التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)) [١٨٨]

(١) فريقا : هنا بمعنى قسما أو بعضا.

في الآية نهي موجه للسامعين المخاطبين عن أكل أموال بعضهم بالباطل أو التوسل بها مع الحكام بقصد أكل شيء من أموال بعضهم بغير حقّ وعن عمد وعلم وبيان ما في ذلك من إثم.

تعليق على الآية

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ... إلخ

والآية فصل تشريعي جديد كما هو ظاهر ، وقد تلهم روحها أن الخطاب فيها موجه إلى المؤمنين ؛ وإن كان إطلاقه يفيد تلقينا مستمر المدى وشاملا لجميع الناس ، وقد يكون هذا الفصل نزل بعد فصل الصيام فوضع بعده أو يكون ذلك للمماثلة التشريعية.

وقد روى المفسرون (١) أن الآية نزلت في مناسبة شكاية أحد المسلمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على آخر غصب له أرضا. فكلفه بإقامة البينة فعجز فكلّف المدعى عليه باليمين فهمّ بأن يحلف فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا إنه إن حلف على ما ليس له ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض. ثم قال : إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن (٢) بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضي له قطعة من نار فليتحمّلها أو يذرها». فارتدع المدعى عليه عن اليمين وسلّم الأرض إلى صاحبها المدعي فلم تلبث أن نزلت الآية.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الخازن.

(٢) أحذق وأبلغ في الكلام وتنميقه.

٣٢١

وفي الكتب الخمسة ثلاثة أحاديث فيها ما جاء في رواية الخازن مع زيادات موضحة مفيدة دون أن يذكر فيها أن الآية نزلت في المناسبة المذكورة في رواية الخازن.

أولها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه : «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الحضرميّ : يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي : هي أرضي في يدي أزرعها وليس له فيها حقّ. فقال النبي للحضرميّ : ألك بيّنة؟ قال : لا. قال : فلك يمين؟ قال : يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي بما حلف ليس يتورّع عن شيء. فقال : ليس لك منه إلّا ذلك. فانطلق الرجل ليحلف فقال رسول الله : لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض» (١). وثانيهما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت : «أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بيّنة إلّا دعواهما فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. فبكى الرجلان وقال كلّ منهما حقّي لك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحقّ ثم استهما ثم تحالا. وفي رواية : إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه» (٢). وثالثهما حديث عن أم سلمة يرويه الخمسة جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار» (٣).

ومهما يكن من أمر فإن الآية قد تلهم أنها نزلت بسبب حادث مشابه لما جاء في رواية الخازن أو الحديثين الأولين. وقد جاءت بصيغة عامة فيكون التوجيه أو التلقين الذي احتوته هدى للمسلمين في كل زمن وزاجرا لهم عن الارتكاس فيما نهت عنه إيمانا ويقينا وتقوى.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٥٤.

(٢) المصدر نفسه ص ٥٣ و ٦١.

(٣) المصدر نفسه ص ٥٣ و ٦١.

٣٢٢

وينطوي في الآية النهي عن شهادة الزور والتزوير والحجة الباطلة المزوقة والدعوى المنمقة الخادعة التي تصور الحق باطلا والباطل حقا عن عمد وعلم بل وينطوي فيها نهي عن استحلال المسلم مال أخيه بأية وسيلة من وسائل الباطل من غشّ وتغرير وكذب وغبن وافتعال وأيمان وقمار وسرقة ورشوة وخيانة إلخ.

وقوة الزجر والتوجيه في الآية ملموحة ومتسقة مع شدة اهتمام القرآن لإقرار الحق وتوطيده وقيام العدل والإنصاف بين الناس والزجر عن الباطل والبغي والاحتيال والتزوير وتقبيح كل ذلك. وهذه القوة منطوية في الأحاديث النبوية حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر كما يتساوق في جميع الأمور.

ولقد رأى بعض المفسرين في تعبير (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) معنى الرشوة والقصد إليها. وهذا المعنى أو القصد منطو في الآية سواء أدلّ هذا التعبير بالذات عليه أو لم يدلّ. وفي هذا أيضا يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي حيث روى أبو داود وأحمد والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الراشي والمرتشي في الحكم» (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)) [١٨٩]

(١) الأهلّة : جمع هلال. ومع ذلك فإن المتبادر أنها تعني حركات القمر وصوره خلال الشهر وتوالي ذلك شهرا بعد شهر.

