التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

توجّهت به فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» (١). وفي رواية : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي على الراحلة قبل أيّ وجه توجّه غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة» (٢). وروى أصحاب السنن عن جابر قال : «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» (٣). وروى الخمسة : «السجود أخفض من الركوع» (٤). وفي هذه الأحاديث رخص نبوية يسار عليها ويوقف عندها. وروى الخمسة عن أبي أيوب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولّها ظهره شرّقوا أو غرّبوا» (٥) وروى الخمسة أيضا عن ابن عمر قال : «ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام» وفي رواية قاعدا على لبنتين (٦). وقد تكون الصورة في هذا الحديث للضرورة ويكون الأمر في الحديث الذي قبله هو الأصل في التعليم والتنزيه. وروى الترمذي عن عامر بن ربيعة حديثا جاء فيه : «كنّا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) البقرة : [١١٥]» (٧). ومن المحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية من قبل إقرارهم على ما فعلوا فيكون في ذلك سنة يسار عليها أيضا والله تعالى أعلم.

تعليق على الآية

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ...) إلخ

ولقد قال المفسرون (٨) بناء على بعض الروايات إن هذه الآية هي في صدد يوم القيامة حيث يشهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين بأنه بلغهم الرسالة ويشهد المسلمون بأنهم بلّغوها وبلّغوها للناس. والآية تحتمل هذا غير أنه يتبادر لنا مع

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٨١ و ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٢) التاج ج ١ ص ٨١ و ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٣) التاج ج ١ ص ٨١ و ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٤) التاج ج ١ ص ٨١ و ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٥) المصدر نفسه ص ٨١.

(٦) المصدر نفسه ص ٨١.

(٧) المصدر نفسه ص ١٣٧.

(٨) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.

٢٦١

ذلك من روح الآية وفحواها أنها بسبيل التنويه بما كان من عناية الله في الدعوة الإسلامية وبما حملته هذه الدعوة لمتبعيها من عظيم التبعات وجعلتهم فيه من خطير المركز. وبالتالي أنها بسبيل مركز وواجب المسلمين في الحياة الدنيا أيضا. وتعبير (وَسَطاً) يعني فيما يعنيه الخيرية في كل شيء والاعتدال في كل شيء وعدم التفريط والإفراط ، وعدم الغلو والتقصير وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية ، مما فيه خير دين ودنيا ، وكل هذا متمثل في الرسالة الإسلامية حيث قامت على أسس وقواعد ومبادئ وأحكام وتقريرات وخطوط عامة حلت بها ما في مختلف النحل من مشاكل وتعقيدات وخلافات وتناقضات متصلة بعقيدة الله وحيث حكت من الطقوس المعقدة والتكاليف والأغلال الشديدة وحيث واءمت بين الدنيا والآخرة والمادية والروحية والعقل والقلب والعلم والدين ، وحيث فتحت الآفاق للإنسان في مختلف المجالات لا يمنعه مانع من أي جهد وتصرف في حدود الإيمان والاعتدال والحق. وحيث تطابقت مع طبائع الأشياء ونواميس الكون ومقتضيات المنطق والعقل. وحيث جمعت بين حظ الدنيا وحظ الآخرة وأباحت كل طيب وحرمت كل رجس وخبث ومنعت الاستغلال والاحتكار والحرمان والاستعلاء والتمييز والبغي والتجبر. ودعت إلى كل فضيلة ونهت عن كل رذيلة فجعلها كل ذلك خير رسالة أخرجت للناس ومتطابقة مع كل زمن وظرف ومطلب. ومرشحة للعمومية والخلود مما انطوى تقريره في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)) وآية سورة الأنبياء هذه : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)).

ولقد قلنا في صدد الآية الأخيرة من سورة الحج التي فيها جملة : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [٧٨] أنها عنت العرب واستدللنا على ذلك بما احتوته الآية من تذكير العرب بأبوة إبراهيم لهم. وفي جملة : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ

٢٦٢

وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة : [١٥١] من الحلقة التي نحن في صددها دليل على أن العرب هم المقصودون أيضا في الخطاب في جملة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الواردة في الآية [١٤٣] من آيات الحلقة.

