التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين ، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال جبريل فقالوا إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سببا في حياته وتخريبه هيكلنا. ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك. ومنها أن محاورة جرت بين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب. وأن جبريل وميكال عدوان لبعضهما وأن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلا كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله ، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآيتان.

وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه (١) : «إنّ عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ ، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال : أخبرني بهنّ جبريل آنفا ، قال : جبريل؟ قال : نعم. قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ثم قال له : أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاء اليهود فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله ، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله».

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٦ ـ ٣٧.

٢٠١

ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معا في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وأن الحديث لم يذكر ميكال.

ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وأن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان : إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه.

وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم.

هذا ، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين كما هو المتبادر منه. وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة ، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل. وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين (جبرا) و (ايل) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة. وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوما كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم. وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى (١). وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسائه وهي : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ

__________________

(١) انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا.

٢٠٢

وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)). ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر. وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل ، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة. وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [٤] والنبأ [٣٨]. وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي. وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة.

وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة ، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل. وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه : «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» (١).

والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن ، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضا على ما هو المتبادر.

وتعبير (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)) وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الآيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما ، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق سورة القيامة.

ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية ، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب» ، ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله

__________________

(١) التاج ، ج ٣ ص ٢٨١.

٢٠٣

يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (١).

والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته. وفيها إيذان بمثل ما في الآية. أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)) [٩٩ ـ ١٠١]

(١) نبذ : رمى ورفض ونقض وترك.

تعليق على الحلقة الثامنة

من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود

في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم

__________________

(١) هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد ج ٥ ص ١٨٨ و ١٨٩ ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم.

٢٠٤

وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة.

وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهدا نقضه فريق منهم وتجاهله ، بل إن ذلك دأب أكثرهم لأن إيمانهم بالله ضعيف واه فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه.

وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا.

وجملة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه ؛ حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين (١).

وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن.

فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة ، وفحواها الذي يماثل إجمالا ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [٩٩] «والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي. ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق لأنه لا

__________________

(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والطبرسي والبغوي.

٢٠٥

يقف المواقف المذكورة بها إلّا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم.

ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم على ما جاء تقريره في الآية [١٥٧] من سورة الأعراف ، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد : إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئا ولم يأخذ لك علينا عهدا.

وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر.

ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم حيث أرادت القول إن في كل وقت يأخذ الله عهدا على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم.

وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة (فريق) في الآية الثالثة ناقضا لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما

٢٠٦

ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)) [١٠٢ ـ ١٠٣].

(١) ما تتلو الشياطين على ملك سليمان : ما كانت تتلوه في عهد ملك سليمان.

(٢) وما أنزل على الملكين : ما ألهموه وما تلقوه.

(٣) بابل : اسم مدينة كانت عاصمة ملك الكلدانيين في العراق الذين كان منهم الملك نبوخذ نصر المشهور باسم بختنصر الذي نسف دولة اليهود في القدس ودمرها وسبى أهلها.

(٤) خلاق : نصيب وحظ.

(٥) شروا به أنفسهم : باعوا به أنفسهم.

(٦) لمثوبة : الجملة بمعنى أنهم لو آمنوا واتقوا لكان ثواب ذلك من عند الله هو خير لهم.

تعليق على آية

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ...)

والآية التالية لها

وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد

إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه

جمهور المفسرين على أن ضمير (وَاتَّبَعُوا) عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في

٢٠٧

نزول الآية الأولى روايات عديدة منها أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا ما كان سليمان إلا ساحرا وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة ، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح ، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان ، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم ، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة ، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد ، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جاء مصدقا لما معهم مع معرفتهم صدقه ، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذبا فنسبوا بذلك إليه الكفر لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضا واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحدا إلا بعد أن يقولا له إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحدا إلا بإذن الله.

فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيرا ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.

٢٠٨

والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثا ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما فيه تأييد لذلك.

ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصا من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود.

وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد ، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولا في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان

٢٠٩

يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا حيث يكون الملكان هما داود وسليمان ، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر.

وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ آدم عليه‌السلام لمّا أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي ربّ (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)). قالوا ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم ، قال الله لهم : هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا : ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبدا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبيّ. فقالا : لا والله لا نقتله أبدا. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله ، فسألاها نفسها ، فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر ، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ ، فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا». وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله : هكذا رواه أبن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه. وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير ، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو أن الملكين جعلا في بكرات من

٢١٠

حديد في قليب مملوءة نارا. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى.

وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه : أن امرأة من أهل دومة الجندل جاءت إليها عقب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت تريد أن تقصّ عليه أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلبا أسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر فقالا لها إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حبا فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد.

