التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

قرآنيين شاملين محكمين. والمتبادر من صيغة الرواية أنها بسبيل شرح ما ينطوي فيهما من بعض حكمة التنزيل.

ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين حديثا عن أبي إدريس قال : «إنّ أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت هذه الآية فرفع يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشرّ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ما ترى مما تكره فهو بمثاقيل ذرّ الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير حتى تعطاه يوم القيامة». وحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «أنزلت (إِذا زُلْزِلَتِ) وأبو بكر قاعد فبكى فقال له رسول الله : ما يبكيك؟ قال : يبكيني هذه السورة ، فقال له : لو لا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم». فإذا صحّت الأحاديث فتكون الحكمة النبويّة قد توخّت تطمين المخلصين من المؤمنين في صدد ما قد يصدر منهم من هفوات والله أعلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «لما أنزلت (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قلت يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال : نعم ، قلت : تلك الكبار الكبار؟ قال : نعم ، قلت : الصغار الصغار؟ قال : نعم ، قلت : وأثكل أمي؟ قال : أبشر يا أبا سعيد فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ثم إلى سبعمائة ضعف ويضاعف الله لمن يشاء والسيئة بمثلها أو يغفر الله ولن ينجو أحد منكم بعمله إلّا أن يتغمدني الله منه برحمة».

فإن صحّ الحديث فتكون الحكمة النبوية قد توخت فيه التحذير من الكبائر والصغائر معا والتحذير كذلك من اعتداد الإنسان بأعماله ومنه على الله بها مع تأميل المؤمنين المخلصين في نفس الوقت بعفو الله ورحمته.

ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين كذلك حديثا عن عائشة قالت : «قلت يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم ويفعل ويفعل هل ذاك نافعه؟ قال : لا إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين». وحديث عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : «ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول

١٢١

الله إن أمّنا كانت في الجاهلية تقري الضيف وتصل الرحم هل ينفعها عملها ذلك شيئا؟ قال : لا». وحديث جاء فيه : «إن سلمان بن عامر جاء رسول الله فقال : إن أبي كان يصل الرحم ويفي بالذمة ويكرم الضيف ، قال : مات قبل الإسلام؟ قال : نعم ، قال : لن ينفعه ذلك. فولّى ، فقال رسول الله عليّ بالشيخ ، فجاء فقال له : إنها لن تنفعه ولكنها تكون في عقبه فلن تخزوا أبدا ولن تذلوا أبدا ولن تفتقروا أبدا». وحديث عن أنس جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة».

وهذه الأحاديث لم ترد بصيغها في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا لا يمنع صحّتها. وفحواها متّسق مع التقريرات والتلقينات التي انطوت في آيات عديدة والتي تنبّه على أن الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر شرط لا بد منه لنفع الأعمال الصالحة في الآخرة.

١٢٢

سورة البقرة

مقدمة للسورة

في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة ، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس. وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل الله والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل الله. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية ، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه.

وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز ، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها ، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات. وكل هذا

١٢٣

يسوغ القول إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى.

ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين ـ وزيد هو الذي تولّى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي كان من كتّاب وحي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع» وقد علق البيهقي على ذلك بقوله : يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها ، حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها.

وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا ، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا.

ولقد أثر حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» (٢) وحديث آخر جاء فيه : «إنّ ملكا نزل من السماء فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) انظر الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٦٠.

(٢) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة ، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج ٤ ص ١٣ و ١٤.

١٢٤

أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ منهما حرفا إلّا أوتيته» (١) حيث يدل هذا دلالة قوية بل قاطعة على أن هذه السورة قد تمّ تأليفها على الوجه الذي ورد في المصحف في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ما نعتقده بالنسبة لسائر السور الطويلة المدنية التي فيها فصول مختلفة المواضيع نزلت في ظروف مختلفة ومتباعدة.

ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في فضل سورة البقرة منها حديث جاء فيه : «لكلّ شيء سنام وإنّ سنام القرآن سورة البقرة» (٢). وهذا الحديث إذ يذكر سورة البقرة يدل أيضا على أنها كانت مؤلفة تامة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمجمع عليه أن تفوقها على غيرها في عدد الآيات والحيز من أسباب وضعها في أول المصحف بعد سورة الفاتحة التي وصفت بأنها مفتتح القرآن وبراعته الاستهلالية على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وليس من شأن هذا أن ينقض ما وضحناه من أن جعلها أولى سورة مدنية هو بسبب احتمال كون فصلها الأول هو أول فصول القرآن نزولا في المدينة ، والله تعالى أعلم.

