التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [١٢٧] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.

ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفا بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفا باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية ، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه : «وافقت ربّي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ... إلخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [٣٥ ـ ٤١] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستندا إلى مشاهدة حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.

وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام). وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.

ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم في صدد جملة (وَأَرِنا مَناسِكَنا) في الآية [١٢٨] أن المقصود منها مناسك الحج وهي

٢٤١

الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى (وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في منى) ومحل ذبح القرابين إلخ إلخ ... وأن كل هذا مما أنشأه بدءا إبراهيم (عليه‌السلام). وأوردوا بيانات في أسباب ذلك وكيفيته معزوة إليهم وقد أجّلنا تلخيص ذلك وشرح هذه المناسك إلى مناسبات أكثر ملاءمة في هذه السورة.

وواضح أن في كل ما تقدم تدعيما لنبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفضل الكعبة ومنطقتها. وفي الوقت نفسه تدعيما وتبريرا لحادث تبديل اتجاه القبلة عن المسجد الأقصى إلى الكعبة وهو ما تضمنته آيات سابقة على ما نبهنا عليه وما تضمنته آيات أخرى آتية بعد قليل. وفيه كذلك ردّ على اليهود الذين حاولوا التشويش والتشكيك والدسّ في ظرف ذلك الحادث الذي أثار غيظهم على ما سوف يأتي شرحه.

ولعل لجملة (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) في مقامها معنى هاما في صدد تبديل القبلة حيث انطوى فيها إشارة إلى صلة إبراهيم بالكعبة وأثره عندها الذي كان قبل البعثة وما زال في إبانها مشهودا مشهورا باسم مقام إبراهيم وتبريرا بكونها هي الأولى باتخاذها قبلة ، فضلا عن ما في تقرير كون إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا قواعدها من كل ذلك. ولقد خطر لنا خاطر نرجو أن يكون صوابا إن شاء الله وهو احتمال أن يكون الأمر المنطوي في الجملة تعبيرا آخر لاتخاذ الكعبة قبلة لأنها كانت من إنشاء إبراهيم وكان مقامه عندها مشهودا مشهورا والله أعلم.

هذا ، وفي الآيات تلقينات مستمرة المدى ، منها ما احتوته جملة (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من تقرير بأن الله تعالى لا يمكن أن يرضى عن الظلم الذي يتجسد في البغي والجور والعدوان والانحراف عن جادة الله وشرائعه ، ولا عن إمامة ظالم وحكمه ، وبأنه لا يصح أن يكون لظالم عهد ، وبأن انتسابه إلى آباء صالحين لا يبرر شيئا من ذلك.

ومنها ما احتوته جملة (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) من تقرير كون تمتع الكافر بالدنيا لا يتنافى مع الحكمة الربانية ولا يصح

٢٤٢

أن يعدّ دليلا على رضاء الله عنه ، وقد تكررت هذه التلقينات في مواضيع كثيرة في السور المكية على ما نبهنا وعلقنا عليه في مناسباته. حيث يبدو التساوق بين التقريرات القرآنية المكية والمدنية.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)) [١٣٠ ـ ١٣٥]

(١) سفه نفسه : أضاع عقله أو نفسه وامتهنها. وأصل السفه خفة العقل وعدم القدرة على التمييز.

تعليق على الحلقة السادسة عشرة

من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود

في الآيات الثلاث الأولى :

١ ـ تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.

٢ ـ وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه

٢٤٣

فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.

وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معا : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها ، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.

وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهوديا أو نصرانيا وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصا مستقيما والذي لم يكن مشركا أحدا مع الله.

ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمرارا للسياق وأن ذكر النصارى جاء استطرادا هنا إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم ، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.

وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [١٣٣] ثانيا يدعمان ذلك ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم ، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء ، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [١٣٤] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة

٢٤٤

إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم ، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.

