التّفسير الحديث - ج ٦

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٦

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٧

ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» (١).

ولقد قلنا إننا لم نلمح في الأحاديث أنها متساوقة مع مدى الجملة حيث نرى أن الجملة عنت الصرعة التي يرتمي بها المصاب على الأرض وتجعله يتخبط ، والمتداول بين الناس أن هذا من مسّ الشيطان. ولقد عقد القاسمي في تفسيره فصلا طويلا بذلك استشهد بأقوال الإمامين ابن تيمية وابن الجوزي وبفصل للبقاعي بسبيل إثبات مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية وأورد حديثا طويلا أورده البقاعي في ذلك من إخراج الدارمي لم يرد في كتب الصحاح ونرى التوقف فيه أولى لأن فيه إغرابا شديدا. ومما ساقه البقاعي بسبل إثبات حقيقة ذلك ما ورد في الأناجيل المتداولة اليوم من حوادث عديدة نذكر ما كان من إخراج عيسى (عليه‌السلام) الجنّ والشياطين من المرضى المصابين بالصرع والجنون ، والأناجيل المتداولة تورد روايات فيها غثّ وسمين وحقيقة وخيال وذكريات ولا يصح سوقها بسبيل إثبات ذلك.

ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة فقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه وإنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية وإن القرآن أرفع من أن يعارض العلم.

وهذا كلام سديد من دون ريب ، وقد يصح أن يضاف إليه أولا : إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل. وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٠١

وثانيا : إنا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الصحيحة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية التي تذكر في القرآن والأحاديث مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) آل عمران : [٧] ومع الإيمان بأنه لا بد لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والأحاديث الصحيحة من حكمة ، ولعلّ من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار وليس هذا الأمر يعد من الأمور المحكمة التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.

وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب مع الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.

وبعض المؤولين قالوا إن جملة (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [٢٨٠] هي في صدد الربا موضوع الكلام وأنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ. وبعضهم قالوا إنها تشمل الدين مطلقا والجملة مطلقة بحيث يجعل ذلك الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. ولا سيما إن المفسرين يوردون أحاديث نبوية في ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سرّه أن يظلّله الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسّر على معسر أو ليضع عنه». وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن بريدة قال : «سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة وفي رواية في كلّ يوم مثلاه صدقة» وحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه». وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أراد أن تستجاب

٥٠٢

دعوته وأن تكشف كربته فليفرّج عن معسر». وحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت لي في الدنيا؟ قال : ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر فيقول الله عزوجل أنا أحقّ من ييسّر ادخل الجنة». وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أظلّ الله عبدا في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه من أنظر معسرا أو ترك لغارم» (١) وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم» (٢).

وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن هذا لا يمنع صحتها. وهي متسقة مع النص القرآني وفيها من الحثّ على التسامح والبرّ والتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم ما يتساوق مع التلقين القرآني.

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب وحديثا رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في صيغتين متقاربتين عن عمر بن الخطاب أنه خطب المسلمين يوما فقال : «إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم» ، وجاء في الصيغة الثانية : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة». والحديث بصيغتيه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ونحن نتوقف في هذا الحديث. فالله سبحانه قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) النحل : [٤٤] ومن واجب المسلم أن يعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قام بهذه المهمة. والأحاديث الصحيحة العديدة في الربا ومداه

__________________

(١) النصوص السابقة من تفسير ابن كثير.

(٢) من تفسير القاسمي.

٥٠٣

تصح أن تورد كدليل على ذلك. ولا يبدو في الآيات غموض ولا إشكال والله تعالى أعلم.

ولقد كانت جملة (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) موضوع جدل مذهبي كلامي حيث أنكر الزمخشري وفقا لمذهب المعتزلة حقيقة الأمر وقال : إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية ، وغمز الذين يعتقدون حقيقة ذلك وقال إن إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. وقد تابعه البيضاوي والطبرسي في قوله وحيث ردّ أهل السنة على هذا القول وأوردوا بعض الأحاديث التي منها ما ورد في الكتب الصحيحة من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. واقرأوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) آل عمران : [٣]. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» (٢). ومما لم يرد في تلك الكتب حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشّياطين» (٣). وقد قابل القاضي ابن المنير غمز الزمخشري بالشتيمة فقال هذا خبطهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد عقد القاسمي فصلا طويلا في تفسيره للآية على هذه المسألة واقتبس من كتاب زاد المعاد لابن القيم نبذة طويلة فيها استشهاد ببعض أقوال وأفعال الإمام ابن تيمية بسبيل إثبات صحة وقائع مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية. واقتبس القاسمي كذلك نبذة من مؤلف للعلامة البقاعي بسبيل تأييد ذلك فيها أولا بعض أحاديث نبوية أخرجها الدارمي ولم ترد في الكتب الصحيحة منها حديث مروي عن ابن عباس جاء فيه : «إن امرأة جاءت بابن لها إلى

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٦٥.

