التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [١٧١] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.

وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا تجدد المواقف والمناسبات وثانيا ما ينطوي عليه من خطورة بالغة ، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.

ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال : «تليت هذه الآية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطبّ مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال : «أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت؟

٢٨١

قال : لا. قال : فما شأنك؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».

وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)) [١٧٤ ـ ١٧٦]

(١) فما أصبرهم على النار : من باب التعجب.

(٢) لفي شقاق بعيد : لفي خلاف عظيم بعيد عن الحقّ قائم على قصد المشاقة والمنازعة.

عبارة الآيات واضحة ، وقد تضمنت تقريعا وإنذارا شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعا ولا شقاقا.

ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [٩٣] وسورة النحل [١١٥] لتكون الحجة أقوى

٢٨٢

وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم.

ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في جملة (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخّي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)) [١٧٧]

(١) البرّ : قرئت بفتح الباء وقرئت (البار) أيضا ، وقدّروا وراء البرّ الثانية محذوفا بحيث تكون الجملة «ولكن البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر».

(٢) على حبه : على شدة الرغبة فيه والحرص عليه.

(٣) وفي الرقاب : وفي سبيل شراء العبيد وعتقهم أي تحرير الرقاب.

(٤) البأساء والضراء : أوقات الشدة والمصائب والمحن.

(٥) البأس : هنا بمعنى الحرب.

عبارة الآية واضحة ، وهي موجهة إلى السامعين والمرجح الذي تلهمه روحها

٢٨٣

أن المقصود هم المؤمنون ، لتنبههم إلى أن البرّ ليس في توجيه الوجوه إلى المشرق والمغرب ولكنه هو ما ذكرته الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وكتب الله وأنبيائه وإعطاء المال المحبب للنفس للمحتاجين وبنوع خاص لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ولأجل تحرير الرقيق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في المحن والشدائد وفي ميدان الحرب ، فالذين يفعلون ذلك هم الصادقون المتقون.

تعليق على الآية

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...)

وما فيها من تلقين

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية. من ذلك ما رواه الطبري عن قتادة أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البرّ فأنزل الله الآية. وروى الطبري عن قتادة رواية أخرى تفيد أن اليهود كانوا يصلّون قبل المغرب وأن النصارى كانوا يصلّون قبل المشرق فنزلت الآية لبيان حقيقة البرّ. وروى الطبرسي أنه لما حوّلت القبلة أكثر اليهود والنصارى الخوض في ذلك وقيل فيما قيل إن البرّ وطاعة الله هما التوجه في الصلاة فأنزل الله الآية. وروى عن قتادة أيضا أنها نزلت في اليهود خاصة لأنهم هم الذين أكثروا الخوض في تحويل القبلة. وليس شيء من الروايات من الصحاح والرواية الأخيرة مع ذلك هي الأكثر ورودا استئناسا بالسياق والله أعلم.

ولما كانت المواضيع التي احتوتها الآيات التالية لهذه الآية مواضيع جديدة غير متصلة بالسياق السابق وكان اليهود هم موضوع الكلام في الدرجة الأولى في الفصول السابقة لها باستثناء الآيات [١٥٣ ـ ١٥٨] التي فيها تثبيت للمؤمنين وموضوع الطواف بين الصفا والمروة ؛ فتكون هذه الآية خاتمة قوية للسياق الطويل الذي بدأ من الآية الأربعين واحتوى حلقات عديدة في صدد مواقف اليهود ضد الدعوة الإسلامية وجحودهم ودسائسهم وربط حاضرهم بغابرهم. وقد استغرق

٢٨٤

أكثر من ثلث السورة ، وتضمن صور المرحلة الأولى من مراحل الاحتكاك بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليهود في العهد المدني التي كانت قاصرة على الجدل والنقاش والمناظرة والتنديد والإنذار والتي يبدو من خلالها مع ذلك ما بذله اليهود من قوة النشاط المعادي للدعوة الإسلامية في مختلف المجالات وما قصده القرآن من فضح هذا النشاط وإحباطه وهدم المركز القوي الثقافي والديني والسياسي والمالي الذي كان يتمتع به اليهود في الأوساط العربية. ولقد احتوت السور النازلة بعد هذه السورة صورا مماثلة لصور هذه المرحلة ثم صورا للعداء الخطير الذي انتهى إلى الاشتباكات الحربية حتى أظهر الله نبيه والمؤمنين عليهم وساعدهم على تطهير المدينة منهم. وخضد شوكتهم في القرى الأخرى في نهاية السنة السادسة من العهد المدني على ما سوف نشرحه في المناسبات الآتية.

