التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

(٤) قاصرات الطرف : مرّ تفسيرها في سورة الصافات.

(٥) لم يطمثهن : لم يفضضهن. والطمث هو دم الرحم. وأصل المعنى لم يستنزل دمهن أحد قبلهم من إنس وجان.

والمقاطع فصل جديد فيه بيان المصير الأخروي للذين يخافون الله ويتقونه بالإيمان وصالح الأعمال مقابل فصلي الإنذار والوعيد السابقين ، وبيان مصير المجرمين الأخروي جريا على مألوف النظم القرآني. فهي والآيات السابقة سياق متسلسل. وعبارتها واضحة. والوصف الذي احتوته مشوق قوي. وقد استهدف فيما استهدفه كما هو المتبادر تبشير المؤمنين المتقين وتشويقهم. وإغراء غيرهم على الخوف من الله وتقواه والارعواء عن الغي والضلال.

وذكر الفرش التي بطائنها من إستبرق وتشبيه جمال نساء الجنة بالياقوت والمرجان قد يدلّ على أن هذه الأشياء مما يعرفها السامعون ويعرفون أنها عنوان الترف والبهاء والصفاء والجمال.

ولقد روى الشيخان في سياق آية (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) عن عبد الله بن قيس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبر على وجهه في جنّة عدن» (١) حيث ينطوي في الحديث توضيح أو تعليل لتثنية الجنة فيه إشارة إلى تفاوت ما بين الجنتين. ومع ذلك فالمفسرون يروون تأويلات أخرى منها أن واحدة للجنّ وأخرى للإنس. ومنها أن واحدة لمستحقيها وأخرى لأزواجهم. ومنها أن واحدة للنزهة وأخرى للسكن.

وعلى كل حال فإنه لا بدّ من أن يكون لورود الجملة بالنظم الذي وردت به حكمة ربانية في صدد التطمين والتشويق إلى ما أعدّه الله تعالى لمن يخشونه ويتقونه من النعيم الأخروي.

والخوف من مقام الله ذو مدى واسع إيجابي وسلبي حيث يشمل الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح في مختلف المجالات من ناحية واجتناب الإثم

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٢٤.

١٠١

والفواحش والبغي من ناحية أخرى.

ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ يوما (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال : وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي الدرداء. وروى بطرقه أنه قيل لأبي الدرداء في هذه الآية وإن زنى وإن سرق فقال إنه إن خاف مقام ربّه لم يزن ولم يسرق. حيث يبدو أن في الحديث الثاني توضيحا لما فهمه أبو الدرداء من الحديث الأول. وعلى كل حال فإن صحّ الحديث النبويّ الذي لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة فالأولى حمله على أن الزاني أو السارق إذا استشعر بخوف الله بعد عمله وندم وتاب وحسنت توبته وأصلح واصطلح نال رضاء الله وعفوه وصار مستحقا لما وعده لمن خاف مقامه.

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)) [٦٢ ـ ٧٨]

(١) ومن دونهما : هناك من أوّلها بأنها في معنى من دونهما مرتبة وخطورة. وهناك من أوّلها بأنها قربهما أو جنتان أخريان.

(٢) مدهامتان : منظرهما ضارب إلى السواد من شدّة الاخضرار والنضرة.

(٣) نضاختان : فوارتان. أو ممتلئتان أو الماء فيهما لا ينقطع عن النبع والفوران.

(٤) خيرات : قيل إنها مخففة من خيّرات جمع خيّرة فتكون الجملة : نساء حسان مختارات أو خيّرات.

١٠٢

(٥) مقصورات في الخيام : قيل إنها بمعنى محبوسات محفوظات في خيامهن على أزواجهن فلا يخرجن منها لغيرهم.

(٦) رفرف : قيل إنها الوسائد. وقيل إنها الطنافس والبسط ، ووصف الرفرف (بالخضر) قد يلهم أنها جمع وأنها متكئات عالية من النبات الأخضر على ما هو معتاد في أيام الربيع.