وما قلناه في تأويل جملة (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين لأن كلّا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)) [١٣٦ ـ ١٤١]

(١) فإنما هم في شقاق : فإنما هم مشاقون متعنتون أو فإنما هم في اختلاف ونزاع وتفرق في الرأي.

٢٤٥

(٢) صبغة الله : كناية عن ملّة الله وطريقته وفطرته ودينه على ما ذكره الجمهور.

تعليق على الحلقة السابعة عشرة

من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم

في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.

وقد تضمنت :

١ ـ أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار أحد منهم وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.

٢ ـ وتعقيبا على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء ، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهانا على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.

٣ ـ والتفاتا خطابيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.

٤ ـ وهتافا بلسان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.

٥ ـ وأمرا للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالا تنديديا عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعا.

٢٤٦

٦ ـ وأمرا ثانيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.

٧ ـ وأمرا آخر له بسؤال المحاجين سؤالا تنديديا آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى حينما يقولون إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هودا أو نصارى فقط.

٨ ـ وأمرا ثالثا له بسؤالهم سؤالا فيه تسفيه لمغالطتهم ـ الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية ـ عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.

٩ ـ وأمرا رابعا له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله وهو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.

أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.

ولقد روى المفسرون (١) أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى (عليه‌السلام) ، وأن بعضها نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وقد احتوت تعليما ربانيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير مثلا.

٢٤٧

وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضا من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد. لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحا لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معا. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.

ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم وبكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا وأمر النبي والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.

ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.

والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [١٣٩] قرينة بل دليلا حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا

٢٤٨

بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) في الآية [١٤٠] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به ، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.

ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن (وَالْأَسْباطِ) هم أسباط بني إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافا لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن» وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [١٥ و ١٦ و ٤٨ و ٤٩] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.

ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال

٢٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية» (١).

والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي ، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى وينسحب ما قلناه على ذلك أيضا والله تعالى أعلم.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٤٣.

٢٥٠

الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)) [١٤٢ ـ ١٥٢]

(١) السفهاء : هي في مقام التبكيت ونسبة خفة العقل والمكابرة والسخف إلى القائلين.

(٢) ما ولّاهم : ما صرفهم.

(٣) وسطا : عدولا وبعيدين عن مساوئ الإفراط والتفريط.

(٤) شطره : ناحيته ووجهته.

(٥) وجهة : طريقة أو اتجاه يتجهون إليه.

(٦) هو موليها : هو متوليها أي متجه إليها.

تعليقات على آيات تحويل القبلة من [١٤١ ـ ١٥٢]

وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة

هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، وقد تضمنت ما يلي :

١ ـ أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس. وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن جوابا على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.

٢ ـ وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه

٢٥١

عدولا وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.

٣ ـ ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولّاه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم ، والله غير غافل عما يعملون.

٤ ـ ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا ، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.

٥ ـ واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريرا من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم ، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.

٦ ـ واحتوت الآية السابعة تقريرا لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم ، فلكل وجهته التي يتجه إليها ، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيرا بهذه

٢٥٢

المشاهد المختلفة وليس عليهم إلّا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.

٧ ـ واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيدا مكررا ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعا لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.

٨ ـ واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطابا موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة ، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.

والحلقة قد تبدو فصلا مستقلا ، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود (١).

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن والنسفي والطبرسي وابن كثير إلخ ...

٢٥٣

وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفرا كبيرا من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا له ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه ، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.

والآية الخامسة أي [١٤٧] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح لأن الآية مطلقة من جهة ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم (١) رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.

ولقد روى بعض المفسرين (٢) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل : وددت أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسله. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم (٣) عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر الدعاء

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الطبرسي.

(٣) انظر تفسير ابن كثير.

٢٥٤

والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا (١) وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.

وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعا. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججا وتبريرا وإقرارا وتطمينا كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ...) إلخ [١٤٢] على آية : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ...) إلخ [١٤٤] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.

ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقومون بطقوسهم الوثنية حول الكعبة ففرح اليهود وصاروا يزهون على النبي والمسلمين باتباعهم قبلتهم واعتبارهم ذلك اعترافا منهم بأنهم

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٤٤ ونص الحديث برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء : «صلّينا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة» (التاج ج ١ ص ١٣٥) ومع ذلك ففي الطبري والخازن وابن كثير روايات تذكر أن التحول كان لثلاثة عشر أو لثمانية عشر شهرا. وأنه كان يوم الاثنين أو الثلاثاء في نصف رجب وأنه كان في صلاة الظهر في مسجد بني سلمه حيث صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ركعتين نحو المسجد الأقصى وتحوّل مصلى الركعتين الثانيتين نحو الكعبة وهذا يفيد أن الوحي بالتحويل كان أثناء الصلاة.

٢٥٥

على الهدى وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين يقتبسون هداهم منهم. ولقد روى الطبري أن تحول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكعبة إلى المسجد الأقصى حينما جاء إلى المدينة كان تألفا لليهود. كما روي أن الأنصار كانوا يصلون قبل وصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وطيلة عامين إلى بيت المقدس حيث يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتجاهه نحو هذا البيت حينما وصل قد أقرّهم على عملهم. والروايات لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها وليس بينها تناقض. وفقد يكون اتجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سمت بيت المقدس حين وصوله للأسباب المذكورة جميعها فلما وقف اليهود منه موقف الجحود والتعطيل والدس ثم صاروا يزهون عليه وعلى المسلمين حزّ ذلك في نفسه وفي نفس المسلمين وانبثقت في نفسه أمنية التحول عن سمت بيت المقدس ولا سيما إنه قد ظهر من اليهود ما أيأسه منهم وصار ينتظر وحيا ربانيا بالتحول. والآية الثالثة والأحاديث والروايات التي أوردناها تدعم ذلك بوجه الإجمال. وقد يمكن أن يزاد على هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حين صار يائسا أو كاليائس من اليهود تراءى له أن اتجاهه إلى قبلتهم مما يضعف قوة دعوته للعرب وأن عودته إلى قبلته الأولى مما يؤلف قلوبهم كما أنه كان يعرف مكانة الكعبة بيت الله القديم الذي يرتبط به العرب والذي كان من منظمات الوحدة الروحية فيما بينهم بسبب اشتراكهم جميعا في حجه وأداء المناسك عنده. والذي هو في الوقت نفسه متصل بإبراهيم وما يزال أثره متداولا باسم مقام إبراهيم وقد كانت ملّة إبراهيم من عناوين رسالته. وهو أولى الناس بها كما جاء في آية سورة آل عمران [٦٨] فكان ذلك مما جعله يتمنى أن يوجهه الله إلى الكعبة. ولعل فقرة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) في الآية التاسعة أي [١٥٠] مما يتصل بهذا المعنى أيضا.

ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس (١) في صدد آية : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أن بعض المسلمين قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية. ومما رواه المفسرون (٢) في صدد

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٤٥.

(٢) انظر تفسيرها في الخازن.

٢٥٦

ذلك أيضا أن اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم لله بها مدة ومن مات عليها فقد مات على ضلالة.

ولا تناقض بين الرواية والحديث حيث يمكن أن يكون الذين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فعلوا تأثرا بكلام اليهود وتشكيكهم.

وهكذا حاول اليهود أن ينفثوا سمومهم بالانتقاد والتشكيك والدّس نتيجة لما شعروا به من شدة الضربة الأدبية التي وجهت إليهم بتحويل سمت القبلة.

ولقد روى الطبري في صدد جملة : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) إن بعض المسلمين ارتدوا بسبب تحويل القبلة وأظهر كثير من المنافقين نفاقهم وقالوا ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا ، وقال المشركون تحيّر محمد ، وقال المسلمون بطلت صلواتنا السابقة فكان تحويل القبلة فتنة وتمحيصا لإخلاص المؤمنين. ولا مانع من صحة الروايات وإن لم ترد في الصحاح وحديث البخاري والترمذي مما يؤيد ذلك.