تعليق على ترتيب السور في المصحف

وننبه بهذه المناسبة على أن علماء القرآن قالوا إن ترتيب سور القرآن في المصحف قد جاء حسب أطوالها. حيث قدمت السور المسماة بالطوال ثم ما عرف بالمئين ـ أي التي عدد آياتها في حدود المائة تزيد قليلا أو تنقص قليلا ـ ثم ما عرف بالمثاني ثم ما عرف بالقصار ثم ما عرف بالمفصل أي القصار جدا (٣).

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة ، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج ٤ ص ١٣ و ١٤.

(٢) انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير وغيره.

(٣) انظر أيضا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٦٠ ـ ٦٨. والمفصل هي السور القصيرة. وسمّيت كذلك لكثرة الفصل بينها. وهناك أقوال مختلفة في تعيين كل مجموعة من المجموعات الأربع ، منها أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة

١٢٥

ويروي المفسرون (١) حديثا عن ثوبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضّلني ربي بالمفصّل» (٢) وهذا الحديث لم يرد في الصحاح ، وصيغته لا تبعث الطمأنينة بصدوره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والملاحظ أن القول : إن سور القرآن رتبت على النحو المذكور آنفا أي الطوال فالمئين فالمثاني فالمفصل ليس دقيقا كل الدقة إلا بالنسبة لسورة البقرة فقط. فثانية السور في عدد الآيات هي سورة الشعراء مثلا غير أنها وضعت في عداد المثاني وبعد عدد كبير من السور التي منها ما هو أقل منها حيزا أي أقصر طولا فضلا عن كونه أقل في عدد الآيات مثل سورة الرعد وإبراهيم والحجر والفرقان والنور والمؤمنون والأنبياء والحج. وسورة الرعد وإبراهيم والحجر قد قدمت في الترتيب مع أن بعدها سورا كثيرة أكثر منها عدد آيات وأطول حيزا. ومثل هذا يلاحظ في سور عديدة أخرى في الطوال والمئين والمثاني والقصار والمفصل. ولما كنا نعتقد أن ترتيب السور في المصحف قد تم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبإرشاده وهو بمصطلح علماء القرآن توقيفي (٣) فنحن نعتقد أنه لا بد من أن يكون لهذا الترتيب حكمة وإن كانت قد خفيت علينا وعلى غيرنا.

هذا ، والذي نرجحه أن تأليف السور على الصورة التي شرحناها إنما هو بالنسبة للسور المدنية فقط وبخاصة للطوال والمئين والمثاني منها دون السور المكية. ففي السور المكية وحدة مواضيع وتشابه قوي في الفصول. وهي قاصرة على الدعوة ومبادئها وتدعيماتها المتنوعة والحجاج حول ذلك ، مما لا يقتضي أن ينزل فصل من سورة ثم يعقبه فصل من سورة أخرى قبل أن تتم فصول السورة التي

__________________

والأنعام والأعراف وقد ذكر الراوي أنه نسي السابعة. وهناك ما يذكر الأنفال والتوبة معا كسابعة وهناك ما يذكر سورة يونس كسابعة. والمئين بعد يونس إلى الكهف وبعدها المثاني. والمفصل يبدأ في رواية بالحجرات وفي رواية بسورة (ق) وفي رواية بسورة الضحى.

(١) انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.

(٢) انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.

(٣) انظر المصدر السابق.

١٢٦

قبلها. وهذا بالنسبة للسور الطويلة منها حتى التي فيها فصول تبدو غير مترابطة حيث إنها لا تخرج عما قلناه مما نبهنا عليه وأوردنا قرائنه في سياق تفسيرها. وهذا القول يكون أقوى بالنسبة للسّور الطويلة المسجعة منها التي تكون وحدة السبك والنظم فيها من دلائل هذه القوة. ويمكن أن يكون أقوى وأكثر بالنسبة للسور القصيرة والقصيرة جدا كما هو المتبادر باستثناء سورة العلق على التأكيد وسور القلم والمزمل والمدثر على الاحتمال ، على ما شرحناه في سياق تفسيرها. يضاف إلى هذا أن السور المكية كانت قد تمت نزولا في آخر العهد المكي (١).

