التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

المسلمين مع المسلمين في الحج حين نزول الآيات التي يرجح أنها نزلت قبل فتح مكة ، ومحتمل أن يكون بسبيل بيان طبائع الناس عموما من حيث أن بعضهم لا يهمه إلّا تحقيق مطالبه وتأمين منافعه في الدنيا. وقد انطوى في الآيات تنديد بهؤلاء وإنذار لهم وتطمين للآخرين الذين يرجون من الله الفضل والحسنى في الدنيا والآخرة معا ، حيث يعدهم الله بالاستجابة. ولقد روى الشيخان عن أنس قال : «كان أكثر دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» (١). وروى مسلم والترمذي حديثا آخر عن أنس قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له : هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه؟ قال : نعم ، كنت أقول اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال رسول الله : سبحانه لا تطيقه أو لا تستطيعه ، أفلا قلت اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال : فدعا الله له فشفاه» (٢). حيث ينطوي في الحديثين تعليم نبوي متساوق مع التعليم القرآني.

والجملة الدعائية القرآنية من جوامع الدعاء لأن كلمة (حسنة) مطلقة المدى تشمل كل نوع من أنواع الخير في مختلف المجالات ويتبين من هذا حكمة كونها أكثر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الآية التالية لها إيذان بأن الله تعالى يحب لعباده أن يكون لهم حظّ ونصيب في الدنيا في مختلف مجالات الخير والصلاح والنجاح والقوة والنفع والمال في الدنيا بالإضافة إلى حظهم المضمون لهم وحدهم في الآخرة. وهذا انطوى تقريره في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها.

ويلفت النظر إلى ما في التعليم القرآني والنبوي معا من مغزى رائع ، ودلالة على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من سعة الصدر والمرونة والتطابق مع مصالح البشر وطبائع الأشياء. فليس في الإسلام دعوة إلى الزهد في الدنيا والانصراف عنها مطلقا وطيباتها وخيراتها وزينتها مباحة للمسلمين ضمن حدود الاعتدال والنية

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٠٩.

(٢) التاج ج ٥ ص ١٠٩.

٣٦١

الحسنة والبعد عن المنكر. ومن ثم فإن المسلمين أمروا بأن يدعوا لأجل جمع خير الدنيا والآخرة لهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)) [٢٠٤ ـ ٢٠٧]

(١) ألدّ الخصام : أشد الناس في العداوة والخصومة.

(٢) يهلك الحرث والنسل : كناية عن الإيغال في الفساد والعدوان وأثرهما في الناس والبلاد.

(٣) أخذته العزة بالإثم : كبر عليه قول الناس له اتق الله وأخذته حمية النفس والاعتداد بها وحملته على الإصرار على الإثم.

(٤) يشري نفسه : يبيع نفسه ، والمعنى يقدم على تضحية نفسه.

في هذه الآيات : وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة ، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافا لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكبارا من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلا لرضاء الله.

وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده ، وقد صرف بعض

٣٦٢

المفسرين (١) هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم إن جملة : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.

تعليق على الآية

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

والآيات الأربع التالية لها

والآيات كما يبدو فصل جديد ، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.

وقد روى المفسرون (٢) أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار يقسم له أنه محبّ له وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية (٣) أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم (٤). ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه : «أقبل صهيب مهاجرا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أني من أرماكم جلا ، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري.

(٢) انظر تفسير المنار.

(٣) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير والبغوي.

(٤) انظر كتب التفسير السابقة وتفسير القاسمي معها.

٣٦٣

بمكة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا : نعم. فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» (١). وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا (٢).

والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.

وأسلوب الآيات مطلق حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.

ووصف المنافق قوي نافذ ، وفيه جملة لاذعة ، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضررا أو فسادا في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.

ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة (وَإِذا تَوَلَّى) بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتا في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (٣). وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) التاج ج ٥ ص ٤١.

