دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الثالث : ما إذا تيقن بتحقق الكلي في ضمن فرد مرتفع قطعا ، وشك في بقائه ، لاحتمال وجود فرد آخر مع الفرد الأول أو حدوثه مقارنا لارتفاعه بلا فصل زماني ، كما إذا علم بوجود زيد في الدار ، وعلم بخروجه فعلا ، ولكن يحتمل كون عمرو معه في الدار وهو لم يخرج أو دخوله حين ما خرج.

الرابع : ما إذا تيقن بوجود فرد بعنوانه ، وعلم بارتفاعه ، وتيقن أيضا بتحقق عنوان يحتمل انطباقه على تلك الذات المرتفعة قطعا وانطباقه على فرد آخر يحتمل بقائه ، من غير أن يكون للعنوان دخل في ترتب الأثر ، مثاله ما إذا علم بوجود زيد في الدار ، وعلم بخروجه ، وعلم أيضا بوجود متكلم هناك بهذا العنوان المشير القابل لأن ينطبق على زيد وان ينطبق على غيره ، وعلى تقدير انطباقه على زيد فقد ارتفع ، وإلّا فيحتمل بقائه. ومثاله الشرعي ما إذا علم بالجنابة ليلة الخميس ، واغتسل منها ، ثم رأى في ثوبه أثر جنابة ، فعلم بها بهذا العنوان ، واحتمل انطباقه على تلك الجنابة التي اغتسل منها ، كما يحتمل انطباقه على جنابة أخرى باقية.

والفرق بينه وبين القسم الأول ظاهر ، فان المتيقن فيه حدوث فرد يشك في بقائه. كما انه يفترق عن القسم الثاني بعدم اليقين فيه بارتفاع الفرد الحادث أصلا ، بل كان الحادث فيه مرددا بين مقطوع الارتفاع ومحتمل البقاء ، وفي المقام ارتفاع الفرد المتيقن حدوثه معلوم. ويفترق عن القسم الثالث بأنه لم يكن فيه إلّا يقين واحد ، وفي القسم الرابع يقينان ، أحدهما متعلق بالذات بعنوانها ، والآخر بعنوان قابل الانطباق عليها وعلى غيرها. وبعبارة أخرى : لم يكن احتمال حدوث الفرد الآخر في القسم الثالث مقرونا بالعلم الإجمالي بخلاف المقام.

وبالجملة في القسم الرابع ليس للمتيقن يقين بوجود فردين ، ولذا لو سئل عن ذلك يقول لا أعلم بوجود فردين ، إلّا ان له يقينين ، أحدهما متعلق بالفرد ، والآخر بالعنوان كما عرفت. فالفرق بينه وبين الأقسام الأخر واضح.

١٠١

إذا عرفت الأقسام نقول : لا ريب في جريان استصحاب الكلي في القسم الأول إذا رتب عليه الأثر. كما يجري فيه استصحاب الشخص بلحاظ الأثر المترتب عليه.

وأمّا القسم الثاني : فاستصحاب الشخص فيه غير جار كما هو ظاهر ، فلا يمكن ترتيب آثار بقاء شيء من الفردين بالاستصحاب. وأما وجود الكلي في ضمن الفرد المعين واقعا فهو كان متيقنا يشك في ارتفاعه فيستصحب ، فالمستصحب في الحقيقة هو الوجود المساوق للتشخص ، ولذا زعم السيد قدس‌سره في حاشية المكاسب غير مرة أنه من استصحاب الفرد المردد الّذي لا ذات له ، ولا ماهية ، ولا وجود ، فكيف يستصحب.

وقد أجبنا عنه بأن المستصحب وإن كان مرددا ، إلّا أنه مردد عندنا ، لا في الواقع ، وما لا ماهية له ولا وجود إنما هو الفرد المردد واقعا ، المعبّر عنه بأحد الأمرين أو الأمور ، وفي المقام الوجود الخاصّ المتيقن له إضافتان ، إضافة إلى الفرد ، وإضافة إلى الطبيعي ، فيستصحب ذات الوجود بعينه بما انه مضاف إلى الطبيعي ، ولذا نعبر باستصحاب الكلي بطريق الإضافة لا التوصيف ، والتعبير بالكلي من جهة إلغاء خصوصية كل من الفردين في مقام الاستصحاب ، لعدم تمامية أركانه فيها ، وقد لا يترتب عليها أثر أيضا ، بل إذا كان لهما أثر لا يترتب إلّا من جهة العلم الإجمالي.

ثم انّه أورد على جريان الاستصحاب في القسم الثاني بأنه دائما محكوم بأصل آخر ، لأن الشك في بقاء الكلي فيه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، والأصل عدمه ، فإذا ثبت بالتعبد عدم حدوث الفرد الطويل ، والمفروض ارتفاع الفرد القصير بالوجدان على تقدير ثبوته ، فبضم التعبد إلى الوجدان يحرز انتفاء الكلي ، فكيف يستصحب بقاؤه.