(٢) التاج ج ٤ ص ٦٥.

(٣) حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري الجزء ١ ، الطبعة الأولى ، المكتبة التجارية.

٥٠٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا. فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعّة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى». وحديث عن جابر قال : «خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلّنا فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا يأخذه الشيطان كلّ يوم ثلاث مرات فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال : اخسأ يا عدوّ الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها». وذكر البقاعي في نبذته أن هذا الحديث أخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك كان في حرة واقم ومما جاء في صيغة الطبراني عن جابر : «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيّها ومعها كبشان تسوقهما فقالت : يا رسول الله اقبل مني هديتي فو الذي بعثك بالحقّ ما عاد إليه بعد. فقال : خذوا منها واحدا وردّوا عليها الآخر». وقال البقاعي في نبذته : إن هذا الحديث رواه أيضا البغوي في شرح السنة عن يعلي بن مرة (رضي الله عنه). وذكر القاسمي أن البقاعي ساق بعد ذلك ما جاء في الإنجيل قال وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح (عليه‌السلام) من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك (١). وقال إنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا كافيا لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان. وقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف المذهبي فيها بين أهل السنة والمعتزلة وقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه. وأنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما

__________________

(١) في الأناجيل قصص كثيرة عن حالات الصرع والجنون بسبب مسّ الشياطين والجن ودخولهم في أجسام أصحابها وإخراج المسيح لها وشفائهم من مرضهم. انظر مثلا : الإصحاحات ٤ و ٩ و ١٢ و ١٧ من متى. و ٣ و ٥ من مرقس. و ٤ و ٦ و ٨ و ٩ و ١١ من لوقا. وفي الإصحاح ٢٢ من سفر الخروج و ٢٠ من سفر الأحبار من أسفار العهد القديم شجب للسحر والعرافات وأصحاب التوابع من الجن.

٥٠٥

أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية. وإن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم. وهذا كلام سديد من دون ريب. وقد يصح أن يضاف إليه :

أولا : إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.

وثانيا : إننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة إن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الثابتة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمنا به كلّ من عند ربنا ومع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والثابت من الحديث من حكمة. ولعل من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار. وليس هذا الأمر بعد من أمور الشريعة الإسلامية المحكمة والأساسية التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ

٥٠٦

تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)) [٢٨٢ ـ ٢٨٣].

(١) بالعدل : هنا بمعنى الحق والصدق والتمام.

(٢) الإملال : مرادف للإملاء وهنا بمعنى الإقرار والاعتراف أو التقرير.

(٣) يبخس : ينقص أو يكتم.

(٤) سفيها : ناقص العقل والتمييز إما بسبب مرض أو بسبب شيخوخة أو بسبب الطفولة.

(٥) ضعيفا : مريضا أو عاجزا جسمانيا أو لعي في لسانه إلخ.

(٦) أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى : بمعنى أن تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.

(٧) لا يأب الشهداء : لا يمتنعوا عن الاستجابة والشهادة.

(٨) أدنى ألّا ترتابوا : أكثر ضمانا لعدم الارتياب والشك.

تعليقات على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...)

والآية التالية لها

في الآيتين تعليمات للمسلمين بما يفعلونه في ظروف الدين والبيع :

١ ـ فعليهم إذا تداينوا بدين إلى أجل معين أن يكتبوا بالدين وثيقة.

٢ ـ وعلى الكاتب أن يكتب الوثيقة بالحقّ ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابتها على هذا الوجه لأن الله الذي يأمره بذلك هو الذي علمه.

٥٠٧

٣ ـ وعلى الذي عليه الدين أن يقرر للكاتب ما عليه ليكتبه وأن يتقي الله فيما يقرره ولا ينقص منه شيئا. وإذا كان ناقص التمييز أو عاجزا عن التقرير أو مريضا فعلى وليّه أن يقرر الحق الذي عليه ليكتبه الكاتب.