٣٦٤

في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهدا في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضررا من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه : «إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» (١) فيما هو المتبادر ، والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)) [٢٠٨ ـ ٢٠٩]

(١) السلم : يصح في سينها الفتح والكسر والكسر أشهر. ويصح في معناها الصلح والسلام أو الإسلام لله وهي هنا بالمعنى الثاني على رأي جمهور المفسرين.

في الآيتين :

١ ـ دعوة للمؤمنين للاستمرار على الإسلام الذي دخلوا فيه وإسلام النفس لله إسلاما تاما والطاعة لجميع أوامره.

٢ ـ وتحذير لهم من اتباع الشيطان والسير في ما يزينه وتنبيه إلى أنه عدو شديد العداء لهم لا يمكن أن يوسوس إلا بما فيه إثمهم وضررهم.

٣ ـ وإنذار لهم في حالة انحرافهم عن طريق الحق بعد ما جاءتهم آيات الله وبيناته واضحة جليّة. فإن الله عزيز قادر على التنكيل بالمنحرفين حكيم لا يأمر ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصواب.

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

٣٦٥

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)

والآية التالية لها

وقد تعددت الروايات في نزولهما (١). منها أنهما نزلتا في مؤمني اليهود الذين آمنوا بالنبي من جهة وظلوا متمسكين بأحكام التوراة وتلاوته من جهة. ومنها أنهما أنزلتا في المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة ومنها أنهما نزلتا في بعض المسلمين المتهاونين في أحكام الإسلام وواجباته.

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ، وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أنهما في صدد شيء من قبيل ما جاء في الرواية الثالثة. ولعل هذا متصل بما احتوته الآيات السابقة من وصف موقف المنافق والمخلص. وقد أريد بهما توكيد وجوب الإخلاص لله وحده. وعدم اتباع وساوس الشيطان التي لا يتبعها إلا المنافقون المفسدون.

وإذا صحّ هذا كما نرجو فتكون الآيتان معقبتين على الآيات السابقة ليكون فيهما هتاف للمسلمين المتهاونين ، ونرجح أنهما لم تنزلا لحدتهما وأنهما استمرار للسياق وجزء منه والله أعلم.

ومهما يكن من ظرف نزول الآيتين فإنهما انطوتا على تلقين جليل مستمر المدى ودعوة قوية دائمة للمسلمين بوجوب إسلام النفس لله في جميع أمورهم والإخلاص له وعدم الانحراف عن هذه الجادة المستقيمة وعدم الاندماج في المكائد والدسائس الباعثة على القلق والاضطراب والتفكك بين المسلمين جماعة وأفرادا وفي كل ظرف ومكان ، وكون ذلك وحده هو الطريق القويم المؤدي إلى النجاة.

__________________

(١) انظر تفسيرهما في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.

٣٦٦

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)) [٢١٠ ـ ٢١١]

(١) ظلل : جمع ظلة وظلال والمعنى في قطع من الغمام.

(٢) الغمام : السحاب الأبيض الخفيف.

(٣) نعمة الله : كناية عن هدى الله وآياته.

في الآيتين :

١ ـ تساؤل استنكاري وتقريعي عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام ينتظرون نزول الله والملائكة في قطع من الغمام ليخاطبوهم مباشرة.

٢ ـ وإنذار لهم بأن وقوع ذلك إيذان بقضاء الله وعذابه عليهم على ما جرت عادة الله الذي ترجع إليه الأمور أولا وآخرا.

٣ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال بني إسرائيل في معرض الاستشهاد عما أتاهم الله من آيات ودلائل واضحة كثيرة.

٤ ـ وإنذار لمن يبدل نعمة الله المتمثلة في آياته وبياناته ومقاصدها بعد ما جاءته واضحة فإن الله شديد العقاب ينتقم بمن يقدم على هذا الإثم العظيم.

