التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

الآيات [١٨٩ ـ ٢٠٣] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.

وإذا صح هذا ـ والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله ـ فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) المائدة : [٢] ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاما لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ...) المائدة : [٢] إلخ.

أما جملة (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) فإنها في هذه الحال تشير إلى احتمال منع من أراد الحج والعمرة من المسلمين بسبب مرض شديد أو بسبب ما كان قائما من حالة العداء والحرب بين المسلمين من جانب وأهل مكة من جانب آخر.

ولقد روي (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما منعه أهل مكة مع المسلمين من أداء العمرة عام الحديبية على ما ذكرناه آنفا نحر هديه في الحديبية وتحلل من الإحرام أي حلق رأسه ولبس ثيابه العادية وأمر المسلمين بذلك. وعلى ضوء هذه الرواية التي يؤيدها حديث رواه البخاري عن ابن عمر (٢) يتبادر لنا أن الكلام من جملة (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) إلى آخر الآية مستأنف وليس تتمة لأول الآية. فالمنع إذا كان

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٤٧ ـ ١٤٩.

(٢) انظر التاج ج ٢ ص ١٥١ وابن هشام ج ٣ ص ٣٥٥ ـ ٣٦٩.

٣٤١

بخاصة خوفا من عدو أو خطر قتل وقتال وأسر يحول دون بلوغ الهدي محله في حين أن جملة (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) تنهى عن التحلل من الإحرام بحلق الرأس قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ينبغي أن يذبح فيه وهو منطقة الكعبة. وإذا صح هذا فيكون أول الآية قد احتوى حكما في حالة المنع وهو تقريب القرابين في المحل الذي وقف فيه المسلم ثم احتوت بقيتها أحكاما متنوعة في حالة الأمن وعدم المنع القهري.

وعدم حلق الرأس أثناء الإحرام وما يدخل في مداه مما نهت عنه السنّة من لبس الثياب المخيطة والتطيب والجماع إلخ ... وكذلك تقريب القرابين إلى الله في موسم الحج وزيارة العمرة كل ذلك من المناسك التي كانت متبعة قبل الإسلام على ما تلهمه روح الآيات والروايات المروية فثبتت في الإسلام مع بعض الرخص والتيسير اتساقا مع المبدأ القرآني الذي يقرر أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر لا العسر ولا يكلّفهم إلا وسعهم.

وروح الآية التي نحن في صددها تسوغ القول إن الأصل في مناسك الحج هو القران بين العمرة والحج أي بقاء الحاج محرما بدون تحلل بعد زيارة الكعبة (العمرة) إلى يوم الوقوف في عرفة ، وإن الرخصة بالتمتع بين وقتيهما هي تعديل أو تيسير إسلامي. وقد يكون إيجاب الكفارة على المتمتعين قرينة أو دليلا ، وإيجاب الكفارة على الذين يتمتعون بهذه الرخصة من غير سكان منطقة المسجد الحرام ناشىء على ما علله المفسرون من أن الذي يجب عليه الدخول إلى منطقة الحرم محرما هو غير هؤلاء السكان. وهم الذين تجب عليهم الكفارة إذا تمتعوا في الفترة بين العمرة والحج. أما سكان هذه المنطقة فلا إحرام عليهم إلا حينما يحل وقت الوقوف في عرفة حيث يحرمون ويؤدون ركن العمرة ثم يقفون في عرفة ثم يعودون منها فيطوفون ويسعون ويتحللون. أما قبل ذلك فإن لهم أن يظلوا غير محرمين ولا كفارة عليهم.

وجملة (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) تتضمن إتمام عملين هما الحج والعمرة.

٣٤٢

والعمرة هي زيارة الكعبة على ما هو مشهور يقيني. أما كلمة (الْحَجَ) فقد جاءت هنا مطلقة. وجاءت كذلك في سورة الحج وفي آيات أخرى في هذه السورة. وجاءت مع (الْبَيْتَ) في الآية [١٥٨] من هذه السورة وسبق تفسيرها وفي آية سورة آل عمران هذه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [٩٧] وهذه الجملة تتضمن فرضية العمرة في موسم الحج. وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة (الْحَجَ) المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقينا أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) في آية سورة التوبة الثالثة : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)) قد عنته. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «الحجّ الحجّ يوم عرفة» وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة الله ورسوله إتمام ذلك بالحديث والله أعلم. وليس من تعارض بين زيارة الكعبة في موسم الحج التي هي ركن من أركان الحج الإسلامي في موسم الحج وبين الزيارة التي تكون للكعبة في غير موسم الحج التي انطوى ذكرها في الآية [١٥٨] من سورة البقرة وشرحنا مداها.