ولقد علقنا على ما في ذلك من خطورة ونبهنا على حدود ذلك وما للمسلمين عامة من شأن وتبعات أيضا في سياق تفسير آية الحج المذكورة فلم نر حاجة إلى التكرار.

تعليق على الآية

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ

وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ...)

وفي الآية [١٥١] توضيح للمهمة التي حملها الله تعالى لرسوله بالنسبة لأتباعه ، وتنويه بها بأسلوب قوي نافذ. فالله قد أمره أن يتلو عليهم آياته ويفهمهم ما في كتابه ويطهر نفوسهم وقلوبهم بتعليمه وإرشاده وسنته. ويعلمهم ما فيه الحكمة أي الصواب والسداد والخير والحق في سلوكهم وتصرفهم وسائر شؤونهم.

وقد انطوى في هذا إيجاب إيماني بتلقي كل هذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسير وفاقه. ويكون ما يلقيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل ذلك جزءا لا يتجزأ من رسالته التي يجب على كل مؤمن أن لا ينحرف عنها.

ولقد أوردنا في التعليق الذي علقنا به على الآية [٤٤] من سورة النحل الآيات القرآنية التي توجب اتباع الرسول وطاعته وتقرر أن سننه الفعلية والقولية هي مرجع المسلمين الثاني بعد القرآن في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية كما شرحنا فيه جهود رجال الحديث الأولين رحمهم‌الله في تتبع هذه السنن وتمحيصها وتدوينها وضوابط الصحيح منها وما فيها من رائع التعليم والبيان والتلقين والهدى

٢٦٣

والحكمة والسداد المتساوقة مع مبادئ القرآن وتلقيناته والمتممة لها. والموقف الذي يجب على المسلم أن يقفه تجاه ما لا يدركه عقله منها إذا لم يتناقض مع تلك الضوابط وهذه المبادئ والتلقينات فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

هذا وبمناسبة ورود جملة (رَسُولاً مِنْكُمْ) في الآيات نذكر أن مثل هذه الجملة ورد في الآية [١١٢] من سورة النحل أيضا وعلقنا عليها وأوردنا ما روي وقيل في مداها فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)) [١٥٣ ـ ١٥٧]

وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :

١ ـ لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.

٢ ـ ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.

٣ ـ ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.

٤ ـ ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.

٢٦٤

والآيات تبدو فيما احتوته فصلا جديدا لا صلة له بالسياق السابق موضوعيا. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض ونرجو أن يكون صحيحا فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلا بعد فصل في مناسبات ملائمة ، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعها بعدها.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...)

وما بعدها [١٥٣ ـ ١٥٧] وما فيها من تلقين

وقد روى بعض المفسرين (١) أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد والروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران ، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر (٢). وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن.

(٢) انظر الطبقات لابن سعد ج ٣ ص ٤٤ ـ ٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر.

٢٦٥

ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين وهم في أول عهد هجرتهم.

فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء ، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر لأن الله مع الصابرين وناصرهم ، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.

أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عند ما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا ، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ، لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.

وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [١٦٨ ـ ١٧١] من سورة آل عمران ، وقد رأينا تأجيل إيرادها والتعليق عليها إلى

٢٦٦

تفسير هذه الآيات لأنها أكثر تناسبا بسبب ما فيها من صراحة بذلك.

وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق ، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معا في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث ، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها» حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)) [١٥٨]

(١) الصفا والمروة : قيل إن الصفا جمع الصفاة وقيل العكس أيضا. وقيل إن

٢٦٧

معناها الصخرة الملساء وقيل بل الصخرة اليابسة. وصفوان تثنية لها. والمروة هي الصخرة الرخوة أو الصخرة الصغيرة. وتجمع على مرو ومروان تثنية لها. والصفا والمروة صخرتان قريبتان من الكعبة بينهما نحو أربعمائة متر.

(٢) فمن حج البيت : شرحنا معنى الحج في تفسير سور الحج والبيت هنا كناية عن الكعبة وقد مرّ ذكره في سورة قريش وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

(٣) اعتمر : من الاعتمار وهي في اللغة قصد الشيء أو المكان والتردد عليه وإعماره وزيارته. ومنه (العمرة) وهي النسك الإسلامي المعروف أي زيارة الكعبة.