ولم نطلع على رواية في نزول هاتين الآيتين ، والذي يتبادر لنا أن الضمير في (يَنْظُرُونَ) راجع إلى الذين يترددون وينحرفون ويزلون عن الإسلام لله والطاعة التامة له والذين وجهت الآيتان السابقتان إليهم الإنذار. وعلى هذا فيمكن أن يقال إن الآيتين جاءتا معقتبين أيضا على الآيتين السابقتين واستمرارا لهما. ولما كنا خمنا صلة الآيتين السابقتين بما قبلهما أيضا فتكون هاتان الآيتان جزءا من السلسلة أو الفصل الجديد الذي بدأ بالآية [٢٠٤].

٣٦٧

ومع أن أسلوب السؤال هو تقريعي أكثر منه تقريريا لطلب واقع نزول الله والملائكة فإن طلبا مثل هذا قد وقع على سبيل التعجيز من كفار قريش على ما حكته آية سورة الفرقان هذه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)) كما أن طلب استنزال الملائكة ليؤيدوا النبي قد تكرر من أولئك الكفار على ما حكته آيات كثيرة مرت في سور عديدة (١). ولعل استشهاد بني إسرائيل في هذا الموقف متصل بقصد التذكير بحادث جرى لآبائهم وحكته آية البقرة [٥٥] حيث قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. ولعل هذا الاستشهاد ينطوي كذلك على التذكير بما كان من بني إسرائيل من تحريف وتبديل لآيات الله وتنكيل الله بهم على ذلك مما حكته آيات عديدة في سورة البقرة وغيرها. وليس من المستبعد أن يكون لليهود يد في موقف التردد وعدم التصديق بجميع ما بلغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بدا من بعض المؤمنين أو المتظاهرين بالإيمان أو عدم الإخلاص التام لله. ويد كذلك في وسوسة طلب المعجزات من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مثل نزول الله والملائكة في الغمام بقصد التشكيك والتعطيل ؛ فاقتضت حكمة التنزيل طلب الاستشهاد بهم بأسلوب ينطوي فيه التذكير بما وقع لآبائهم من قبل وربما الإنذار لهم أيضا.

ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية وموضوعية فإن فيهما تلقينا مستمر المدى بتقبيح مواقف المكابرة والتمحل والتعجيز والانحراف عن جادة الحق الواضحة التي بينتها وهدت إليها آيات الله.

ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآيات في صدد يوم القيامة ومشاهدها وليست الروايات وثيقة. وفحوى الآيات وصلتها بأسبقها أسلوبا وموضوعا يحمل على التوقف فيها ويجعل ما شرحناه هو الأكثر وجاهة وورودا والله أعلم.

__________________

(١) انظر مثلا آيات سور الأنعام [٨] والحجر [٧] وهود [١٧] والفرقان [٧] والإسراء [٩٢].

٣٦٨

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)) [٢١٢]

تشير الآية إلى استغراق الكفار في الحياة الدنيا واغترارهم بما تيسر لهم من أسباب اليسر والنعيم فيها وما ساقهم هذا إليه من السخرية بالمؤمنين وتنقصهم لهم. ثم تقرر أن المتقين من المؤمنين سوف يكونون فوقهم يوم القيامة مكرمين عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب.

وقد روى المفسرون (١) أن الآية نزلت في بعض رؤساء قريش الذين بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان هؤلاء من رجال الله لبسط لهم الرزق. كما رووا أنها نزلت في بعض رؤساء المنافقين أو رؤساء اليهود في المقصد نفسه ، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والذي يتبادر لنا أن الآية هي أيضا استمرار للآيات السابقة ولم تنزل كآية مستقلة. فالكفار والمنافقون والمنحرفون عن أوامر الله والمبدلون لآياته ونعمته إنما يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وتزيينه من جهة واغترارا بما تيسر لهم من وسائل القوة والاستمتاع بالدنيا من جهة أخرى. وليس من مانع أن تكون قصدت زعماء كفار قريش أو زعماء كفار اليهود أو زعماء المنافقين الكافرين بقلوبهم لأن صدور ذلك من كل منهم محتمل.