والآية فصل جامع رائع من جوامع القرآن وروائعه. وقد احتوت تقرير أهداف الدعوة الإسلامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بأسلوب قوي نافذ. ولقد ذكرت هذه الأهداف بأساليب متنوعة في القرآن المكي مما يؤكد الاتساق التام بين القرآن المكي والقرآن المدني. ولقد علقنا عليها في المناسبات العديدة التي ذكرت فيها بما يغني عن التكرار. غير أن في الآية خصوصية جليلة جديرة بالتنويه والتنبيه وهي تقريرها كون أهداف الدعوة الحقيقية والجوهرية ليست الأعراض والأشكال والمظاهر وإنما هي الصدق في الإيمان والعمل والقيام بالواجب نحو الله ومساعدة المحتاجين على اختلافهم من أقارب وأباعد والوفاء بالعهد والصبر عند المحن والثبات في الجهاد والتضحية بالمال والنفس. وفي هذا ما فيه من قوة حيوية الدعوة وعظمتها ومرشحاتها للعمومية والخلود. وينوه بنوع خاص بخاتمة الآية التي تقرر أن المتصفين بما فيها من صفات هم الصادقون المتقون ، ولقد شرحنا سابقا مدى التقوى والصدق وما في الآية من صفات مما يماثل ذلك حقا وصدقا.

ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث في سياق هذه الآية فيها توضيح لبعض عباراتها وتساوق مع تلقيناتها. منها حديث رواه الحاكم في مستدركه عن ابن

٢٨٥

مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وآتى المال على حبّه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» (١). وحديث رواه ابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في المال حقّ سوى الزكاة ثم قرأ الآية» (٢). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «ليس المسكين هذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه» (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)) [١٧٨ ـ ١٧٩]

(١) كتب : هنا وفي غير مكان بمعنى فرض على الأغلب.

(٢) القصاص : مقابلة العمل بمثله.

(٣) وأداء إليه : الجمهور على أن الجملة تعني أداء الدية في حالة العفو.

الآيتان موجهتان إلى المسلمين. وقد احتوت أولاهما : إيجاب القصاص في

__________________

(١) روى الشيخان والنسائي هذا الحديث بهذه الصيغة : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» التاج ج ٢ ص ٣٦.

(٢) روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة : «سألت أو سئل النبيّ عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا الآية». التاج ج ٢ ص ٣٩.

(٣) روى مؤلف التاج هذا الحديث برواية الخمسة إلا الترمذي بهذه الصيغة : «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» التاج ج ٢ ص ٣٨.

٢٨٦

حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما : بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سندا لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا.

والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تعليق على آية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ... إلخ

والتالية لها

ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين ، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلتا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات ، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة ، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلتا ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها

٢٨٧

أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلا منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها (١). والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعا عاما للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية.

والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني ، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواه في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك واضح فالمسلمون في مكة كانوا قلة فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معا فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشيا مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجوابا على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات.

وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن بغيا وتعصبا وحقدا فيقولون : إن هناك

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.

٢٨٨

تناقضا في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادىء والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي :

١ ـ المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبة.

٢ ـ إن من المؤولين والمفسرين من قال إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقا ، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ... إلخ [٤٥] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعا للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية (شرع ما قبلنا شرع لنا) ليس مما يمكن التسليم به استنادا إلى الآيات المذكورة على ما سوف نشرحه في مناسبتها.

ويتبادر لنا أن جملة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلا لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقا هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيّب الزاني ، والمفارق لدينه التارك للجماعة» (١). وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» (٢).

