التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)) [٧٥ ـ ٨٢]

(١) من بعد ما عقلوه : من بعد ما فهموه.

(٢) بما فتح الله عليكم : قال المفسرون إن الجملة تعني ما يعرفونه من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق نبوته ودعوته.

(٣) أميون : فسر الكلمة بعض المؤولين بأنهم الذين لا يحسنون القراءة والكتابة. وعزا بعضهم إلى ابن عباس تأويلا آخر لها وهو الذين غير ضليعين في أمور الدين وكتبه. وللكلمة معان أخرى وأقوال في أصلها أوردناها في سياق تفسير الآية [١٥٧] من سورة الأعراف.

(٤) أمانيّ : قيل إنها بمعنى التمني والأمل بالعفو. وقيل إنها جمع أمنية بمعنى ما يشتهيه المرء ويطلبه وقيل إنها بمعنى القراءة الضعيفة. وقد وردت الكلمة في حلقة أخرى من السلسلة تفيد أنها التمني أو الظن ، والذي نرجحه أنها في مقامها هنا بمعنى التخمين والظن بدليل جملة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الواردة في نفس الآية التي وردت فيها.

(٥) يكسبون : هنا بمعنى يجترحون من الإثم أو يقترفون.

تعليق على الحلقة الخامسة

من سلسلة الآيات الواردة في السورة

في بني إسرائيل

وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود

١٨١

في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :

١ ـ فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن ثم يحرفون ما سمعوا تعمدا بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.

٢ ـ وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم آمنّا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا ، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم وقالوا لهم إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهانا ضدكم عند الله.

٣ ـ ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علما يقينيا ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.

٤ ـ وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله ويزعمون أن النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة.

وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جريا على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهدا من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام ، فضلا عما في ذلك من افتراء على الله ، لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا وأن من آمنوا وعملوا صالحا فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.

وأسلوب هذه الحلقة التفاتيّ ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.

١٨٢

وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.

والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا ، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي والقرآن ، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.

ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها ، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :

١ ـ في صدد جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء ، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاو تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ في صدد جملة : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبيّ حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.

٣ ـ في صدد جملة : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية

١٨٣

الأولى قد تكون أكثر انسجاما مع فحوى الآية مع القول أن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاما تاما. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.

وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذبا وتضليلا فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه : «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» (١). حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضا مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوما علما يقينيا من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.

ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيرا مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.

استطراد إلى بيان أسباب تنكر

اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها

وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها

لقد قلنا إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٤٣.

١٨٤

آمنوا وحسن إسلامهم ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [١٩٩] والنساء [١٦٢] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٢٠) وهذه : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١)) وهذه : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)) (١) ، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءا لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) الأنعام : [٩٠](وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) السجدة : [٢٣ ـ ٢٤](وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) الجاثية : [١٦] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحيانا بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [٤٠ ـ ٤٤] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثا على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.

ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعهم الأعلى

__________________

(١) آيات البقرة هذه واردة في حلقة من حلقات هذه السلسلة ، ولذلك يمكن القول إن ما جاء فيها يعبر عن أقوال اليهود وأن ذكر النصارى جاء فيها استطراديا.

١٨٥

ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا ـ حقا أو باطلا ـ بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتامر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.

ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليهود سندا وعضدا وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة ، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه وبأنه محتو حلّ المشاكل والخلافات التي يتعثر فيها الكتابيون وهم منهم باستشهاد الكتابيين على صحة رسالته استشهادا ينطوي على الثقة فيهم والتنويه بهم ، ولما رآه من حسن استجابة الكتابيين وفيهم أناس من بني إسرائيل إلى دعوته واندماجهم فيها ووقوفهم منها موقف المصدق المؤمن المؤيد على ما احتوته آيات مكية عديدة أوردناها في مناسبات عديدة سابقة فلما رأى منهم ما رآه من الانقباض أولا والتنكر والصد وكتم الحق عن علم والتحالف مع الأعداء والدسائس والتشكيك تأثر تأثرا عميقا من خيبة أمله فيهم فرددته هذه الآيات وكثير غيرها في الحلقات السابقة والآتية.

