التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [٢٤٠].

ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوسع صدرا وأفقا من منع ذلك إذا كان بسبب مرض. وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح بابا للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم.

٢ ـ هناك من قال إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد. لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة (يَتَرَبَّصْنَ) وهناك من سماها مدة إحداد استنادا إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت : «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا معصفرا ، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كست أظفار» (١). والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياسا على عدة المختلعة والمطلقة بتاتا أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقا بائنا على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة.

٣ ـ وهناك من قال إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلّا عدم التزوج ، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها فاستأذنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التحول إلى أهلها لأنها بعيدة عنهم ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالا. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال : امكثي في بيتك الذي أتاك نعيّ زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله». وهناك من أوجب استنادا إلى الحديث عدم

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٣٢٩ والكست نبات ذو رائحة ينبت في أظفار يذهب الرائحة الكريهة.

وهناك أحاديث أخرى عن غير أم عطية ، انظر ص ٣٣٠.

٤٤١

خروجها وهناك من لم ير في الحديث إيجابا عليها ، ونحن نرى هذا هو الأوجه ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها ، والله أعلم.

٤ ـ قال المؤولون : إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإذا تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثا رواه الخمسة عن أبي هريرة قال : «اجتمع أبو سلمة وابن عباس وهما يذكران أن المرأة تنفس (أي تلد) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس : عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة : قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت : نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرها أن تتزوج» (١). وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها ، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها ، والله تعالى أعلم.

٥ ـ وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص ، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٣٢٨. وأبو سلمة إما أن يكون غير أبي سلمة زوج أم سلمة الأول زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما أن يكون الصحيح ابن أبي سلمة لأن أبا سلمة مات في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحادث وقع بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٤٢

ويلفت النظر إلى جملة : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سرا أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول ، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به ، والله تعالى أعلم.

٦ ـ هناك من قال إن الضمير في جملة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة. وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معا بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل ، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة وورودا ، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن ، والله تعالى أعلم.

٧ ـ والأكثر على أن جملة (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) تعني الزواج بعد انتهاء المدة. وهناك من قال إن فيها دليلا على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسما. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه : «الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها» (١).

٨ ـ هناك من قال إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة ، وهناك من قال إنها نفس المدة ، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياسا على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل.

٩ ـ هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها. وقال إن ذلك دين على التركة قياسا على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٦٦.

٤٤٣

الطلاق هذه : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)). وهناك من لم يوجب لها لأنها صارت صاحبة حقّ إرثي في تركة زوجها. وهو الربع إن لم يكن ولد والثمن إن كان ولد على ما جاء في آية سورة النساء السابعة. وقد تطمئن النفس بالقول الثاني أكثر لأن هناك فرقا واضحا بين حالة المطلقة التي لا ترث وحالة الأرملة الوارثة والله أعلم.

١٠ ـ في حالة الزوجة التي يموت زوجها قبل أن يدخل بها أورد ابن كثير حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وصححه الترمذي يفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في مثل هذه الحالة بحق الزوجة في مهر كامل وفي إيجاب مدة الإحداد عليها وفي حقها في إرث زوجها (١) فيكون العمل به والله تعالى أعلم.

١١ ـ وهناك حالة أخرى هي حالة المرأة التي فقدت زوجها ولا تدري أين هو حيث روى الإمام مالك عن عمر أنها تنتظر أربع سنين ثم تعتدّ أربعة أشهر وعشرا ثم تحلّ أي تتزوج. وعقب الإمام مالك قائلا : «إن تزوجت بعد انقضاء مدتها فدخل بها زوجها الجديد أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها إذا ظهر بعد ذلك» (٢). ولقد روى البخاري عن ابن المسيّب قوله : «إذا فقد الزوج في الصف في القتال فتتربّص امرأته سنة» (٣) وروى البخاري عن الزهري قوله : «إذا كان الزوج أسيرا يعلم مكانه فلا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله. فإذا انقطع خبره فسنته سنّة المفقود» (٤) ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الحالة والاجتهادات سديدة والله تعالى أعلم.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ٢٧٣.

