التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

وفي القرآن آيات أخرى منها ما هو حكاية عن أم مريم قبل الإسلام وهي آية سورة آل عمران هذه : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)) وفي هذه الآية ، كما في آية مريم بيان لمدى النذر في نطاق ما قلناه. ومنها ما فيه ثناء على الأبرار الذين يوفون بالنذر. ويمكن أن يكون شاملا للمؤمنين المخلصين قبل البعثة النبوية وبعدها ، وهي آية سورة الإنسان هذه (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)) ، ومنها ما ينطوي فيه إقرار للنذر في الإسلام وإيجاب للوفاء به ووعد بالثواب عليه ، وهي آية سورة البقرة هذه : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)).

ولقد أثرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث عديدة في النذر وردت في كتب الأحاديث الصحيحة (١) ، فيها دلالة على شيوع النذر عند العرب وتشريع لما سكت عنه القرآن في موضوعه ، ولا يجزىء إيراد بعضها لأن فيها صورا متنوعة وتشريعات وتلقينات متنوعة تبعا لها فرأينا إيرادها كلها على كثرتها :

١ ـ عن ابن عمر قال : «نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النذر ، وقال إنّه لا يردّ شيئا ولكنّه يستخرج به من البخيل».

٢ ـ عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ولكنّ النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج». روى الحديثين البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي.

٣ ـ عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» رواه الخمسة إلّا مسلما.

٤ ـ عن عمران بن الحصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خيركم قرني ثم الذين

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ٧٣ ـ ٧٨.

٤١

يلونهم ، لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السّمن» رواه البخاري والنسائي.

٥ ـ جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح فقال يا رسول الله : «إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلّي في بيت المقدس ركعتين ، قال : صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال : صلّ هاهنا ثم أعاد عليه فقال : شأنك إذا ، وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحقّ لو صلّيت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس». رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه.

٦ ـ وأتت امرأة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ قال : أو في نذرك. قالت : إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال : لصنم قالت : لا ، قال : لوثن قالت : لا ، قال : أوفي بنذرك. رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح.

٧ ـ عن ابن عباس قال : «استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أمّه توفّيت قبل قضائه فقال رسول الله فاقضه عنها» رواه الخمسة.

٨ ـ وعنه أن رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبيّ لو كان عليها دين أكنت قاضيه ، قال : نعم ، قال : فاقض الله فهو أحقّ بالقضاء». رواه البخاري والنسائي.

٩ ـ وعنه أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم شهرا فنجّاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت ابنتها أو أختها إلى النبيّ فأمرها أن تصوم عنها. رواه أبو داود والنسائي.

١٠ ـ وعنه «بينما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم فقال النبيّ مره فليتكلّم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه. رواه الخمسة.

٤٢

١١ ـ عن أبي هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكّأ عليهما فسأل ما شأنه قال ابناه : يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال اركب أيّها الشيخ فإنّ الله غنيّ عنك وعن نذرك. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

١٢ ـ عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك. رواه أبو داود والنسائي.

١٣ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به. رواه أبو داود.

١٤ ـ عن كعب بن مالك قال : إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبيّ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وفي رواية أنه قال له يجزي عنك الثلث (١).

١٥ ـ عن عمر بن الخطاب قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوف بنذرك فاعتكف ليلة. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود (٢). وقد روي أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة تذكر أنها نذرت نحر ابنها عند الكعبة إن هي فعلت أمرا ففعلته وتستفتي في وفاء نذرها فقيل لها إنّ الله قد حرّم ذلك وإنّ عليها أن تقدّم فدية كما فعل عبد المطلب جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وفي كل حديث من الأحاديث النبوية كما قلنا تشريع وتلقين وحكمة. ولا

__________________

(١) كعب هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر عن غزوة تبوك وتاب الله عليهم في آية سورة التوبة هذه (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)).

(٢) هذا الحديث في الجزء الثاني من التاج ص ٩٦.

(٣) تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٥ ص ٢٠٠.

