التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

السورة وغيرها ومما ينطوي فيه ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الركن الإسلامي العظيم من عناية وخطورة.

ولقد رويت أحاديث نبوية منها الصحيحة فيها مثل ذلك أيضا منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة جاء فيه : «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيله وإيمانا به أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لو لا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي. والذي نفس محمد بيده لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل» ولفظ البخاري لوددت أنّي أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل» (١). وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه : «من مات ولم يغز ولم تحدّثه به نفسه مات على شعبة من نفاق» (٢).

وهناك حديث رائع متصل بمدى الآية رواه أبو داود عن ثوبان : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل : ومن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال : حبّ الدنيا وكراهية الموت» (٣). وفي كل هذا تساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي كما هو ظاهر.

هذا ، وهناك أمر آخر يحسن أن نذكره في صدد فرض القتال على المؤمنين

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٩٢ و ٢٩٣.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٩٥.

(٣) التاج ج ٥ ص ٢٩٥ ، وفي كتب الحديث أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردنا.

٣٨١

حيث روى الطبراني عن أنس بن مالك قال : «قالت أمّ سليم يا رسول الله اخرج معك إلى الغزو؟ قال : يا أمّ سليم ، إنّه لم يكتب على النساء الجهاد. قالت : أداوي الجرحى وأعالج العين وأسقي الماء ، قال : نعم إذا». والحديث ليس من الصحاح ولقد ورد في كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة كما روت روايات السيرة والتاريخ روايات عديدة تذكر أن النساء المسلمات في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده كن يذهبن مع الرجال فيحملن للمقاتلين الماء والزاد ويداوين الجرحى والمرضى ويحملن أحيانا السلاح ويقاتلن فإذا صح حديث الطبراني فيكون في صدد فرضية القتال واختصاص ذلك بالرجال دون النساء فرضا وتكليفا وليس فيه ما يمنع تطوع المرأة المسلمة في مختلف الأساليب الجهادية وقد كان ذلك فعلا في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده والله أعلم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)) [٢١٧ ـ ٢١٨]

(١) المسجد الحرام : معطوفة على جملة ـ وصدّ عن سبيل الله ـ أي وصدّ عن المسجد الحرام.

في الآية الأولى :

١ ـ حكاية لسؤال أورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما إذا كان يجوز القتال في الشهر الحرام ، وأمر بالإجابة بأن القتال فيه خطير وكبير عند الله غير أن الصدّ عن سبيل الله ودعوته والكفر به والصدّ عن المسجد الحرام وإلجاء أهله إلى الخروج منه بالأذى

٣٨٢

والإعنات هما أكبر عند الله من القتال فيه. كما أن الفتنة أي إجبار المسلمين على ترك دينهم بالقوة والأذى هي أكبر عند الله من القتال فيه وكل هذا كان يقع من الكفار في الشهر الحرام.

٢ ـ وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين بأن الكفار لن يتوانوا عن قتالهم وإيقاع الأذى عليهم بكل وسيلة وفي كل وقت حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.

٣ ـ وإنذار لمن يتأثر بهم فيرتدّ عن دينه ويموت كافرا ، فأولئك يبطل الله جميع ما عملوه من خير ، ويكون مصيرهم الخلود في النار.

وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، فهؤلاء إنما كانوا يرجون بما فعلوا رحمة الله ، وإن الله لمحقق رجاءهم وغافر لما يمكن أن يكون بدر منهم من خطأ لأنه غفور رحيم.

تعليق على الآية

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ ...)

إلخ والآية التالية لها

وقد روى المفسرون (١) أن الآية الأولى نزلت جوابا على دعاية تشويشية قام بها كفار مكة بمناسبة قتال وقع بين سرية أرسلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيادة عبد الله بن جحش لرصد قافلة قرشية فقتلت بعض رجالها وأسرت بعضهم واستولت على العير. وادعى كفار قريش أن الحادث وقع في أول رجب حيث كان القتال محرما في الأشهر الحرم التي كان رجب منها وعظيم الخطورة عند العرب فاستغل أولئك الكفار ذلك وصاروا يتساءلون تساءل المستنكر العائب عن الأمر ويقولون إن محمدا وأصحابه يستحلون الشهر الحرام حتى لقد عاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجال سريته

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٨٣

وقال لهم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاضطربوا وخافوا فأنزل الله الآية التي فيها الحكم والفرج.

والرواية ذكرت في أقدم كتب السيرة (١) وفي جميع كتب التفسير والتاريخ القديمة وهي متسقة مع فحوى الآية وروحها.