٤ ـ وعلى المسلمين أن يستشهدوا على وثيقة الدين رجلين منهم أو رجلا وامرأتين ممن يرضون وتطمئن إليهم نفوسهم. وجعل امرأتين مع الرجل في حالة عدم وجود رجلين هو لتذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت.

٥ ـ ولا يجوز للشهود أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها.

٦ ـ وعلى المسلمين أن لا يتهاونوا في كتابة وثائق الدين سواء أكان قليلا أو كثيرا فإن ذلك هو الأفضل والأعدل عند الله والأضمن لعدم الارتياب والشك فيما بينهم.

٧ ـ ولا مانع من عدم تدوين المعاملة التجارية إذا كانت فورية لا دين فيها ، أحدهم يسلم السلعة والآخر يدفع الثمن.

٨ ـ وعلى أن يستشهدوا شهودا على ما يقع بينهم من بيوع.

٩ ـ ولا يجوز في أي حال مضارة كاتب أو شهيد أو أذيتهما بالقول والفعل فذلك إثم وعصيان لأوامر الله.

١٠ ـ وإذا كان الطرفان أو كلاهما على أهبة سفر ولم يجدا كاتبا يكتب وثيقة الدين فيحسن أن يقوم مقام الوثيقة رهن يسلمه المدين إلى الدائن.

١١ ـ وإذا ائتمن الواحد آخر في حالة عدم إمكان كتابة سند الدين فيكون بدل ذلك رهن من المستدين إلى حين الأداء. وعلى المؤتمن أن يحقق ظن صاحبه في أمانته فيؤدي إليه ما ائتمنه عليه بحق وعدل.

١٢ ـ ولا يجوز لأحد كتمان شهادته في أي أمر ، ومن يكتمها فإنه آثم القلب.

١٣ ـ وعلى المؤمنين على كل حال أن يتقوا الله ويراقبوه فيما يقوم بينهم من معاملات. فهو الذي يعلمهم ما يحسن لهم ويساعد على توثيق مصالحهم ، وهو العليم بكل شيء الخبير بما يعملونه.

والآية الأولى أطول آية في القرآن. وقد روى ابن كثير رواية معزوة إلى

٥٠٨

شعيب بن المسيب أنه بلغه أن هذه الآية أحدث القرآن عهدا بالعرش أي آخر ما نزل من القرآن. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد ذكر في الآيات السابقة الدين والبيع فأوحى بالآيتين للتشريع والتسليم في صدد ذلك. والراجح أنهما نزلتا بعد تلك الآيات مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الموضوعي والزمني.

ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس : أن الآية الأولى نزلت في السلم إلى أجل معلوم (وهو شراء غلة معينة في موسم آت بثمن معجل) وأنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله ، وأنه روى حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» غير أن الإطلاق في جملة (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يلهم أنه جاء كذلك ليكون شاملا لكل نوع من الدين.

وروعة التعليم والتشريع في الآيتين ظاهرة قوية لا تحتاج إلى إطناب. وقد روعي فيها تعليم المسلمين توثيق أمورهم التجارية ، وتوطيد الحق والعدل فيما بينهم فيها ، وعدم تركها فوضى بسبب ما ينتج عنها من مشاكل وخلافات وشحناء. وبالتالي تلقينهم تنظيم أمورهم الدنيوية على الوجه الذي يكفل لهم الحق والعدل والطمأنينة والثقة وعدم النزاع. وجملة (أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) تلهم أن كتابة المعاملات التجارية الفورية أفضل وأن الاستثناء هو للتيسير والتخفيف.

وفي كتب التفسير أقوال وروايات عن أهل التأويل في مدى أحكام هذه الآيات نوجزها ونعلق عليها كما يلي. وهناك نقاط لم نطلع على قول فيها رأينا كذلك أن نوردها ونذكر ما يتبادر لنا فيها ـ :

١ ـ لقد روى المفسرون قولين في مدى الأمر بكتابة الدين والاستشهاد عليه. أحدهما أنه من باب الاستحباب والتشويق ، وثانيهما أنه على سبيل الإيجاب. ويتبادر لنا من روح الآية وفحواها وتوكيدها المتكرر ورفع الحرج عن عدم كتابة

٥٠٩

التجارة الحاضرة والمعاملة الفورية مع تفضيل الكتابة أن القول الثاني هو الأوجه.