في الآية :

١ ـ حكاية لسؤال وجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأهلّة.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٥٠.

٣٢٣

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإجابة بأنها لأجل تنظيم مواقيت الناس وحساب أيامهم ولأجل معرفة مواقيت الحج أيضا.

٣ ـ وتنبيه للسائلين أو السامعين إلى أنه ليس في دخول البيوت من ظهورها برّ حقيقي مقرّب إلى الله وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله والتزام حدوده وأمر لهم بدخول البيوت من أبوابها وبتقوى الله ليتمّ لهم الفلاح والسعادة.

والآية فصل جديد آخر ، وعليه سمة تشريعية ، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد سابقتها فوضعت بعدها أو أنها وضعت بعدها للمماثلة التشريعية.

وقد روى المفسرون (١) أن شطر الآية الأول نزل بمناسبة سؤال عن الحكمة في تبدل حالات القمر وأسرار ذلك ، وأن شطرها الثاني نزل جوابا على سؤال آخر عن الحكم في تقليد من تقاليد الحج القديمة. وذلك أن العرب أو أهل يثرب كانوا حينما ينوون الحج ويحرمون له يحرمون على أنفسهم الاستظلال بسقف ما فإذا ما احتاجوا إلى شيء في بيوتهم أو أرادوا أن يدخلوا لبيوتهم فلا يدخلونها من الأبواب لئلا يظللهم السقف وإنما يصعدون إلى السطوح وينزلون منها إلى فناء البيت أو يخرقون خرقا في الجدار.

وهناك حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء جاء فيه : «كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)». ولفظ مسلم : «كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فلاموه فنزلت الآية.

ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآية نزلت في مناسبة سؤالات في صدد ما ذكر فيها. ويتبادر لنا أن المسألتين عرضتا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سئل عنهما في ظرف واحد قبل نزول الآية فنزلت الآية للإجابة عليهما معا ، والتناسب ملموح بين المسألتين كما هو ظاهر مما قد يدعم ذلك.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير.

٣٢٤

ويلوح لنا خاطر في صدد (السؤال عن الأهلّة) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه. وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم. فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية (١).

والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له. مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقة.

وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك.

وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر ، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [١٧٧].

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا

__________________

(١) رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل.

٣٢٥

تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)) [١٩٠ ـ ١٩٥]

(١) حيث ثقفتموهم : الثقف في اللغة : الحذق والإصابة. والكلمة هنا بمعنى حيث وجدتموهم أو أصبتموهم وقدرتم عليهم.

(٢) الحرمات : هنا بمعنى الأماكن والظروف المحرّمة دينيا.

في الآيات :

١ ـ أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.

٢ ـ ونهي عن العدوان بدءا وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.

٣ ـ وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.

٤ ـ وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.

٥ ـ ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.

٦ ـ وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.

٧ ـ وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.

٨ ـ وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.

٩ ـ ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.

١٠ ـ وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله ، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام

٣٢٦

أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) وعليهم في هذه الحال أيضا أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.

١١ ـ وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين لأن في التقصير فيهما تعريضا لأنفسهم للهلاك ، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.

تعليقات على الآية

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)

وما بعدها

إلى آخر الآية [١٩٥]

والآيات فصل جديد ، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.

ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك ، فتضمنت تبريرا حيث قالت إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقا للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في

٣٢٧

شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصا لهم.

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جوابا على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.

ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :

١ ـ واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.

٢ ـ عدم جواز بدئهم أحدا غير عدو وغير معتد بقتال.

٣ ـ واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.

٤ ـ حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد وشرط ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.

٥ ـ واجب الإنفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعا للاشتباك الفعلي وحيث يكون التقصير في ذلك معرضا للتهلكة والخطر.

٣٢٨

٦ ـ اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سببا مبررا لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

وإنها لمبادىء في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءا أو عدوانا لحمل الناس على الإسلام.

ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [٣٩ ـ ٤٣] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله والردّ على البغاة المعتدين لنقول إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لردّا آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضا مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.

ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل ، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتىء القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجابا ، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.

كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة

٣٢٩

أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق ـ وهذا ما تعنيه جملة : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) على ما ذكره المؤولون ـ عظيم المغزى من أجل ذلك.

ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاء للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيدا حيث قال له : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) النساء : [٨٤] وإن جملة : «(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة : [١٩٥] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة» (١). وفي سورة التوبة هذه الآية : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)) وتنطوي على صورة مألوفة دائما وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائما وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة

__________________

(١) هذه الرواية يرويها أصحاب السنن أيضا بهذه الصيغة الجليلة المغزى عن أسلم النجيبي قال : «كنا بمدينة الروم فبرز لنا صف عظيم منهم وخرج من المسلمين لهم مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب فقال : يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا إن أموالنا قد ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه الآية يرد علينا قولنا حيث عنت أن الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو هو التهلكة. وما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى استشهد ودفن في أرض الروم». التاج ج ٤ ص ٥١.

٣٣٠

مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه موالاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [٢٦١] وآية سورة الحجرات [١٥] وآية سورة محمد [٣٨] وآية سورة التوبة [٨٨] وغيرها وغيرها.

ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [١٩٠] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي : (ومن ألقى إليكم السلم وكف يده) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة : (وَلا تَعْتَدُوا) تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري ـ الأطفال ـ والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلا لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [٩٠ ـ ٩١] وسورة الممتحنة [٨ ـ ٩] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.

ولقد قال بعض المفسرين (١) عزوا إلى بعض التابعين أن كلمة (وَالْفِتْنَةُ) في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير (فَإِنِ انْتَهَوْا) يعني الانتهاء عن الشرك ، وأن الآيات تأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين إلى أن يسلموا ويزول الشرك إطلاقا. وروح الآيات ومضمونها لا يساعدان على هذا لأنها تأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم مع عدم الاعتداء من جهة ، وعدم القتال عند المسجد الحرام أو في الشهر الحرام إلا إذا قوتلوا فيهما من جهة ، وبمقابلة العدوان بمثله وظروفه والوقوف عند هذا الحد من جهة. وبعبارة أخرى إن المسلمين غير مأمورين فيها بالاستمرار في القتال إلى أن يسلم الأعداء أي أن يصبحوا مسلمين.

وهذا مؤيد بآيات عديدة وبروايات عديدة معا تتضمن تقرير كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٣١

هادن وعاهد بعض المشركين ومنهم العدو المعتدي بدءا الذي أمر بقتالهم. فمن الآيات آية سورة النساء التي أوردناها آنفا. وآية التوبة هذه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)) وهذه : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)) ومن حوادث السيرة اليقينية صلح الحديبية بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش الذين كانوا في حالة عداء وحرب.

أما التأويل الأوجه المستلهم من روح الآيات القرآنية لجملة : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فيما يتبادر لنا هو قتالهم حتى نضمن حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المستجيبين إليها ، ولجملة (فَإِنِ انْتَهَوْا) التي تأتي بعد هذه الجملة بخاصة هو انتهاء المشركين من موقف العداء والبغي وإخلائهم بين الناس وحرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين.

وقد قيدنا الجملة بالتي وردت في الآية [١٩٣] لأن جملة (فَإِنِ انْتَهَوْا) في الآية [١٩٢] قد تكون حقا بمعنى (فإن أسلموا) بقرينة جملة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التي جاءت بعدها. ولسنا نرى في هذا نقضا لقولنا الأول إذا اعتبرنا الآيات جميعها (وحدة) حيث يصح القول إن الآيات أمرت المسلمين بالاستمرار في قتال الذين يقاتلونهم حتى يسلموا أو ينتهوا من موقف البغي والعدوان. ويقوم بينهم وبين المسلمين عهد سلم وسلام. وفي سورة الأنفال آيات فيها نفس الحالتين على ما يتبادر لنا وهي : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)) ، وهذه الآيات نزلت بعد وقعة بدر.

واستمرت حالة الحرب قائمة بين المسلمين وكفار قريش الذين عنتهم إلى السنة

٣٣٢

السادسة فعقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبينهم صلحا زالت به هذه الحالة ، ولو كانت الآيات بسبيل الأمر بالاستمرار إلى أن يسلموا لما وقع ذلك كما هو المتبادر.