ولقد روى الطبري وغيره أنه لما نزلت الآية الأولى طمع المهاجرون في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله الآية الثانية. وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولسنا نراها متسقة مع فحوى الآية ومقامها ويتبادر لنا أنها نزلت مع الأولى كتعقيب عليها من جهة ودفاع عن رجال السرية من جهة أخرى. فهم إنما أقدموا على ما أقدموا عليه جهادا في سبيل الله ورجاء رحمته ورضوانه. فهم بالثناء والتنويه أحقّ من الملامة والتثريب.

ويظهر أن بعض المسلمين قد تأثروا بدعاية الكفار فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآية الأولى ما تضمنته من تنبيه وإنذار بالإضافة إلى ما تضمنته الآية الثانية من ثناء على رجال السرية وتنويه بهم ، واتصال الآيتين موضوعيا بالآية السابقة ظاهر. وهو ما جعل الشيخ محمد عبده يرجح نزول الآيات الثلاث معا على ما ذكرناه قبل قليل.

ولقد انطوى في الجواب الذي احتوته الآية الثانية حملة شديدة على كفار قريش ورد لاذع محكم على ما أثاروه من دعاية. فهم أقل الناس حقا في اللوم والانتقاد. وتصرفاتهم الأثيمة مع المسلمين حينما كانوا في منطقة المسجد الحرام وفي أثناء الأشهر الحرم من أذى وكفر وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، وفتنة المسلمين أشدّ وأكبر من القتال في الشهر الحرام الذي يثيرون بسببه الدعاية ويوجهون العيب والانتقاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٨ وابن هشام ج ٢ ص ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

٣٨٤

والآية الثانية تلهم أن هذه السرية مؤلفة من المهاجرين فقط ، وهو متسق مع ما ورد من روايات عديدة عن جميع السرايا التي سيرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والغزوات التي قادها قبل وقعة بدر. وهذه السرية كانت آخرها قبل هذه الوقعة (١). فالأنصار اشتركوا لأول مرة في القتال في وقعة بدر وبعد فرض القتال على المسلمين كافة بأسلوب مطلق صريح. أما قبل ذلك فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكلفهم على اعتبار أن الاتفاق بينه وبينهم هو على الدفاع عنه في بلدهم ، وأن العداء المبرر للقتال إنما كان بين المهاجرين وقومهم القرشيين.

هذا ، وفي الآيتين عظات وتلقينات أخلاقية واجتماعية مستمرة المدى مع ما لهما من خصوصية زمنية :

١ ـ فالدفاع عن حرية الدعوة وردّ البغي والعدوان وقتال البغاة المعتدين في كل ظرف وزمن واجب ومبرر ، وبخاصة إذا كان هؤلاء شديدي الأذى والخصومة.

٢ ـ ومن الناس من يتناسى تصرفاته الآثمة الشديدة الأذى والضرر ويندفع في التهويش على الآخرين لأخطاء أخف من جرائمهم فلا ينبغي أن يؤخذ الناس بذلك ويتغافلوا عن سيئات المجرمين وآثامهم.

٣ ـ ومن الناس من يتمسك بالأشكال ويحاول تغليبها على اللباب والجوهر مع أن الواجب الاهتمام بهذه دون تلك.

٤ ـ والمعول هو على مقاصد الناس ونياتهم ، فإذا بدا من أناس عمل خالفوا فيه العرف والعادات عن حسن نية ورغبة في الخير وأداء الواجب فينبغي أن لا يلاموا على تلك المخالفة بل لهم حق الثناء والتسامح.

ويضاف إلى هذه العظات والتلقينات ما في الآية الثانية من تنويه مطلق بالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله رجاء رحمته ، حيث ينطوي في ذلك أيضا تلقين مستمر المدى لجميع المسلمين في كل مكان وزمان بالتأسي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٣ ـ ٤٨.

٣٨٥

وأصحابه (رضي الله عنهم) الذين آمنوا وهجروا وطنهم وتخلّوا عن أموالهم ومساكنهم وعشائرهم وذوي أرحامهم في سبيل الله ودينه رجاء رحمته دون أن يكون لهم من وراء ذلك مأرب خاص إلا نصرة الله وإعلاء كلمته.

حكم المرتد عن دينه من المسلمين

وبمناسبة ما جاء في الآية الأولى من الآيتين من إنذار للذين يرتدون عن دينهم من المؤمنين ويموتون كفارا نقول إن عقوبة هؤلاء لم تبق في الشرع الإسلامي أخروية وحسب فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريع دنيوي واجب الاتباع لأنه مما سكت عنه القرآن من ذلك حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» (١). وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٢).