٤٣

تعارض فيها. فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه. ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)) [٣٠ ـ ٣١]

(١) حرمات الله : قيل إنها ما حرّم الله هتكه ونقضه بصورة عامة. وقيل إنها المحرّمات المتصلة بتقاليد الحجّ وهي : المسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والصيد في الحرم ، والأشهر الحرم ، والهدي الذي يهديه الحجّاج من الأنعام قربانا لله. وكلا القولين وجيه. ونحن نرجّح القول الأول ؛ لأننا نراه يتسق أكثر مع روح الآيات.

في هاتين الآيتين :

١ ـ تعقيب على الآيات السابقة : ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه.

٢ ـ واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة ، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن.

٣ ـ وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك ، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا ، فإن مثل

٤٤

من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطّم وتتمزق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة.

والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة.

والمتبادر أن تعبير (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني إلّا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح.

وقد قال المفسرون (١) في صدد تعبير (قَوْلَ الزُّورِ) إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحجّ (لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك) ، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحجّ قد يدلّ على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عزوجل (لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

تعليق على الأمر باجتناب قول الزور

على أن بعض المفسرين (٢) أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته ، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور ، وشهادة الزور ، وأوردوا في صدد ذلك وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا فقال : «أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

٤٥

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت» (١).

وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال إن جملة (قَوْلَ الزُّورِ) هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا.

ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة ، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة ، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك.

استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ

قبل فتح مكة

والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة ، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات (٢). وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج ، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك ، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.

__________________

(١) وردت هذه الصيغة في التاج معزوّة إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود معا. انظر ج ٣ ص ١١١.

(٢) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج ٥ ص ٧٥ وما بعدها.

٤٦

دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام

وورود تعبير (حُنَفاءَ لِلَّهِ) في هذه المناسبة قرينة قد تكون حاسمة على أن تعبيري (حَنِيفاً) و (حُنَفاءَ) ليسا كما وهم المستشرقون بمعنى نحلة معينة خاصة قبل البعثة على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس ، وإنما هما تعبيران لغويان بمعنى الميل عن الشرك والوثنية إلى الله. لأن (حُنَفاءَ) هنا أطلقت على المسلمين أو حثتهم على التمسك بكل مظاهر التوحيد وعدم الانحراف عنها إلى أي مظهر من مظاهر الشرك.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)) [٣٢ ـ ٣٣]

(١) محلّها : المكان الذي يحلّ فيه نحرها وهو الكعبة التي عبر عنها بتعبير (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

قال المفسرون (١) في صدد كلمة (شَعائِرَ) استنادا إلى الروايات واستلهاما من القرينة التي احتوتها الآية الثانية : إن العرب كانوا يجرحون بهيمة الأنعام التي يسوقونها هديا إلى الحجّ لتكون قربانا جرحا خفيفا ، فيسيل دمها ويكون ذلك علامة على أنها قد خصصت قربانا فيتحاشاها الناس. وإنهم كانوا يسمّون هذه العملية (إشعارا) و (شعيرة) ويسمّون الأنعام المعلّمة بهذه العلامة (شعائر). ورووا عن أصحاب رسول الله وتابعيهم في تأويل (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أن تعظيمها هو استسمانها واختيار الصالح السليم دون الهزيل والمشوّه (٢). ورووا في هذا المعنى أحاديث عديدة ، ففي تفسير ابن كثير رواية

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير.

(٢) انظر الطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم.

٤٧

البخاري عن أبي أمامة قال : «كنّا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون». وحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن علي (رضي الله عنه) قال : «أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحّي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء» (١). وحديث رواه الأئمة أنفسهم جاء فيه «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نضحّي بأعضب القرنين أو الأذن» (٢). وحديث رواه الأئمة أنفسهم عن البراء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها والعرجاء البيّن عرجها والكسيرة التي لا تتقى». ومع ذلك فإن البغوي قال : «وقيل إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة». ومع أن هناك آيات مؤيدة لهذا القول مثل آية سورة البقرة هذه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)) ، وآية سورة المائدة هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)) ، فإن الآية التي تأتي بعد الجملة تجعل التأويل الأول هو الأوجه في مقامها. ولقد روى المفسرون في تأويل (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أن في الجملة إباحة للانتفاع من الأنعام المعدّة للتضحية في المدة التي تنقضي بين إشعارها ونحرها ، مثل شرب حليبها وجزّ صوفها ووبرها وتحميلها وركوبها والاحتفاظ بما تلده. ورووا في تأويل جملة (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أن في الجملة تعيين المكان الذي يحلّ أن تنحر فيه الشعائر ، وهو الكعبة أو منطقتها أو فناؤها وفي هذه التأويلات السداد والصواب.