ويلاحظ أن الآية هي في صدد اختبار المؤمنين في القبلة السابقة وليست في صدد القبلة الجديدة. والذي يتبادر لنا من روح الآية وفحواها أن المسلمين كانوا يشعرون بشيء من الغضاضة أو عدم الارتياح بسبب اتجاههم إلى بيت المقدس. فلما أمر الله بالتحول اقتضت حكمة التنزيل أن يرد في الآية ما ورد على سبيل التنبيه. ومن المحتمل أن يكون شعور المسلمين هذا كان بسبب زهو اليهود كما أن من المحتمل أن يكون بسبب شدة تعلقهم بالكعبة وهي التي درجوا أن تكون معبدهم ومحجّهم منذ الأزمنة القديمة.

ولقد تعددت الأقوال في مدى جملة : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) منها أن الاتجاه يكون نحو سمت باب الكعبة أو نحو الميزاب وأورد ابن كثير حديثين في ذلك منهما واحد أخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر وواحد أخرجه ابن

٢٥٧

مردويه عن ابن عباس. ومنها أن الاتجاه يكون نحو سمت الكعبة أو المسجد الحرام على اختلاف جهاته. وهذا هو ما عليه الأكثرون على ما ذكره هذا المفسر الذي أورد حديثا رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وحديثا آخر عن ابن عباس أن رسول الله قال : «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من منى». وفي الحديثين تأييد للقول الثاني والحديث الأول رواه الترمذي والحاكم وصححه (١). والقول الثاني الذي عليه الأكثرون هو الأكثر اتساقا مع مدى الجملة القرآنية كما هو المتبادر والله أعلم.

وفي الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى. من ذلك التنديد بالذين يشوشون على دعوة الإصلاح ودعاته بقصد التعطيل والكيد والمكر وبما قرّ من الأهواء والمآرب. وبخاصة إذا ما كانوا يفعلون ذلك عن عمد وعلم. وتقبيح لذلك ، ومنه حثّ المسلمين على الثبات على ما أمرهم الله ورسوله به دون أبوه لغيرهم من الملل الذين يحاولون زلزلتهم عنه ، وبيان لما في الاستجابة لهم أو التأثر بهم من إثم وضرر في دينهم ودنياهم. ومنه حثّ المسلمين على أن تكون الخيرات هي ما يجب أن يستبقوا ويسابقوا الغير عليه. ومنه بثّ القوة في قلوبهم والإهابة بهم بأن لا يخشوا معارضيهم وأعداءهم وأن لا تكون خشيتهم إلّا لله وحسب ، وبذلك فقط ينصرهم على أعدائهم ويتمّ نعمته عليهم ويهديهم إلى ما فيه العزة والقوة والسداد. ومثل هذه التلقينات متكررة متوالية في مختلف المناسبات مما مرّ منه أمثلة عديدة.

مدى تبديل القبلة في

الرسالة الإسلامية

هذا ومن الحق أن ننبه في هذا المقام على ما يبدو في تبديل القبلة من خطورة وبعد مدى في الرسالة الإسلامية والتاريخ الإسلامي. فقد أكسب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة إن صح التعبير بعد أن كان استقبال المسجد الأقصى

__________________

(١) انظر التاج ج ١ ص ١٣٦.

٢٥٨

يجعل شيئا من التموج أو التمازج في أفق ومدار شخصية أهل الكتاب. وقد خلد قدسية الكعبة ومركزيتها فغدت متجه العرب في حياتهم الدينية الجديدة في جميع أنحاء الجزيرة أشد وأقوى وألزم مما كانت لهم قبل هذه الحياة أولا. ومتجه المسلمين في جميع أنحاء العالم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وبلادهم وناظما لوحدتهم الروحية ثانيا. وكان كذلك عنوانا على إبقاء مناسك الحج والكعبة إذ صارت ركنا مفروضا من أركان الإسلام بعد تصفيتها من شوائب الوثنية ومشاهدها.