(٢) المصدر نفسه ص ٣٢٧.

(٣) المصدر نفسه ص ٣٢٧.

(٤) المصدر نفسه ص ٣٢٧.

٤٤٤

قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)) [٢٣٦ ـ ٢٣٧]

(١) متّعوهن : أعطوهن شيئا نافعا من مال أو ثياب بمثابة تعويض.

في هاتين الآيتين أحكام في الطلاق قبل الدخول : فليس من بأس على الأزواج إذا طلقوا زوجاتهم قبل الدخول بهن. فإذا كان وقع ذلك قبل أن يسمي لهن مهرا يستحققن تعويضا يكون متناسبا مع قدرة الرجل المالية ومع ما هو معروف معتاد بالنسبة للأمثال. وهذا حق على المحسنين أي الذين يتوخون في أعمالهم المقاصد الحسنة. وإذا كان وقع بعد تسمية المهر يستحققن نصف المهر ما لم يعفون عنه أي لم يتنازلن عنه أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح. والتنازل أقرب لتقوى الله ورضائه. ويجب على الناس أن لا ينسيهم الموقف ما بينهم من علاقات الفضل والمودة وما يجب عليهم تجاه بعضهم من حسن تعامل وتسامح ورغبة في كسب الفضل. والله بصير بما يعملونه فعليهم أن لا يعملوا إلّا ما فيه رضاؤه وتقواه.

تعليقات على الآية

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ...)

والآية التالية لها

الآيتان متصلتان بالسياق ، وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ولا مانع مع ذلك من صحتها. وحينئذ تكون الآية الثانية نزلت معها لبيان حكم من يسمي مهرها أيضا ، وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب الموضوعي أو لنزولهما بعد الآيات السابقة.

ويلفت النظر إلى ما احتوته الآيتان من حثّ على التقوى والإحسان والتسامح

٤٤٥

والعفو وعدم نسيان الفضل بين الذين يكون لهم صلة بالموقف مما هو متساوق مع ما احتوته الآيات السابقة وهادف مثلها إلى تنبيه المسلم إلى واجباته في ذلك في هذا الموقف الذي يكون عادة من المواقف النفسانية الحرجة.

ويتبادر لنا أن عدم اشتراط سبب للتطليق قبل الدخول لا يعني أنه لا بأس على الرجل أن يطلق بغير باعث صحيح وعادل واستجابة للنزوة والفورة والهوى الشخصي على ما تلهمه روح الآيات عامة التي يجب على المسلم أن يجعلها هي الضابط له في مثل هذه الحالة أيضا أي أن يكون غير متعمد للأذى والمضارة والمكايدة وغير شاذ عن مقتضى الحق والعدل. وأن يكون ذاكرا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

وفي كتب التفسير أحاديث وأقوال وتأويلات في صدد الآيتين ومداهما وأحكامهما نوجزها ونعلق عليها بما يلي :

١ ـ إن بعضهم قرأ (تَمَسُّوهُنَ) بضم التاء مع ألف بعدها (تماسوهن) وقالوا : إن هذه الكلمة بمعنى تشارك بدني الزوجين في التماس. وعلى كل حال فالجمهور على أن الجملة القرآنية بمعنى الجماع.

٢ ـ لقد عزي إلى أبي حنيفة أن الزوج إذا خلا بزوجته ولم يكن هناك مانع من الجماع من حيض أو عاهة رحم فإن خلوته معها تعد دخولا وتستحق كامل مهرها إذا طلقها. ويتبادر لنا أن هذا غير متسق مع النص القرآني الذي يجعل المسيس شرطا لاستحقاق المهر الكامل بعد الطلاق والله أعلم.

٣ ـ الجمهور على أن ال (فَرِيضَةً) بمعنى المهر.