والجمهور على وجوب استتابة المرتدّ وأنه لا يقتل إلّا إذا أبى التوبة وأصرّ على الارتداد وهذا هو الحق والصواب والمتسق مع تلقينات القرآن في صدد التوبة على ما شرحناه في تعليقنا عليها في سورة البروج.

ولقد ذهب الإمام مالك إلى أن الزنادقة لا يستتابون لأنهم إذا تابوا كانوا كاذبين في توبتهم (٣). ونحن نرى الاستتابة واجبة بالنسبة للجميع فالله تعالى هو وحده عالم ما في القلوب ولا يجوز إزهاق النفس بالتخمين مهما كان محتملا. وليس من سبيل على من يقول إني مسلم وإني تائب بقطع النظر عمّا في قلبه على ما جاء في آية سورة النساء [٩٤] التي سوف يأتي شرحها بعد.

ولقد روى الإمام مالك عن عبد القاري أنه قال : «قدم على عمر بن الخطاب

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٧.

(٢) التاج ج ٣ ص ١٧.

(٣) الموطأ ج ٢ ص ١٦٥.

٣٨٦

رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر؟ قال : نعم ، رجل كفر بعد إسلامه. قال : فما فعلتم به؟ قال : قربناه فضربنا عنقه. قال عمر : هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كلّ يوم رغيفا ثم استتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال : اللهمّ إني لم أحضر ، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)) [٢١٩ ـ ٢٢٠]

(١) الخمر : الجمهور على أن الخمر ليس اسم شراب معين ، وإنما هو اسم عام للمسكر على اعتبار أنه يخمر العقل أي يغطي عليه. ومن التعاريف أن كل ما غلا واشتد وقذف الزبد من عصير الفواكه والثمار هو خمر.

(٢) الميسر : هو القمار ، وقيل إنه من (اليسر) لأنه أخذ مال الآخر بيسر وسهولة كما قيل إنه من (اليسار) أي صار موسرا. وقيل إنه فعل خاص أي يسر بمعنى قمر. والياسر هو الذي كان يجزىء لحم الجزر التي كانت تذبح للقمار والمراهنة. والجمهور على أن الميسر كناية عن كل أنواع القمار وأنه يدخل فيه المراهنات.

(٣) العفو : أوجه الأقوال أن الكلمة هنا بمعنى الفضل الزائد عن الحاجة ، وهو ما عليه الجمهور.

(٤) أعنتكم : أرهقكم أو شقّ عليكم.

__________________

(١) الموطأ ج ٢ ص ١٦٥ وأبو موسى كان قاضيا من قبل عمر على البصرة.

٣٨٧

في الآيتين : حكاية لأسئلة ثلاثة أوردت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجوبة عليها :

١ ـ فقد سئل عن حكم الخمر والميسر فأمر بالإجابة بأن فيهما إثما كبيرا وفيهما كذلك منافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.

٢ ـ وسئل عما يتصدق به المتصدقون فأمر بالإجابة بأن عليهم التصدق مما يكون فاضلا وزائدا عن حاجتهم.

٣ ـ وسئل عما ينبغي أن يسلك مع اليتامى فأمر بالإجابة بأن الواجب هو عمل ما هو صالح ومصلح لهم ، وأن ليس من بأس في مخالطتهم فهم إخوان للسائلين.

ولقد انتهت الآية الأولى بالتنبيه إلى أن الله إنما يبين آياته للمسلمين على أمل أن يتفكروا فيما ينجيهم ويسعدهم ويهديهم في الدنيا والآخرة. وانتهت الآية الثانية بالتنبيه إلى أن الله يعلم نيات الناس وسرائرهم ويعلم المفسد من المصلح منهم. وأنه توخّى التيسير عليهم ولو شاء لأوجب عليهم ما فيه إعنات وإرهاق لهم ، فهو العزيز القادر والحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.

ومن المحتمل أن يكون التنبيه الذي احتوته الآية الأولى في صدد ما جاء فيها والذي احتوته الآية الثانية في صدد ما جاء فيها كما أن من المحتمل أن يكون التنبيهان في صدد ما جاء في الآيتين من أجوبة.

تعليقات على الآية

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...)

والآية التالية لها وتلقيناتها

في صدد اليتامى والصدقات

والآيتان فصل تشريعي جديد ، وقد وضعتا بعد الآيات السابقة إما لأنهما نزلتا بعدها أو للمماثلة التشريعية على ما هو المتبادر.