وفي كتب التفسير والحديث أحاديث نبوية وصحابية وتابعية فيها توضيح لمدى الآيات وأحكام وسنن متصلة بها نوجزها ونعلق عليها بما يلي :

١ ـ هناك إجماع على أن فرض الحج والعمرة على المستطيع هو مرة واحدة في العمر. وهذا مستند إلى الآية الأولى من هذه الآيات وآية سورة آل عمران [٩٧]

٣٤٣

وأحاديث نبوية عديدة (١). ويستفاد من الأحاديث أن من المستحب أن يحج المسلم أكثر من مرة تطوعا وتقرّبا إلى الله (٢).

٢ ـ هناك من يقول إن العمرة سنّة ومن يقول إنها فرض استنادا إلى أحاديث مختلفة الصيغ ، ويلوح أن القول بسنيتها ملتبس من كونها تصح أن تكون في غير موسم الحج على ما انطوى في الآية [١٥٨] من سورة البقرة وشرحنا إياها السابق. وقد أداها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير موسم الحج. وأن فرضيتها كركن ثان من أركان فريضة الحج في موسم الحج هي الأوجه المستفادة من آية آل عمران [٩٧] ومن أحاديث نبوية أخرى (٣) ومن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها.

٣ ـ هناك أحاديث نبوية عديدة في خطورة فرض الحج والعمرة وعظم ثوابهما حتى لقد وصف الحج في بعضها بالجهاد (٤).

٤ ـ هناك أحاديث توجب التعجيل بأداء هذا الفرض حذرا من المرض أو العجز أو الموت قبل ذلك (٥)».

٥ ـ ليس في الأحاديث وقت معين لأداء فريضة العمرة في موسم الحج إلا وجوب إتمامها قبل الوقوف في عرفة وهو الركن الثاني لفريضة الحج. وهناك أحاديث توجب قضاءها بعد الوقوف في عرفة لمن فاتته قبل هذا الوقوف لعذر ما والحيض من الأعذار التي لا تجيز الطواف في حالته (٦).

٦ ـ هناك اختلاف في مدى الاستطاعة التي يكون الحج بها فرضا واجب الأداء. وهناك قول إنها الاستطاعة البدنية فقط. وهناك من يزيد عليها توفر الزاد

__________________

(١) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في التاج ج ٢ ص ١٠٠ و ١٤٦.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر المصدر نفسه ص ١٤٦ و ١٤٧.

(٤) انظر المصدر نفسه ص ٩٨ ـ ١٠١.

(٥) انظر المصدر نفسه.

(٦) انظر المصدر نفسه ص ١١٦ و ١٢٥.

٣٤٤

والراحلة وهذا مما جاء في بعض الأحاديث النبوية (١). وهناك من يزيد على هذا وذاك أمن الطريق. وهناك من يزيد على كل هذا أن يكون المسلم مالكا لنفقة تكفيه للسفر فاضلة عن نفقة عياله وعن سداد دين عليه. وأكثر المذاهب على أنها استطاعة بدنية ومالية وأن المالية يجب أن تكون كافية لنفقة السفر وفاضلة عن نفقة العائلة في الغياب وعن سداد الدين. وليس هناك أحاديث تعارض هذا الذي عليه الأكثر. وهو الأوجه مع زيادة ضرورية تخطر لبالنا وهي أن يكون من أراد الحج ذا مهنة أو مرتب يضمن له ولأسرته المعيشة أما إذا لم يكن له ذلك فيجب أن يكون متوفرا له رأس مال يضمن ربحه معاش أسرته بصورة مستمرة والله تعالى أعلم.