٢ ـ ورووا كذلك قولين في مدى واجب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. أحدهما أنه على سبيل التخيير والندب وثانيهما على سبيل الإيجاب. وقد يكون القول الأول هو الأوجه لأن الكاتب والشاهد شخصان حران لا يصح إرغامهما على ما لا يريدانه من كتابة أو شهادة. أما حين يقبل الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد على الواقعة بناء على طلب صاحب المصلحة فالجمهور متفقون على أن يكون حينئذ من الواجب على الكاتب أن يكتب بالعدل وعلى الشاهد أن يلبي الدعوة ويشهد بالحق. ولا يكون هذا على سبيل الاستحباب والتخيير وهذا سديد وواضح من العبارة القرآنية أيضا.

٣ ـ والمتبادر من العبارة القرآنية أن الشهود المعنيين هم الذين طلب منهم أن يحضروا ويشهدوا على الواقعة وقد تقع معاملات بين طرفين ويكون أناس حاضرين الواقعة صدفة ولم يحضر الطرفان شهودا خصيصين. ولم نطلع على قول في مثل هذه الحالة. والمتبادر أن من واجب هؤلاء أداء الشهادة إذا ما دعوا إليها ولا يصح لهم أن يمتنعوا ويكتموا لأن في ذلك إضاعة لحقّ قد لا يثبت بدون شهادتهم.

٤ ـ والمفسرون يروون أقوالا عديدة في مدى جملة (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) منها أن المعني بهذا الأمر الكاتب والشاهد. وأن الجملة توجب عليهما عدم مضارة صاحب المصلحة والحق. وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل والشاهد أن يشهد بالحق. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة. فلا يجوز لهم إرغام الكاتب على الكتابة ولا شخصا ما على المجيء والشهادة على العملية ويسبب لهما بذلك ضررا في إضاعة وقت وخسران عمل. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة من جانب آخر وهو أنه لا يجوز لهم أن يضاروا ويؤذوا الكاتب على كتابته بالعدل والشاهد على شهادته بالحق. وروح الآية تلهم أن القول الأخير هو الأكثر ورودا ووجاهة.

٥ ـ والمتبادر أن الإشارة إلى واجب الإملاء والتقرير على ولي السفيه

٥١٠

والعاجز والمريض تنطوي على كون أقوال هؤلاء واعترافاتهم في حق أنفسهم غير نافذة. وقد تفيد العبارة القرآنية أن المقصود من (الولي) الذي يجب أن ينوب عن هذه الفئات في الإملاء والتقرير هو الذي له حق الولاية على هذه الفئات بسبب درجة قرابته لهم. غير أن الجمهور على أن القضاء الشرعي مخول في إقامة الأولياء أيضا على أمثال هذه الفئات ليكونوا مسؤولين عن رعاية حقوق هذه الفئات ومصالحها. وهذا حقّ وصواب. وحتى بالنسبة للذين تخولهم قرابتهم الولاية حيث يكون الأولى أن تكون ممارستهم للولاية بعلم وإقرار القضاء حتى يكونوا مسؤولين أمامه ، والله أعلم.

٦ ـ وقد روى المفسرون في صدد جملة (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أنها في صدد حفظ الأمانات وردها إلى أصحابها وعدم المماراة فيها وتبديدها إطلاقا. ومنها أنها في صدد الرهن الذي يعطيه المدين للدائن عوضا عن سند الدين حينما تتعسر كتابته على ما جاء في الآية : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) حيث توجب الجملة على الدائن فقط الرهن سليما بدون تبديد على اعتبار أنه أمانة في يده ورده إلى المدين كما هو حينما يرد هذا ما عليه من دين. ومنها أن ذلك في حالة تعسر الكتابة وتعسر الرهن واعتماد الدائن على أمانة المدين وحسب. حيث توجب الجملة على المدين قيامه بحق من ائتمنه على ماله ورده إليه. وفحوى العبارة ومقامها متسقان أكثر مع المعنى الثاني وقد يتسقان مع المعنى الثالث أيضا. والمعنى الأول وارد الوجوب دائما وفي كل حال. وليس بينه وبين المعنيين تعارض وقد أوجبت آية سورة النساء [٥٨] ردّ الأمانات إلى أهلها. ونوهت آيات مكية عديدة بمن يرعى أمانته وعهده كما جاء في آيات المؤمنون [٨] والمعارج [٢٩].