ومن الجدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) واشتقاقاتها قد تكررت في القرآن بمعان عديدة غير أنها لم تأت بمعنى الشرك بصراحة أو دلالة واضحة. وقد جاءت بخاصة بمعنى إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم مثل آية سورة البروج هذه : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠)) وآية سورة النحل هذه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)) وهذا المعنى هو المقصود فيما نعتقد في الآيات وبه يتضح معنى الجملة (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في الآية [١٩١] أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم بخاصة في الشهر الحرام والمسجد الحرام هو أشد نكاية من القتل والقتال وأشد خرقا لحرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام وأكثر تبريرا للقتال فيهما. حتى لو سلمنا جدلا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك يكون بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم ولا يمكن أن يعني قتال كل مشرك بدءا حتى يسلم إذا لم يقاتل المسلمين مما أيدته وقائع السيرة النبوية تأييدا قاطعا ، وقد قلنا (ولو سلمنا جدلا) للمساجلة وحسب. وفي صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين المسمى بصلح الحديبية دليل قاطع على أن الجملة لم تكن تعني إيجاب قتال المشركين والكفار حتى يسلموا.

ولقد قال المفسرون (١) : إن التحديدات والشروط الواردة في الآيات قد نسخت بآيات أخرى جاءت في سورة التوبة وأمرت بقتال المشركين إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مثل هذه الآية : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٣٣

وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) ومثل هذه الآية : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)). والذي يتمعن في سياق الآيتين يجد أنهما في موضوع الذين عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نقضوا وغدروا وحسب ؛ وإن الله قد حدد الشرط الذي يجب أن يتحقق للكفّ عنهم نتيجة لنقضهم وغدرهم. ويورد المفسرون جملة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) الواردة في آية سورة التوبة [٣٦] في معرض تأييد قولهم. مع أن لهذه الجملة تتمة تمنع ذلك وهي : (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ومما يؤيد قولنا آية سورة الممتحنة هذه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) وهذه الآية لا تحتوي تأييد ما نقوله فقط ، بل وتحثّ على البرّ والإقساط لمن يقف من المسلمين موقف المسالمة والحياد من الكفار والمشركين إطلاقا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يرو أي خبر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل أو أمر بقتال مشركين مسالمين أو حياديين أو معتزلين أو رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين. والذي يدرس وقائع الجهاد في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) يرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع جماعة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها أو بناء على نكث عهد أو مظاهرة للعدو وتآمر معه ضد المسلمين. ولو كان قتال كل كافر أو كل مشرك مبدأ إسلاميا قرآنيا أو نبويا لاقتضى أن يقاتل النبي كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنّه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم).

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن بريدة حديثا جاء فيه : «إن

__________________

(١) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد وفي الأجزاء ٢ و ٣ و ٤ من سيرة ابن هشام والجزء الثاني من تاريخ الطبري.

٣٣٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال له : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال : فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيه فلا تجعل لهم ذلك ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك. فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تقبل منهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» (١) ويلفت النظر في هذا الحديث جملة : (إذا لقيت عدوك من المشركين) حيث يتسق هذا مع تلقين الآيات التي نحن في صددها من أن القتال هو للعدو المقاتل وحسب (٢).

ولقد شرحنا هذا الموضوع في سياق تفسير سورة (الكافرون) وبسبيل تقرير ما احتوته السورة من حرية التدين في الإسلام شرحا وافيا أيضا فنكتفي هنا بما تقدم.

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) هناك أحاديث نبوية في صدد عدم قتال وقتل النساء والأطفال والشيوخ ، منها حديث رواه أبو داود عن أنس قال : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : انطلقوا باسم الله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة». ومنها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى عن قتل النساء والصبيان» التاج ج ٤ ص ٣٢٨. ومثل هذا مأثور في وصية أبي بكر رضي الله عنه حينما وجه الجيوش إلى الشام. انظر الموطأ ج ١ ص ٢٤٧.

٣٣٥

تعليق على الشهر الحرام

وحرمة المسجد الحرام وأمنه قد أشير إليهما في آيات مكية عديدة ثم في بعض آيات من هذه السورة وسورة المائدة وقد علقنا عليها في تفسير سورة قريش بما فيه الكفاية.

غير أن (الشَّهْرُ الْحَرامُ) يذكر هنا لأول مرة ، فنقول بمناسبة ذلك إن كلمة (الْحَرامُ) هي في نفس معناها بالإضافة إلى المسجد أي إنها تعني حرمة الشهر وتقديسه وأمنه وتحريم القتال فيه. وهذا المعنى منطو في الآيات التي ورد فيها التعبير في غير هذه الآيات في هذه السورة وغيرها من السور المدنية. وهذا التعبير يطلق على أربعة أشهر من الأشهر القمرية العربية. وقد ذكر عددها في آية التوبة هذه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)). وقد ذكرت أسماء هذه الأشهر في حديث رواه البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (١).