(٧) عبقري : قيل إنها كناية عن الطنافس والبسط. وقيل إنها وصف لكل جليل نفيس نادر حيا كان أم جمادا. وقيل إنها نسبة إلى بلد يصنع فيها الوشي. وقيل إن عبقر بلد أو واد للجن في أساطير العرب ينسب إليه كل عجيب. ويستلهم من نظم الآية أن الكلمة وصف ثان لرفرف. فالرفرف التي يتكىء عليها المنعمون في هذه الجنات خضراء عجيبة في رونقها ومنظرها.

وهذا الفصل متصل بالسياق أيضا. وعبارة آياته واضحة هي الأخرى. وقد روى المفسرون فيما رووه (١) في مفهوم (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) إنهما دون الأوليين في المرتبة لأن المؤمنين متفاوتون في الأعمال فاقتضت الحكمة أن تكون جناتهم متفاوتة. وقد لا يخلو هذا من وجاهة. وفي القرآن آيات نبهت على التفاوت في درجات المؤمنين وجزائهم في الآخرة. منها ما مرّ في سورة الواقعة [الآيات ٧ ـ ٣٩] ومنها آية سورة الحديد هذه : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)) ، وورد أيضا أنهما جنتان أخريان قربهما وهذا أيضا وارد ، ومتسق مع مفهوم الإنسان الدنيوي من تعدد الجنات والمنتزهات. وقد يؤيد هذا الاحتمال بالنسبة للمقام أنه ليس في وصف الجنتين السابقتين ونعيمهما ووصف هاتين الجنتين ونعيمهما فرق وتفاوت كما هو الحال في منازل السابقين وأصحاب اليمين الأخروية الموصوفة في سورة الواقعة مثلا.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والطبري.

١٠٣

ولقد أورد ابن كثير في سياق آية : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) حديثا رواه عمر بن الخطاب (رض) قال : «جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمّد أفي الجنة فاكهة؟ قال : نعم فيها فاكهة ونخل ورمان. قالوا : فيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال : نعم وأضعاف. قالوا فيقضون الحوائج قال لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى». وأورد حديثا آخر عن أبي سعيد الخدري (رض) قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» وأورد في سياق جملة حور مقصورات في الخيام حديثا رواه البخاري جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كلّ زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» (١). وأورد في سياق وصف الجنة وخدمها وما أعد لها وفي أهلها حديثا عن أبي سعيد جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء». وروى الطبري عن ابن مسعود في تفسير الخيام حديثا جاء فيه : (هي الدرّ المجوّف) ، وهناك روايات من هذا الباب عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما فنكتفي بما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقول إن من الواجب التسليم بما ثبت عن رسول الله والإيمان بأن في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة التشويق والترغيب. والله أعلم.

ولقد أورد البغوي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن عائشة (رض) قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلّا مقدار ما يقول اللهمّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» والمسلمون مدعوون للاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الثناء المأثور.

__________________

(١) أورد الحديث صاحب التاج أيضا. انظر ج ٤ ص ٢٢٤ مرويا عن عبد الله بن قيس.

١٠٤

سورة الإنسان

في السورة تقرير وتذكير بخلق الإنسان بعد العدم ومنحه العقل والاختيار لاختباره. وإنذار للكفار وتنويه بالمؤمنين وبيان مصير كلّ منهم في الآخرة مع وصف رائع لمصير المؤمنين. وتلقين بتقوى الله والرأفة بالبؤساء. وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهوين لموقف الكفار منهم ونعي عليهم لمحبتهم الدنيا وإهمالهم الأخرى.

وهذه السورة من المختلف في مكيتها ومدنيتها أيضا غير أن الطابع المكي قوي البروز عليها. ومعظم المفسّرين يروون مكيتها (١). ولقد ذكر في عدد من تراتيب النزول المرويّة أنها نزلت بعد سورة الرحمن (٢). ولعلّ في ذلك قرينة على مكيتها أيضا وفي بعض آياتها قرائن بل دلائل قوية على مكيتها كذلك. وللسورة اسم آخر هو الدهر اقتباسا من كلمة الدهر التي جاءت في آياتها الأولى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)) [١ ـ ٣]

(١) هل أتى : قيل إن الجملة في معنى قد أتى للتقرير. وقيل إنها في معنى ألم يأت كسؤال إنكاري وتقريري أيضا. والجملة تتحمل كلا من المعنيين ولا تتحمل غيرهما.