٧ ـ المستفاد من الأحاديث أن يصح أداء فريضة الحج والعمرة عن المريض والميت بشرط أن يكون البديل قد حج عن نفسه سابقا.

٨ ـ لقد ذكر (الهدي) في الآية مرتين ، والهدي في المرة الأولى هو الهدي الواجب على كل حاج تقربه بين يدي حجه تقربا وطاعة. ويكون من الضأن والماعز والبقر والإبل وهدي البقر والإبل يسمى بدنة والواحدة منهما يجزي عن سبعة حجاج في قول وعشرة في قول آخر حسب اختلاف نصوص الأحاديث ، والذبح يكون في موسم الحج بعد النزول من عرفة ، وهناك ما يفيد وجوب الهدي على من يزور الكعبة في غير موسم الحج أيضا ويكون ذبحه بعد إتمام الطواف والسعي اللذين هما المعني بهما بالعمرة أو حج البيت.

والذبح يكون في منطقة الحرم مطلقا في الحالات العادية. أما في حالة قيام حالة منع وإحصار تحول دون إتمام المسلم واجب العمرة أو الحج فيذبح هديه في المكان الذي أحصر فيه على ما تفيده الآية والأحاديث معا.

والمستفاد من أقوال المجتهدين والمؤولين أن الإحصار هو السبب القاهر الذي يمنع الحاج من الوصول إلى مكة لأداء العمرة في غير موسم الحج أو أداء

__________________

(١) انظر الأحاديث في التاج ج ٢ ص ١٠١.

٣٤٥

العمرة والحج في موسم الحج. وإن ترجيح خطر الطريق يعد إحصارا ومانعا شرعيا وقد أدخل بعضهم استنادا إلى بعض الأحاديث النبوية (١) المرض الشديد والكسر والجرح وموت الراحلة وفقد الزاد والنفقة أو نفادهما والتوهان في الطريق أو الخطأ في حساب الأيام من الأعذار التي يصح فيها حكم الإحصار. ولقد قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون زيارة الكعبة التي كانوا أزمعوا أن يقوموا بها في السنة الهجرية السادسة ومنعهم كفار قريش حينئذ تمّ عقد بينهم صلح الحديبية الذي كان من شروط السماح لهم بالزيارة في السنة القابلة فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون بهذه الزيارة وسميت عمرة القضاء ، أي كانت قضاء حيث يفيد هذا أن الإحصار لم يسقط واجب الزيارة والحج عن المسلم وإنما كان عذرا للتأجيل وظل من واجب المسلم الذي يحول المنع والإحصار بينه وبين الزيارة والحج في موسم الحج أن يقوم بهما حال ما يزول الإحصار.

٩ ـ وقد قلنا إن (الهدي) ذكر مرتين في الآية وما سبق هو في صدد المرة الأولى أما المرة الثانية فهي في معنى الفدية التي تجب على الحاج إذا تمتع بالعمرة إلى الحج. أي أن هذا الهدي غير الهدي الأول الواجب على كل حاج تقربا وطاعة. وقد نصت الآية على جواز عشرة أيام بدلا من هذا الهدي في مقام الفدية إذا لم يستطع الحاج تقديم الهدي فدية. ونصت على استثناء أهل الحرم من ذلك وقد مرّ شرح ذلك وأسبابه في سياق شرح الآية سابقا فلا موجب للتكرار.

١٠ ـ لقد كان الحجاج قبل الإسلام يحرمون أكل هديهم ، وظل ذلك مستمرا ردحا ما بعد الإسلام فأباح الله للمسلمين الأكل من الهدي بالإضافة إلى إطعام المساكين والفقراء منه رحمة وتيسرا على ما جاء في آيات سورة الحج التي سبق تفسيرها.

١١ ـ والمذاهب متفقة استنادا إلى الأحاديث النبوية على أن الوقوف في عرفة في موسم الحج والطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة وهو ما عرف بالعمرة

__________________

(١) انظر الأحاديث في التاج ج ٢ ص ١٠٥.