٤ ـ الجمهور على أن المطلقة المسمى مهرها لا تستحق متعة. غير أن هناك آية أخرى تأتي بعد قليل مطلقة في إيجاب المتعة للمطلقات. وقد جعل هذا بعض المجتهدين يقولون بحقها بالمتعة والله أعلم.

٥ ـ تعددت صفات المتعة ، فهناك من قال أعلاها خادم ثم بعض الفضة ثم

٤٤٦

الكسوة. وأوسطها ثياب المرأة في بيتها. وهناك من عين خمارا ودرعا وجلبابا وملحفة وإزارا. وروى بعضهم عن الحسن أنه متع مطلقة له بعشرة آلاف درهم. وهناك حديث لم يرد في الكتب المعتبرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما دخلت عليه وبسط إليها يده كأنما كرهت فأمر بتجهيزها وكسوتها بثوبين. وحديث لم يرد كذلك في الكتب المعتبرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أحد أصحابه الذي طلق زوجته قبل الدخول أن يمتعها ولو بقلنسوة.

ومهما يكن من أمر فإن جملة (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) تسوغ القول إن المقدار متموج حسب حالة الزوج الاجتماعية والمالية ، وأن القادر على الأحسن لا يصح أن يعطي الزهيد البخس.

٦ ـ هناك من قال مع ذلك إن متعة من لم يسم مهرها يجب أن تعدل نصف مهر مثلها استنباطا من إيجاب نصف المهر إذا كان مسمى ، وهذا وجيه مع ملاحظة تلقين العبارة القرآنية السابقة ومداها بالنسبة لحالة الزوج والزوجة الاجتماعية والمالية.

٧ ـ هناك من قال إن جملة : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) تعني ولي الزوجة ومن قال إنه الزوج ، والجمهور على الثاني وهو الأوجه. بل مؤيد بروح الآية وفحواها. فولي الزوجة لا يملك عقدة النكاح ملكا تاما في جميع الحالات وموافقة البكر البالغة شرط والثيّب أحق بنفسها من وليها (١) على ما جاء في الأحاديث. والزوجة هي التي تقبض مهرها وتتصرف به على ما قررته آيات عديدة في سورة النساء. وفي جملة (يَعْفُونَ) دليل. فالجملة تعني الزوجة المطلقة وهذا يعني أن القرآن قرر حقها المستقل في ذلك وليس من حكمة لشرط عقد وليّها وهي موجودة والمهر حق واجب للزوجة ولا يملك الولي التنازل عنه في أي حال.

٨ ـ وجملة (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) على ضوء ما

__________________

(١) من ذلك : لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن والثيب أحق بنفسها من وليها وإذن البكر سكوتها (انظر التاج ج ٢ ص ٢٦٦).

٤٤٧

تقدم تعني التنازل من جانب الزوج عن النصف الثاني من المهر المسمى ومنحه للزوجة كاملا. والتنازل من جانب الزوجة عن النصف المستحق لها لأنها لا تستحق جميع المهر حتى تتنازل عنه.

٩ ـ هناك من صرف جملة (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) إلى الزوج بسبيل حثه على منح كامل المهر لمطلقته. فهو المنفق والدافع للمهر وقد فضله الله درجة فصار عليه أن يؤدي حق هذا التفضيل. ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان هذا لا يتنافى مع احتمال كون الجملة موجهة للزوجين معا بسبيل حثّ كل منهما على التسامح والمفارقة بالحسنى.

١٠ ـ لقد استنبط بعضهم من الآية الأولى جواز عقد النكاح قبل تعيين المهر. فإذا تم الدخول ولم يسم مهر وجب للزوجة مهر أمثالها ولها نصف مهر أمثالها إذا لم يتم الدخول وهذا وجيه سديد.

١١ ـ هناك من قال إن المفوضة بطلاق نفسها إذا طلقت نفسها قبل الدخول لا تستحق الذمة ، ولم نطلع على أثر نبوي وراشدي في ذلك. ومع أن المتبادر أن مصدر الطلاق لم يتغير وهو الزوج بتفويضه زوجته بطلاق نفسها وأن حقه في التطليق قائم وأن صفة المطلقة لا ترتفع عن التي تطلق نفسها بموجب التفويض فإن ذلك القول وجيه من حيث إنه ليس من محل للتعزية والترضية في هذه الحال وهما من أهداف المتعة. ومع ذلك نقول إن إطلاق النص القرآني في الآية [٢٤٢] التي تأتي بعد قليل بخاصة يسوغ القول إنها تستحق المتعة والله أعلم.