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والطبرسي والنسفي والقاسمي والزمخشري والخازن.

(٢) ترتيب المصحف الذي اعتمدناه وترتيب السيوطي وترتيب الخازن وترتيب الحسين وعكرمة.

١٠٥

(٢) أمشاج : وهي جمع مشج أو مشيج بمعنى أخلاط. وقيل القصد من ذلك تكوّن الإنسان من اختلاط ماءي الرجل والمرأة. وإن كلّ لونين اختلطا فهما أمشاج. وقيل إنها إشارة إلى ما يتقلّب فيه نشوء الإنسان من أطوار وهو جنين.

(٣) نبتليه : نختبره ، ومن الممكن أن تحمل على التعليل فيكون معناها لكي نختبره. ومن الممكن أن تحمل على التقرير فيكون معناها سوف نختبره.

الآيات تضمنت معنى التقرير والتذكير والعظة والتنبيه. فقد مرّ دهر طويل لم يكن الإنسان فيه موجودا ولا شيئا مذكورا. ثم خلقه الله من نطفة مختلطة متطورة. وجعله سميعا وبصيرا ، ثم أودع فيه قابلية التمييز واختيار السبيل الذي يسير فيه ليختبره في سيره واختياره ليظهر إما أن يكون شاكرا لله في إيمانه وعمله الصالح أو جاحدا شريرا.

وأسلوب الآيات تقريري ينطوي على عرض عام. وفيها توكيد لما قرره القرآن في مواضع كثيرة من قابلية الإنسان للتمييز واختيار الطريق الذي يسير فيه ومسؤوليته عن هذا الاختيار.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين الأخيرتين حديثا عن جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا». وحديثا رواه الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها». حيث ينطوي في الحديثين توضيح نبوي داعم للتوكيد الذي ينطوي في الآيات وغيرها من قابلية الإنسان للتمييز والاختيار ومسؤوليته عن ذلك.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)) [٤ ـ ٦]

(١) مزاجها : المادة التي يمزج بها الشراب.

١٠٦

هذه الآيات تتضمن النتائج التي تترتب على اختيار الناس لطريقهم بأسلوب إنذاري للجاحدين وتطمين تبشيري للصالحين. فقد أعدّ الله للأولين السلاسل والقيود والنار. أما الآخرون فلهم النعيم والتكريم في الجنات والأشربة اللذيذة التي يكون مزيجها الكافور.

والمتبادر أن مزج الشراب بالكافور مما كان مألوفا عند المترفين ومرغوبا فيه ، فذكر ذلك جريا على مألوف النظم القرآني في ذكر أوصاف العذاب والنعيم الأخروي بما اعتاده السامعون ، مع واجب الإيمان بحقيقة الخبر القرآني الغيبي.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠)) [٧ ـ ١٠]

(١) مستطيرا : منتشرا أو واسعا أو شاملا.

(٢) على حبّه : على شدّة الحاجة إليه والرغبة فيه.

(٣) أسيرا : هي في أصلها الذي يؤسر في الحرب من الأعداء وقد تكون هنا بمعنى المملوك لأن غالبية المملوكين هم من أسرى الحرب حيث جرت العادة على استرقاق الغالب الأسرى.

(٤) عبوسا : شديد الوطأة أو شديد التجهم والظلام.

(٥) قمطريرا : شديد الكرب أو مثيرا للفزع.

والآيات متصلة بالسياق. وفيها وصف للأبرار الذين ذكرت الآية السابقة ما أعدّه الله لهم من نعيم وشراب لذيذ في الآخرة وحكاية لأقوالهم بسبيل التنويه ، فهم يوفون بما ينذرونه على أنفسهم من أعمال بارّة. ويخشون عذاب يوم الآخرة وشرّه العظيمين. ويطعمون الطعام على شدّة حاجتهم إليه المساكين والأيتام والأرقاء ولسان حالهم يهتف بأنهم يطعمونهم دون انتظار شكر وجزاء منهم. وإنما ابتغاء

١٠٧

وجه الله وتقرّبا إليه ومخافة اليوم العبوس المخيف الذي يقفون فيه أمامه.