٧ ـ وجمهور المفسرين على أنه ينطوي في جملة (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) شرط تحقق العدالة في الشهود. أو أن ذلك هو المقصود من الجملة أي يجب أن يكونوا من المعروفين بالاستقامة غير المتهمين في ذممهم. ومع ما في هذا من

٥١١

وجاهة فإنه يتبادر لنا أن الجملة أوسع مدى بحيث تنيط استشهاد الشهود بثقة المستشهدين ورضائهم النفسي والقلبي.

٨ ـ وكلمة (مِنْ رِجالِكُمْ) في صفة الشهود تفيد وجوب اختيارهم من المسلمين مع توفر العدالة وطمأنينة صاحب المصلحة. ولقد روى المفسرون أقوالا في شمول العبارة للأرقاء المسلمين. حيث قال بعضهم بالشمول وبعضهم حصر الشهادة في أحرار المسلمين. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه فقد خاطب القرآن المؤمنين بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا بدون تمييز بين الأرقاء والأحرار. واعتبرهم جميعا بعضهم من بعضهم وبعضهم أولياء بعض في آيات عديدة مثل آية سورة آل عمران [١٩٥] والتوبة [٧١] وكان المؤمنون الذين عنتهم هذه الآيات خليطا من أحرار وأرقاء. وفي إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية فصل في ذلك قرر فيه أنه ليس هناك أي أثر وثيق برفض شهادة العبد المسلم. وأنه يدخل في شمول كلمة (رِجالِكُمْ). وفي جملة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) في سورة الطلاق وقال إن الميزان العادل وكتاب الله وسنّة رسوله وإجماع الصحابة على قبول شهادته. وروي عن أنس بن مالك قوله : «ما علمت أحدا ردّ شهادة العبد» (١).

٩ ـ ولقد تطرق بعض المفسرين إلى جواز وعدم جواز شهادة واستشهاد غير المسلمين في سياق هذه العبارة أيضا ، وأوردوا أقوالا مختلفة منها منع ذلك بناء على صراحة العبارة هنا وقالوا إن المسلم لا يشهد عليه إلا مسلم ولا ينبغي له أن يستشهد إلا مسلما. ومنها إجازة ذلك استنادا إلى آية سورة المائدة هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)) غير أن الذين قالوا بالمنع قالوا إن آية المائدة منسوخة بآية البقرة التي نزلت بعدها. وهناك من قال إن الحالة التي نزلت فيها آية المائدة تتسع

__________________

(١) انظر أعلام الموقعين ج ٢ ص ٤٩.

٥١٢

لذلك لأنها حالة سفر وغربة قد لا يكون فيها شهود مسلمون. ولابن القيم فصول في هذا الباب أنكر فيها نسخ آية المائدة لأنها في صدد حالة تتحمل استشهاد وشهادة غير المسلمين (١). وهذا حق.

ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وعقد فصلا طويلا لها انتهى به إلى ترجيح شهادة غير المسلمين على المسلمين إذا كان حق المسلم لا يثبت إلا بها. وقال فيما قال : إن البينة في الشرع أعمّ من الشهادة وإن كل ما يتبين به الحق بينة كالقرائن المنطقية ، وإن شهادة غير المسلم يمكن أن تدخل في معنى البينة المستدل عليه بالكتاب والسنة واللغة إذا كان يتبين بها الحق للحاكم. وفي هذا حق وسداد فيما هو المتبادر. وليس هناك فيما اطلعنا عليه أثر نبوي صحيح يمنع شهادة غير المسلم على المسلم إذا لم يكن مطعونا في أمانته وعدله. وكل ما اطلعنا عليه حديث رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم» وفي رواية أنه قال : «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» (٢).

وقد يضاف إلى هؤلاء المشهور بالفسق وقاذف المحصنات على ما جاء في آية سورة الحجرات هذه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)) وفي آيات النور هذه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)).

ومع ذلك فإن من الممكن استدراك أمر على ضوء آية سورة المائدة ، وهو إنه إذا كان الشهود مختارين اختيارا ومدعووين دعوة للشهادة فالأولى أن يكونوا

__________________

(١) انظر إعلام الموقعين ج ١ ص ٧٤.

(٢) التاج ج ٣ ص ٥٦. ومعنى (ذو الغمر) ذو الحقد والعداوة. والقانع هو التابع أو الخادم فلا تجوز شهادته على مستخدميه أو لهم وتجوز لغيرهم أو عليهم.