٣٤٦

لأول مرة في موسم الحج وغيره يجب أن يكون في لباس الإحرام. ولباس الإحرام للرجال ثياب غير مخيطة وغير مطيبة بالطيب ، وبنعلين لا يستران الكعب. أما النساء فقد نهت الأحاديث عن النقاب والقفازين وأباحت لها أن تلبس ما تشاء من الثياب غير المطيبة وغير المعصفرة. ومعنى هذا أن المرأة تحرم سافرة الوجه واليدين. ومن السنّة أن يغتسل المسلم ويتطيب قبل الإحرام (١).

١٢ ـ والمستفاد من الأحاديث أن الحاج في موسم الحج والمعتمر في غير موسم الحج من غير أهل الحرم والمسجد المكي يجب أن يدخل إلى منطقة الحرم المكي محرما. وهناك أحاديث تعين حدود الإحرام لكل جهة من جهات الجزيرة العربية ومن يأتي منها من ورائها فلأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرى المنازل ولأهل اليمن يلملم. ومن كان من دون هذه المواقع فيكون إحرامه من موقعه ومنهم أهل مكة الذين هم ملتزمون بالإحرام حين أداء العمرة والحج والوقوف في عرفة في موسم الحج (٢).

ولقد ذكر المفسرون استنادا إلى الروايات وفي سياق آية سورة الأعراف هذه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)) أن العرب قبل الإسلام كانوا يتحرجون من الطواف والسعي بثيابهم العادية تحرجا من أن يكونوا قد اقترفوا ذنوبا وهي عليهم أو تحرجا من أن يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد الطواف. فيستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كان سدنة الكعبة يتسمون بها. ومن لم يجد أو من لم يستطع طاف في حالة العري لأنه كان على الذين يطوفون بثيابهم أن يرموها فكانوا يضيقون بها. ومن المحتمل كثيرا أن يكون تقليد الإحرام الإسلامي معدلا عن ذلك ومتصلا به والله أعلم.

__________________

(١) في هذا الصدد أحاديث عديدة رواها أصحاب الكتب الخمسة ، انظر التاج ج ٢ ص ١٠٣ إلى ١١٠.

(٢) هناك أحاديث رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك انظر التاج ج ٢ ص ١٠٣ و ١٠٤.

٣٤٧

١٣ ـ ومن السنّة أن يهتف الحاج والزائر بعد الإحرام بالتلبية وصيغتها المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك» (١).

١٤ ـ والآية التي نحن في صددها صريحة في حظر حلاقة الشعر إبان الإحرام. وفي سورة المائدة آيات تحظر صيد البرّ إبانه أيضا وهذا ما سوف نشرحه شرحا أوفى في مناسبة آيات المائدة وهناك أحاديث تحظر الجماع والزواج والخطبة والتطيب أيضا إبانه (٢). وكل هذا يصبح حلالا مباحا بعد حلّ الإحرام الذي يستفاد من الأحاديث والأقوال أنه نوعان : الأول بعد الطواف والسعي والثاني بعد النزول من عرفة.

ولم نطلع على قول في صدد الاغتسال ، ويتبادر لنا أنه محظور أسوة بالطيب وعدم الحلاقة. والمتبادر أنه يكون واجبا في حالة الجنابة من الاحتلام إبّان الإحرام والله أعلم.

١٥ ـ والمستفاد من الأحاديث أن لمن أراد الحج في موسمه أن يهلّ بالعمرة فقط أو يهلّ بالعمرة والحج معا. والنوع الأول يسمى إفرادا ، والثاني يسمى قرانا (٣). والأول هو الذي يصح أن يحل فيه الحاج من إحرامه بعد إتمام العمرة أي الطواف والسعي. ثم يحرم ثانية في اليوم الثامن من ذي الحجة ويذهب للوقوف في عرفة في التاسع محرما. ومع ذلك فالآية قد احتوت تيسيرا لمن أهلّ بالعمرة والحج معا ثم مرض أو آذته هوام رأسه من طول الشعر والوسخ حيث أجازت أن يحلّ ويفدي عن حلّه بصدقة أو صيام أو نسك. وهناك حديث يفيد أن الصدقة طعام ستة مساكين والنسك هو ذبح شاة والصيام هو ثلاثة أيام (٤). والجمهور على أن الحاج في الخيار في نوع الفدية.

