه الحقّ على ما قدمت يداه وليس فيه ظلم. فالله لا بظلم أحدا من عبيده وإنما يجزي كلا بما يستحقّ.

وقد روى المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث ، ومنهم من روى أنها نزلت في أبي جهل ، ومنهم من روى أنها عنتهما.

والمتبادر أنها استمرار في السياق ، أو أنها استطراد إلى ذكر فريق آخر من زعماء الكفار يصدّ غيره ويوسوس لغيره ، بينما احتوت الآيتان [٣ و ٤] صورة الفريق الذي يتبع غيره ويتأثر بوسوسة غيره. وأسلوبها تنديدي كأسلوب الآيتين المذكورتين.

وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن تكون احتوت إشارة إلى موقف جدلي خاص وقفه أحد زعماء الكفار قبل نزول السورة ، بل لا بدّ من أن يكون الأمر كذلك ؛ لأنها تنطوي على مشهد واقعي.

ومع خصوصية الآيات فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينات جليلة مستمرة المدى وعامة الشمول بتقبيح المكابرة في الحقّ ، والاستكبار عليه وصدّ الناس عنه ، وتقبيح المتصفين بهذه الصفات.

١٥

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)) [١١ ـ ١٣]

(١) على حرف : على طرف ، والمقصد إنه شاكّ وإنه على غير اطمئنان وصدق بإيمانه.

(٢) العشير : الصاحب والمعاشر.

وفي هذه الآيات : إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ؛ ويكون مذبذبا. فإذا أصابه خير اطمأنّ وابتهج به ، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه ، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيرة.

وقد روى المفسرون (١) أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي في المدينة فيسلمون ، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام ، وقالوا هذا دين صالح ؛ وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى (٢) تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه : «كان الرجل يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ؛ وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء» (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(٢) انظر تفسير الزمخشري.

(٣) التاج ج ٤ ص ١٦٠.

١٦

وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنيّة. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة ، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكيّة ؛ لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي ، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاء لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحبابا في الحياة ، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧)). وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات ، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية ، منها آية سورة العنكبوت هذه : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)) وآيات سورة الروم هذه (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣)) و (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)) (١) فلعلّ هذه الآيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق. ولعلّ في الآية [١٥] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي

__________________

(١) انظر أيضا : آيات سورة الأعراف [١٨٩ ـ ١٩١] ويونس [١٢ و ٢٢ ـ ٢٣ و ٣١ ـ ٣٦] والنحل [٥٢ ـ ٥٥] والإسراء [٦٧ ـ ٦٩ و ٨٣] والزمر [٨] فهي من هذا الباب.

١٧

رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني. ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه.

وقد يبدو أن الآية [١٣] متناقضة مع الآية [١٢] ، من حيث إن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع ، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره (١) تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة ، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم.

وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه ، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا ، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)) [١٤]

المتبادر أن هذه الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة مباشرة حيث انطوت على التنويه بالذين آمنوا وأخلصوا وثبتوا في إيمانهم وعملوا الأعمال الصالحة ؛ ووعد لهم بجنات الله الأخروية مقابلة للتنديد الذي احتوته تلك الآيات بالذين يعبدون الله على حرف وبالفريقين اللذين وصفا في الآية الأولى. وهذا من مألوف النظم القرآني. وواضح أنها احتوت حثّا على الثبات في الإيمان والإقبال على العمل الصالح وبيانا بأن جزاء ذلك مضمون عند الله ، وتوكيدا بتقبيح الأخلاق المنعوتة في الآيات السابقة.

__________________

(١) انظر تفسير الخازن والزمخشري والطبرسي.

١٨

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥)) [١٥]

(١) بسبب : بحبل.

(٢) كيده : هنا بمعنى عمله أو محاولته.

الآية تأمر الذي يظنّ أن الله لن ينصره في الدنيا والآخرة بتعليق حبل في السقف ، وشنق نفسه به ؛ ليرى ما إذا كان هذا العمل يشفي غيظه ويذهب حنقه.

ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما ، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان ، الذين كانوا حلفاء لليهود وتباطأوا عن الإسلام وقالوا نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة. وكما استعدنا الرواية المروية في سياق الآيات [١١ ـ ١٣] والتي تقتضي أن تكون هذه الآيات مدنية لأسباب ذكرناها نستبعد هذه الرواية لنفس الأسباب. وليس من الضرورة أن تكون الصورة صورة مدنية وحسب. وما دام وجد في العهد المكي من يرتدّ عن دينه استحبابا للحياة الدنيا ، يصحّ أن يوجد فيه من يظنّ ما ذكرته الآية من ضعاف الإيمان والعصبية من مسلمي هذا العهد أيضا.

ويتبادر لنا أن الآية جاءت كتعقيب آخر على تلك الآيات التي نددت بالذين يعبدون الله على حرف ويجعلون إخلاصهم رهنا بما يصيبهم من رحمة الله وبرّه. وقد انطوت على توبيخ وتقريع ساخرين. وعلى تقرير كون الإنسان لا يصحّ أن يؤمن إلّا على شرط أن لا يناله إلّا الخير. وكون الإيمان بالله مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراض الدنيا المتقلّبة على الناس ، وكون واجب المؤمن التأميل في رحمة الله ونصره في الدنيا والآخرة ؛ لأن ذلك مما وعده الله به ، وكون البطء في تحقق هذا الوعد والجزع والهلع واليأس منه غير متّسق مع معنى الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه. وعلى من لا يتدبّر ويرعوي ويصدق أن يشنق نفسه! وكما أن شنق الإنسان لنفسه لن يشفيه من غيظه وغير ضارّ بغيره فكذلك المغيظ المحنق

١٩

المرتدّ بسبب تأخّر نصر الله له لن يضرّ غير نفسه ؛ لأن مصيره إلى عذاب الله وسخطه.

وفي الآية معالجة روحية قوية نافذة من دون ريب في مثل الحالات التي جاءت في صددها.

هذا وإنعام النظر في هذه الآية ومداها يظهر قوة توجيه واحتمال كون الصورة التي احتوتها الآيات [١١ ـ ١٣] صورة مكية على ما قلناه قبل ، ويسوغ القول إنها بسبيل تطمين ومعالجة من تعرّض للأذى والحرمان بسبب إسلامه ، والتنديد بالذين لم يثبتوا ويصبروا فخاروا وارتدّوا.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)) [١٦]

وهذه الآية متصلة بالسياق والموضوع اتصال تعقيب وتنبيه كما هو المتبادر.

فالله قد أنزل آيات القرآن واضحة بيّنة ، وهو إنما يهدي بها من أراد له السعادة والهدى.

وأسلوب الآية أسلوب تسلية وتطمين ، وقد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن في مثل هذه المواقف. وعلى ضوء الآيات العديدة التي قررت أن الله إنما يهدي من ينيب إليه ومن يستمع القول فيتبع أحسنه ، أي من حسنت نيته وصدقت رغبته في هدى الله ، ومنها آيات سورة الرعد [٢٧ ـ ٢٩] والزمر [١٨] لا يكون محل للالتباس في هذه الآية ، بسبب إطلاق الفقرة الأخيرة منها على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)) [١٧]

تقرّر هذه الآية أن الله هو الشهيد على كلّ شيء في حقيقة أصحاب النحل والمذاهب الموجودة من مؤمنين بالله والنبي ، ومن يهود وصابئين ونصارى

٢٠