وقد روى المفسرون (١) أن السؤال الأول كان من عمر بن الخطاب حيث

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٨٨

سأل الله أن ينزل في الخمر بيانا شافيا كما روي أن بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل سالبة للمال. وأن السؤال الثاني كان من معاذ بن جبل ورفيق له أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : إن لنا أرقاء وأهلين فعلى من ننفق؟ وأن السؤال الثالث كان من جماعة كانوا أوصياء على بعض اليتامى فلما نزل (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الأنعام : [١٥٢] في سورتي الإسراء والأنعام انطلق كل من عنده يتيم فعزل ماله عن ماله ، ثم شق عليهم الأمر فسألوا رسول الله فأنزل الله الآيات. وفي رواية أن هذا كان حينما نزلت آيات سورة النساء [٢ ـ ١١] التي تنهى عن أكل أموال اليتامى وتبديل طيبها بالخبيث وتنذر من يفعل ذلك وتأمر بحفظها ودفعها لهم.

والرواية التي تذكر سؤال عمر فقط هي الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة دون غيرها ويلحظ أنها في صدد الخمر مع أن في الآيات مسائل أخرى. وآيات النساء نزلت بعد هذه الآيات ، والموضوع ليس محصورا في أموال اليتامى.

وعلى كل حال فالمتبادر أن المسائل المذكورة في الآيات مما كان يسأل عنها المسلمون في العهد النبوي فأنزل الله الآيات لتوضيح الأمور وحدة متكاملة.

هذا ، ولقد قال المفسرون في صدد ما ذكرته الآية الأولى من نفع الخمر والميسر أن نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة وما كان يعود على صانعيه وأصحاب الثمار التي يصنع منها. وأن نفع الميسر هو ما كان يعود على الرابح من ربح ... وعلى كل حال فإن أسلوب جواب السؤال الأول يدل على ما كان للخمر والميسر من رسوخ وانتشار في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره ، وما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصاديا واجتماعيا وأن المتبادر أن الإشارة إلى ما لهما من منافع إنما أتت من ذلك أي أنها تقرير للواقع وليست بقصد الإقرار والتبرير.

والسؤال والجواب عن الخمر والميسر هما خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى في التشديد ثم في التحريم في آيات في سورتي النساء والمائدة على ما سوف نشرحه في مناسبتهما.

٣٨٩

ولقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما حيث ذكر إثمهما أولا ووصف بأنه أكبر ثانيا. وشدد في وصفه فذكر أنه أكبر من نفعهما. وهذا مؤيد لما قلناه آنفا من أن ذكر منافعهما هو إقرار للواقع وليس للتبرير. والمتبادر أن اقتصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى إنما كان بسبب ذلك الواقع حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في التشديد والتحريم حينما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك. وهناك أحاديث عديدة في صدد الخمر والميسر فيها توضيح وأحكام أجّلنا إيرادها والتعليق عليها إلى تفسير آيات سورة المائدة [٩١ ـ ٩٢] لأنها أكثر ملاءمة معها.

وننتقل الآن إلى السؤال الثاني وجوابه فنقول إن هناك أقوالا عديدة يرويها المفسرون عن أهل التأويل في صدده. منها أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يعطيه المسلمون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صدقاتهم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر فيها كجواب على سؤالهم بأن يأخذ منهم الفضل الزائد أو ما يستطيعون أن يعطوه قليلا كان أو كثيرا. وفي آية في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها جملة تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأخذ العفو. ومن الأقوال المروية مع ذلك أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يتصدق به المسلمون بصورة عامة فأمروا بأن يعطوا ما فضل عن حاجتهم في قول ، وما لا يكون فيه إجهاد لأموالهم وأنفسهم في قول. واليسير في قول وأطيب ما عندهم وأفضله في قول. وجميع هذه الأقوال واردة والجملة القرآنية تتحملها. وقد صوب الطبري أنها في صدد الأمر الثاني وأن العفو ما كان زائدا عن الحاجة. والتصويب في محله ومتساوق مع السؤال فيما يتبادر لنا. ويكون في الجواب والحالة هذه توجيه ومغزى عظيمان بعيدا المدى إذ يؤمر المسلم بأن يتصدق بما يكون زائدا عن حاجته لمن هم في حاجة من المسلمين أقارب كانوا أم أباعد. وليس بعد هذا شيء أسمى ولا أقوى في إيجاب التكافل بين المسلمين. وهناك أحاديث عديدة في صدد ذلك منها حديث رواه مسلم عن عبد الله بن جرير في موقف جاء النبي جماعة في حالة سيئة من العوز فدعا المسلمين إلى التصدق قائلا : «ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه ، من صاع تمره ، حتى ولو بشقّ تمرة». وحديث

٣٩٠

رواه الخمسة جاء فيه : «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك» ، وحديث آخر رواه الشيخان عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شرّ لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى» (١).