ولا يتعارض هذا مع ما هو محقق من إضافة بعض الآيات المدنية إلى بعض السور المكية إذ أن هذه الآيات قد أضيفت إلى مناسباتها على ما شرحناه في سياقها في سور المزمل والأعراف والشعراء ، والله سبحانه وتعالى أعلم (١).

أما ما روي عن تدوين القرآن أو جمعه في زمن أبي بكر وعثمان (رضي الله عنهما) فليس ذلك جمعا وتدوينا وترتيبا جديدا. فالقرآن كان مدونا ومرتبا وكان لكثير من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصاحف. غير أن القرآن كان مفتوح الصحف لاحتمال نزول الوحي بقرآن جديد. فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعد هناك احتمال لذلك رأى أبو بكر وعمر وكبار الصحابة أن يكون هناك مصحف إمام ليكون المرجع لما قد يكون من خلاف في المصاحف المتداولة فكتب هذا المصحف الذي بذلت الجهود العظيمة في كتابته وقورن وقوبل كل ما كان متداولا مخطوطا ومحفوظا من القرآن بسبيل ذلك (١).

غير أن هذا على ما يظهر لم يحل المشكلة ، لأن المسلمين كثروا وتفرقوا في البلاد وكانوا يكتبون مصاحفهم بخطوطهم. وكان يقع تباين في الكتابة وصار الناس في زمن عثمان (رضي الله عنه) يقرؤون قراءات متباينة نتيجة لذلك فرأى بعض كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلافيا لذلك أن يكتب المصحف من جديد بإملاء واحد

__________________

(١) انظر كتابنا القرآن المجيد ص ٥٢ ـ ١١٢ ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.

١٢٧

وخط واحد فتم ذلك ونسخ من هذا المصحف الجديد نسخ عديدة أرسلت إلى العواصم الإسلامية وأمر الناس بنسخ المصاحف عنها وإحراق ما هو متداول بين الأيدي من المصاحف المتباينة في الخطوط فكان هذا مما حفظ القرآن سليما على مدى القرون وتحققت به المعجزة القرآنية المنطوية في آية سورة الحجر هذه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [٩] (١). ولقد أوردنا ما يورد على ذلك وشرحنا الأمر شرحا يضعه في نصابه الحق إن شاء الله في سياق تفسير الآية المذكورة.

__________________

(١) اقرأ كتابنا القرآن المجيد ص ٥٢ وما بعدها. ونستطرد إلى القول إنه لا يعرف على وجه اليقين أن في الدنيا اليوم مصحفا من المصاحف التي نسخت عن المصحف الذي كتب بأمر عثمان وأرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ولقد جاء في الجزء الأول من الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى خبر عن النسخة التي أرسلت إلى دمشق من هذه النسخ حيث روى المؤلف أن أبا القاسم التجيبي السبتي قال إنه رآها وعاينها في سنة ٦٥٧ هجرية في مقصورة جامع بني أمية في دمشق المعروفة بقبة الشراب. ولقد نقل مؤلف الاستقصاء أيضا قولا للخطيب بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن جاء فيه : إني اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطهما واحدا وقد كتب على ظهر المدني : هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وغيرهم ممن أشرف على تدوين هذا المصحف وقد روى المؤلف أن عبد المؤمن نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش سنة ٥٥٢ هجرية وصنع له كسوة من السندس المزركش بالذهب والفضة والمرصعة بأنواع الحجارة الكريمة واتخذ للحمل كرسيا على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوتا يصان فيه (الجزء الأول من الاستقصاء ص ٥٠) وليس من الممكن أن يجزم أن نسخة قرطبة كانت أصلية لأنها لم تكن من عواصم الإسلام التي أرسل إليها النسخ في زمن عثمان (رضي الله عنه).

١٢٨

سورة البقرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) [١ ـ ٥].

بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم وهي هنا للاسترعاء والتنبيه أيضا على ما رجحناه في أمثالها. وقد أعقبت الحروف إشارة تنبيه وتنويه إلى القرآن جريا على الأسلوب القرآني في معظم السور المبدوءة بالحروف المتقطعة.