__________________

(١) المقابلة التي قطع مقدم أذنها والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها والشرقاء التي قطعت أذنها طولا والخرقاء المخروقة الأذن.

(٢) الأعضب المكسور.

٤٨

والآيتان متصلتان بالسياق والموضوع كما هو واضح. واحتمال مكيتهما ومدنيتهما واردان تبعا لورودهما في سياق واحد مع الآيات السابقة التي تحتمل ذلك كما هو المتبادر.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)) [٣٤ ـ ٣٥]

(١) منسك : على وزن مفعل بمعنى محلّ نسك أو واجب نسك. ومن معاني النسك في اللغة القربان. وقد ورد بهذا المعنى في آية سورة البقرة هذه : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [١٩٦].

(٢) المخبتين : المتواضعين أو الخاشعين أو الخاضعين. وقيل إنها بمعنى المطمئن أيضا والمعاني الأولى أوجه ويؤيدها آية سورة هود هذه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)).

وفي هاتين الآيتين :

١ ـ تنبيه على أن الله تعالى قد أوجب على كلّ أمة واجبات في صدد ذبح القرابين أمكنة وأشكالا ، ليذكروا اسمه عند ذبح الأنعام شكرا له على تسخيرها لهم.

٢ ـ وتعقيب على هذا التنبيه : فإن إله الناس جميعا هو واحد لا يصحّ عليه التعدد ، وإن من واجبهم الإسلام والإخلاص والخضوع له.

٣ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبشير المخلصين الخاضعين الذين إذا ذكروا الله استشعرت قلوبهم هيبته ، وإذا ما أصابتهم مصيبة صبروا وتحمّلوا والذين يواظبون على إقامة الصلاة له والإنفاق مما رزقهم.

٤٩

والآيتان استمرار في السياق والموضوع أيضا كما هو واضح. ويبدو أنهما استهدفتا بيان كون ما أوجبه الله في الآيات السابقة من حدود وواجبات ليس بدعا وإنما هو سنّة سنّها الله لكل أمة وأوجبها عليهم. وإن هذا متّسق مع بديهة وحدة الله وعدم تعدده. واستهدفتا كذلك الحثّ على التزامها وممارستها خالصة لوجهه. والتنويه بالمؤمنين الصالحين الخاضعين له الملتزمين لحدوده المعظمين لحرماته القائمين بواجباتهم نحوه المنفذين أوامره بالإنفاق مما رزقهم.

ولعلّ سؤالا أورد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعلّق بالقرابين فرعيا أو أصليا فاقتضت الحكمة تنزيل الآيتين في سياق متصل بالقرابين.

واحتمالا مدنية الآيتين ومكيتهما أيضا واردان لأنهما والآيات السابقة سلسلة واحدة في موضوع واحد.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)) [٣٦ ـ ٣٧]

(١) البدن : جمع بدنة. وهي الإبل والبقر من الأنعام التي تقرّب قربانا وسمّيت كذلك لعظم جثتها أو بدنها.

(٢) صوافّ : صافات أقدامهن وأيديهن ، أي واقفات وقرئت صوافن بمعنى عقل إحدى يديها وإبقائها قائمة على اليد الثانية والرجلين. وقرئت صوافي بمعنى صافية خالصة لله تعالى.

(٣) وجبت : سقطت أو انطرحت أو سكنت أنفاسها ، أو بمعنى ماتت بعد الذبح.

(٤) القانع : المحتاج المتعفف عن الطلب.

٥٠

(٥) المعترّ : المحتاج الذي يطلب.

في الآية الأولى :

١ ـ تنبيه موجّه للمسلمين على أن الله تعالى قد جعل الإبل والبقر المسمّاة بالبدن مما يصحّ أن تكون شعائر له ، أي أن تعلم بالدم وتنذر لتكون قرابين له ، وأن لهم فيها خيرا وبركة.

٢ ـ وبيان بكيفية ذبحها والتصرف فيها حيث تنحر وهي صافة أي قائمة مع ذكر اسم الله. وحينما تنطرح على الأرض يتمّ ذبحها ثم توزع لحومها فيأكل منها صاحبها ويطعم المحتاجين سواء منهم المتعفف أو السائل.