وتعبير (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) قوي الدلالة في مقامه ، ولا سيما أن الآيات السابقة تنعى على بعض الذين آمنوا أو تظاهروا بالإسلام ترددهم وعدم إسلامهم النفس لله إسلاما صادقا فليس كل من يقول آمنّا يستحقون الحظوة عند الله وإنما الذين اتقوا منهم أي الذين أخلصوا كل الإخلاص وسلّموا أمرهم وأنفسهم لله كل التسليم ولم يترددوا ولم يكابروا في اتباع جميع ما أمر الله ونهى ، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير.

٣٦٩

ولقد قلنا في الشرح إن الكفار يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وهذا مستلهم من النهي الوارد في الآيات السابقة عن اتباع خطوات الشيطان.

وقد يصح أن يكون في العبارة القرآنية بسبب بنائها على المجهول تقرير بكون الكفر مما يزين لصاحبه الحياة الدنيا أيضا والله أعلم.

تعليق على جملة

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)

وهذه الجملة تأتي لأول مرة ، وقد تكررت في سور أخرى بعد هذه السورة والمتبادر من مقامها وروحها أنها بسبيل الردّ على تبجح الكفار بما تيسر لهم من سعة الرزق. وتقرير كون ذلك ليس هو مظهر حظوة لهم عند الله وإنما هو مظهر من مظاهر النواميس التي أقام الله المجتمع الإنساني عليها. ولقد تكرر تبجح الكفار بذلك في صور ومناسبات متنوعة فحكته عنهم آيات عديدة في سور سابقة وردته عليهم بأساليب متنوعة على ما مرّ شرحه (١).

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)) [٢١٣]

(١) أمة واحدة : نوعا واحدا في الدين أو سائرون على طريق واحد فيه أو مفطورون على فطرة واحدة.

__________________

(١) انظر آيات سورة الفجر [١٥ ـ ٣٠] وطه [١٣١] وسبأ [٣٥ ـ ٣٧] والمؤمنون [٥٥ ـ ٦١] وتفسيرها في أجزاء سابقة.

٣٧٠

تعليق على آية

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...)

روى المفسرون (١) عن أهل التأويل أن في الفقرة الأولى من الآية محذوفا مقدرا وأن تقدير الجملة هكذا : «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ...» وهذا وجيه وفي الجملة جملة (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) حيث تكون الجملة قرينة على صواب التقدير. وفي سورة يونس آية فيها تدعيم لذلك أيضا وهي : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)).

وقد رووا عن بعض أهل التأويل أن جملة (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أنها بمعنى كان الناس كفارا أو على ضلال. فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. كما رووا عن بعض آخر أنها بمعنى كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. وروح الآية مع ملاحظة مقام جملة : (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فيها تجعل القول الثاني أكثر وجاهة. وقد يدعم ذلك آية سورة الروم هذه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠)).

وعلى ضوء هذه الأقوال الوجيهة فإن الآية في صدد تقرير أن الناس كانوا قبل بعثة النبيين أمة واحدة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به وحده ثم اختلفوا وتناقضوا فبعث الله النبيين إليهم داعين إلى الحقّ والهدى وأنزل عليهم الكتب التي احتوت بيان الطريق الحقّ الواضح الذي فيه حل لما طرأ بينهم من خلاف ونزاع على ذلك ، وأنه كان من الذين جاءتهم كتب الله وبيناته من اختلفوا في تأويل ما جاءهم بغيا وعدوانا وانحرافا عن طريق الحقّ والصواب وانسياقا وراء المآرب والشهوات. وأن الله قد هدى الذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وأسلموا

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.

٣٧١

إليه وآمنوا بما جاءهم منه من دون عناد ولا بغي إلى الحق الذي اختلف فيه أولئك المنحرفون الباغون. وذلك نعمة ورحمة من الله الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم.

ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآية ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة واستمرار لها وتعقيب عليها. وأنها في صدد التذكير بما كان من أمر اختلاف الأمم غير الأمة الإسلامية فيما جاءها من كتب الله والتنويه بما كان من هداية الله للذين آمنوا بالرسالة المحمدية إلى الحق الذي اختلفوا فيه ، وتحذير لهؤلاء في الوقت نفسه من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة المختلفة في مناسبة ذكر ما كان من تردي بعضهم وانحرافه وعدم إسلامه وإخلاصه التامين مما انطوت حكايته أو الإشارة إليه في الآيات السابقة بأسلوب التنديد والإنذار.

ومع أن أسلوب الآية تقريري عام لبيان طبيعة البشر وما كان من اختلافهم على الحق ونزاعهم فيه منذ الأزمنة القديمة اندفاعا وراء المآرب والأهواء فالمتبادر أنها في صدد ما وقع فيه اليهود والنصارى بخاصة من نزاع وشقاق وتأويلات خرجوا بها عن دائرة الحقّ والهدى وكتب الله ؛ وما احتوته الرسالة المحمدية والقرآن من البيان الواضح للحقّ والهدى الذي يمكن به تمييز الحقّ من الباطل والهدى من الضلال وإرجاع كل شيء إلى نصابه الحقّ ، والتنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بهما واتبعوا الحقّ والهدى اللذين انطويا فيهما فصاروا بذلك أمة وسطا عدولا.

والآية قوية رصينة ، فيها تقرير قوي لوحدة الحقّ وعدم تحمله للخلاف والنزاع حينما تحسن النيات وتتحقق الرغبات الصالحة. وحملة على الذين يختلفون فيه ـ وبخاصة ممن يكونون قد أوتوا علما ومعرفة ـ اندفاعا وراء الأهواء والمآرب واستكبارا عن الاستجابة إلى الحق واتباعه. وفيها كذلك تنويه بحسني النية صالحي السريرة الذين يرون الحق فيتبعونه ويتمسكون به ، وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل المستمر المدى. وفيها كذلك إيذان رباني ذو مغزى خطير في صدد

٣٧٢

الرسالة المحمدية يتضمن كون الله تعالى قد هدى الذين آمنوا بهذه الرسالة والقرآن إلى الحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من قبلهم تتجه للمآرب الباغية التي كانت تغريهم. وبعبارة أخرى فيها تقرير بأن الرسالة المحمدية والقرآن قد جاءا ليقررا الحق والصواب فيما اختلفوا فيه وضابطين لهما. وفيهما حل للمشكلات والتعقيدات والخلافات التي ارتكسوا فيها والتي لم تكن في أصل دين الله وهداه.

وأسلوب الآية يوحي بكل طمأنينة ووثوق بما تضمنته من هذه التقريرات. ويوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزلت عليه وللمؤمنين الذين آمنوا به بأنهم على هدى الله وصراطه المستقيم.

ولقد جاء مصداق ذلك في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)) وما شرحناه في سياق تفسير آيتي يونس [١٩] والروم [٣٠] المشار إليهما آنفا من ناحية ما له صلة بهذه الآية. ولم نر حاجة إلى إعادته هنا ، ويحسن بالقارىء أن يرجع إليه لتتم إحاطته بالموضوع.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا برواية البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو الله إذا قام في الليل يصلي فيقول : «اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وفي الحديث صورة لشدة حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتباع الحق والتماسه من الله تعالى بأن يهديه إليه ويثبته عليه. وللمؤمنين أسوة حسنة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهناك حديث آخر يورده ابن كثير وقد ورد في التاج برواية الشيخين والنسائي عن أبي هريرة في صدد يوم الجمعة جاء فيه : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا ، وهذا ـ أي الجمعة ـ يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد

٣٧٣

غد» (١). والحديث وإن كان كما قلنا في صدد يوم الجمعة فالمتبادر أنه ليس مما يصح أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتبر أن الحق الذي اختلفوا فيه وهدى الله المؤمنين إليه هو يوم الجمعة فقط كما يوهم الحديث. وكل ما في الأمر أن هذا من جملة ذلك والله أعلم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤)) [٢١٤].