وقد روى بعض المفسرين (١) أن هذه الآيات وما بعدها نزلت في علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة (رضي الله عنهما) في قصة طويلة حيث جاءهم في ثلاثة أيام متوالية مسكين ويتيم وأسير فكانا يحرمان أنفسهما مما أعداه لغذائهما من طعام الشعير الذي اقترضا ثمنه وكانا في أشد الحاجة إليه ، فيعطيانه لهم ويبيتان على الطوى. وهناك من روى أنها نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو الدحداح لأنه فعل ما روته الرواية السابقة (٢) وهناك من روى أنها نزلت في ابن عمر حيث كان مريضا واشتهى العنب فاشتروه له فجاء سائل فأمر بإعطائه له أول مرة وثاني مرة (٣).

والروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها كما قلنا قبل.

والرواية الأولى مما نالت حفاوة المفسرين الشيعيين كثيرا (٤) الذين ولعوا في صرف كثير من الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وذريته بقطع النظر عن المناسبة والسياق. حتى لقد يخطر بالبال أن تكون رواية مدنية السورة أو الآيات من ذلك الباب. وقد نبهنا على أمثلة عديدة منه أيضا في مناسبات سابقة.

ومع احترامنا لعلي وزوجته ثم لسائر أصحاب رسول الله السابقين (رضوان الله عليهم) جميعا وما كانوا عليه من ورع وزهد وتقوى ورأفة بالمحتاجين ، واعتقادنا بأن حبّ الخير وو البرّ فيهم قد يحملهم على التصدّق بطعامهم للمساكين والأيتام والأسرى والأرقاء على شدة حاجتهم إليه فإن أسلوب الآيات ومضمونها وروحها وطابعها المكي القوي كل ذلك يلهم أنها بسبيل وصف الأبرار الذين ذكروا في الآية السابقة مباشرة بصورة عامة. وفيها مع ذلك صورة رائعة واقعية لما كان

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن والبغوي.

(٢) انظر الخازن والبغوي.

(٣) انظر تفسير ابن كثير.

(٤) انظر الطبرسي.

١٠٨

يصدر من المؤمنين الأولين رضوان الله عليهم من إيثار للمساكين والمعوزين على أنفسهم ومن برّهم بهم على شدّة حاجتهم تقربا إلى الله تعالى. وقد احتوت آيات عديدة في سور مكية مثل هذه الصورة الرائعة مما نبهنا عليه في مناسباته مثل سور الواقعة والذاريات والمؤمنون والليل وغيرها وغيرها.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن فيما حكي عن الأبرار بهذا الأسلوب المحبب تلقينا مستمرا قويا بما يجب أن يتصف به المسلم من الرفق بالبؤساء والمحتاجين والأرقاء ومساعدتهم في كل ظرف ومن مراقبة الله وابتغاء مرضاته وعدم انتظار الشكر والجزاء من أحد على ما يفعله من خير وبرّ ومعروف ، ثم بتحميل نفسه أقصى ما يمكن من الجهد في سبيل ذلك.

وبمناسبة التنويه بالذين يطعمون الطعام على حبّه المساكين واليتامى والأسرى نقول إن هذا الأمر قد تكرر في القرآن والحديث بحيث يقال إنه من المكارم الأخلاقية التي تبنتها الرسالة الإسلامية ودعت إليها في كل ظرف وموقف. ولقد علقنا على ما أولاه القرآن والحديث من عناية باليتيم والمسكين والأسير أي المملوك في مناسبات سابقة فنكتفي بهذا التنبيه.

تعليق على موضوع النذر

وبمناسبة جملة (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) نقول إن النذر هو ما يوجبه المرء على نفسه من عمل فيه برّ وخير وقربى إلى الله أو يظنه كذلك. وهذا مما كان جاريا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام. ومن ذلك ما حكته الآية [٢٦] من سورة مريم (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)) والآية [٣٥] من سورة آل عمران (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وهناك روايات عديدة تدلّ على أن هذه العادة كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام ، كما قلنا ، منها رواية المرأة التي نذرت ذبح ابنها عند الكعبة التي أوردناها في سياق تفسير الآيات [١٣٥ ـ ١٤٠] من سورة

١٠٩

الأنعام. وقد روى الخمسة حديثا عن عمر بن الخطاب قال : «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ أوف بنذرك فاعتكف ليلة» (١). وروى أبو داود والترمذي أن امرأة قالت : «يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك» (٢) وروى أبو داود والترمذي «أنّ امرأة أتت النبيّ فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ قال أو في بنذرك» (٣).