١٢ ـ في صدد صفة الطلاق قبل الدخول عزا الإمام مالك إلى أبي هريرة وابن عباس رأيا مفاده أنه إذا كان طلاقا مطلقا بدون عدد يعد الطلاق بائنا ، عدته حيضة ويجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته بعقد ومهر جديدين إذا شاءا أو تراضيا. وإذا كان طلاقا باتا ثلاثا أو لثالث مرة فتكون بينونة كبرى ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره (١). ولم نطلع على أثر نبوي والرأي سديد وجيه فيما هو المتبادر.

__________________

(١) انظر الموطأ ج ٢ ص ٤٧ ـ ٤٨.

٤٤٨

١٣ ـ هناك من قال إن متعة المطلقة التي لم يسم مهرها هي على سبيل الندب لا الإيجاب ، وهناك من قال إنها واجبة ، واستلهم أصحاب القول الأول صيغة الآية ، واستلهم أصحاب القول الثاني الآية [٢٤٢] التي فيها كلمة (حقا) والتي تأتي بعد قليل. ونحن نرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وفي سورة الأحزاب هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)) والنص مطلق مثل إطلاقه في الآية [٢٤٢] وفي هذا تدعيم لوجاهة القول والله تعالى أعلم. ولقد قال أصحاب هذا القول إن من حق المطلقة التي لم يسم مهرها أن ترفع أمرها إلى الحاكم وأن على هذا أن يحكم لها بالمتعة وأن الزوج يحبس بها حتى يؤديها. وأنه إذا مات قبل أدائها تكون دينا على تركته وهذا وجيه تبعا لوجاهة القول لأنه نتيجة له ، والله تعالى أعلم.

وفي آية الأحزاب التي أوردناها تتمة للتشريع الذي احتوته الآيتان حيث يظهر أن بعضهم سألوا فنزلت الآية لترفع العدة عن المطلقة قبل المسّ. لأن العدة في الأصل لاستبراء الرحم وفسح المجال للمراجعة ولا محل لهذا وذاك في هذه الحالة ويكون للمطلقة أن تتزوج حالا.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)). [٢٣٨ ـ ٢٣٩]

في الآيتين : أمر موجه إلى المسلمين بالمحافظة على الصلوات وبخاصة الصلاة الوسطى وأدائها في أوقاتها. وقيامهم فيها خاشعين خاضعين لله وحده وتنبيه على أنه لا ينبغي أن يمنعهم من ذلك مانع حتى في حالة الخوف والخطر. فعليهم في هذه الحالة أن يؤدوا الصلاة أثناء ركوبهم إذا كانوا راكبين أو مشيهم إذا كانوا مترجلين. فواجب ذكر الله وأداء حقه في العبادة مترتب عليهم يجب أن يؤدوه في

٤٤٩

حالتي الأمن والخوف فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمونه وعليهم شكره وذكره.

تعليق على الآية

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ...)

إلخ والآية التي بعدها

والآيتان فصل مستقل لا صلة به بالسياق السابق ولا باللاحق ، وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الظهر بالهجير وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلّا الصف أو الصفان فقال لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة فنزلتا لتحثا على وجوب إقامة الصلاة في أوقاتها في أي حال ، ومن المحتمل أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات السابقة لها فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعها في مقامها ولو لم يكن بينها وبين السياق مناسبة وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني.