هذا ، ومن المؤولين من أول الجملة بالزكاة المفروضة ومنهم من أولها بالصدقة التطوعية ، وقد صوب الطبري القول الثاني إلى جانب الزكاة المفروضة وهو تصويب سديد.

وجواب السؤال الثالث جدير بالتنويه من حيث إنه ينطوي على رفع الحرج عن المسلمين في أمر شاق عليهم مع التشديد والإنذار. ففي عدم المخالطة بين اليتامى وأوصيائهم بمعناها الدقيق حرج ومشقة ، والله لا يريد ذلك للناس والمطلوب الجوهري هو عمل ما فيه الصلاح والمصلحة لليتامى ، وعليهم أن يعلموا أن الله تعالى عليم بنيّاتهم وبمن يريد الإصلاح والفساد منهم ، وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى في شأن اليتامى بخاصة وفي كل شأن آخر بعامة مما تكرر تقريره في آيات كثيرة بأساليب متنوعة.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)) [٢٢١]

(١) لا تنكحوا : لا تتزوجوا.

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ٣٥.

٣٩١

(٢) لا تنكحوا : لا تزوجوا وكلمة النكاح ومشتقاتها في القرآن بمعنى الزواج وليست بمعنى الجماع.

في الآية :

١ ـ نهي موجّه للمسلمين عن التزوج بالمشركات وعن تزويج المشركين بناتهم.

٢ ـ وتنبيه بأسلوب المقارنة إلى أن الأمة المؤمنة خير وأصلح للمسلم من حرة مشركة مهما كان لها من المزايا والصفات مما يعجبه ، وأن العبد المؤمن خير وأصلح من حرّ مشرك مهما كان له من المزايا والصفات مما يعجبها.

٣ ـ وتعليل لهذا التفضيل بأن المشركين بأفعالهم وتصرفاتهم إنما هم دعاة للنار فلا يصح الاتصال بهم والتناكح معهم ، والله فيما يأمر به وينهى عنه إنما يدعو إلى الجنة والمغفرة ويبين آياته للناس لعلّهم يذكرون ما يجب عليهم اتباعه واجتنابه.

تعليق على الآية

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...)

الآية فصل تشريعي جديد ، وضع بعد الفصول السابقة للمماثلة التشريعية أو لتوالي النزول على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون في نزولها رواية تذكر أنّ واحدا من المسلمين أعجبته مشركة فاستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتزوج منها ، وأخرى تذكر أن عبد الله بن رواحة لطم عبدة سوداء له ثم فزع إلى النبي فأخبره فسأله عنها فقال له إنها تصلي وتصوم وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال له هذه مؤمنة فأقسم ليعتقنّها وليتزوجها ففعل فعابه بعضهم فأنزل الله الآية تحبيذا لما فعل.

والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ، وقد يكون ما ورد فيها قد وقع فكان مناسبة لنزول الآية بأسلوبها المطلق لتكون تشريعا عاما. ولقد كان بين مسلمي العرب ومشركيهم أرحام واشجة ومصاهرات قائمة قبل الإسلام وامتد ذلك

٣٩٢

إلى ما بعده. حتى لقد بقي إلى ما بعد صلح الحديبية مما انطوى في بعض الآيات إشارات إليه مثل آية سورة الممتحنة [١٠] وسورة التوبة [٢٣] (١). وآية الممتحنة صريحة بأنه كان للمهاجرين زوجات كافرات إلى حين نزولها فأمروا بعدم الإمساك بعواصمهن. ولقد روي أن زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيت في مكة ردحا من الزمن بعد الهجرة في عصمة زوجها أبي العاص الذي لم يكن آمن. وكان من أسرى المشركين في وقعة بدر فأرسلت قلادتها لافتدائه (٢). حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت وضع حد لذلك بهذه الآية. وإذا كانت هذه الآية نزلت قبل آية الممتحنة وهو ما نرجحه والله أعلم فتكون قد هدفت إلى منع إنشاء زواجات جديدة بين المسلمين والمشركين إلى أن نزلت سورة الممتحنة بعد صلح الحديبية فقررت الآية التي نحن في صددها عدم حلّ المسلمات للمشركين والمشركات للمسلمين وأمرت بفصم عصمة الزواجات القائمة بينهم.

ويروي بعض المفسرين (٣) عن بعض أهل التأويل أن الآية كانت عند نزولها شاملة لجميع غير المسلمين بما فيهم الكتابيون لأن اعتقاد اليهود ببنوة العزير لله والنصارى ببنوة المسيح وألوهيته يجعلهم داخلين في عداد المشركين. كما يروي بعضهم عن بعض أهل التأويل أن الآية هي في حق مشركي العرب. وأصحاب القول الأول قالوا إن الآية نسخت في حق أهل الكتاب جزئيا بآية سورة المائدة الخامسة التي أحلت للمؤمنين التزوج بالحرائر من الكتابيات والآية تتحمل كلا القولين.