وجملة (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) جاءت في مقام التنويه بالذين يفعلون ذلك. وبالتالي ينطوي فيها إقرار لفكرة النذر. وهذا منطوق في آية سورة البقرة هذه : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)) وهو منطو في الأحاديث التي أوردناها كذلك.

وهناك أحاديث أخرى فيها تنويه وتنديد وتنظيم وتعليم وتشريع في صدد النذر. منها حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (٤). وحديث رواه البخاري والنسائي عن عمران بن الحصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خيركم قرني ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه. ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون. ويخونون ولا يؤتمنون. ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن» (٥). وحديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه جاء فيه : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين. قال صلّ هنا. ثم أعاد عليه فقال صلّ هاهنا. ثم أعاد عليه فقال شأنك إذا وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صليت هاهنا

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٩٦.

(٢) التاج ج ٣ ص ٧٤.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه ص ٧٣ ـ ٧٥.

(٥) انظر المصدر نفسه.

١١٠

لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس» (١) ، وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال : «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نذر كان على أمّه فتوفيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» (٢). وحديث رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم ، قال : فاقض فإنّ الله أحقّ بالقضاء» (٣). وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال : «بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه» (٤). وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبيّ ما شأن هذا قال ابناه يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيها الشيخ فإن الله غنيّ عنك وعن نذرك» (٥). وحديث رواه الخمسة إلّا البخاري عن عقبة بن عامر قال : «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله فاستفتيته فقال لتمش ولتركب» (٦). وحديث رواه الخمسة عن عمران بن الحصين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد» (٧). وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب جاء فيه : «إن أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفّر عن يمينك وكلّم أخاك. سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٧٣ ـ ٧٥.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه ص ٧٥ ـ ٧٦.

(٥) انظر المصدر نفسه.

(٦) انظر المصدر نفسه.

(٧) انظر المصدر نفسه.

١١١

نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي «قال رسول الله من نذر نذرا لم يسمّه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» (٢). وحديث رواه النسائي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء. وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان فلا وفاء فيه ويكفره ما يكفر اليمين» (٣) وحديث رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن كعب بن مالك قال : «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» (٤). وحديث رواه أبو داود وأحمد أن كعبا أو أبا لبابة قال : «إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كلّه صدقة قال النبيّ يجزي عنك الثلث» (٥).

وهناك حديثان رواهما الخمسة واحد عن ابن عمر قال : «نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النذر وقال إنه لا يردّ شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل» (٦) وثان عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» (٧).

والمتبادر أن الحديثين بسبيل تعليم المسلمين بأن لا يجعلوا النذر لأجل مطلب يريدون أن يقضى سواء أكان فيه جلب نفع أو دفع ضرّ. وينطوي في هذا

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) انظر المصدر نفسه ص ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) انظر المصدر نفسه. وكعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلّفوا عن رسول الله وذكرتهم آية التوبة [١١٨].

(٥) انظر المصدر نفسه. وأبو لبابه هو الذي أرسل خبرا إلى مكة بعزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غزو مكة وأشارت إليه آيات سورة الممتحنة [١ ـ ٥].

(٦) المصدر نفسه ص ٧٩.

(٧) المصدر نفسه ص ٧٣.

١١٢

كما هو المتبادر قصد تعليمهم أن تكون نذورهم لله بدون شرط وذريعة. ومع ذلك فإن فحوى الحديثين لا يفيد النهي عن هذا النوع من النذور بل ويفيد إقراره بسبيل استخراج مال ينفق في سبيل الله والخير من البخيل ...

وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة آخرون ولم ترد في الكتب الخمسة فيها شيء مما ورد في الأحاديث التي أوردناها (١) فاكتفينا بما أوردناه.