٣ ـ وتنبيه على أن الله إنما سخّرها لهم وأحلّها على هذا الوجه ليشعروا بفضله ورحمته ويشكروه عليهما.

وفي الآية الثانية :

١ ـ تنبيه على أن الله تعالى ، وهو يوجب عليهم واجب القربان له ، إنما يتوخّى آثاره في قلوبهم وحملهم على التزام حدوده وأوامره. وأنه لا ينتفع بلحوم القرابين ولا بدمائها ، وأنه إنما سخّرها لهم وبيّن لهم تلك الحدود والواجبات في شأنها ليشكروه ويعظّموه على هدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الأقوم.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبشير الذين يحسنون أداء الواجبات المفروضة عليهم ويتحرون أحسن الطرق لأدائها.

والآيتان كذلك استمرار في السياق والموضوع ، واحتمالا مكيتهما ومدنيتهما واردان لأنهما من السلسلة.

وروحهما تلهم أنهما احتوتا حثّا على تخصيص البقر والإبل بالتعليم بالدم وعلى تفضيلهما ، ولعلّ العرب كانوا يعلّمون الغنم بالدم أيضا فنبّه المسلمين إلى ما هو الأفضل والأنفع.

وقد قال المفسرون إن العرب لم يكونوا يأكلون من لحم البدن التي يقربونها

٥١

فأحلّت جملة (فَكُلُوا مِنْها) ذلك للمسلمين كما قالوا مثل هذا في المناسبة السابقة وهو وجيه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالأكل هو على سبيل الرخصة والإباحة وحسب.

تعليق على جملة

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)

وقد قال المفسرون في صدد هذه الجملة ، واستنادا إلى الروايات ، أن العرب كانوا يلطّخون جدران الكعبة بدماء القرابين. وأن هذه الجملة لصرف المسلمين عن هذه العادة الجاهلية. ولا نستبعد ذلك ، كما أنه ليس من المستبعد أن تكون تعبيرا أسلوبيا لبيان كون هدف وصايا الله وحدوده في شعائر القرابين وغيرها ، إنما هو إثارة التقوى في قلوب عباده حتى يجتنبوا الآثام والمحظورات ويقبلوا على الأعمال الصالحة المفيدة.

ومهما يكن قصد الآية ، فإنها قد احتوت تنبيها بليغا فيه إشارة إلى جوهر وهدف الشريعة الإسلامية. فالله لا ينتفع بصلاة الناس ولا بصومهم ولا بقرابينهم ولا بتوجيه وجوههم قبل مشرق أو مغرب. وإنما يتوخّى من كل ما يأمر به من هذه الأشكال إثارة التقوى في قلوبهم ، وحملهم على تحرّي الخير والبرّ والعمل الصالح ، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا جاء فيه : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وهذا الحديث ورد في التاج معزوّا إلى أبي هريرة ومن رواية مسلم وابن ماجه وبفرق هو بدل ألوانكم أموالكم (١). وينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين المنطوي في الآية كما هو واضح.

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٤٧.

٥٢

تعليق على خطورة أمر القوانين

قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عليها

هذا ، وتكرر الكلام حول القرابين بالصورة التي ورد بها ، يلهم أنه كان لها في موسم الحجّ قبل البعثة خطورة عظمى ، لعلّ من أهمها ما كان من انتفاع جماهير العرب الفقراء المحرومين من لحومها وجلودها. ومن هنا نلحظ حكمة إبقاء هذه العادة في الإسلام مع تنقيتها من مظاهر الشرك ذبحا ومكانا ومع التخفيف في أمر التصرّف بلحومها والانتفاع بها ، وتوسيع دائرة هذا الانتفاع حتى شمل أصحاب القرابين والفقراء والمحتاجين سواء منهم المتعففون والسائلون ، وهذا كله متّسق مع أسلوب التشريع القرآني الذي له علاقة بالتقاليد السابقة بوجه عام. ولقد جاء في سورة المائدة هذه : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [٩٧]. والهدى والقلائد هي ما كان يقدم من الأنعام قرابين لله في موسم الحج. وقد سلكت الآية ذلك في عداد البيت الحرام والشهر الحرام ونوّهت بما كان في كل ذلك من أسباب حياة الناس.