ويلحظ أن الآية احتوت تعليلا وحكمة تشريعية ، وهذا من أساليب القرآن الهادفة إلى الإقناع والبيان. ومن مدى التعليل أن المشركين يدعون إلى ما يؤدي

__________________

(١) آية سورة التوبة في صدد عدم تولي الكافرين ولو كانوا أزواجهم وزوجاتهم. وآية سورة الممتحنة صريحة في النهي عن عدم التمسك بعصم الكوافر وعدم حلّ المسلمات للمشركين.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٩٦ ـ ٣٠٤.

(٣) انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والطبرسي.

٣٩٣

إلى النار من الكفر والفسوق ويسلكون سبيلهما والتزاوج مظنة الإلفة والمودة. وهذا يوجد التوافق في المطالب والمسيرة فصار من الواجب أن لا يتزاوج المسلمون والمشركون حتى لا ينحرف المسلمون وذراريهم إلى سبل غير الله من وثنية وتقاليد وثنية خلقية واجتماعية ، والله تعالى أعلم. وهذه المحاذير منتفية في ما اقتضته حكمة التنزيل من نسخ حكم هذه الآية بإحلال تزوج المسلمين من الكتابيات على ما سوف نزيده شرحا في تفسير المائدة.

وروح الآية بل وفحواها يفيد أن النهي هو عن التزوج بالمشركات الحرائر وتزويج المشركين بالمسلمات. والمتبادر أن هذا لا يشمل استفراش ملك اليمين من الإماء المشركات ويدعم هذا حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد قال : «بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا يوم حنين إلى أوطاس فظهروا عليهم وأصابوا فيهم سبايا فتحرّج بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن غشيانهن من أجل أزواجهم المشركين فأنزل الله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء : [٢٤] أي فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهنّ» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره. ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» (٢).

وفي تفضيل الأمة المؤمنة على الحرّة المشركة والعبد المؤمن على الحر المشرك تلقين قرآني جليل بما ضمنه الإسلام للأرقاء المؤمنين من رفعة المركز والوجاهة. وهذا يضاف إلى عناية القرآن بتحرير العبيد بمختلف الأساليب والحثّ على الرفق بهم وما ورد من أحاديث نبوية في صدد ذلك مما شرحناه في تعليقنا على موضوع الرقيق في تفسير سورة البلد.

ومن الجدير بالتنبيه في هذه المناسبة أن القصد من العبد المؤمن والأمة

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٨٤ و ٢٨٥.

(٢) انظر المصدر نفسه.

٣٩٤

المؤمنة اللذين دخلا الإسلام وهما في حالة الرقّ ، والمؤمن والمؤمنة الحران لا يسترقان إنشاء في أي حال. والأسير الكافر إذا أسلم قبل أن يقرر ولي أمر المؤمنين مصيره يصبح حرا. هذا وهناك أحاديث في صدد الزوجين اللذين يسلم أحدهما أو يرتدّ أحدهما أجلنا إيرادها وشرحها إلى تفسير سورة الممتحنة لأنها أكثر ملاءمة.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)) [٢٢٢ ـ ٢٢٣]

(١) أذى : يمكن أن تكون الكلمة بمعنى عارض مرضي مؤذ ، ويمكن أن تكون بمعنى القذارة والنجاسة.

(٢) حرث لكم : التعبير على وجه المجاز ، والقصد منه أن المرأة مزرعة لنسل الرجل.

تعليقات على آية

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ...)

والآية التالية لها

في الآية الأولى : حكاية لسؤال ورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حكم حيض النساء ، وأمر بالإجابة بأنه أذى وبوجوب اعتزال النساء في أثنائه وعدم قربهن حتى يطهرن. وحينئذ يحل لهم إتيانهن من حيث أمرهم الله وتنويه بالتوابين الذين يتقيدون بأوامر الله والمطهرين الذين يبتعدون عن النجاسات والأقذار ويحبهم.

وفي الآية الثانية تقرير موجه للمسلمين بأن نساءهم حرث لهم ولهم أن يأتوا

٣٩٥

حرثهم أنى شاءوا. ثم احتوت مواعظ لهم ، فعليهم أن يراقبوا الله ويتقوه في جميع أعمالهم وأن يذكروا دائما أنهم ملاقوه وواقفون بين يديه ، ثم أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبشير المؤمنين الصادقين المستجيبين لهذه المواعظ بحسب العواقب.