وتعبير (اعتمر) زار الكعبة زيارة عمرة.

(٤) لا جناح عليه : الجناح من الجنوح وهو الانحراف أو الإثم ، والجملة بمعنى لا إثم عليه.

تقرر الآية أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ومظاهر عبادته. وأنه لا إثم على من طاف بينهما إذا حجّ البيت أو اعتمره. وأن الله تعالى شاكر لكل من تطوع وزاد على المطلوب في العبادة وعمل الخير وهو العليم بنيات الناس ومقاصدهم.

وجملة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [١٥٨] تفيد أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ويكون في أشهر الحج المحددة وهو فرض أو ركن لا بدّ منه لتمام فريضة الحج وقد أيدت فرضيته هذه الجملة في آية سورة آل عمران : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)) والنوع الثاني هو (الاعتمار أو العمرة) ويكون في غير أشهر الحج وهو سنة نبوية وسوف نزيد كل هذا شرحا في سياق آيات آتية في هذه السورة.

تعليق على الآية

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) إلخ

هناك أولا حديث رواه الخمسة في نزول هذه الآية عن عروة قال : «قلت لعائشة : ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا. وما أبالي ألّا أطوف

٢٦٨

بينهما. فقالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاف المسلمون وإنما كان من أهلّ لمناة الطاغية التي بالمشلّل لا يطوفون بين الصفا والمروة فأنزل الله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [١٥٨]. فلو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه ألّا يطوف بهما. قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فأعجبه وقال : إنّ هذا العلم. وقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقول إن هذا من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى الآية. قال أبو بكر : فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء» (١). وهناك صيغ أخرى لهذا الحديث برواية الخمسة (٢) وبرواية الطبري أيضا وليس بينها تعارض. وهناك إلى هذا روايات تذكر أن الصفا والمروة كانتا مكان طواف وسعي في الجاهلية وأنه كان على إحداهما صنم اسمه (أساف) وعلى ثانيتهما صنم اسمه (نائلة) وأن العرب كانوا يقربون عندهما القرابين أو يتمسحون بهما في طوافهم. وأن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بينهما بسبب ذلك ومن الروايات ما يذكر أن أهل تهامة كانوا لا يطوفون بينهما (٣).

والآية تلهم على كل حال أنها نزلت في صدد الحثّ على الطواف بينهما ورفع الحرج عن الطائفين. ومن المحتمل أن تكون نزلت بناء على سؤال أو بسبب التحرج من الطواف بينهما بعد الإسلام. وصيغة الآية تدل على أن هذا الطواف كان من تقاليد الحج الرئيسية الراسخة عند غالبية العرب. وروى المفسرون روايات تفيد أن ذلك متصل بأولية سكنى إسماعيل وأمّه في وادي مكة حيث عطش فأخذت تركض بحثا عن الماء بين الصفا والمروة ، وقد ذكرنا ذلك بتفصيل أوفى في سياق تفسير سورة إبراهيم. والراجح أن هذا مما كان متداولا بين العرب. وأن مما كان

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٤٥ و ٤٦.

(٢) التاج ج ٢ ص ١٢١ و ١٢٢.

(٣) انظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

٢٦٩

متداولا أيضا كون الطواف بين الصفا والمروة من مناسك الحج المتصلة بإبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام.

ومما روي (١) أن الآية نزلت في ظروف زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين لمكة قبل الفتح بناء على صلح الحديبية الذي تمّ في السنة السادسة بعد الهجرة. غير أن وضع الآية في موضعها قد لا يؤيد الرواية التي لم ترد في الصحاح. وقد يدل على أنها نزلت في أوائل العهد المدني بناء على سؤال أو تحرج على ما جاء في الأحاديث والروايات.

ومن المحتمل أن تكون الآية وضعت في مكانها لأنها تخاطب المسلمين مثل ما سبقها من آيات ، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك لنزولها بعد الآيات السابقة لها مباشرة والله تعالى أعلم.