ولقد تعددت الأقوال في الصلاة الوسطى ، فمنها أنها صلاة الظهر لأن وقتها وسط النهار ، وقد يتفق هذا مع الحديث المروي عن زيد ، ومنها أنها صلاة الفجر لأنها متوسطة بين صلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب والعشاء. وهي أشق من غيرها ، ومنها أنها صلاة العصر. وقد روى المفسرون مع كل قول أقوالا وأحاديث معزوة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فقد عزي القول بأنها صلاة الفجر إلى ابن عباس في روايات عديدة ، وعزي القول بأنها صلاة الظهر إلى زيد بن ثابت. غير أن القول بأنها صلاة العصر مؤيد بأحاديث أقوى ، فقد روى أصحاب الخمسة حديثا عن علي (رضي الله عنه) جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ثم صلّاها بين العشاءين» (١). وقد روى الترمذي حديثا عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة الوسطى صلاة العصر» (٢) وقد روى الترمذي

__________________

(١) انظر التاج ج ١ ص ١٢٣.

(٢) انظر التاج ج ١ ص ١٢٣.

٤٥٠

حديثا عن أبي يونس مولى عائشة (رضي الله عنها) جاء فيه : «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت : إذا بلغت هذه الآية : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فآذنّي فلما بلغتها أعلمتها ، فأملت عليّ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وهكذا يكون تأويل الصلاة الوسطى بصلاة العصر هو الأوجه المؤيد بأحاديث صحيحة وهو ما عليه الجمهور ولقد أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث عديدة منها ما هو صحيح فيها تنويه بصلاة العصر وإنذار لمن تفوته مما فيه تساوق مع التلقين القرآني ، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن بريدة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» (٢). وحديث رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (٣).

ولقد روى الزمخشري في سياق الآية رواية تفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس إلى أصحابه بعد صلاة العصر فيتحلقون حوله ويستمعون إلى عظاته وأحاديثه ويتذاكرون فيما بينهم من أمور وما يكون من شؤون. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح ولا يمنع هذا من صحتها حيث ينطوي فيها توضيح ما لاهتمام كتاب الله ورسوله بهذه الصلاة والله أعلم.

وما تقدم هو في صدد الفقرة الأولى من الآية الأولى وفي صدد الفقرة الثانية منها أي : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)) روى البخاري والترمذي حديثا عن زيد بن أرقم قال : «كنّا نتكلّم في الصلاة يكلّم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت فأمرنا بالسكوت». حيث ينطوي في الحديث ما فهمه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعملوا به من تلقين الآية. وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير تفيد أن الأمر بذلك كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا. منها حديث أخرجه مسلم جاء فيه : «إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلّم في الصلاة : إن هذه الصلاة لا يصحّ فيها شيء من كلام

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٥٧.

(٢) التاج ج ١ ص ١٢٣.

(٣) التاج ج ١ ص ١٢٣.

٤٥١

الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله». وحديث آخر وصف بالصحيح عن ابن مسعود قال : «كنا نسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيردّ علينا فلما قدمنا سلمنا عليه فلم يردّ عليّ فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلّم قال إني لم أردّ عليك لأني كنت في الصلاة وإن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة».

وحديث آخر يرويه الحافظ أبو يعلى : «إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا».

والتلقين المنطوي في الجملة القرآنية على ضوء الأحاديث هو تنبيه المؤمنين إلى وجوب استحضار الله عزوجل وحده في أذهانهم حينما يكونون في الصلاة وعدم إشغالها بأي شيء آخر عن ذلك لأنه من المقاصد المهمة في الصلاة.

وفي صدد (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) نقول إنها في صدد إيجاب الصلاة في كل حال في أوقاتها. وإساغة لإقامتها في الخوف في حالة السير مشيا وفي حالة الركوب. وفي سورة النساء آيات أخرى في صدد ذلك سوف نزيد هذا الموضوع شرحا ونورد ما ورد فيه من أحاديث في مناسبتها.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)) [٢٤٠]

(١) وصية : قرئت بالفتح على تقدير (فليوصوا وصية) وقرئت بالرفع على اعتبار الإيجاب والحكم.