ولقد روى المفسرون أحاديث وأقوالا في نزول الآيتين ومداهما. من ذلك حديث يرويه الترمذي عن أنس قال : «كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها ولم يجلسوا معها في بيت. فسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآيات فأمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ وأن يكونوا معهنّ في البيت وأن يفعلوا كلّ شيء إلّا النكاح. فقالت اليهود : ما يريد محمّد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ، فجاء عبّاد بن بشر وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبراه بذلك وقالا : يا رسول الله أفننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننّا أنه غضب عليهما فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله فسقاهما فعلما أنه لم يغضب» (١). وحديث ثان يرويه الترمذي والبخاري عن جابر قال : «كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)» (٢). وحديث ثالث يرويه الترمذي عن ابن عباس قال : «جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا رسول الله هلكت! قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي الليلة. فلم يردّ عليه رسول الله ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة» (٣). وهناك روايات لم ترد في كتب الأحاديث منها أن العرب كانوا لا يساكنون الحائض في بيت ولا يأكلون معها في إناء ، فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآية. ومنها أن بعضهم كان يأتي النساء في الحيض من أدبارهن فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآيات.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٥٥ وج ١ ص ١٠٣ و ١٠٤. ويفعل اليهود ذلك لأنهم مأمورون به في شريعتهم فخففه الله ورسوله عن المسلمين. اقرأ سفر الأحبار في أسفار العهد القديم وبخاصة الإصحاح ١٥.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) انظر المصدر نفسه.

٣٩٦

ومهما يكن من أمر فالنصّ ظاهر بأن أناسا سألوا رسول الله عن المحيض فنزلت الآيات بالإجابة مع بعض التفصيل. ويجوز أن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها للتماثل الظرفي والتشريعي ، ويجوز أن تكون وضعت في ترتيبها للتماثل التشريعي ويجوز أن تكون بعض الآيات تليت في سؤال من أحد عن شيء ما مما يتعلق بإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن أو اعتزالهن فظنّ الرواة أنها نزلت على أثر السؤال والله تعالى أعلم.

هذا في صدد نزولها ، أما في مداها :

فأولا : إن المفسرين يروون عن أهل التأويل أن المنهي عنه هو الجماع ، والآية قد تفيد ذلك ، والحديث المروي عن أنس يفيد ذلك صراحة. وهناك حديث يرويه الطبري عن عائشة جوابا على سؤال عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضة : «كلّ شيء إلّا الجماع وفي رواية إلّا الفرج» وهناك حديث يرويه الشيخان عن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض» (١).

وثانيا : في جملة (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فقد قرئت الطاء والهاء بالتشديد والفتح. وقرئت الطاء بالتسكين والهاء بالضم ، واختلف الفقهاء بحسب ذلك. فمن رجح القراءة الأولى أوجب عدم الجماع حتى ينقطع الحيض وتغتسل الحائض. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع عند انقطاع الحيض بعد غسل الفرج فقط.

وثالثا : في جملة (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) فاختلف الفقهاء تبعا لاختلافهم في قراءة الجملة السابقة. فمن رجح القراءة الأولى أوجب الاغتسال الشرعي قبل الجماع وبعد انقطاع الدم. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع دون اغتسال شرعي. والجملتان تتحملان المذهبين غير أن الذي يتبادر لنا أن المذهب الثاني أكثر اتساقا مع فحوى الآية ، فهي تقرر أن المحيض أذى وتأمر بعدم قرب النساء أثناءه فإذا

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٠٤. وهناك أحاديث أخرى في مثل ذلك عن عائشة ، والمباشرة هي تماس البشرة بالبشرة والمداعبة البدنية ولو بالذكر دون الجماع.

٣٩٧

انقطع الدم انقطع الأذى وزال المانع. ولا يتوقف هذا على الاغتسال الشرعي ويكفي غسل الفرج والله تعالى أعلم.

وننبه على أن هناك أحاديث توجب كفارة مالية على من يواقع زوجته وهي حائض منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال : يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفي رواية أبي داود : «إذا أصابها في أوّل الدّم فدينار وإذا أصابها في آخره فنصف دينار» (١). وهناك من أخذ بهذه الأحاديث وهناك من أوجب الالتزام بالنهي القرآني وهو الاعتزال إلى أن يطهرن. والظاهر أن هؤلاء لم يثبت عندهم الأحاديث. وفي الأحاديث إذا صحت معالجة الحالة قد تكون اضطرارية وقد تفيد أن النهي ليس من قبيل التحريم وإنما من قبيل استهداف بيان ما في ذلك من أذى وقذارة ، والله تعالى أعلم.