جمهور المفسرين على أن حرف (أم) هو في مقام السؤال وروح الآية يلهم صحة ذلك ، ليكون والحالة هذه في الآية سؤال استنكاري موجّه للمؤمنين عما إذا كانوا يظنون أنهم قد استحقوا الجنة بمجرد إسلامهم دون أن يثبتوا على ما سوف يصابون بمثل ما أصاب المؤمنين من قبلهم من المكاره والشدائد والأخطار التي هزتهم هزا قويا وآذتهم أذى كبيرا وجعلتهم يلجأون إلى الله هم ورسلهم متسائلين متى يأتيهم نصره. وتنبيه تطميني بأن نصر الله قريب.

ومن المفسرين من جعل التنبيه جوابا ربانيا للذين تساءلوا عن نصر الله من الأمم السابقة. ومن المفسرين من جعله تطمينا للمؤمنين الذين وجه إليهم السؤال.

ومن المفسرين من جعله جوابا وتطمينا ربانيا مطلقا في صدد الحالة التي احتوت الآية وصفها ، وكل ذلك محتمل ووجيه.

تعليق على الآية

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...)

وقد روى المفسرون في نزول الآية روايات (٢) ، منها أنها نزلت في مناسبة

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢٤٥.

(٢) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.

٣٧٤

ظروف زحف قريش وأحزابهم على المدينة مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق حيث اشتد كرب المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا على ما ذكرته آيات سورة الأحزاب هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)). ومنها أنها نزلت في مناسبة المصاب الذي أصيب به المسلمون في وقعة أحد مما احتوى تفصيله سورة آل عمران. ومنها أنها نزلت بمناسبة ما نال المهاجرين من شدة وحرمان. والروايتان الأوليان بعيدتان عن ظروف نزول هذه الآية وترتيبها في سورة البقرة ولا سيما أن قصة وقعتي أحد والخندق قد وردت في سورتي آل عمران والأحزاب ، والرواية الثالثة مناسبة لظروف نزول الآية أكثر وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.

ولقد ورد لبالنا احتمالات أخرى في ظرف وسبب نزول الآية مستلهمة من السياق. منها احتمال أن تكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة فتكون بمثابة تعقيب وتنبيه وحثّ للمؤمنين على الثبات والتمسك بما جاءهم والدفاع عنه مهما أوذوا في سبيله وإعلامهم بأن رضاء الله لن ينال إلّا بالجهد والجد والصبر والإسلام التام له. ومنها احتمال صلتها بما صار يقع من المهاجرين من شهداء في السرايا التي كان يسيرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والغزوات التي كان يقودها في السنة الأولى والثانية من الهجرة وقبل وقعة بدر. وقد أشرنا إلى ذلك في سياق تفسير الآيات [١٥٢ ـ ١٥٦] من هذه السورة التي نبّه فيها المسلمون إلى أنهم سيبتلون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وحثّوا فيها على الصبر. وبعد قليل تأتي آيات فيها إشارة إلى قتال وقع بين المهاجرين والمشركين مما قد يدعم ذلك. وفي حال صحة الاحتمالين أو صحة الرواية الثالثة تكون الآية فصلا جديدا فيه تمهيد لما يأتي بعده. ويكون وضعها في مقامها لمناسبة ما احتوته

٣٧٥

الآيات السابقة من خطاب للمسلمين ، أو لأنها نزلت بعدها.

ومهما يكن من أمر ففي الآية إعلان للمؤمنين بما سوف يقع عليهم من الشدة. ودعوة لهم إلى توطين النفس على الصبر والتحمل. وتنبيه على أن هذا كان من شأن من قبلهم من المؤمنين وأنبيائهم. وبشرى بنصر الله في النهاية. وتقرير بأن هذا النصر لن ينال إلّا بالصبر والتضحية. وفي كل هذا تلقينات وعظات نفسية جليلة مستمرة المدى ، ومنبع لا ينضب يمد النفس المؤمنة بالقوة المعنوية. وقد تكرر هذا في مقامات عديدة ، ومنه ما مرّ في سور سابقة منها آيات سورة العنكبوت [١ ـ ٣].