والثلاثة المتواليات المذكورة هي أشهر الحج عند العرب قبل الإسلام. وحرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك. وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج. أما شهر رجب فقد كان يقوم فيه موسم ديني خاص بأهل الحجاز وتسميته برجب مضر على ما جاء في الحديث دليل على

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٣٦.

٣٣٦

ذلك فمدته كافية لقبائل مضر النازلة في الحجاز وما جاوره. وليس في الروايات بيان بماهية هذا الموسم ولكن هناك تقليدا إسلاميا بما يسمى الزيارة الرجبية وهي أداء العمرة في شهر رجب. ومن المسلمين من يرحل إلى مكة ليؤدي منسك العمرة في رجب. والآية [١٥٨] من هذه السورة التي سبق تفسيرها تذكر بصراحة أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ونوع يسمى العمرة. والنوع الأول يكون في موسم الحج والثاني في غير موسم الحج. ولعل الموسم الديني المضري الحجازي قبل الإسلام الذي كان يقوم في رجب هو موسم لزيارة الكعبة في غير موسم الحج. ولعل التقليد الإسلامي بما يسمى الزيارة الرجبية متصل بذلك والله تعالى أعلم.

وظاهر من هذا أنه كان للعرب مصلحة عظمى دينية واجتماعية واقتصادية في الأشهر الحرم ولذلك كانوا على ما تلهمه الآيات وترويه الروايات (١) يتشددون في حرمتها وعدم إخلال هدنتها المقدسة ؛ حتى بلغ بهم الأمر إلى تحريم الصيد لأن فيه سفكا للدماء. فإذا حلت صار الناس في أمن شامل فلا نزاع ولا قتال ولا خوف. وما كان هذا ليكون لو لا صبغتها الدينية. وقد أكد القرآن حرمتها وقداستها وأشار إلى ما فيها من مصلحة كبرى كما جاء في آية سورة التوبة [٣٦] التي أوردناها قبل ، وآية سورة المائدة هذه : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)) وهذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)). وذلك جريا على مبدأ الإبقاء على الصالح المفيد من التقاليد ولم يأذن بالقتال فيها إلّا لردّ عدوان ودفع ظلم وكفالة حرية الدعوة الإسلامية.

__________________

(١) اقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص ٢٨١ وما بعدها.

٣٣٧

وليس في آية التوبة المذكورة آنفا ولا في الحديث النبوي ما يفيد قدم هذه الأشهر حيث اقتصرت على القول إن من الأشهر أربعة حرما. ولكن فيها ما يفيد صفتها الدينية وإقرارها. وأسماء الأشهر عربية فصحى ، وهذا يدل على أنها أو على أن هذه الأسماء ليست قديمة لأن اللغة العربية الفصحى لا يمتد تحققها إلى أكثر من مائتي سنة قبل البعثة النبوية على ما تفيده الدراسات الأثرية (١). وسنزيد هذا الموضوع شرحا في سياق تفسير آية سورة التوبة المذكورة وآية النسيء التي تأتي بعدها.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)) [١٩٦]

(١) الحج والعمرة : معنى الكلمتين اللغوي متقارب وهو الزيارة والتوجه والقصد. ثم صار لهما صيغة دينية قبل البعثة واستمرت بعدها. وفريضة الحج ركنان في أشهر الحج واحد زيارة الكعبة وتسمى عمرة وواحد الوقوف في عرفة ولا يتم الحج إلا بالركنين. ويتبادر لنا والله أعلم أن جمع الأمر (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قد قصد به الركنان. وقد تكون جملة : (تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) دليلا أو قرينة على ذلك وسوف نزيد هذا شرحا فيما بعد.

(٢) فإن أحصرتم : الإحصار هو منع مانع ما. ومعنى الجملة فإن منعتم وحالت أسباب قاهرة دون أدائكم الحج والعمرة.

__________________

(١) انظر كتابنا الجزء الخامس من تاريخ الجنس العربي المذكور آنفا ، ص ٢٨١ وما بعدها.

٣٣٨

(٣) ما استيسر : ما تيسر.