وهذا القول يصدق على معظم اليهود ، لأن هناك آيات مدنية ومكية تفيد أن بعضهم ـ ومنهم علماء راسخون في العلم ـ قد استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأحقادهم فيؤمنوا بالرسالة المحمدية التي عرفوا أنها حق ويصدقوا بالقرآن الذي عرفوا أنه من عند الله على ما جاء في آيات سورة آل عمران هذه : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)) وآية سورة آل عمران هذه : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)) ، وآية سورة النساء هذه : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ

١٨٦

مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)) وآية سورة المائدة هذه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)) (١) ، وآية سورة الأحقاف المكية هذه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)).

تعليق على الآية

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ

فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

لقد وقف المفسرون عند هذه الآية من الحلقة واعتبروها شاملة المدى. وهذا وجيه لأن عبارتها مطلقة رغم كونها بسبيل الرد على اليهود وتكذيبهم. ولقد تعددت الأقوال التي يروونها عن أهل التأويل أو يقولونها من أنفسهم في صددها. من ذلك أن السيئة في الآية في معنى الشرك. وأن جملة (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) تعني استمراره في الشرك وعدم مفارقته له بالإيمان والتوبة. وهذا وجيه وصواب لأنه متسق مع وعيد الخلود في النار الذي جاء في الآية ومن ذلك أن السيئة تعني الكبيرة أيضا وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهذا قول المعتزلة.

وهناك من قال إن خلود مرتكب الكبيرة في النار رهن باستحلاله لها ، وهو الأوجه فيما هو المتبادر وهناك أحاديث نبوية تدعم هذا منها ما هو صحيح ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج من النار

__________________

(١) آيات سور آل عمران والنساء والمائدة وإن لم يكن فيها صراحة فإنها من سلسلة في حق بني إسرائيل كما جاء فيها بصراحة. وهناك آيات مدنية ومكية أخرى فيها خبر إيمان بعض أهل الكتاب لم يسبقها صراحة بأنهم من بني إسرائيل مع احتمال أن يكون منهم من بني إسرائيل مثل آيات سور القصص [٥٢ ـ ٥٥] والإسراء [١٠٧ ـ ١٠٨] والرعد [٣٦] التي مر تفسيرها.

١٨٧

من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان ...» (١). وحديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل عليه‌السلام فبشّرني أنه من مات من أمّتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنّة. قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق ...» (٢) والمفروض على ضوء صراحة الحديث الأول أن يكون الشخص دخل النار على ذنوب ارتكبها وهو مؤمن ولم يستحلّها وهذا ينسحب على الزاني والسارق الذي يدخل الجنة إذا مات لا يشرك بالله كما هو المتبادر. لأن الحديث لا يقول إنه لا يعذب أو لا يدخل النار قطّ ، وإنما يقول إنه يدخل الجنة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن» (٣). وشراح الحديث يحملون هذا الحديث على فرض أن يكون مرتكبو هذه الكبيرات وهم مستحلّون لها وهذا حقّ وصواب فيما هو المتبادر.

أما الذنوب التي يتوب عنها أصحابها توبة صادقة ولو كانت من الكبائر فمن حقهم أن يأملوا عفو الله وعدم دخول النار بسببها. وهناك آيات كثيرة تفتح باب التوبة وتعد بغفران الله لكل فئة من المذنبين بما فيهم المشركون والمنافقون والمحاربون لله ورسوله والمفسدون في الأرض والزناة والسارقون والقاتلون إلخ إذا ما تابوا توبة صادقة على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في تفسير سورة البروج ، والله أعلم.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢٦ و ٢٧.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٣ ص ٥.