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)) [١١ ـ ٢٢]

(١) ذلّلت قطوفها : جعلت قريبة التناول إليهم.

(٢) قوارير : أصل معناها الزجاج. وهي هنا تشبيه لصفاء الفضة ورقتها.

(٣) قدروها تقديرا : جاءت حسب ما قدروه مما يفي رغباتهم أو ريّهم حين يشربون منها.

(٤) سلسبيلا : معناها اللغوي غاية السلاسة والسهولة في الجريان.

(٥) مخلدون : دائمون على أحسن الصفات من دون تغيير.

في الآيات تقرير لما يقابل الله تعالى به الأبرار الذين حكت الآيات السابقة أعمالهم وأقوالهم فقد نجاهم الله من شرّ ذلك اليوم وجعلهم نضرين مسرورين. وأنزلهم الجنة وكساهم الحرير ولسوف يكونون فيها متكئين على السرر في طقس

__________________

(١) انظر مجمع الزوائد ج ٤ ص ١٨٥ ـ ١٩٢.

١١٣

معتدل لا برد ولا حرّ. وقد ظللتهم الأشجار ودنت منهم قطوفها. ولسوف يطاف عليهم بأوان وأكواب من فضة غاية في الرقة والصفاء كأنها الزجاج. ولسوف يسقون فيها شرابا مزيجا بالكافور من عين غاية في السلاسة والروقان سميت من أجل ذلك بالسلسبيل. ولسوف يقوم بخدمتهم غلمان كاللؤلؤ جمالا لا يعتريهم تبدّل. ولسوف يلبسون ثيابا من حرير أخضر ويحلّون من الأساور الفضية ، وفي الجملة حينما ينظر إليهم الناظر يندهش لما يراهم فيه من الملك الكبير والنعيم العظيم. ولسوف يقال لهم إن كل هذا كان لكم جزاء لأعمالكم وسعيكم المشكور.

والوصف أخّاذ رائع من شأنه أن يشيع في النفوس كل مشاعر السرور والانجذاب والطمأنينة والرضى والرغبة ، وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته سواء في السابقين الأولين من المؤمنين أم فيمن يسير على هداهم. وفيها حثّ وترغيب على ذلك بطبيعة الحال.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [٢٠] حديثا رواه ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه». حيث ينطوي في الحديث توضيح لجانب من الجوانب التي نوّه الله بها في الآيات من الملك العظيم الذي سوف ينعم به المؤمنون الذين يفعلون تلك الأفعال متساوق في تلقينه وتبشيره مع التلقين والتبشير القرآنيين.

وهناك أحاديث عديدة أخرى مرّت أمثلة كثيرة منها في وصف الجنة وصفا أخّاذا متساوقا مع ما احتواه القرآن من وصف أخّاذ ومنطويا على ما انطوى في الوصف القرآني في جملة ما انطوى فيه من تلقين وتبشير.

هذا ، والمتبادر أن الأوصاف والمواد التي ذكرت في الآيات هي مما يعرفه السامعون كالقوارير والزجاج والفضة والأواني الفضيّة والأكواب والكؤوس الزجاجية والبلورية والزنجبيل ومزجه بالشراب وثياب الحرير الأخضر المعروف بالسندس والإستبرق. وقد يكون في ذلك دلالة على أن بعض فئات من أهل مكة وأغنيائها كانوا يجلبون هذه المواد من البلاد التي تصنعها ويستعملونها.

١١٤

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)) [٢٣ ـ ٢٦].

هذه الآيات جاءت معقبة على سابقاتها مستهدفة تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موقفه وتهوين أمر الكفار عليه :

١ ـ فالله عزوجل هو الذي نزّل عليه القرآن.

٢ ـ وعليه أن يثبت وينتظر حكم الله ويستمر على ذكره في جميع أوقاته وعلى إقامة الصلاة له وتسبيحه وبخاصة في هدأة الليل.

٣ ـ وأن لا يعبأ بالكفار الآثمين أو يجنح إلى ملاينتهم والاستماع إلى إغراءاتهم.