(٤) الهدي : ما ينذر للذبح قربانا لله في الحج والعمرة من الأنعام. وسمّي هديا على اعتبار أنه هدية لله وبيته.

(٥) محله : المكان الذي يحل الذبح فيه ويجوز أن يكون معنى الكلمة المكان والزمان معا اللذان يحل الذبح فيهما. وفي سورة الحج آية تفيد المكان وهو الكعبة : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)) أما الزمان فقد عينته السنة وهو بعد الحج أو بعد العمرة.

(٦) نسك : الأصل في معناه التعبد. ولكنه هنا ما يقرّب إلى الله من الأنعام كفّارة عن عدم أداء بعض مناسك الحج وطقوسه أو الإخلال بها.

(٧) فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج : الذي يتحلل من الإحرام بعد الطواف والسعي للمدة الباقية إلى وقت الوقوف بعرفة حيث يحل له ما يحظر على المحرم الذي يظل محرما بعد العمرة إلى انتهاء الحج.

(٨) لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : لمن لم يكن مقيما مع أهله في منطقة المسجد الحرام إقامة دائمة. فهذا له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج بدون كفارة.

في هذه الآيات تشريعات في مناسك العمرة والحج :

١ ـ فعلى المسلمين أن يقوموا بواجب الحج والعمرة بنية عبادة الله والتقرب إليه ، وأن يتموا مناسكهما.

٢ ـ فإذا خرج مسلم من منزله قاصدا القيام بهذا الواجب الديني ثم أحصر في الطريق ومنع عن الوصول لأسباب قاهرة فيكتفي بتقريب ما تيسر له من ذبائح يقربها لله. وليس له أن يحلق رأسه إلّا بعد أن تصل القرابين إلى المكان الذي ينبغي ذبحها فيه لأن حلق الرأس هو من محللات الإحرام ولا يكون إلّا بعد ذبح القربان. ويرخص لمن كان مريضا أو به أذى من رأسه أن يتحلل من الإحرام ويفعل ما فيه وقاية له من ازدياد المرض أو شفائه منه ودفع الأذى عن رأسه من لبس ثياب وحلق

٣٣٩

شعر وتغطية رأس وتطيب وغير ذلك على أن يقدم فدية عن هذه الرخصة فيصوم أو يتصدق أو يذبح قربانا. وإذا تيسرت أسباب الأمن وبلغ المسلمون المسجد الحرام فعلى الذين يتمتعون بحريتهم في الفترة الواقعة بين العمرة والحج ـ أي الذين يدخلون منطقة الحرم محرمين فيؤدون العمرة أي يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ثم يتحللون من إحرامهم ويتمتعون بما هو محظور على المحرمين : كالنساء والطيب والتزين والثياب العادية إلخ إلى وقت الحج الأكبر والوقوف في عرفة والإحرام له ـ أن يقرّبوا قربانا لله مقابل ما تمتعوا به من رخصة إذا لم يكونوا من سكان منطقة المسجد الحرام. فإذا لم يقدروا على تقريب القربان فعليهم مقابل ذلك صوم عشرة أيام ثلاثة منها في موسم الحج وسبعة بعد الرجوع إلى منازلهم.

وانتهت الآية بالحثّ على تقوى الله والتحذير من عقابه الشديد في حالة تجاوز حدوده والتقصير في طاعته وتقواه.

تعليقات على آية

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ...) إلخ

وسمة التشريع بارزة على الآية كمثيلاتها السابقة ، ونرجح أن بينها وبين الآيات السابقة لها صلة موضوعية بشكل ما. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في عام الحديبية حينما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصد زيارة الكعبة ومنعهم أهل مكة وانتهى الأمر بعقد الصلح وتأجيل الزيارة للسنة القابلة ، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة.

ويلحظ أن في الآية أحكاما عديدة ومطلقة في صدد مناسك الحج. وقد جاء بعدها آيات أخرى في أحكام الحج وسبقها آيات فيها إشارة إلى بعض تقاليد الحج السابقة وإلغاء لها. فهذا يسوغ التوقف في صحة الرواية كمناسبة لنزول الآية وترجيح نزولها قبل عام الحديبية بزمن طويل ولأجل بيان أحكام مناسك الحج والعمرة المتنوعة وصلتها بالآيات السابقة والآيات اللاحقة بحيث يمكن القول إن

٣٤٠