وتعتبر (ذلِكَ الْكِتابُ) وإن كان قد يفيد من الوجهة الموضوعية ما نزل من القرآن إلى حين نزول الآية ، غير أنه يجب أن يعتبر تعبيرا شاملا لجميع القرآن ما نزل منه وما سوف ينزل بعده كما هو المتبادر. وبعضهم يقف عند استعمال (ذلِكَ) ويقول : إن هذا للبعيد ولا يفيد أن القصد هو القرآن ، وهذا تمحل لا مبرر له ، فصيغة الآيات ومحتواها فيها الدلالة على أن المقصود هو القرآن الكتاب الذي يتلى على الناس.

وقد تضمنت بقية الآيات : تقرير كون القرآن هدى للذين يتقون الله ويرغبون في رضائه ، والذين يؤمنون بما يسمعون فيه من الحقائق المغيبة عنهم ولو لم تدركها حواسهم أو يقم دليل مادي عليها لأنهم يؤمنون بأن القرآن من عند الله وهو الذي يخبر بها ، والذين يقيمون الصلاة لله وينفقون مما رزقهم في وجوه البر ،

١٢٩

والذين يؤمنون بما أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل كذلك على الأنبياء من قبله ، والذين يوقنون بالحياة الآخرة وحسابها وجزائها. فهم السائرون في سبيل الله القويم وعلى هداه ، وأنهم لهم الناجون الفائزون.

والآيات احتوت بيان الصفات التي يجب أن تتحقق في المؤمن الصالح وبشرى وتنويها لمن يتصف بها. وقد انطوت ـ كما هو المتبادر ـ على التنويه بالذين كانوا يؤمنون بالله ورسوله حين نزوله. وانطوت إلى هذا على تقرير كون كتاب الله إنما هو هدى لذوي النيات الحسنة الذين يراقبون الله ويتّقونه ويرغبون في رضائه.

وما تقرره هذه الآيات قد تكرر في الآيات المكية ، غير أنه جاء هنا قويا محبوكا.

ولقد رجحنا في مقدمة السورة أن هذه السورة اعتبرت أولى سور القرآن نزولا لأن فصلها الأول هو أول القرآن المدني نزولا. وبدء هذا الفصل بالحروف المتقطعة يدل على أن هذه الآيات هي مطلع السورة ، وتكون ـ والحالة هذه ـ أولى الآيات نزولا في المدينة والله أعلم.

وتعليقا على جملة : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) نقول إن الله أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في آية سورة الشورى [١٥] وآية سورة العنكبوت [٤٥] بإعلان إيمانهم بما أنزل الله من كتاب فجاءت هذه الجملة لتقرر اتباع المؤمنين لهذا الأمر واتصاف المؤمن به.

ولقد بينا ما ينبغي أن تكون عليه العقيدة الإسلامية المنطوية في هذا الأمر بالنسبة للكتب المتداولة اليوم بين أيدي الكتابيين من نصارى ويهود في سياق تفسير سورتي الشورى والعنكبوت فلم نر ضرورة للإعادة أو الزيادة.

ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن جملة (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) عنت مؤمني أهل الكتاب. غير أن هناك مؤولين كثيرين قالوا إنها عنت المؤمنين بالرسالة المحمدية إطلاقا لأنهم أمروا بالإيمان

١٣٠

بكتب الله المنزلة على الأنبياء السابقين فآمنوا ، ونرى هذا هو الأوجه وقد أخذنا به في شرح الآيات.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)) [٦ ـ ٧].

في الآيتين تقرير بأن الكفار لا يؤمنون سواء أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم لأن قلوبهم مغلقة عن فهم الحق ، وآذانهم مسدودة عن سماعه ، وأبصارهم معمية عن رؤية نوره ، وقد استحقوا من أجل ذلك عذاب الله العظيم.

ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أنهما جاءتا استطرادا تعليليا لموقف الكفار ومكابرتهم وللمقابلة بين موقفهم وموقف المتقين الذين اهتدوا بهدى القرآن. فهؤلاء ذوو رغبة صادقة في الهدى يخشون الله فآمنوا وصدقوا حينما سمعوا القرآن ورأوا أعلام الحق ، في حين انفقدت النية الحسنة والرغبة الصادقة في الكفار فكأنما انغلقت قلوبهم وسدت آذانهم وعميت أبصارهم.

ومضمون الآيتين تكرر في مواضع عديدة من القرآن المكي ، وقد أولناه هنا بما أولنا به ما يماثله في المواضع المكية ؛ لأن هذا هو المتسق مع روح القرآن وتلقينه ومضامينه ثم مع الإنذار بالعذاب العظيم للكفار ؛ ثم مع تعبير (الَّذِينَ كَفَرُوا) الذي هو صريح بصدور الكفر عنهم.