وتبعا لاختلاف قراءة (وصية) يكون في الآية أمر للأزواج بأن يوصوا حين

٤٥٢

تحضرهم الوفاة بأن ينفق على زوجاتهم من بعدهم حولا كاملا وبأن لا يخرجن من مسكنهن طيلة هذه المدة أو يكون فيها أمر رباني بإيجاب تنفيذ ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن فيها تسويغا لخروجهن قبل نهاية المدة إذا شئن ، ورفعا للحرج عن ذي العلاقة والولاية فيما يفعلنه في أنفسهن من التصرفات المشروعة وتنبيها على أن الله تعالى عزيز تجب طاعته حكيم لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة.

وروح الآية وفحواها يلهمان أن ما تقرره للزوجة هو واجب على ورثة زوجها وتركتها سواء أوصى هو بذلك أم لم يوص. وأن معنى (مَتاعاً) هنا هو نفقة معيشتها.

تعليق على الآية

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ

مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ...)

والآية فصل تشريعي من باب الفصول التي سبقت ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد السياق السابق فوضعت في ترتيبها أو وضعت في ترتيبها للمماثلة التشريعية. ولقد روى الخازن أنها نزلت في امرأة رجل من الطائف هاجر إلى المدينة مع أبويه وزوجته فمات فلم تعط زوجته شيئا من ميراثه وكان ذلك قبل نزول آيات المواريث في سورة النساء ، فرفعت أمرها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى الآية فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبقوها في بيتها سنة وينفقوا عليها.

والرواية لم ترد في كتب الصحاح ويلحظ أنها لا تتسق تماما مع فحوى الآية ويتبادر لنا أنها في شأن أرملة أراد أهل زوجها إخراجها وامتنعوا عن النفقة عليها. ولا يمنع هذا أن تكون طبقت على الجملة التي رواها الخازن.

ويروي الطبري عن ابن عباس وآخرين أن حكم هذه الآية كان جاريا قبل نزول الآية [٢٣٤] من هذه السورة وقبل نزول آيات المواقيت في سورة النساء. وأنها نسخت فأنقصت المدة إلى أربعة أشهر وعشر في الآية [٢٣٤] وحملت الأرملة نفقة نفسها لأنها صارت ترث من زوجها. ويروي الطبري عن مجاهد

٤٥٣

وآخرين أيضا أن حكم الآية ظل محكما لمن تشاء من الزوجات البقاء في بيت زوجها المتوفى سنة مع إيجاب نفقتها ، ويبقى حكم الآية [٢٣٤] وما ورد في صددها من أحاديث أوردناها قبل محكما بالنسبة لهذه الزوجة. وقد صوب الطبري القول الأول غير أن الذي يتبادر لنا استلهاما من مجيء هذه الآية بعد الآية [٢٣٤] أن القول الثاني هو الأوجه وليس هناك حديث وثيق بالنسخ. أما مسألة نفقتها طول السنة فالذي يتبادر لنا أن نسخها بآية المواريث هو وجيه وآية المواريث نزلت بعدها والله أعلم.

وعلى صحة استنتاج بقاء الآية محكمة في حق الزوجة في البقاء في بيت زوجها المتوفى عنها سنة كاملة وعدم الحرج مع ذلك من خروجها أثناء هذه المدة فالذي يتبادر لنا مع الآية ومقاصدها أنها لو خرجت لحاجتها ثم أرادت أن تعود إلى بيت زوجها لإتمام مدة السنة فلها ذلك ، والله تعالى أعلم.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)) [٢٤١ ـ ٢٤٢].

في الآيتين توكيد لحق المتعة والتعويض للمطلقات في نطاق العرف والعادة والأمثال. وتقرير كون هذا واجب الأداء على المتقين لغضب الله والراغبين في رضائه. وبيان بأن الله ينزل آياته ليعرف المؤمنون منها ما يجب عليهم فيعقلوه ويسيروا وفقه.

وقد روى المفسرون (١) أن الآيتين نزلتا بسبب فهم بعض المسلمين من جملة (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الواردة في الآية [٢٣٦] أنهم غير ملزمين بالمتعة فإن أحبوا متعوا وإلّا فلا واجب عليهم ، والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكنها محتملة الصحة. وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب والتقارب الموضوعي وربما

__________________

(١) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.