وهذا الأسلوب مما تكرر في القرآن المكي منذ السور المبكرة. وتكراره يدلّ على تكرار البواعث والمواقف. وهذا متسق مع طبيعة مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا وفيه دلالة على أن الكفار كانوا في ظروف ومواقف عديدة يحاولون حمل النبي على الملاينة ثانيا.

وفي هذه الآيات قرينة بل دليل على مكية السورة لأنها تحتوي حكاية أحداث وصور مكية تكررت في السور المكية بنوع خاص. وفي الآية الأخيرة بخاصة قرينة أو دليل آخر. فالله تعالى قد فرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتفرغ في الليل لعبادته وذكره وقراءة القرآن في آيات سورة المزمل الأولى. وفي الآية مشابهة قوية لذلك. هذا في حين أن الله قد خفف من ذلك عليه وعلى المسلمين الذين حذوا حذوه في مكة بعد الهجرة إلى المدينة بسبب ما صار لهم من أعمال ومشاغل وأعذار على ما ذكرته الآية الأخيرة من سورة المزمل التي هي مدنية ألحقت بالسورة للمناسبة على ما شرحناه في سياق سورة المزمل.

ولقد روى البغوي عن قتادة أن المراد بالآثم والكفور أبو جهل حيث نهى النبي عن الصلاة وقال لئن رأيت محمدا يصلّي لأطأن عنقه. وعن مقاتل أن المراد

١١٥

بهما عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا للنبي إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله الآية.

والروايات محتملة الصحة. لأن الآيات فصل جديد ، غير أننا لا نزال نرجّح أنها جاءت معقبة بسبيل تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهوين مواقف الكفار عليه جملة. ولا ننفي بهذا ما جاء في الروايات عن أبي جهل وعروض الوليد وعتبة. وقد روي ما روي عنهم في سياق آيات أخرى مما مرّ شرحه في مناسبات سابقة.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)) [٢٧ ـ ٢٨]

(١) أسرهم : قوّتهم أو خلقهم.

الآيات تعقيب على سابقاتها : فالكفار والآثمون الذين هم موضوع الحديث يحبون الدنيا وأعراضها ويستغرقون فيها ويهملون التفكير في اليوم الآخر الآتي الهائل الشديد. ولن يعجزوا الله : فهو الذي خلقهم ومكّنهم وهو قادر على محوهم وتبديلهم بغيرهم إذا شاء.

وقد انطوى في الآيات تنديد بالكفار والآثمين وإنذار قوي لهم توكيدا للأمر بعدم الإصغاء لإغراءاتهم ولتثبيت النبي. وقد استهدفت فيما استهدفته تخويف الكفار وحملهم على الارعواء فيما هو المتبادر أيضا.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)) [٢٩ ـ ٣١].

١١٦

وهذه الآيات تعقيب على سابقاتها أيضا : فدعوة النبي ورسالته هما تذكير للناس وإيقاظ وليستا بقصد الإجبار والإبرام. فمن شاء تذكر واتعظ فسلك سبيل الله واستحقّ رضاءه ، ومن أعرض وانحرف وأجرم وظلم كان له العذاب الأليم. والمشيئة بعد لله تعالى العليم بأحوال الناس ونيّاتهم وطبائعهم ، الحكيم فيما أمر ويسّر ، الذي يعرف المستحق لرحمته فيشمله بها. ويعرف الظالمين فيكون لهم العذاب الأليم عنده.

وهذا الأسلوب قد تكرر في مواضع عديدة من السور المكيّة وفي المبكرة منها بنوع خاص. وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار من جهة والتنويه بالمؤمنين من جهة وتطمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتسرية عنه من جهة بتقرير كون دعوته تذكرة وإيقاظا فمن شاء اتعظ وتذكّر وأناب إلى الله وليس هو مسؤولا عن الكافرين فلا موجب لحزنه إذا لم يستجيبوا وليكل أمرهم إلى الله العليم بهم القادر عليهم.

وليس في جملة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ما ينفي قابلية الاختيار والمشيئة التي أودعها الله في الناس لأن ذلك مما أكّدته التقريرات القرآنية العديدة الحاسمة حتى صار من المبادئ المحكمة. وهذه القابلية والمشيئة مما شاء الله أن تكون للإنسان ، فاختيار الناس الهدى أو الضلال هو من ذلك فلا يكون هناك تناقض فيما هو المتبادر لنا إن شاء الله.