__________________

(١) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في ذلك في التاج ج ٢ ص ١١١.

(٢) انظر المصدر نفسه ص ١٠٨.

(٣) انظر المصدر نفسه ص ١١٢ و ١١٣ ـ ١١٤ وانظر ص ١٥٣.

(٤) المصدر نفسه.

٣٤٨

ولقد خطر لبالنا أن يكون هذا محل قياس بحيث يباح للمريض والمتيقن من الخطر والضرر على صحته من الإحرام ومحرماته أن يطوف ويسعى ويقف في عرفات بدون إحرام ومحرمات الإحرام ويفدي عن ذلك استئناسا بالمبادىء القرآنية التي تقرر أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها وتبيح المحرمات للمضطر وتهتف بأن الله لا يريد أن يجعل على المسلمين في الدين من حرج وأنه يريد بهم اليسر دون العسر والله تعالى أعلم.

١٦ ـ والسنن المأثورة أن العمرة طواف سبعة أشواط حول الكعبة ثم صلاة ركعتين ثم طواف سبعة أشواط بين الصفا والمروة. وتكون الأشواط الثلاثة الأولى مشيا والأربعة هرولة. مع تقبيل الحجر الأسود أو لمسه أو الإيماء إليه في كل شوط. وليس من مانع من الطواف والسعي راكبا أو محمولا.

١٧ ـ والمتفق عليه أن الطواف الواجب بالإحرام هو للمرة الأولى حين الزيارة في غير الموسم أو في الموسم ، ويستحب الطواف والسعي أكثر من مرة في حالة الإحرام وبدونها أيضا (١).

١٨ ـ والمتفق عليه استنادا إلى الأحاديث أن المرأة تقوم بكل مناسك الحج في حالة حيضها ونفاسها إلا الطواف والسعي إلى أن تطهر. وإذا فاتها وقت العمرة إلى قبل الوقوف في عرفة وهي في هذه الحالة قضتها بعد الطهر (٢).

ونكتفي بما تقدم مما هو متصل بمدى الآية وتوضيح لأحكامها دون استفتاء يخرج عن المنهاج الذي ترسمناه هذا. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل يثرب التي سميت بالمدينة المنورة وحرمتها ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها وشد الرحال والصلاة فيه وزيارة قبره الشريف (٣). فصارت زيارة هذه المدينة والصلاة في مسجد

__________________

(١) انظر الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب الخمسة في صدد ذلك في التاج ج ٢ ص ١١٧ وما بعدها.

(٢) انظر المصدر نفسه ص ١١٦ و ١٢٥.

(٣) انظر المصدر نفسه ص ١٦٦ ـ ١٦٨ والتاج ج ١ ص ٢٠٩.

٣٤٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيارة قبره الشريف مما درج عليه المسلمون في كل وقت وبخاصة حجاجهم حينما يأتون إلى مكة لأداء فريضة العمرة والحج.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)) [١٩٧ ـ ٢٠٣]

(١) فمن فرض فيهن الحج : من اعتزم الحج وأوجبه على نفسه.

(٢) رفث : قيل إنها كناية عن الجماع ودواعيه وذيوله. وقيل إنها بمعنى كل فحش من قول أو عمل وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. ومن القرائن على وجاهته أن الجماع لا يحرم على الحاج في حالة الحل والتمتع بين العمرة إلى الحج على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.

(٣) فسوق : عصيان وإثم.

(٤) جدال : هنا بمعنى النزاع والمهاترة.

٣٥٠

(٥) أفضتم : من الإفاضة وهي السير السريع. وهذا اصطلاح يطلق على حركة العودة من عرفات إلى المشعر الحرام ثم من المشعر الحرام إلى منى.

(٦) المشعر الحرام : المشعر هو المكان المعين الذي يؤدى عنده نسك من المناسك الدينية إطلاقا. وهنا تعني مكانا معينا بين عرفات ومنى يعرف بالمزدلفة.

في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :

فأولا : قررت أن للحج أشهرا معينة ، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.

وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار ، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب ، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.

وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها

٣٥١

أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال ، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.

تعليقات على الآية

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ...)