٥١٣

مسلمين ما دام هذا ممكنا. فإن لم يكن هذا ممكنا أو إذا كانت الواقعة التي يراد الاستشهاد عليها فورية ولم يشهدها غير مسلمين فتكون شهادتهم سائغة إذا كانوا عدولا غير متهمين لأن الحق يضيع على صاحبه بدون ذلك ، والله تعالى أعلم.

١٠ ـ وعبارة (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) تفيد اعتبار شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد وقد عللت الآية هذا مما ينطوي فيه الإشارة إلى مشاغل المرأة وما تؤدي إليه من غلبة النسيان عليها. ولقد زاد المفسرون على التعليل القرآني تعليلا آخر وهو نقص عقل المرأة واستندوا في ذلك إلى الحديث النبوي الذي يصف المرأة فيه بنقص العقل ويدلل على ذلك بأن الله جعل شهادتها نصف شهادة الرجل والذي أوردناه في سياق تفسير الآية [٢١] من سورة الروم وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. وذلك التعليق يجعلنا نعتقد أن التعليل المنطوي في الآية هو الوارد الحق. ثم يجعلنا نقول إن جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في الآية ليس من شأنه أن يخلّ بما منحه الله للمرأة المسلمة في القرآن من حقوق وقرره لها من أهلية يجعلانها مثل الرجل في أمور الدين والدنيا سواء بسواء باستثناء الحياة الزوجية ، ومركز الرجل المتفوق درجة فيها عليها مما شرحناه في سياق آية الروم المذكورة وفي مناسبات سابقة أخرى وفي سياق تفسير آيات فصل الطلاق في هذه السورة ، ومما سوف نزيده شرحا في مناسبات أخرى في سور آتية.

١١ ـ ولقد قلنا في الفقرة (٣) إن العبارة القرآنية تفيد أن الشهود المعنيين فيها هم شهود يختارهم صاحب المصلحة ممن يرضى ويدعوهم لشهود الحادثة والشهادة عليها. وفي ضوء ذلك يرد سؤال عن حكم الحالة التي تكون فورية ويكون شاهدها امرأة واحدة أو امرأتان أو رجل وامرأة ولم يكن الظرف يتيح إحضار شهود أو يفيد فيه ذلك. وهذه حالات تقع كثيرا في مختلف الأحداث والظروف. والمتبادر أنه يجب الأخذ بشهادة المرأة أو المرأتين أو المرأة والرجل ويكون ذلك في مقام البينة التي يثبت بها الحق ويكون عدم الأخذ بها مما يضيع الحق. والله ورسوله لا يرضيان عن ذلك وليس في الآية ولا في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع ذلك. ولقد تطرق ابن القيم إلى هذه الحالة أيضا ونقل عن

٥١٤

الإمام ابن تيمية تسويغه الأخذ بشهادة المرأة فيها. وأورد حديثا وصفه بالصحيح عن عقبة بن الحرث : «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته. فقال إنها كاذبة فقال دعها عنك» (١). وعقب على هذا بقوله إن في هذا قبولا بشهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمة.

١٢ ـ لقد استطرد المفسرون بمناسبة الآية إلى شهادة النساء في غير شؤون الدين. وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وبعض أئمة الفقه ولأنفسهم تفيد أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود ولو في نطاق النصاب المذكور في الآية (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ولا تقبل إلّا في الأموال وما من العادة أن تعرفه وتشهده كالولادة والرضاع والبكارة والثيوبة ونحو ذلك. وليس في القرآن ما يؤيد هذا القول ولم نطلع على حديث صحيح يؤيده كذلك ، والحديث الذي أوردناه قبل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أبو داود والترمذي (الفقرة ٩) ينص على كون المردود شهادتهم هم الخائن والخائنة والزاني والزانية وذو الغمر والقانع (التابع) لمستخدميه. وآيات سورة الحجرات والنور التي أوردناها في الفقرة المذكورة ترد شهادة الفاسق وقاذف المحصنات وحسب.

وكل هذا يجعلنا نتوقف في منع قبول شهادة المرأة في الحدود والعقوبات.