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٧.

(٢) ورد هذا الحديث في تفسير القاسمي عزوا إلى أبي داود وفي التاج ج ٣ ص ٣١ حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي فيه : «لا يقتل مسلم بكافر».

٢٨٩

ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقا سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبدا أو أمة ، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استنادا إلى نص الآية الأولى.

ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقا هو الأوجه. ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه : «كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» (١). وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» (٢).

ومن رأي أبي حنيفة استنادا إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده.

٣ ـ مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) هي في صدد من يقتل قاتلا بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلا بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» (٣). وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٤.

(٢) المصدر نفسه ص ٣١.

(٣) أورد هذا الحديث ابن كثير ومعنى لا أعافي لا أعفي من القصاص رجلا قتل قاتلا بعد أخذ الدية عن القتل الذي قتله.

٢٩٠

جهنّم خالدا فيها» (١). والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية. والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة.

٤ ـ ومما رواه المفسرون في جملة : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص ، وهذا سديد وجيه.

والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفوا عن دم قتيلهم بدون دية أيضا ، وهذا حقّ متبادر من روح الآية.

وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر.

٥ ـ وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبرا يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة. وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلا في القتل وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٥.

٢٩١

٦ ـ والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال : «حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» (١).

٧ ـ والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله (شبه عمد) ولا يستوجب قصاصا وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمدا. وهناك من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية. وقد صوب الطبري قول من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.

٨ ـ والأحاديث مختلفة أيضا في تقدير الدية للعمد في حال العفو ولشبه العمد ، فمنها ما يفيد أنها مئة من الإبل ومنها ما يفيد أنها اثنا عشر ألف درهم ومنها ما يفيد أنها ألف دينار أو ثمانمائة دينار. ومما روي أنها استقرت في زمن عمر على أن تكون على أهل الإبل مئة وعلى أهل البقر ٢٠٠ وعلى أهل الشاة ٢٠٠٠ وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة ١٢٠٠٠ درهم وعلى أهل الحلل ١٠٠ حلة (٢).

والمتبادر أن التقدير والتنويع متأثران بالظروف القائمة وأن من السائغ أن يكونا متبدلين حسب كل ظرف والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٣١.

(٢) انظر المصدر نفسه ص ٩ ـ ١١ وفي هذا المصدر أحاديث أخرى في الدية ليس فيها فروق جوهرية.

٢٩٢

وهناك أحاديث نبوية تفيد أن دية المرأة المسلمة نصف دية الرجل (١). وأبو حنيفة أخذ بحديث «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» دون هذه الأحاديث فذهب إلى أن دية المرأة المسلمة نفس دية الرجل ونرى هذا هو الأوجه والله أعلم.

وهناك أحاديث تفيد أن دية الكافر الذمي والمعاهد هي نصف دية المسلم وأحاديث تفيد أنها مثل دية المسلم (٢) ، فمن الفقهاء من أخذ بهذا ومنهم من أخذ بذاك.

٩ ـ وهناك تشريع نبوي يعرف بالقس امة. ويطبق في حالة وقوع جريمة قتل لا يعرف قاتله معرفة يقينية حيث يحلف خمسون من أهل القتيل على رجل بعينه فيقتص منه وإلا فيحلف خمسون من أهل المتهم على براءته (٣). وقد أخذ بعض الفقهاء بهذا التشريع في حين قال بعضهم إن القصاص لا يكون بالقس امة وإنما يجب فيها الدية إذا أقسم أهل القتيل ومع أن الجمهور في جانب الرأي الأول فإن الرأي الثاني لا يخلو من وجاهة من حيث إن اليمين لا يصح أن يكون في مقام اليقين العياني ، والله تعالى أعلم.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)) [١٨٠ ـ ١٨٢]

(١) إذا حضر : بمعنى إذا دنا.

(٢) خيرا : هنا بمعنى المال ، أو المال الكثير.

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ١٥.

٢٩٣

(٣) جنفا : ميلا وانحرافا عن الحق.

في الآيات : إيجاب الوصية على كل مسلم ـ حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال ـ لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق.

والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقة ، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان فاقتضت الحكمة تنزيل الآيات في مناسبة من المناسبات المتصلة بذلك والمتبادر أنها نزلت قبل نزول آيات المواريث الواردة في سورة النساء لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني.

ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده ، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية.

تعليق على آيات الوصية

ولقد اختلفت أقوال المفسرين (١) ومن رووا أقواله من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه : «إن الله أعطى

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير ، وأكثرهم استيعابا للأقوال هو الطبري.

٢٩٤

كلّ ذي حقّ حقّه وإنّه لا وصيّة لوارث» (١) قد نسختها. ومنهم من قال إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور إلخ إلخ ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلّا لمشكلتهم وسدا لعوزهم لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حقّ وروعة وجلال.

والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته.

ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده» (٢).

وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثا نبويا جاء فيه : «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه : «من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه : «من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية».

وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه : «من مات

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ٢٤٣. وروى هذا الحديث الترمذي عن أبي أمامة.

(٢) انظر المصدر نفسه ص ٢٤١ ، وقد أورد ابن كثير قولا لابن عمر بعد أن أورد الحديث المذكور جاء فيه : «ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي».

٢٩٥

ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية». وقولا آخر جاء فيه : «فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين».

وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم ، حتى لقد ذهب بعضهم استنادا إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري.

ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب ، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال : «مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله إن لي مالا كثيرا ولا يرثني إلّا ابنتي ، أفأوصي بمالي كلّه؟ قال : لا. قلت : فبثلثيه؟ قال : لا. قلت : فالشطر؟ قال : لا. قلت : فالثلث؟ قال : الثلث. والثلث كثير ، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس» (١). وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه : «إنّ رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجزّأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة وقال له قولا شديدا» حيث يفيد هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاز الثلث فقط (٢).

وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به.

وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٤٢.

(٢) المصدر نفسه ، وننبه على هامش هذا الحديث أن الرقيق كان يعتبر مالا ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرد بعمله تعطيل عتق الرقيق لذاته ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الناحية أجلّ وأسمى والقرآن الذي أنزل عليه يحثّ على ذلك في مناسبات عديدة وإنما قصد إلى الرفق بورثة الرجل.

٢٩٦

أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم. منها أن عليّ بن أبي طالب دخل على ابن عمّ له يعوده فقال له : إني أريد أن أوصي ، فقال له : لا توص فإنك لم تترك خيرا فتوصي. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له : ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة : (إن ترك خيرا) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين دينارا وطاووسا حددها بثمانين دينارا. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجا عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعا لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيرا نوعا ما في ظرف قد يكون قليلا لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم.

ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة : (إن ترك خيرا) تعني إن ترك مالا كثيرا نوعا ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث.

وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها لأن في ذلك إجحافا لذي حقّ مكتسب ومنعا للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييرا للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها.

وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها ، لأن الحال في الحالتين

٢٩٧

سيعود إلى والد أو والدة الحفيد ، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» (١). وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم.

ولقد أورد الطبري قولا لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولا لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يردّ من صدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم.

وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقا لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانيا أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)) وإن هذه الآية تلهم جواز

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٤١.

٢٩٨

بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم.

وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية ، لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية.

وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ

٢٩٩

إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)) [١٨٣ ـ ١٨٧].

(١) فمن تطوع خيرا : من زاد في مقدار الفدية المعين.

(٢) فمن شهد منكم الشهر : أقام فيه ولم يكن مسافرا.

(٣) الرفث : كناية عن الجماع.

(٤) تختانون أنفسكم : تخونون أنفسكم وتظلمونها.

(٥) باشروهن : كناية عن الجماع أيضا.

(٦) حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر : كناية عن بزوغ الفجر الصادق الذي يفرق بين ظلمة الليل وضوء النهار ، ويساعد على التمييز بين الأبيض والأسود.

تعليقات على آيات الصيام

مع شروح متنوعة في صدد

الصيام ورمضان

الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه ، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده ، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.

والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس ، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على

٣٠٠