وليس شيء من هذه الأحاديث والروايات التي اكتفينا بما أوردناه منها ـ لأنها متماثلة ـ واردا في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولا عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاق اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالا للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلا وموضوعا. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالا مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت

٢١١

جاء استطرادا ، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب ، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر.

والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولا والله تعالى أعلم.

والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقدوا أن السحر يضرّ أحدا بغير إذن الله ، وأن الذين يتعاطونه آثمون عند الله ولن يكون لهم حظ ونجاة في الآخرة.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين بعض الأحاديث المتساوقة مع هذا التلقين منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه : «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وحديث رواه الإمام أحمد عن جندب الأزدي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّ الساحر ضربة السّيف» وحديث رواه البخاري عن بجيلة قال : «كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر». وهناك حديث رواه الخمسة ذكر السحر فيه بعد الشرك من جملة الموبقات السبع التي نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها حيث روي أن النبي قال : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هنّ يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم ، والتولّي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (١).

وقد يكون من الحكمة في ما احتوته الآيتان والأحاديث أن الناس إذ يرجعون إلى السحرة لتحقيق مطالب ليست في نطاق الجهد الإنساني العادي ، وإذ يتعاطى

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٨١.

٢١٢

السحرة السحر بزعم أنهم قادرون على تحقيق تلك المطالب يكون الأولون قد انصرفوا في مطالبهم عن الله عزوجل الذي هو وحده القادر على تحقيق تلك المطالب والذي لا يجوز لمؤمن أن يرجع في تحقيقها إلى غيره ويكون ذلك منهم في معنى الشرك بالله ودعاء غيره. ويكون الآخرون قد ارتكسوا في ما فيه الكذب والتدجيل والضرر الخلقي والحسي والتشجيع على ذلك للانصراف عن الله عزوجل ودعاء غيره.

وفي كتب التفسير وبخاصة ابن كثير استطراد مسهب في السحر وأنواعه وصوره وحقيقته وأثره وحكمه وأقوال المذاهب الإسلامية فيه. والمستفاد منها (١) :

أولا : إن حقيقة السحر وأثره من المسائل الخلافية في المذاهب الإسلامية حيث يذهب المعتزلة والشيعة إلى أنه لا حقيقة له ، وكونه تخييلا وتمويها وشعوذة ، وحيث يذهب أهل السنة إلى أن له حقيقة وأثرا ولكن أثره لا يكون إلا بإذن الله ، وكلا الفريقين يستند إلى النصوص القرآنية. وقد نبه ابن كثير على أن أبا حنيفة يذهب المذهب الأول ويقول إنه لا حقيقة للسحر.

وليس في القرآن نصّ صريح بحقيقته وأثره إلا جملة : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وليس هناك أحاديث صحيحة في حقيقة السحر وأثره إلّا الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في حادث سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي أوردناه في سياق تفسير سورة الفلق. ولقد قرأنا لابن كثير تخريجا للنصّ القرآني المذكور آنفا يقول فيه إن الساحر يخيل لزوج من الزوجين سوء منظر الزوج الثاني وسوء خلقه فيؤدي ذلك إلى الفراق. ولا يخلو هذا من وجاهة فيما نرى ، ويتسق مع مذهب أبي حنيفة والمعتزلة والشيعة. ولقد علقنا على حديث حادث سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فيه وضع الأمر في نصابه المتبادر لنا إن شاء الله بما يغني عن التكرار.

وثانيا : إن حكم السحر مختلف فيه حيث ذهب بعضهم إلى أن تعلم السحر لذاته غير محظور شرعا إذا كان لأجل اتقاء أذاه ولم يعمل به ، وحيث ذهب بعضهم

__________________

(١) انظر أيضا تفسيري الزمخشري والطبرسي ففيهما مشاركة لما في تفسير ابن كثير.

٢١٣

إلى أن ذلك محرّم شرعا وأن الاعتقاد بحلّه كفر.

وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث التي أوردناها في جانب الرأي الثاني فيما يتبادر لنا.

وثالثا : إن معظم أئمة المذاهب متفقون على كفر الساحر المسلم ووجوب قتله إذا لم يتب دون الساحر الكافر إلا إذا أدى سحره إلى قتل نفس ، وأنهم متفقون كذلك على تكفير من يراجع السحرة ويطلب منهم تحقيق مطلبه ولم يقل أحد بقتله.

والظاهر أن الذين ذهبوا إلى قتل الساحر قد أخذوا بحديث الإمام أحمد الذي أوردناه قبل. أما كفر من يراجع الساحر فليس فيه نصّ صريح قرآني أو نبوي ويكون والحالة هذه منوطا باستحلال ذلك إلا أن يكون القائلون قذ قاسوا هذا على حالة من يراجع عرّافا أو كاهنا حيث روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا جاء فيه : «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد» (١). وقد يكون القياس وجيها ، ولقد أورد مؤلف التاج صيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد جاء فيها : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (٢) وواضح أن هذا النص يتناقض مع نص الكفر الوارد في الصيغة الأولى ، ويظهر أن الذين قالوا بالكفر لم يأخذوا به ، والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٠١.