وما تقدم قد يسوّغ القول إن من المسلمين من كان يذهب إلى الحج في موسمه أو يذهب إلى مكة فيزور الكعبة معتمرا في غير موسم الحج قبل فتح مكة. وهذا قد يستفاد أيضا من آيات سورة الحج التي فيها ذكر بعض مناسك الحج والتي سبق تفسيرها ، ومن آيات في سورة البقرة تأتي بعد فيها ذكر بعض المناسك. ومن آية في سورة آل عمران فيها فرض الحج على المستطيع ومن آيات في سورة المائدة فيها ذكر بعض المناسك. فإن جميع هذه السور نزلت قبل ذلك الفتح. والله تعالى أعلم.

وهناك اختلاف بين علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية في حكم الطواف بين الصفا والمروة على ما شرحه المفسرون وبخاصة الطبري وابن كثير حيث يذهب فريق إلى أنه واجب ولا تجوز عنه فدية ، وحيث يذهب فريق إلى أنه عمل تطوعي يجوز تركه ، وحيث يذهب فريق إلى أنه سنة وتصحّ الفدية عنه.

وقد رجح الطبري القول الأول وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم مناسك

__________________

(١) انظر تفسير الطبرسي.

٢٧٠

الحج وعلم الطواف بين الصفا والمروة فيما علمه وأداهما فوجب على المسلمين اتباعه. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : «قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعا ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة». وروى النسائي والترمذي عن جابر قال : «قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة فطاف بالبيت سبعا وقال اتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى فصلّى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثمّ قال : نبدأ بما بدأ به الله فبدأ بالصفا وقرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)» (١). وعلى ضوء هذا يكون القول الأول الذي رجّحه الطبري هو الأوجه. ووصف الصفا والمروة بشعائر الله في الآية قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم.

وفي الحديث الطويل الذي يرويه مسلم عن جابر عن حجة الوداع النبوية «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بين الصفا والمروة راكبا على راحلته» (٢). واستند بعض الفقهاء إلى هذا فأجازوا الطواف بينهما للمسلم وهو راكب. وقيده بعضهم بالعذر ، وقد يكون هذا هو الأوجه لأن المسافة قصيرة لا تتحمل الركوب إلا بالنسبة للمعذور. وهناك حديث يرويه مسلم عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما طاف على راحلته ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه» (٣). وهذا قد يدعم ذلك.

ويطلق على الطواف بين الصفا والمروة تعبير (السعي) أيضا. وهذا مما ورد في حديث ابن عمر الذي أوردناه آنفا. والمؤولون متفقون على أن معناه المشي بسرعة أو هرولة وهناك حديث يرويه الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما سعى إلى مشي بسرعة أو هرولة ليري المشركين قوته (٤). والممارس منذ عهد الخلفاء الراشدين أن يمشي الطائف مسافة ويسعى أو يهرول مسافة.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) التاج ج ٢ ص ١٤١ ـ ١٤٥.

(٣) أورد الحديثين القاسمي وعزا أولهما إلى مسلم وثانيهما إلى الشيخين.

(٤) المصدر نفسه.

٢٧١

ولقد شرحنا في سياق سورة الحج حكمة الله في إبقاء تقاليد الحج السابقة للإسلام بعد تجريدها من شوائب الشرك والقبح فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)) [١٥٩ ـ ١٦٢].

في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.

تعليق على الآية

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ...) إلخ

والآيات الثلاث التالية لها

روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفرا من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال إن هذا الفصل ينطوي على

٢٧٢

مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.

ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.

والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.

ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (١). ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبينها سواء أسئل أم لم يسأل ، وفي آية سورة آل عمران هذه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [١٨٧] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى أعلم.

ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر التاج ج ١ ص ٥٨.

٢٧٣

وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.

والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء ، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة ، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.

وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن ما احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها وأنه إنما يظل واردا ولازما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.

استطراد إلى موضوع

لعن الكفار وغيرهم

ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات ، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين ، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه لأنه يكون مستحقا للعن وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه. لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله» (١). وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه : «لم يكن

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤.

٢٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا. كان يقول عند المعتبة ما له ترب جبينه» (١). وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : «قيل يا رسول الله ادع على المشركين ، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة» (٢). وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه : «من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه» (٣). وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» (٤).

ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيرا من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقينا باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.

استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات

ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي (رضي الله عنه) وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذارا لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤.

(٢) التاج ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤.

(٣) التاج ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤.

(٤) انظر المصدر نفسه.

٢٧٥

كتاب الله صفات عليّ وخلقه ، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر (١).

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)) [١٦٣ ـ ١٦٤].

عبارة الآيتين واضحة وقد تضمنتا تقرير وحدة الله المتصف بشمول الرحمة ، ودلائل وحدانيته وعظمته ، فيما في السموات والأرض من نواميس وآيات باهرة مما يقع عليها نظر السامعين ومما يستمتعون به منها من منافع عظيمة متنوعة يدركها العاقل المتدبر من الناس وتجعله موقنا باستحقاق الله وحده للخضوع والعبادة.

والآيتان مما تكرر كثيرا في السور المكية فحوى ومقصدا ، ولقد علقنا على مثلهما في تلك السور تعليقات كافية فلا نرى ضرورة للتكرار.

ولقد روى المفسرون (٢) أن الآية الأولى نزلت بناء على طلب المشركين وصف الله وأن الآية الثانية نزلت بناء على طلبهم البرهان على ما قررته الآية الأولى والروايات لم ترد في الصحاح. ولقد حكت آيات مكية كثيرة اعتقاد المشركين بوجود الله وكونه هو الخالق للأكوان المدبر لها الرازق النافع الضار. فليس مما يحتمل أن يطلبوا ما ذكرته الروايات فضلا عن أن أسلوبهما لا يتسق كثيرا مع هذه الروايات. والذي يتبادر لنا أنهما جاءتا معقبتين على ما سبقهما فالآيات السابقة أنذرت الذين يكتمون بينات الله ويصرون على الكفر بالنار وسجلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فجاءت هاتان الآيتان لتبينا ما في الكون من آيات دالة على وجود الله وعظمته وما في الكفر به من سخف وضلال.

__________________

(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٨٦.

(٢) انظر تفسيرهما في الطبري والطبرسي.

٢٧٦

على أن هذا لا يمنع احتمال أن تكون الآيتان مقدمة للآيات التالية لها التي احتوت اتخاذ بعض الناس شركاء لله.

ومن المحتمل أن تكون الآيتان وما بعدهما قد نزل بعد الفصل السابق فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعهما بعدها في ترتيب آيات السورة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)) [١٦٥ ـ ١٦٧]

(١) الأسباب : هنا بمعنى الروابط التي تربط بينهم ، ومن معاني السبب الحبل أو ما يربط الشيء بآخر.

في الآيات :

١ ـ إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأندادا يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه.

٢ ـ وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه.

٣ ـ وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.

٢٧٧

ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيدا لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته.

والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)) [١٦٨ ـ ١٧٣]

(١) طيبا : الطيب ضدّ الخبيث ، والخبيث من الطعام كل نجس وفاسد وضار.

(٢) الفحشاء : كل ما قبح من الأفعال.

(٣) ألفينا : وجدنا.

(٤) ينعق : من النعق. وهو التصويت بقوة ونعق الراعي إذا صاح بغنمه زاجرا. والجملة التي وردت فيها الكلمة هي لتشبيه حالة الكافرين بحالة الحيوان

٢٧٨

الذي يسمع الصوت ولا يفهمه.

(٥) باغ : من البغي.

(٦) عاد : من العدوان.

في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :

فأولا : وجّه للناس عامة هاتفا بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه ، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.

وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيها فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه ، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.

وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة ولا يكون سيء النية باغيا فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.

وتبدو الآيات فصلا جديدا ، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعا ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعا للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.

٢٧٩

وقد روى المفسرون (١) أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح ، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ، حيث يرجح استلهاما من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [١٧٠] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجيا ووجاهيا بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [١٧٢ ـ ١٧٣] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل ، وآيات الأنعام [١٣٤ ـ ١٤٥] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [١١٢ ـ ١١٧] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذارا لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دورا إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.

ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام

__________________

(١) انظر ابن كثير والطبرسي والخازن.

٢٨٠