ولقد ناقش ابن القيم (٢) هذه المسألة أيضا وانتهى إلى القول إن النصوص القرآنية والآثار النبوية لا تقيد شهادة المرأة في أمور دون أمور وإن شهادتها تصح في جميع الشؤون. واستشهد في ذلك إلى جملة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) في الآية [٢] من سورة الطلاق وإلى جملة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ

__________________

(١) ورد هذا الحديث في التاج بروآية البخاري والترمذي بهذا النص : «قال عاقبة بن الحرث : تزوجت امرأت فجاءتنا امرأت سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرته وقلت له إنها كاذبة. فأعرض ، فأتيته من قبل وجهه وقلت : إنها كاذبة ، قال : كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما ، دعها عنك» التاج ج ٢ ص ٣٦٦.

(٢) التاج ج ١ ص ٧٦ وبعدها.

٥١٥

بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) في آية سورة المائدة [١٠٦] قائلا : إن المتفق عليه أن كل خطاب بصيغة الجمع المخاطب المذكور للمؤمنين في القرآن يشمل المؤمنين والمؤمنات حقا إذا لم يكن فيه قرينة مخصصة وهذا حق وصواب. وقد يكون من الدلائل عليه جملة : (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) [٢٨٢] في الآية التي نحن في صددها دون آيات الطلاق والمائدة. ويصح أن يقال إن جملة : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) في آية سورة النساء وجملة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) في آية سورة النور [٤] من هذا الباب. وهذا كله يسيغ القول أيضا إن شهادة المرأة في غير مسألة الدين معادلة لشهادة الرجل مع التذكير بما أوردناه في الفقرتين ١٠ و ١١ في صدد هذه المسألة.

وإذا لحظنا أن من الحدود حدّ الزنا الذي أمرت آية النساء [١٥] استشهاد أربعة عليه وأن احتمال مشاهدة المرأة لهذه الجريمة أقوى بدا لنا ذلك المنع أكثر غرابة. ولا ندري ماذا يقول المانعون إذا لم يكن مشاهدو جرائم القتل والزنا والسرقة وهي التي قرر القرآن لها العقوبات والحدود غير نساء. فهل تذهب هذه الجرائم هدرا بغير عقاب ، وإن الله ورسوله ليأبيان ذلك والله تعالى أعلم.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)) [٢٨٤].

في الآية : تقرير بمطلق ملكية الله تعالى وتصرفه بما في السموات والأرض. وتنبيه موجه للسامعين بأنه محيط بكل ما يبدونه ويخفونه ومحصيه عليهم ومحاسبهم به ثم معاملهم بما تشاء حكمته فيغفر ويتجاوز عمن يشاء ويؤاخذ ويعذب من يشاء وهو القادر على كل شيء في جميع الأحوال.

٥١٦

تعليق على الآية

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ

أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ...)

وقد روى الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم تفيد أن هذه الآية متصلة بالشهادة وأدائها وكتمها. وهو الموضوع الذي احتوته الآيات السابقة وقال الطبرسي : إن الآية استمرار للآيات السابقة فيما احتوته من تنبيه وتذكير وإنذار. وهذا لا يخرج عما رواه الطبري.

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. ومع ذلك فقد تكون وجيهة ويكون فيها بالتبعية توكيد الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية. وإن كان إطلاق العبارة فيها يثير شيئا من التردد. فإذا صحت الأقوال فتكون حكمة التنزيل قد اقتضت أن تأتي العبارة مطلقة الشمول لتكون عامة. والله تعالى أعلم.

تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآية

١ ـ في صدد ما جاء في الآية من أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء نقول : إن الذي ينسجم مع حكمة الله وتقريرات القرآن الكثيرة وأهدافه أن الغفران الإلهي إنما يكون للمؤمنين المتقين ذوي النوايا الحسنة. وإن العذاب الإلهي إنما يكون لمنحرفين عن الحق والهدى من كفار ومنافقين وطغاة وظالمين.

ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا ورد أيضا في التاج برواية الشيخين وهذا نص التاج الذي ليس فيه فرق جوهري مع نص الطبري : «قيل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى؟ قال : سمعته يقول يدنو أحدكم من ربّه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول أعملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرّره ثم يقول : إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين

٥١٧

كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين» (١).

ومع استغرابنا لسوق هذا الحديث في سياق الآية التي يروي الطبري عن أهل التأويل أنها في صدد الشهادة المذكورة في الآيات السابقة لأنه لا يبدو صلة ما بينه وبين الشهادة إلّا من بعيد جدا ، فإن فيه شيئا من التوضيح لما ورد في الآية من كون محاسبة الله لعباده هي على ما يبدونه مما في أنفسهم أو يخفونه من عزمات الشر وسيء النيات كما أن فيه دعما لما قلناه من أن الله تعالى إنما يغفر للمؤمنين المخلصين ويعذب الكافرين الظالمين. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مشاهد أخروية فإن من الحكمة الملموحة في الحديث تبشير المؤمنين المخلصين وإنذار الكفار الظالمين.