(٢) التاج ج ٣ ص ٢٠١.

٢١٤

دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)) [١٠٤ ـ ١١٠]

(١) راعنا : ارعنا سمعك أو راقبنا وهي من الرعاية أو المراعاة.

(٢) انظرنا : انظر إلينا.

(٣) ننسها : قيل إنها من النسيان ، بمعنى نجعل حافظها أو ذاكرها ينسى. وقيل إنها من الإنساء وهو التعليق والتأجيل ، وقرئت ننسئها وننسأها وننسكها أيضا : أي ننسيك إياها.

تعليق على الحلقة العاشرة

من سلسلة الآيات الواردة في

السورة في اليهود

في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم ، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.

وقد روى المفسرون (١) في صدد الآية الأولى أي [١٠٤] ولفظ (راعنا) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والخازن.

٢١٥

معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو (الرعونة) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية ، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ (راعنا) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (٤٦)). ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربنّ عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له؟.

وقد روى المفسّرون (١) في صدد الآية الثالثة أي الآية [١٠٦] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه وأن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية ردا عليهم حيث تضمنت تقريرا ربانيا بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل حكما ويبدله بآخر أو ينسي أحدا آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعا لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلا للاستغراب ولا مجالا للدس ، والسامع يعلم أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير ، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والنسفي والقاسمي.

٢١٦

وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية ، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين ، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.

ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالا للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديدا. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [١٤٢ ـ ١٥٠] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية (١).

وقد روى بعض المفسرين أن الآية [١٠٨] موجهة إلى اليهود لأنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء (٢) وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا (٢). وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحدا منهم

__________________

(١) انظر الإتقان للسيوطي ج ٢ ص ٢٢ ، وانظر أيضا تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير فهما يذكران أن تبديل سمت القبلة من النسخ. ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله : «كان أول ما نسخ القرآن القبلة».

(٢) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير ومنهم من أورد جميع الروايات ومنهم من أورد بعضها. والجواب المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منقول من تفسير الطبري برواية أبي العالية.

٢١٧

قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا نبغيها ، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم ، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة. وقد أعطاكم (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) النساء : [١١٠] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلّا هالك» فأنزل الله الآية [٢].

وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح ، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)) فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠)) هي في سورة النساء المتأخرة كثيرا في النزول عن ظروف نزول هذه الآية وهذا فضلا عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماما على ما في الآية من سؤال تنديدي.

والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما ، واحتواء الآية إنذارا لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.

وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [١٠٩] نزلت في حيي بن أخطب

٢١٨

وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسدا للعرب واجتهادا في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصرا على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان باديا منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه‌السلام.

ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [١٠٥ و ١٠٩] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين دينا هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.

وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفا قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [١٠٤] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم ، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.

وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة ، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته.

٢١٩

وفي صدد الشطر الثاني من الآية [١٠٩] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذارا لليهود ، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله ، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.

والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة آل عمران والأنفال والأحزاب والفتح والحشر ، وقد لحظ المفسرون هذا ونبهوا عليه بدورهم.

والمتبادر أن ما جاء في الآية [١١٠] قد أريد به تلقين المسلمين عدم الاهتمام والاغتمام بدسائس اليهود ومكائدهم ، فعليهم أن يقوموا بواجباتهم نحو الله والناس فهو المطلوب منهم وسيكون ما يقدمونه بين أيديهم من خير عدة لهم في الآخرة.

ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن فيها تلقينات قرآنية جليلة مستمرة المدى مثل سابقاتها بالإضافة إلى ما نبهنا عليه سواء أفي تعليمها أدب الكلام والاستماع ، أم في تحذيرها من الألفاظ التي تحدث امتعاضا ولو لم يكن مقصودا أم في الشك بعد الإيمان وإثارة المواضيع التي لا طائل من ورائها أو يكون من ورائها تشويش وبلبلة. أم في الاستماع لوساوس ذوي النوايا الخبيثة الذين يصدرون عن حقد وحسد ومكابرة في الحق ولا يطيب لهم إلا الكيد والدس وإثارة الشبهات وإضعاف القلوب والعزائم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [١٠٨] بعض الأحاديث المتساوقة معها مدى وتلقينا. من ذلك حديث رواه مسلم جاء فيه : «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» (١). وحديث رواه الشيخان عن

__________________

(١) أورد هذا الحديث مؤلف التاج ج ٤ ص ٩٥.

٢٢٠