وفي آيات سورة يس هذه توضيح وتأييد : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)) حيث تضمنت كون الكافرين هم الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم ، وكون المؤمنين هم الذين رغبوا في اتباع الحق وآمنوا بالله واستشعروا خوفه.

١٣١

هذا ، وننبه هنا بهذه المناسبة إلى ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليس هو على سبيل التأييد لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه إنما يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار.

وللشيخ محيي الدين بن العربي تفسير للآيتين جاء فيه : «يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم فيّ. دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك ، لأنهم لا يعقلون غيري. وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه. وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي. أردهم بعد هذا المشهد السّنيّ إلى إنذارك وأحجبهم حتى كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى. أنزلتك إلى من يكفر بك ، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك ، فهكذا رضائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم» (١).

وفي هذا من الشطح الذي يقلب به معاني العبارة القرآنية ويبتعد بها عن معناها ودلالتها القطعية ما هو ظاهر أيضا.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما

__________________

(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ١٣ عزوا إلى تفسير ابن العربي المعروف بالفتوحات.

١٣٢

نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)) [٨ ـ ١٥]

(١) السفهاء : هنا بمعنى قاصري العقل والفهم والتمييز.

(٢) شياطينهم : الذين يوسوسون لهم ، والمتفق عليه أن المقصود هم اليهود.

يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم : فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين ، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم ، لأن الله يعرف حقائقهم ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثا ومرضا واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نصحوا ونهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه ، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين ، ونعتوهم بالسفهاء وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم ، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم إننا مؤمنون ، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم وأن ما يتظاهرون به ليس إلّا من قبيل الهزء والسخرية ، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.

والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين. لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس

١٣٣

إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون ، والمنافقون الكاذبون المخادعون.

والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات ، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها ، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صورا كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين ، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته. ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب ، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.

ولقد ذكر المفسرون (١) أن كلمة (شَياطِينِهِمْ) مصروفة إلى اليهود ، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات ، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر ، حتى ولو كانوا زعماءهم ، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية ، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)) (٢) وآيات سورة محمد هذه : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)) (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

(٢) المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.

(٣) هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [١٤] وسورة الحشر [١١] وسورة المائدة [٥٢ ـ ٥٣].

١٣٤

وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلّا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.

ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدر من بعض الناس في كل زمن ومكان.

ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها (١). ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة ، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) هي في معنى (ندعهم مستمرين فيه) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب (يضل الله الظالمين) وجملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية ، ومن باب (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤]. فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.

تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها

إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

__________________

(١) انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.

١٣٥

المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب (المدينة المنورة) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها ، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليهما معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة. وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم (١). وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلبا مع عبد الله بن أبيّ وزمرته. وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو في الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة ، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وإن رأوا خطرا تحايدوا وابتعدوا.

ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج ، إذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٣٥ و ٣٣٦.

١٣٦

قوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين. ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في موقف من المواقف (١). وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون ، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) وآيات سورة التوبة هذه : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)) وآية سورة التوبة هذه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)) وآية سورة التوبة هذه : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)). وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية ، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلّا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في بعض الأحيان.

وكل هذا جعلهم مدموغين بالنفاق وموضع سخط الله ورسوله وجمهور المؤمنين وغضبهم ونقمتهم ومستحقين للدرك الأسفل من النار إلّا إذا تابوا على ما جاء في آية سورة النساء [١٤٥].

ويورد في صفات النفاق والمنافقين أحاديث نبوية منها ما ورد في كتب الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

١٣٧

اؤتمن خان» (١). وحديث رواه الأربعة أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من نفاق حتى يدعها. إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» (٢). والصفات حقا جماع من المنكرات الأخلاقية. والأحاديث تنطوي على التحذير منها وحثّ على تجنب الصفات التي تدمغ صاحبها بدمغة النفاق. ونرى أن ننبه بهذه المناسبة على أن المنافقين الذين نددت بهم الآيات التي نحن في صددها والآيات الكثيرة الأخرى هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر على ما تلهم نصوص الآيات وعلى ما يقرره جمهور العلماء والمفسرين. وقد يصح أن يقال على ضوء ذلك إن من يتصف بالصفات المذكورة في الأحاديث ، ولا يكون مستحلا لها من جهة ، ويكون مؤمنا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر إيمانا صادقا من جهة أخرى لا يكون من مشمول تلك الآيات. ويكون قد ارتكب كبيرة يعاقب عليها ولا يخلد بها في النار إذا لم يتب ويصلح والله تعالى أعلم.