هذا ، وهناك بيانات ومأثورات في صدد مناسك الحجّ المختلفة ، رأينا أن نؤجّل إيرادها وشرحها إلى مناسبة أكثر ملاءمة ، وهي آيات سورة البقرة التي فيها تشريع الحجّ ومناسكه.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا

٥٣

الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)) [٣٨ ـ ٤١].

(١) خوّان : صيغة مبالغة من الخيانة.

(٢) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا : أي قرّر الله بأن الذين يقاتلون من المؤمنين هم في موقف المظلوم ، أو أذن لهم أن يقابلوا بالمثل لأنهم في موقف المظلوم.

(٣) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ : المتبادر أن الجملة هي بمعنى الذين ألجئوا أو اضطروا إلى الخروج لشدّة الأذى والاضطهاد والضغط.

(٤) صوامع : جمع صومعة ، وهي مكان عبادة كان يتخذه رهبان النصارى في الأماكن المنعزلة.

(٥) بيع : جمع بيعة ، وكانت تطلق على كنائس النصارى.

(٦) صلوات : تعريب صلوتا العبرانية التي تعني معابد اليهود.

في هذه الآيات :

١ ـ تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم ، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته.

٢ ـ وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلّا إعلانهم بأن ربّهم هو الله ، هم في موقف المظلوم المبغى عليه. وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له.

٣ ـ وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي : فلو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض ولما ذكر الله أحد ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.

٥٤

٤ ـ وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحقّ والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوّة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

٥ ـ وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره : فإن كل شيء مسيّر بأمر الله ، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله.

تعليقات على الآية

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)

والآيات الأربع التالية لها

والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقلّ. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فممّا رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل أو قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي : «قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال ، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال». ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة : «قال ابن عباس لما أخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ، فقال

٥٥

أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون» (١). ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا (٢) ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه ، لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها.

ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنيّة. ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال.

والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون ، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة ، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح ، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان ، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان.

وإذا صحّ ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها.

ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات ، فإنّ من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم ، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا ، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٦١.

(٢) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.

٥٦

إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة صحة احتمال مكيتها ، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين ، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حين ما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون ، والله أعلم.

وروايات السيرة (١) تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر ، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة ؛ لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم.

وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)) وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة (٢) ، فأخذ المشركون يشغبون على النبي والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية ، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢١٧].

وننبّه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات ؛

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٣ ـ ٤٩.

(٢) المصدر نفسه.

٥٧

حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة.

ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى ، فقال الطبري إن جملة (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكرا. وقال ابن كثير : قال بعض العلماء إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح. وقال البغوي إن معنى الجملة (لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه ، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم ، وفي زمن محمد مساجد المسلمين. وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال : إن المعنى لو لا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم ، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما ، مع القول إن كلام الزمخشري أكثر قوّة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب من عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم ، لو لا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كلّ وقت ومكان. والله تعالى أعلم.

التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات

ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة ، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظلّ الإسلام من صورة فاضلة حيث انطوى فيها :

١ ـ تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع ، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.

٥٨

٢ ـ وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحقّ والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع.

٣ ـ وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم.

٤ ـ وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى فيه استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار ، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستعباد وإنما يتوخّى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين والمحرومين مما يتحقق به العدل الاجتماعي ، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس ، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل.

وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص ، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه الله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم ، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها

٥٩

أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)) [٤٢ ـ ٤٦].

(١) خاوية : ساقطة أو خارّة.

(٢) عروشها : قال الزمخشري في الكشاف كل مرتفع أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش. وجملة (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) بمعنى خرّت سقوفها على الأرض.

(٣) معطلة : متروكة لا يرد الورّاد إليها.

(٤) مشيد : قيل إن الكلمة بمعنى المنيف العالي ، وقيل إنها بمعنى المزين بالجص الأبيض وقيل إنها بمعنى الجفصين.

في هذه الآيات :

١ ـ خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذّب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.

٢ ـ تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقا فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها. وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء.

٣ ـ وتساؤل يتضمّن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفّار الذين يكذّبون النبيّ لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير. وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

٦٠