والآية (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أيضا مما يدعم ما نقول حيث ينطوي فيها أن الله سبحانه وتعالى يعلم المستحق في رحمته وأنه يعامل الناس بمقتضى حكمته. وفي سورة الأعراف هذه الآية (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)) وفي هذه الآية إيضاح صريح في صدد من يدخلهم الله في رحمته ويكون فيها ضابط محكم في هذه المسألة. وفي سورة التكوير آية مماثلة لآية (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقد علقنا عليها بما فيه الكفاية ويزيل ما قد يرد على البال من استشكال والله أعلم.

١١٧

سورة الزلزلة

في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة. ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب (١) ومنهم من قال إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات (٢) والطابع المكي قويّ البروز عليها بحيث يسوغ ترجيح مكيّتها إن لم نقل الجزم بذلك ، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول. وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها مبكرة صورتين متماثلتين. ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن (٣).

وقد يكون التباين من الرواة. وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا

__________________

(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير.

(٢) انظر تفسير الخازن والنسفي والطبرسي والزمخشري والقاسمي.

(٣) التاج ج ٤ ص ٢١.

١١٨

أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [١ ـ ٨]

(١) يصدر : يأتي.

في الآيات إشارة إلى يوم القيامة وهوله وحسابه : فالأرض ترتجف وتتشقق وتقذف ما في بطنها كأنها تتزلزل. والناس يتساءلون عما كان ويكون. ولا يلبثون أن يعرفوا أن الله قد حقق بذلك وعده بيوم القيامة والحساب. وحينئذ يهرعون جماعات جماعات ليروا نتائج أعمالهم ويوفوا عليها أجورهم كلّ بما قدّم من خير أو شرّ. فالذين يعملون خيرا مهما قلّ سيلقون خيرا ولا يضيع عليهم منه شيء. والذين يعملون شرا مهما قلّ سيلقون شرا.

والسورة مع احتوائها حقيقة يوم القيامة والحساب الإيمانية هي سورة وعظ وترغيب وترهيب مطلقة التوجيه للناس عموما ، واستهدفت كما هو المتبادر إثارة الخوف من ذلك اليوم وحمل الناس على الإقبال على العمل الصالح والابتعاد عن الأعمال السيئة وعدم الاستهانة بالشرّ مهما قلّ وعدم إهمال الخير مهما ضؤل. وهي من هذه الناحية تنطوي على تلقين مستمر المدى.

طائفة من الروايات والأحاديث في سياق

آيات هذه السورة

ولقد روى البغوي في سياق وتأويل جملة (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) حديثا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا». والحديث إن صحّ فإن روايته لم تذكر أنه بسبيل تفسير الجملة. كما أن أثقال الأرض التي في بطنها ليست فقط القاتل والقاطع والسارق. ولذلك نظل نرجّح التأويل الذي أوّلنا به الجملة.

١١٩

ولقد روى المفسر نفسه بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل عليّ كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها». وهذا الحديث مما ورد في جامع الترمذي أيضا (١) حيث ينطوي فيه تفسير نبوي فيه إنذار وتنبيه متساوقان مع ما احتوته السورة من ذلك.

ولقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا في سياق آيتي (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الحمر ـ وقد أوضح الشارح أن السؤال عن ما إذا كان يجب على ما يقتنيه المسلم من الحمر زكاة ـ فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢). حيث ينطوي في الحديث حثّ على عمل الخير ومن ذلك الصدقات مهما قلّت وبأي اسم كان ونهى عن الشرّ مهما تفه فيتساوق التلقين النبوي كذلك مع التلقين القرآني.

ولقد روى البغوي بطرقه عن مقاتل قوله إن الآيتين المذكورتين نزلتا في رجلين وذلك أنه لما نزلت (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبّه وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا إثم فأنزل الله الآيتين يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر. ويحذرهم اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكثر.

والآيتان منسجمتان مع آيات السورة وهما بسبيل تبشير وإنذار عامين ومبدأين

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٦٤.

(٢) انظر المصدر نفسه.

١٢٠