والآيات الست التالية لها

الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :

١ ـ في صدد (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) روى البخاري عن ابن عمر أنه قال : «أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» (١). وروى الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحجّ أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» (٢). ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [١٩٠ ـ ١٩٥] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثا صحيحا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية ، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٤.

(٢) مجمع الزوائد ج ٣ ص ٢١٨.

٣٥٢

في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [١٩٧] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم ، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم ، والله تعالى أعلم.

ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضا في تعليقاتنا على الآية [١٩٠ ـ ١٩٥] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [٢٥ ـ ٣٢] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.

٢ ـ ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها ، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع ، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالا شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك دينا وإيمانا. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».

٣٥٣

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.

٣ ـ لقد صرف معظم المفسرين كلمة (الرَّفَثُ) إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) وهناك من قال إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج بجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.

٤ ـ لقد روى البخاري في صدد جملة (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) حديثا عن ابن عباس قال : «كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» (١). ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة (وَتَزَوَّدُوا) في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة (الخير) التي سبقت كلمة (وتزودوا) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.

٥ ـ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال : «إن الناس في أول الحجّ كانوا

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ١٠١.

٣٥٤

يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» (١). وروى أبو داود حديثا جاء فيه : «سأل رجل رسول الله عن ذلك فسكت عنه حتى نزلت الآية ، فأرسل إليه وقرأها عليه وقال لك حجّ» (٢). ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ (٣). ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها. والآية [١٩٦] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله ، فيسوغ القول إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير ، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ حيث يمكن أن يقال أيضا إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.

وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.

٦ ـ والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركنا لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٣. وفي فصل التفسير في التاج حديث عن ابن عباس برواية البخاري في هذه الصيغة : «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت الآية» التاج ج ٤ ص ٥٢.

(٢) التاج ج ٢ ص ١٠٣.

(٣) التاج ج ٢ ص ١٠٣.

٣٥٥

و (عرفات) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور ، ومما قيل في التسمية إنها جمع (عرفة) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم (عليه‌السلام) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه ، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا واردا في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليدا سابقا للبعثة ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل : «الحجّ الحجّ يوم عرفة» (١).

وجملة : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) في الآية الثالثة من سورة التوبة التي عنت على ما عليه الجمهور يوم عرفة قد يدلان على أن الوقوف في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة كان المنسك الرئيسي في تقاليد الحج قبل الإسلام فأبقي على ذلك في الإسلام لما فيه من المعاني الرائعة حيث يكون الناس جميعا في صعيد واحد وفي ثياب الإحرام الطاهرة التي لم تشهد دنسا ولا فاحشة ، ولا جهدا من جهود الدنيا ومشاكلها متساوين لا يتميز رئيس عن مرؤوس ولا سيد عن مسود ولا غني عن فقير ولا أبيض عن أسود. قد قطع الجميع صلاتهم بالدنيا وشهواتها وفوارقها ومشاكلها ومشاغلها مستشعرين عظمة الله وربوبيته هاتفين بكونه الأكبر من كل شيء مهللين له معلنين له إخلاصهم وشكرهم له وحده وفقرهم إليه وحده من الصباح إلى المساء. وهو موقف من أروع المواقف الروحانية التي يملك على الإنسان مشاعره وترتفع به إلى أفق الملأ الأعلى.

وجملة : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) تتضمن أن الوقوف في عرفات

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

٣٥٦

أمر حتمي معروف مسلم به ومعمول به ، وكل ما هنالك أنه ليس في القرآن أمر صريح قطعي في ذلك مثل فرضية حج الكعبة فكان الحديث النبوي متمما لذلك.

والوقوف في عرفات تعبير اصطلاحي ، والفقه الإسلامي لا يشترط أن يكون الحاج في هذا اليوم واقفا أو قاعدا في عرفات والشرط الوحيد هو أن يكون فيه بلباس الإحرام.