١٨٨

تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)) [٨٣ ـ ٨٦]

(١) قولوا للناس حسنا : بمعنى لتكن مخاطبتكم للناس بالحسنى. وقال المؤولون إن الجملة تشمل حسن التعامل مع الناس وقول الحق وفعل الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٢) ثم أنتم هؤلاء : هنا في مقام المنادى ، والتقدير ثم أنتم يا هؤلاء.

(٣) تظاهرون عليهم : تساعدون الغير عليهم.

تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات

الواردة في السورة في بني إسرائيل

وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة ، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة ، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته بأسلافهم القدماء.

وقد تضمنت تذكيرا بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديدا بالحاضرين بسبب نقضهم لها :

١ ـ فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين ، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة

١٨٩

الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.

٢ ـ وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضا ولا يظاهر أحد منهم غريبا على أحد منهم فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضا عن أرضه وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغيا وعدوانا. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلا يناقضون أنفسهم ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة ؛ لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته ، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.

والآيات قوية في تنديدها وإفحامها ، وقد روى المفسرون (١) في صدد الآية [٨٤] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال ، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضا ويأسر بعضهم بعضا ويجلي بعضهم بعضا ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم ، وقد ذكر بعض هؤلاء أن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج وأن بني النضير وبني قريظة كانوا حلفاء للأوس وهذا غلط فحلفاء بني قريظة هم الأوس أما بنو النضير وبنو قينقاع فقد كانوا حلفاء الخزرج. انظر الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص ١٤٧ وما بعدها ، وانظر فصلي المنافقين واليهود في الجزء السادس من هذا الكتاب على أن هؤلاء المفسرين قد صححوا غلطهم دون انتباه في سياق تفسير سورتي الحشر والأحزاب حيث ذكروا أن بني قريظة كانوا حلفاء الأوس ، وبني النضير كانوا حلفاء عبد الله بن أبيّ الزعيم الخزرجي المنافق.

١٩٠

حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا ، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا ، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة ، بل كانوا كتلا عديدة متعادية أيضا ثالثا.

وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى (عليه‌السلام) واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي الذين نزلت الآيات فيهم.

وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان ، والحذر من التناقض في ذلك ، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ

١٩١

مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)) [٨٧ ـ ٩٦].

(١) قفينا من بعده : أرسلنا من بعده. وأصل معنى قفينا أردفنا وراءه وفي قفاه.

(٢) غلف : قيل إنها بمعنى مسدودة. وقيل إنها بمعنى أوعية مملوءة لا محل للزيادة أو الاستزادة فيها.

(٣) لعنهم الله : اللعن في الأصل بمعنى الطرد والحرمان من الخير والجملة هنا استدراك تنديدي بمعنى وحقيقة أمرهم أن الله لعنهم وجعلهم موضع سخطه وغضبه ونقمته.

(٤) يستفتحون : يتفاخرون ويتعالون ويقولون إن الفتح والعاقبة لهم.

(٥) فباءوا : فعادوا.

(٦) قالوا سمعنا وعصينا : هذه حكاية حالهم على ما هو المتبادر ، فقد تلقوا أمر الله ولكنهم عصوه بما بدا من انحرافاتهم.

(٧) أشربوا في قلوبهم العجل : تمكنت عبادة العجل في قلوبهم.

١٩٢

(٨) بمزحزحه : بمبعده.

تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة

الآيات الواردة في بني إسرائيل

وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد ، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعا للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.

وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمنا.

وقد تضمنت الآيات ما يلي :

١ ـ لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم ثم أرسل إليهم من بعده رسلا عديدين ثم أرسل عيسى مؤيدا بالمعجزات وروح القدس. فكانوا ـ أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات ـ كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.

٢ ـ وكانوا ـ أي ـ بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك ـ كلما تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا صادقا وتاما بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف لأن ما يتلوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقا مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.

٣ ـ ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما

١٩٣

جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغيا وحنقا لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.

٤ ـ ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.

٥ ـ ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.

وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :

١ ـ حيث تأمر النبي بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :

٢ ـ وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين. وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعا ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي

١٩٤

هو خبير بكل ما يفعلون ، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.

والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا ، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة ، واستكبارهم وتكذيبهم تارة ، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمدا وبغيا مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيرا ما استشهد بالكتابيين ـ ومنهم بنو إسرائيل ـ على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء ، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.

وقد أورد المفسرون (١) في جملة (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم ، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريبا نبي عربي ، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي. وننبه على أن المفسرين أوردوا أقوالا أخرى مختلفة في الصيغة متفقة في الجوهر فاكتفينا بما لخصناه.

١٩٥

وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)) ما قد يؤيد القول الثاني.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا.

فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسدا وبغيا وغيظا فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.

وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة ، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.

وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.

١٩٦

وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [١٧٠] من سورة الأعراف ، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقنا عليه بما رأيناه متبادرا ، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.

والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين ، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقدا وغيظا وحسدا على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.

تعليق على جملة

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

في هذه الجملة موضوعان الأول : إتيان عيسى (عليه‌السلام) البينات ، والثاني : تأييده بروح القدس. وفي صدد الأول فإن جمهور المفسرين على أن البينات هي المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخباره بأمور مغيبة وخلقه من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليصير طيرا مما ورد بصراحة في آيات في سورة آل عمران والمائدة. وندع الكلام على ذلك إلى تفسير هاتين السورتين لأن ذلك أكثر مناسبة. وفي صدد الثاني نقول إن جملة : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد تفيد لأول وهلة أن هذا شيء خاص بعيسى (عليه‌السلام) ، ولقد تكررت هذه الصدقية في آية سورة البقرة [٢٥٣] والمائدة [١١٣] ، وننبه أولا على أن تعبير روح القدس قد ورد في آية سورة النحل هذه : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)) التي يمكن أن تفيد خلافا لما يبدو من جملة : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالنسبة لعيسى أن تأييد الله لعيسى بروح القدس في القرآن ليس محصورا به وأن القرآن قد ذكر أيضا أن الله قد أيّد نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم به. وثانيا : أن آية النحل تفيد أن (بِرُوحِ الْقُدُسِ) هو اسم الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٩٧

وقد ورد هذا التعبير بلفظ (الرُّوحُ الْأَمِينُ) في آيات سورة الشعراء هذه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) وفي آية سورة البقرة التي ستأتي بعد قليل اسم جبريل بوصفه الذي كان ينزل بالقرآن حيث يكون التعبير في سورتي النحل والشعراء كناية عن جبريل ، ومع هذا فإن المفسرين قد أوردوا في تأويل جملة : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الواردة في الآية والتي قد لا يكون معناها في معنى ما جاء في سورتي النحل والشعراء أقوالا عديدة ، منها أن تأييد الله بمعنى تأييده بروحه وقوته ونصره ، وأنه بمعنى تأييد الله له بجبريل. ومنها أنه تأييد الله له بالإنجيل. ومنها أن الجملة تعني إفاضة الله التقديس والطهارة على نفس عيسى (عليه‌السلام) ، وقد يكون أوجه هذه الأقوال القول الأول.

ولقد ورد تعبير (بروح القدس) في الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم والتي يعترف بها وحدها النصارى بأساليب ومناسبات متعددة بل وبمعان مختلفة أيضا على ما يفيده السياق الذي وردت فيه. فمن ذلك ما ورد في سياق حبل مريم في إنجيل متى (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس). وفي إنجيل لوقا على لسان الذي بشر مريم بحبلها : (فأجاب الملاك وقال لها إن الروح القدس يحل عليك). ومن ذلك في إنجيل متى على لسان عيسى : (من قال كلمة على ابن البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي). وفي إنجيل مرقس على لسان عيسى أيضا : (فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا من قبل بما تتكلمون به بل بما أعطيتم في تلك الساعة تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين ولكن الروح القدس). و (وأما من جدف على الروح القدس فلا مغفرة له). وفي إنجيل لوقا (ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلىء بالروح القدس). و (كان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب). وفي إنجيل يوحنا على لسان يوحنا المعمدان الذي هو النبي يحيى في القرآن : (إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس).