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في التاج برواية البخاري وأبي داود عن خبّاب قال : «أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة فشكونا إليه وقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس محمرّا وجهه فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنّكم تعجلون» (١). والحديث مكي كما يستفاد من مطلعه. وفيه مظهر رائع من قوة إيمان الرسول بما هو عليه من الحق وبنصر الله إياه في عهد مكة برغم ما كان يحدق به وبأصحابه من أخطار ويقاسونه من شدة. وينطوي فيه ما ينطوي في الآية من تنبيه وتطمين ومعالجة روحية ، وفيه بشرى قد تحققت بنصر الله وتمام أمر الله فكان ذلك معجزة نبوية أو مصداقا لنبؤة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادقة. والآية التي نحن في صددها مدنية ، والمتبادر أنها نزلت في ظرف مماثل للشعور بالشدة الذي كان المؤمنون يشعرون به في مكة حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل للتطمين والبشرى.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٥٤.

٣٧٦

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)) [٢١٥].

في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوجوه التي يحسن الإنفاق فيها وأمر له بالإجابة بأن ما يمكنهم أن ينفقوه فلينفقوه على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وتنبيه إلى أن الله يعلم كل خير يفعلونه.

وقد روى بعض المفسرين (١) أن الآية نزلت في رجل طاعن في السن اسمه عمر بن الجموح كان ذا مال كثير سأل رسول الله بماذا يتصدق وعلى من؟ والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة.

والآية على كل حال فصل جديد يحتوي سؤالا وجوابا تعليميين مما هو كثير في سورة البقرة بخاصة والسور المدنية بعامة. وسمة التشريع بارزة عليها ومن المحتمل أن تكون وضعت في ترتيبها لأنها نزلت بعد سابقتها أو للمماثلة الخطابية والتشريعية بينها وبين سلسلة الآيات السابقة.

ولقد روى المفسرون (٢) عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآيات بعض الروايات منها أن الآية في صدد النفقات التطوعية ، ومنها أنها نزلت قبل فرض الزكاة ثم نسخت بالزكاة. وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ولقد كانت الزكاة ممارسة كفرض ملازم للصلاة في العهد المكي على ما استلهمناه وذكرناه في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل حيث يجعل هذا القول الثاني محل توقف ويجعل القول الأول هو الأوجه. وفي السور المكية آيات كثيرة حثّت على التصدق على المساكين وأبناء السبيل واليتامى إلى جانب الآيات التي تنوّه بإيتاء الزكاة وتحثّ عليها وهذا يدعم القول الأول أيضا.

ولقد مرّ في هذه السورة آيات فيها أمر رباني بالوصية للوالدين والأقربين وفي هذه الآية حثّ على الإنفاق عليهم في حياتهم أيضا. حيث يسوغ القول إن بعض

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.

(٢) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.

٣٧٧

المسلمين كانوا يقصرون في واجبهم نحو آبائهم والمحتاجين من أقاربهم وغيرهم فاقتضت الحكمة إيجاب الإنفاق عليهم في معرض الجواب على السؤال. توكيدا للحثّ الرباني المتكرر.

وإيجاب الإنفاق على الوالدين والأقربين يأتي لأول مرة ، والأسلوب التعليمي يجعل ذلك مستمر المدى شاملا لكل وقت بطبيعة الحال. والمتبادر أن كلمة (وَالْأَقْرَبِينَ) أوسع من الزوجات والأولاد. بحيث يقال إن الآية حثت على الإنفاق على كل قريب يكون في حاجة من غير الذين تجب على المرء نفقته. ومع أن المتبادر أن الوالدين مما يجب على المرء النفقة عليهم فإن ذكرهما متصل على ما نرجح بمواقف عقوقية كان يقفها بعضهم من والديهم.