وننبه على أمر هام ، وهو أن ما قلناه من اكتساب الرسالة الإسلامية شخصية مستقلة هو بالنسبة للموضوع وحسب ، وإلا ففي القرآن آيات كثيرة جدا مؤيدة لاستقلال هذه الشخصية. بل القرآن جميعه بسبيل ذلك. وكل ما بينها وبين الملل الكتابية السابقة من قاسم مشترك كونها مثلها مستندة إلى كتاب رباني منزل على رسول الله هدف فيما هدف إلى تصحيح الانحرافات التي ارتكست فيها هذه الملل.

احتمال أن يكون التبديل في بدئه

إلهاما ربانيا

وهناك مسألة مهمة أخرى في صدد تبديل القبلة ، فالروايات تذكر أن جملة (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) في الآية [١٤٣] هي بسبيل تطمين المؤمنين الذين خافوا على الميتين منهم من أن تكون عبادتهم السابقة قد ضاعت حيث قال لهم اليهود إذا كنتم في استقبال المسجد الأقصى على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية. وفحوى الآية يؤيد ذلك وينبه المؤمنين في الوقت نفسه إلى أن القبلة التي كانوا عليها كانت اختبارا لهم. وهذا يعني أنها نزلت بعد التبديل. وهذا يقال بالنسبة للآية [١٤٢] والتي روت الروايات أنها نزلت حينما أخذ اليهود يتساءلون عن أسباب التحويل ويشككون المسلمين فيه. فإما أن تكون هاتان الآيتان قد نزلتا لحدتهما بعد التحويل وأن يكون في نظم آيات الفصل تقديم وتأخير ، وإما أن تكون هذه الآيات قد نزلت جميعها معا بعد التحويل للرد على انتقاد اليهود ودسائسهم وطمأنة النبي والمسلمين وتثبيتهم

٢٥٩

وتبرير التحويل وهذا ما نرجحه استئناسا بالآيات السابقة منذ آية النسخ [١٠٦] التي استلهمنا منها أنها في صدد هذا التحويل وتبريره والرد على اليهود وتسفيههم.

وإذا صحّ هذا فيسوغ أن يقال إن التبديل كان في بدئه إلهاما ربانيا غير قرآني. ولعل رواية التبديل التي تذكر أنه وقع أثناء ما كان النبي يصلي الظهر أو العصر مما قد يؤيد ذلك. وليس بين هذا القول وبين الحديث الذي رواه البخاري عن البراء والذي أوردناه سابقا تناقض فيما نرى. إذ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ألهم التبديل أثناء الصلاة ثم نزل عليه القرآن بعدها. ورواية كون جملة (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) لتطمين المسلمين هي حديث رواه البخاري أيضا عن ابن عباس وخوف المسلمين إنما كان بعد التبديل كما هو المتبادر.

وفي القرآن شواهد عديدة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلهم العمل ثم ينزل القرآن بتثبيته وتبريره. ومن الأمثلة على ذلك غزوة بدر وفي الآيات التي نزلت في هذه الغزوة جملة : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) الأنفال : [٧] وليس ذلك في القرآن مما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأنفال التي نزلت في صدد هذه الغزوة. ومن الأمثلة كذلك عزيمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زيارة الكعبة التي انتهت بصلح الحديبية ، فإن سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى هذه العزيمة وتبريرا لها نزلت بعد صلح الحديبية (١).

ولقد رويت أحاديث أخرى في صدد استقبال القبلة بعضها وارد في الصحاح وبعضها لم يرد. وقد رأينا من المفيد إيراد بعضها في المناسبة ، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» (٢). وروى الخمسة عن جابر قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي على راحلته حيث

__________________

(١) هناك شواهد عديدة أخرى سوف ننبه عليها في مناسباتها فاكتفينا بالشاهدين.

(٢) التاج ج ١ ص ٨١ و ١٣٥ ـ ١٣٧.

٢٦٠