ولقد كانت إفاضة الحجاج من عرفات إلى النزول أو العودة منه تتم بإشارة زعيم من أسرة معينة ، ثم أصبحت في الإسلام بإشارة الأمير الذي يكون الحج بإمرته. وكان أول أمير للحج في الإسلام أبا بكر (رضي الله عنه) نائبا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الهجرية التاسعة. ثم كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه في السنة العاشرة التي سميت حجته فيها حجة الوداع لأن الله تعالى توفاه بعدها بقليل ثم صارت للخلفاء من بعده ثم لمن ينيبه صاحب السلطان في الحجاز عنه. ولقد أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة مسهبة في حجة وداعه وعظ ونبّه وعلّم وذكر فيها فصار ذلك تقليدا لأمراء الحجّ أو من ينيبونهم عنهم (١).

٧ ـ والمشعر الحرام الذي ذكر في الآية [١٩٨] وأمر المسلمون فيها بذكر الله عنده هو مكان بين عرفات ومنى. فالحجاج حين يفيضون من عرفات يتوقفون في هذا المكان الذي سمي أيضا (المزدلفة) ويبيتون فيه ليلة العيد مهللين مكبرين ثم يفيضون منه إلى منى. وواضح من التسمية أن للمكان حرمة دينية والراجح أن هذا متصل بتقاليد الحج قبل الإسلام. والمزدلفة في سفح جبل (ثبير) ومن المحتمل أن يكون للعرب قبل الإسلام بعض الأصنام في هذا الجبل كانوا يذهبون إلى زيارتها والتبرك بها بعد عودتهم من عرفات فأبقى الإسلام على تقليد التوقف فيها مع تسميتها بالمشعر الحرام وأمر المسلمين بذكر الله فيه لقلبه من مكان وثني إلى مكان يرتفع فيه ذكر الله وحده. ولقد روى البخاري وأبو داود عن عمرو بن ميمون قال :

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٠ وما بعدها و ٢٧٢ وما بعدها و ٣١٩ وما بعدها وانظر التاج ج ٢ ص ١٤٠ وما بعدها.

٣٥٧

«شهدت عمر صلّى الصبح بجمع ثم قال : إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس» (١).

٨ ـ وفي صدد جملة : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) روى الخمسة عن عائشة قالت : «كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمّون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله عزوجل نبيّه أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها» (٢). ويلحظ أن الحديث غير متسق شيئا ما مع مدى الآية. لأن الآية تفيد أن الأمر في الجملة القرآنية هلّ بالإفاضة من المشعر الحرام. ويتبادر لنا من روح الآية أن فريقا من الناس ويجوز أن يكونوا القرشيين أو سدنة الكعبة وأقاربهم منهم كانوا يترفعون عن الناس في وقوفهم وطريق إفاضتهم من المزدلفة أو يسلكون طريقا خاصا بهم فأمرت الآية المسلمين جميعا بالإفاضة من الطريق الذي يسلكه سائر الناس بدون تمايز أحد على أحد لأي سبب كان ، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل والله تعالى أعلم.

والروايات تذكر أن الإفاضة من المزدلفة أيضا كانت تتم بإشارة من زعيم عربي من أسرة معينة ، فحلّ محلّه في الإسلام أمير الحج كما صار ذلك شأن الإفاضة من عرفات.

٩ ـ والجمهور على أن جملة : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) تعني إذا ذبحتم قرابينكم حيث يبادر الحجاج بعد نزولهم صباح العيد من المزدلفة إلى منى إلى ذبح هديهم ويتحللون من الإحرام بالحلاقة أو تقصير الشعر وبلبس الثياب العادية ويصبح حلالا ما كان محظورا عليهم في مقام الإحرام. ومنهم من ينزل إلى مكة قبل التحلل فيطوف طواف الإفاضة الذي أوردنا ما فيه من حديث في سياق

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٣٩ و (جمع) كان يطلق على الموقف في المزدلفة على ما يفيده حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي ، انظر أيضا التاج ج ٢ ص ١٣٩.

(٢) التاج ج ٤ ص ٣٩.

٣٥٨

الآية السابقة ثم ينحر هديه وقد سمّي اليوم الأول من العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة بيوم النحر وعيد النحر وعيد الأضحى بناء على ذلك.