ونكتفي بهذا القدر من التعليق تاركين شرح صور أفعال المنافقين وأقوالهم ومواقفهم إلى مناسبة الآيات الكثيرة الواردة فيهم في السور التالية لهذه السورة.

تعليق على رواية في صدد الآية [١٤]

ولقد ذكر المفسر الخازن عزوا إلى ابن عباس أن الآية [١٤] نزلت في عبد الله ابن أبيّ وأصحابه المنافقين ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عبد الله لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤١.

(٢) المصدر نفسه.

١٣٨

الله ، ثم أخذ بيد علي فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله ، فقال له علي : اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى ، فقال : مهلا يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ، ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيرا.

والصنعة قوية البروز على الرواية لأن هذه الأوصاف التي وصف بها الثلاثة (رضوان الله عليهم) إنما صاروا يوصفون بها بعد مدة طويلة من الهجرة إن لم نقل بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وبعد وفاتهم. ويخيل إلينا أنها حيكت لإبراز علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه هو وحده الذي فطن لنفاق المنافق ، والرواية بعد تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة انسجاما قويا في الفصل يدل على أنها نزلت مع آيات الفصل دفعة واحدة.

والذي نرجحه أن ما حكته الآية كان يقع من المنافقين عموما حينما كانوا يلتقون بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين منهم خاصة وبغير أقاربهم الذين يمكنهم أن يتبسطوا معهم فجاء في الآية وصفا عاما من أوصافهم ومواقفهم.

تعليق على روايات الشيعة في صدد

الآيات عامة

ومفسرو الشيعة (١) يروون روايات في سياق هذه الآيات عزوا إلى بعض أئمتهم مفادها أن هذه الآيات نزلت في الذين وافقوا على وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بولاية علي بن أبي طالب في حياة النبي بأفواههم دون قلوبهم ثم نقضوا ذلك وصرفوا الخلافة عنه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وطابع التزوير والكذب بارز على الروايات التي تنسب النفاق بل الكفر والعياذ بالله ومخالفة رسول الله إلى الجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من

__________________

(١) انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٨٥ و ٨٦.

١٣٩

أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين سجل الله رضاءهم عنه في الآية [١٠٠] من سورة التوبة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن. وحاشاهم أن يكونوا كذلك ، ولا نستثني الروايات من الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله السابقين الأولين إلا بضعة أشخاص مع أن من الأمور اليقينية التي لا يكابر فيها الشيعة أن عليا والذين استثنوهم (رضي الله عنهم) بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة الأولين وتعاونوا معهم. ولو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصى بالولاية والخلافة بعده لعلي لكان هذا منهم مخالفة لوصيته وكفرا لأن الله أمر المؤمنين بطاعة رسوله وأخذ ما آتاهم والانتهاء عما نهاهم عنه وحاشاهم أن يفعلوا.

تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير

في سياق جملة (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ)

من تقرير كون النساء سفهاء

إن كلمة السفهاء جاءت قبل هذه الآية في الآية [١٥٥] من سورة الأعراف وصفا من موسى عليه‌السلام لبعض قومه لأنهم طلبوا منه مطالب تعجيزية منها رؤية الله تعالى جهرة على ما فسره المفسرون وتؤيده آيات أخرى ، هذا أولا. وثانيا إن المفسرين متفقون على أن معنى الكلمة هم ناقصو العقل والرشد والتمييز مطلقا. وثالثا إنهم رووا عن أهل التأويل أن المنافقين قصدوا بالكلمة المحكية عنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبخاصة الأرقاء والضعفاء.

ومع ذلك فإن بعض المفسرين قالوا إن الكلمة هنا تعني النساء والصبيان وأوردوا في مناسبة ذلك قولا معزوا إلى ابن عباس وابن مسعود في صدد آية سورة النساء هذه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أن الله عزوجل (سمى النساء والصبيان سفهاء) للتدليل على كونها هنا أيضا عنت النساء لأن بعضهن آمن بالله ورسوله.

وواضح بادىء الأمر أن ذكر النساء في سياق الآية مقحم ، ثم إن قول ابن

١٤٠