٤٥٤

نزلتا بعد سابقتهما. وقد صارتا خاتمة للفصول التشريعية المتعلقة بالطلاق والترمل وأسلوبهما متسق مع أسلوب الآيات السابقة المتعلقة بالموضوعين مستهدف ما استهدفته من حماية المرأة وتوكيد حقها.

ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون في المطلقات اللاتي عنتهن الآيتان. فهناك قول بأنهن المطلقات قبل المسيس اللاتي لم يسم لهن مهر تثبيتا لحقهن الذي ذكر في الآية [٢٣٦] والذي اختلف في استحبابه ووجوبه. وهناك قول بأنهن المطلقات عامة بما فيهن المدخول بهن. وقد أورد أصحاب القول الثاني آية سورة الأحزاب هذه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)) كدليل على قولهم. وإطلاق العبارة في الآية وعلى ضوء آية سورة الأحزاب قد يجعل القول الثاني هو الأوجه. ويمكن أن يقال على ضوء هذا إن حكمة التنزيل قد شاءت أن يكون في إمتاع المطلقة المدخول بها والتي يمضها الطلاق ويحزن نفسها على كل حال تعزية وترضية وفي هذا تمام البرّ والرحمة وهو ما يلحظ في التشريعات السابقة بصورة عامة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)) [٢٤٣ ـ ٢٤٥].

في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفا من الموت فلم يفدهم فرارهم شيئا حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.

٤٥٥

وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله ، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولون عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضا حسنا مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافا مضاعفة وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله وأن مرجع الناس جميعا إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا.

تعليق على الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ...) إلخ

وعلى الآيتين التاليتين لها

الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها ، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد ، وهذا ما جعلنا نعرضها معا.

وقد روى المفسرون (١) أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس من مجالسه : من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة؟ قال : نعم. قال : وأم الدحداح والصبية معي؟ قال : نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية. ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها ، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساق المدى ، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه ، والثانية احتوت أمرا للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة ولكن الأكثر احتمالا واتساقا مع نص الآية أن تكون

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن.

٤٥٦

وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق.

ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله ، فمر عليهم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعث بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بني إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفا حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى.

ولقد ورد في الإصحاح ٣٧ من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة. حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [٢١٨ ، ٢٦٢ ، ٢٧٢] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات ، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطرادا لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيما للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.

٤٥٧

استطراد إلى الفرار

من الوباء

لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وحديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه : أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فقال عمر لابن عباس : ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس : إني مصبّح على ظهر فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّبا في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف» (١). وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

٤٥٨

مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)) [٢٤٦ ـ ٢٥٢]

(١) طالوت : تعريب شاؤول المذكور في سفر صموئيل.

(٢) بسطة في العلم والجسم : إشارة إلى ما كان عليه طالوت من جسامة حيث روى سفر صموئيل أنه كان أطول الناس قامة.

(٣) التابوت : هنا هو صندوق كان بنو إسرائيل يحفظون فيه الذخائر

٤٥٩

الدينية المقدسة منذ عهد موسى وهرون.

(٤) سكينة من ربكم : طمأنينة تطمئن بها نفوسكم يبعثها إليكم ربكم.

(٥) فصل : بمعنى سار.

(٦) من لم يطعمه : من لم يذقه ويشرب منه.

(٧) الذين يظنون أنهم ملاقو الله : الذين يتيقنون من لقاء ربهم.

تعليق على الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) إلخ

والآيات التالية لها من [٢٤٦ ـ ٢٥٢]

الآيات فصل جديد ، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى (عليه‌السلام) ، وعبارتها واضحة ، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغا للحروب الدفاعية وتقريرا لضرورتها ، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها ، واحتوت الثانية توكيدا وجه الخطاب فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.

ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات ، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطرادا للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فورا وبدء المجموعتين بجملة (أَلَمْ تَرَ) مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين

٤٦٠