٢ ـ ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت الآية هلعوا من احتمال مؤاخذة الله لهم وتعذيبهم على خطرات النفس ووساوسها. وهرعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلين : هلكنا إذا كان الله مؤاخذنا على ما نحدث به نفوسنا. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بالإذعان لله وتفويض الأمر إليه ، ففعلوا فلم تلبث أن نزلت الآيتان اللتان بعدها فنسختاها.

ولقد روى المفسرون ذلك بصيغ عديدة ، ومنها صيغة رواها البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) إلخ اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا. بل قولوا سمعا وطاعة غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما قالها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله الآية التالية لها فكرروها فلما فعلوا ذلك نسخ الله تلك الآية وأنزل الآية الثانية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ...) إلخ وقرأوها فلما قالوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ

__________________

(١) التاج ج ٥ (كتاب القيامة والجنة والنار ـ محاسبة الله لعباده). كنفه عليه : ستره ولطفه.

٥١٨

أَخْطَأْنا) ، قال : نعم ، ولما قالوا : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال نعم ، ولما قالوا : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). قال : نعم. ولما قالوا : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)). قال : نعم» (١).

وقد يلحظ أن قول أبي هريرة إن الآيتين الثانيتين نسختا الآية التي نحن في صددها يتحمّل التوقف لأن الآية الثانية من الآيتين ثبتت كون الإنسان يحاسب على ما كسب من قول وفعل وهذا يدخل في معنى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) في الآية التي نحن في صددها. ولقد روى الطبري حديثا عن ابن عباس جاء فيه : إن الآية الثانية من الآيتين نسخت الوسوسة وثبتت القول والفعل مما فيه دعم لما قلناه.

ولقد روى الطبري في الوقت نفسه عن ابن عباس حديثا جاء فيه : «إن الآية لم تنسخ وإن الله عزوجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم وأما أهل الشكّ والريبة والنفاق والكفار فيخبرهم ويعذّبهم». وهناك روايات أخرى يرويها الطبري أيضا عن مجاهد والربيع وغيرهما تفيد أن الآية لم تنسخ.

وتعليقا على هذه الروايات دون الأولى نقول :

أولا : إن الآية موجهة للمؤمنين دون الكفار الذين ماتوا وهم كفار لأنهم خارجون عن نطاق الغفران ومخلدون في النار بنصوص قرآنية قطعية ومتكررة.

وثانيا : إن جملة (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) تؤيد بقوة قول النسخ الجزئي الذي جاء في قول ابن عباس الأول بحيث يصحّ التوقف في ما جاء في الأقوال الأخرى.

وهناك حديث صحيح يرويه الخمسة بهذه الصيغة «تجاوز الله لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به». وحديث آخر صحيح أيضا يرويه

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٦٢ ـ ٦٤.

٥١٩

الخمسة عن ابن عباس جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربّه : «قال الله : إن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبتها له حسنة وإن همّ بسيئة فعملها كتبتها له سيئة واحدة». وهذا يدعم قول النسخ الجزئي ، ومن الحكمة الملموحة فيه تبشير المؤمنين وتطمينهم وتحذير من السيئات على كل حال.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)) [٢٨٥ ـ ٢٨٦]

(١) إصرا : عهدا ثقيل الوطأة.

تعليق على الآيتين الأخيرتين

من سورة البقرة

عبارة الآيتين واضحة ، لا تحتاج إلى أداء آخر.

ويلحظ أن في الأولى تقريرا عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بإيمانهم وقولهم سمعنا وأطعنا. وإن في أول الآية الثانية تقريرا عن الله عزوجل بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ثم دعاء بلسان المؤمنين.

ومثل هذه الصورة القرآنية تكرر بأساليب متنوعة في سور سابقة وعلقنا عليها بأن الإيمان بأن جميع ما في القرآن من صور كلامية هو من وحي الله عقيدة واجبة على المؤمنين. وهذا ما يقال بالنسبة لهاتين الآيتين اللتين اقتضت حكمة التنزيل

٥٢٠