١٠ ـ (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) المذكورة في الآية الأخيرة هي على ما عليه الجمهور والتواتر أيام العيد. ويقضيها الحجاج في منى في حالة الحل. وتسمى الأيام التالية لليوم الأول من العيد بأيام التشريق ويرمي الحجاج فيها الجمرات. وهي حصوات صغيرة تقذف على أماكن ثلاثة معينة في منطقة منى ، وتسمى هذه الأماكن بالعقبات أيضا. وعدد الحصوات تسع وأربعون يرمي الحاج في اليوم الأول كلا من العقبات الثلاث بسبع حصوات وفي اليوم الثاني بسبع حصوات ، وفي اليوم الثالث يرمي العقبة الثالثة فقط بسبع حصوات. ويكبر الله عند رمي كل حصوة ، وهناك حديث يذكر أن النحر والحل من الإحرام يكون بعد رمي العقبة الأولى للمرة الأولى في صباح يوم العيد بعد الوصول إلى منى من المزدلفة رواه الخمسة عن أنس قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلّاق خذ ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» (١). وبعض الحجاج يتعجلون العودة فلا يحبون أن يبقوا لليوم الثالث فسمحت لهم الآية بذلك. وقد روى أصحاب السنن حديثا عن أبي البدّاح عن أبيه قال : «رخّص رسول الله لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمون في أحدهما وفي رواية رخّص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما» (٢). وفي ترخيص الله ورسوله تلقين جليل مستمر المدى ومتساوق مع تلقينات القرآن المتكررة وهو الاهتمام بالجوهري من أهداف الإسلام وهو تقوى الله وحسن النية دون الأعراض والأشكال.

والمفسرون يروون عن أهل التأويل والأخبار أن رمي الجمرات هو تقليد إبراهيمي حيث إن إبليس تراءى لإبراهيم (عليه‌السلام) حينما أخذ ابنه ليذبحه

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٣٢ وحلاقة الشعر أو تقصيره صورة من صور التحلّل من الإحرام وهناك أحاديث أخرى في هذا الموضوع انظر ص ١٣٠ ـ ١٣٧.

(٢) المصدر نفسه ص ١٣٨.

٣٥٩

تنفيذا لأمر الله في منامه (١) ليزين له الامتناع عن ذلك فكان يرجمه في كل موقف من المواقف الثلاثة ، وهذا لم يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى كل حال فهذا تقليد كان من تقاليد الحج قبل الإسلام لم يعرف سببه معرفة يقينية فأقره الإسلام ليكون وسيلة إلى ذكر الله وتكبيره.

وقد ورد ذكر أيام التشريق في حديثين صحيحين روى أحدهما مسلم وأحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» (٢) وروى ثانيهما أصحاب السنن عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» (٣). وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم أيام التشريق على ما ذكرناه في فصل الصيام في هذه السورة.

والتشريق في اللغة هو عرض اللحم للشمس ، والمتبادر أن التسمية بسبب ما كان ينحر في أيام التشريق من الأضاحي التي كان يلقى بلحومها على الأرض معرضة للشمس وليأخذها من يشاء. وقد كان من تقاليد العرب قبل الإسلام أن لا يأكل صاحبها منها ويدعها للفقراء والوحوش والنسور والصقور فأباح الله لهم الأكل منها على ما شرحناه في تفسير سورة الحج.

١١ ـ وقد روى المفسرون في سياق جملة : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أن العرب قبل الإسلام كانوا في أيام التشريق يعقدون مجالس للمفاخرة بآبائهم فأمر الله المسلمين أن يذكروا الله فيها كما يذكرون آباءهم أو أكثر ، وقد يكون هذا واقعا وفي الجملة مغزى لطيف كما يتبادر لنا وهو عدم النهي عن ذكر الآباء حيث تكون الحكمة اقتضت ذلك من باب التكريم للآباء الذي تكرر الأمر به في آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور المكية.

١٢ ـ وما جاء في الآيات [٢٠٠ ـ ٢٠٢] محتمل أن يكون بسبب اشتراك غير

__________________

(١) ذكر هذا المنام في سورة الصافات ، وانظر تفسيرها في ابن كثير والخازن.

(٢) التاج ج ٢ ص ٧٨.

(٣) التاج ج ٢ ص ٧٨.

٣٦٠