١٩٨

وبعض هذه العبارات الانجيلية قد يفيد أن روح القدس شخصية إلهية مقدسة. كما قد يفيد بعضها أنه روح ربانية تنزل لتأييد الأشخاص المؤمنين. أو أنه رسول رباني لتنفيذ أوامر الله وهذا المعنى الأخير مطابق لما جاء في القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة مريم.

ومعلوم أن هذا التعبير في العقيدة النصرانية يعني أحد أقانيم أو صور الذات الإلهية التي هي الأب والابن وروح القدس. وهذه الألفاظ وردت في الأناجيل المتداولة. ولكن تلك العقيدة ليست محبوكة بشكلها الراهن في أي إنجيل ، وإنما هي من قرارات مجامع دينية انعقدت في القرن الرابع بعد الميلاد بأمر ورعاية الامبراطور الروماني بسبب ما كان بين رجال الدين النصراني من خلافات حول لاهوتية المسيح والروح القدس على ما شرحناه في سياق سورة مريم أيضا. والمرجح أن هذا التعبير كان مستعملا من قبل نصارى العرب قبل الإسلام ترجمة عن اللغة الإنجيلية السريانية أو اليونانية.

ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن التعبير القرآني يضع الأمر في نصابه من وجهة نظر القرآن والعقيدة الإسلامية في عيسى (عليه‌السلام) حيث ينطوي في الجملة التي جاء فيها تقرير كون عيسى رسول من رسل الله وأن الجملة تعني تأييد الله إياه بروح وقوة منه اقتضت حكمة التنزيل تسميتها (بِرُوحِ الْقُدُسِ) ولا ضير على المسلم بل من واجبه أن يستعمل هذه التسمية في التعبير عن تأييد الله تعالى لعيسى (عليه‌السلام) لأن ذلك نص قرآني ، مع الوقوف عند ذلك وإيكال مدى هذه الحكمة لله تعالى ودون أن يكون ذلك من المسلم تسليما منه بما استقرت عليه عقائد النصارى المجمعية من مدى ومعنى روح القدس لأن فحوى الجملة وروحها ومقامها في القرآن لا يمكن أن يتحمل ذلك. وهي صريحة كل الصراحة بأن روح القدس الذي يؤيد الله به عيسى غير ذاته وليس جزءا منه أو صورة له بأي حال كما هو في تلك العقائد. والقرآن هو الضابط المهيمن على الكتب السماوية التي ينسبها أهل الكتاب إلى الله ويتداولونها كما جاء صراحة في آية سورة المائدة : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) فما يقرره هو

١٩٩

الحق وما يتناقض معه يكون محرفا بصورة ما لفظا أو معنى من وجهة العقيدة الإسلامية.

هذا ، وننبه تعليقا على جملة (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) في الآيات على أن في القرآن آيات كثيرة منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور آتية تذكر أن الله قد أتى النبيين الآخرين ومنهم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم البينات وأرسلهم بالبينات وجاؤوا بالبينات. حيث يفيد هذا أن هذه الجملة ليست على سبيل حصر ذلك بعيسى (عليه‌السلام) وإنما جاءت في مقامها وبأسلوبها حسب ما اقتضته حكمة التنزيل وحسب. وأكثر ما ورد في صدد الأنبياء من ذلك ورد في معنى التعبير عن المعجزات الذي يتفق المفسرون على أن الجملة التي نحن في صددها عنت ذلك أيضا بالنسبة لعيسى (عليه‌السلام).

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)) [٩٧ ـ ٩٨].

في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدّقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين. أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم.

تعليق على الآية

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...)

والآية التالية لها

وقد روى المفسرون (١) في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما ، والطبري وابن كثير استوعبا جميع الروايات. والثاني ينقلها عن الأول تقريبا.

٢٠٠