ورابعا : في صدد جملة (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أقوالا منها أنها بمعنى آتوهن من فروجهن. أو أنها بمعنى آتوهن بعد أن أمركم الله باعتزالهن. وقد يكون التأويل الأول هو الأوجه والله أعلم.

وخامسا : في صدد جملة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تداولها بعض المؤولين على ما يرويه الطبري وغيره أنها تبيح للرجل إتيان زوجته على أي كيفية وفي أي وقت في الليل والنهار ، ومقبلة ومدبرة ومستلقية أو محبية أو على شق أو قاعدة أو قائمة على شرط أن يكون الإيلاج في الفرج وتجنب الدبر. وأولها بعض المؤولين بأنها تبيح للرجل إتيان امرأته من دبرها أو قبلها. وقد روى القول الثاني عن ابن عمر وروى عنه نقيضه أيضا. والجمهور على القول الأول ، وحديث ابن عباس عن مراجعة عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صريح بإيجاب اتقاء الدبر. وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد». وحديث

__________________

(١) التاج ج ١ ص ١٠٥.

٣٩٨

رواه أصحاب السنن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ملعون من أتى المرأة في دبرها». وهناك أحاديث أخرى وهذا ما يجعلنا نشك فيما روي عن ابن عمر بأنه أجاز إتيان المرأة في دبرها ونصدق ما روي عن إنكاره ذلك. وبالإضافة إلى هذه الأحاديث فإنه يتبادر لنا أن الآية لا تفيد غير ذلك فالحيض من القبل والنهي هو عن قرب النساء في الحيض ، وقد شبهت النساء بالحرث أي الأرض التي تزرع لتخرج ثمرا ، وهذا إنما يكون من القبل.

وليس في الأحاديث النبوية حدّ وعقوبة على من يأتي النساء من أدبارهن. وقد يصح أن يقاس هذا على اللواط وعقوبته على ما شرحناه وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق قصة لوط في سورة الأعراف شرحا يغني عن التكرار.

وقد يرد قول إن هذا قد لا يشمل الأزواج استنادا إلى مبدأ درء الحدود بالشبهات من حيث أن يكونوا أخذوا بتأويل من تأويلات جملة : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ومع أننا لا نرى ذلك فإن ما عليه من الأزواج يكونون على كل حال موضوع الإنذار النبوي الرهيب الذي وصمهم بالكفر ولعنهم. أما الأحاديث التي يستمد منها الفقهاء مبدأ درء الحدود بالشبهات فمنها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام لئن يخطىء بالعفو خير من أن يخطىء بالعقوبة» (١). وحديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» (٢). وحديث رواه ابن مسعود مرفوعا جاء فيه : «ادرأوا الحدود بالشبهات ، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» (٣).

هذا ، والسنّة المتواترة المجمع عليها أن الحائض تسقط عنها الصلاة وتفطر في رمضان على أن تقضي في غيره عدة الأيام التي أفطرتها. وهناك حديث رواه الخمسة عن معاذة قالت : «سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢١.

(٢) نيل الأوطار للشوكاني.

(٣) نيل الأوطار للشوكاني.

٣٩٩

الصلاة؟ فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (١). ويستتبع هذه السنّة سنّة أخرى مجمع عليها وهي أن على الحائض عند ما ينقطع الحيض عنها أن تغتسل قبل أن تصلي ، أي لا يكفي الوضوء لصلاتها ، وهناك حديث رواه الترمذي في صدد قراءة الحائض للقرآن عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» (٢).

وقد رأينا من المفيد أن نستطرد إلى عارضين ينزل فيهما الدم من قبل المرأة ، الأول يسمى الاستحاضة وينزل في غير وقت الحيض وأحيانا يستمر نزوله. وفي حديث رواه الخمسة عن عائشة حكم لهذا العارض حيث رووا أن عائشة قالت : «إنّ فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال : لا إن ذلك عرق وليس بالحيضة. ولكن دعي الصلاة بقدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلّي وفي رواية إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلّي وفي رواية الترمذي وتوضّئي لكلّ صلاة. وفي رواية أبي داود لتنظر عدّة الأيام والليالي التي كانت تحيض بهنّ من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلّي» (٣). وهناك حديثان آخران في ذلك منهما حديث رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت : «يا رسول الله إني أستحاض ، فقال لها : إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنما هو عرق». وروي الثاني عن أصحاب السنن أن حمنة بنت جحش قالت : «أتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها ، قد منعتني من الصلاة والصوم؟ قال : أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت : هو أكثر من ذلك؟

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ١ ص ١٠٨ وجملة (لتستثفر) أي تتحفظ بثوب بعد وضع شيء في الفرج يمنع سيلان الدم إلى الأرض.

٤٠٠