وهناك أحاديث عديدة منها ما هو صحيح يحسن أن تساق في هذا المقام ، منها حديث رواه أبو داود جاء فيه : «قيل يا رسول الله من أبرّ؟ قال : أمّك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك ، حقّ واجب ورحم موصولة» (١). وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» (١).

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)) [٢١٦].

تعليق على آية

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ...) إلخ

عبارة الآية واضحة ، ولم نطلع على رواية في سبب نزولها وهي كما يبدو

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٨ و ١٠ ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.

٣٧٨

فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت في ترتيبها أو أنها وضعت في هذا الترتيب للمماثلة الخطابية والتشريعية والآيتان التاليتان لهذه الآية نزلتا على ما يفيده فحواهما وتدعمه الروايات في مناسبة قتال بين بعض المسلمين والمشركين اشتبه أن يكون في الشهر الحرام ، وقد رجح الشيخ محمد عبده على ما رواه صاحب تفسير المنار رشيد رضا أن تكون هذه الآية والآيات التالية لها نزلت معا ، وهو ترجيح وجيه.

ونص الآية صريح في فرض الجهاد على المسلمين ، وإذا كانت جاءت بدون حدود وشروط فإن هذا لا يعني أن على المسلمين القتال بدون حدود وشروط. فإن هناك آيات عديدة احتوت ذلك ، منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.

وجمهور العلماء على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى ، وهذا وجيه ومنسجم مع آيات عديدة أخرى منها آية سورة النساء هذه : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥)) وآية سورة التوبة هذه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)).

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن قيام البعض الذي يكفي يجب أن يكون كافيا لحصول المراد من الجهاد وهو دفع العدوان وإرغام العدو وقهره. فإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأحد من المسلمين القادرين على القتال أن يتخلّف بحجة أن هناك من يقاتل ، ويقع على المتخلّفين في هذه الحالة إثم التقصير في فرض من فروض الإسلام الرئيسية.

وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال : فالقتال مما تستثقله النفوس عادة ولكنه ضرورة لا مناص منها في

٣٧٩

مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة ـ ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاما من الآيات التالية لها ـ تبرز حكمة هذا العلاج حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل.

ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يتولى تنظيم القتال وانتداب الناس إليه. وكان هذا شأن خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم) حيث يصح القول إن أمر تنظيم القتال وتوقيته واستنفار الناس إليه منوط بولي أمر المسلمين وسلطانهم.

ولقد روى الطبري عن عطاء أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله فقط ، وهو قول عجيب ، والجمهور على أنها للمسلمين عامة. وروى عن ابن عباس أنها نسخت حينما قال المسلمون (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وهو ما حكي عن لسانهم في آخر هذه السورة. وقد فنّد الطبري هذا القول ونرجح أنه منحول لابن عباس فهو أفقه من أن يقول ذلك.

ويروي رشيد رضا عن بعض المفسرين دون ذكر اسم ومصدر أن جملة : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تعني جميع التكاليف التي أمر الله بها ، وجملة : (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) تعني جميع ما نهى المسلمون عنه. وقد فنّد هذا القول قائلا إنه ليس من مسلم صادق يكره تنفيذ ما أمر الله ويحب عمل ما نهى عنه والتفنيد في محلّه. والجملتان بسبيل معالجة نفسية على ما شرحناه آنفا والله أعلم.

ولقد ورد بعد هذه الآية آيات ثم ورد في سور مدنية أخرى آيات أخرى قوية في الحثّ على القتال في سبيل الله وبيان ما للمجاهدين من ثواب ومنزلة وبشارات ربانية لهم في الدنيا بالإضافة إلى الآخرة ثم في التنديد بمن يتباطأ ويتقاعس ويبطىء عن القتال أو يفرّ منه. وفي تقرير كون الجهاد في سبيل الله مقياسا لإيمان المؤمن المخلص مما سوف تأتي نصوصه وشرحه ومداه في مناسباته في هذه

٣٨٠