١٠٢

وأجيب عنه بوجوه :

الأول : ما في الكفاية (١) من ان الشك في بقاء الكلي بعد العلم بحدوثه ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، وإن كان حدوثه مشكوكا فيه ، بل هو ناش عن كيفية الفرد الموجود ، أي اتصافه بعنوان الفرد الطويل كاتصاف الرطوبة بكونها منية. وليس لعدم اتصافه به حالة سابقة ليستصحب ، لأن الفرد من حين حدوثه كان معنونا بأحد العنوانين ، فالأصل السببي غير جار.

وفيه : أنه انما يتم لو أنكرنا جريان الاستصحاب في العدم الأزلي. وأما على المختار من جريانه فلا ، فانه يقال : الفرد الموجود قبل وجوده لم يكن متصفا بذاك العنوان ، ويشك في اتصافه به بعد حدوثه ، والأصل عدمه ، فبضمه إلى الوجدان يثبت انتفاء الكلي.

وبهذا أنكرنا جريان استصحاب بقاء كلي النجاسة في موارد :

منها : ما إذا لاقى الثوب نجسا مرددا بين ما يكفي فيه الغسل مرة واحدة بمقتضى إطلاقات الغسل كعرق الجنب وما يحتاج إلى التعدد كالبول لقوله عليه‌السلام «إن غسلته في المركن فمرتين» فإذا غسل الثوب مرة واحدة يشك في بقاء طبيعي النجاسة. وقد ذهب بعض إلى استصحاب بقائها ، ونحن أنكرنا ذلك ، لأن الأصل عدم اتصاف ما أصاب الثوب بعنوان البولية وبه يدرج تحت إطلاق الأمر بغسل المتنجس. واستصحاب عدم كونه معنونا بالعنوان الآخر لا يترتب عليه الأثر إلّا على القول بالأصل المثبت.

ومنها : ما إذا ولغ الكلب فيما يحتمل كونه إناء ، فانه إذا غسل بالماء ولم يعفر يشك في ارتفاع نجاسته ، فتستصحب. وعلى ما اخترناه لا مجال له ، لأن الشك في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٢.

١٠٣

بقاء نجاسته مسبب عن الشك في كونه إناء ، والأصل عدم اتصافه بها ، بل يمكن فيه استصحاب العدم النعتيّ.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) من تعارض الأصلين ، للعلم بتحقق إحدى الخصوصيّتين ، فان الفرد يستحيل تحققه عاريا عن جميع الخصوصيات ، واستصحاب عدم وجود خصوصية الفرد الباقي معارض باستصحاب عدم تحقق خصوصية الفرد الزائل أي القصير ، فإذا سقطا بالمعارضة جرى استصحاب الكلي.

وفيه : ان استصحاب الكلي تارة : يكون فيما يترتب على كل من الخصوصيّتين أثر مختص بها ، كما في الحدث المردد بين الأصغر والأكبر ، فان أثر الأصغر وجوب الوضوء وعدم ارتفاعه بالغسل ، فانه يرفع الحدث عن الجنب لا عن كل محدث. وأخرى : فيما يكون هناك أثر مشترك ، ويختص الفرد بأثر يخصه ، كما في الثوب الملاقي مع رطوبة مرددة بين البول وعرق الجنب من الحرام.

أما في الأول : فاستصحاب عدم حدوث كل من الخصوصيّتين وإن كان جاريا ، ويسقطان بالمعارضة كما ذكر المحقق المزبور ، إلّا انه لا حاجة فيه إلى استصحاب الكلي أصلا ، إذ يكفي في لزوم ترتيب آثار بقاء الكلي نفس العلم الإجمالي ، فاستصحابه لغو ظاهر.

وأما الثاني : فلا يجري فيه استصحاب عدم حدوث الفرد القصير ، لعدم ترتب أثر عليه ، فيجري استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل كالملاقاة مع البول في المثال بلا معارض ، فلا يجري معه الشك في بقاء الكلي ليستصحب.

الثالث : ما يظهر من الكفاية أيضا (٢) ، وحاصله : ان الشك في بقاء الكلي

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٢.

١٠٤

وان كان ناشئا عن الشك في حدوث الفرد الطويل أو كون الحادث فردا طويلا ، إلّا أنه ليس كل أصل جار في السبب حاكما على الأصل الجاري في المسبب رافعا للشك فيه ، بل الحكومة إنما تكون فيما إذا كان جريان الأصل في السبب مثبتا لما تعلق به الشك المسبب أو نافيا له شرعا ، كما إذا غسلنا الثوب المتنجس بماء مشكوك الطهارة ، فانه بعد ذلك يشك في بقاء نجاسته ، وهو مورد للاستصحاب ، إلّا أن هذا الشك ناش عن الشك في طهارة الماء ، وأصالة الطهارة في الماء تثبت طهارة الثوب شرعا وانه غسل بماء طاهر بحكم الشارع ، فيرتفع الشك تعبدا. وكذا إذا توضأ المحدث بماء مشكوك الطهارة ، فانه يشك حينئذ في بقاء الحدث ، ومنشؤه الشك في طهارة الماء ، وجريان قاعدة الطهارة فيه يثبت ارتفاع الحدث تعبدا. وفي هذا الفرض يكون الأصل الجاري في السبب نافيا لما تعلق به الشك في المسبب ، أي يكون مخالفا للأصل الجاري فيه في المؤدى. وإذا فرضنا ان الماء مستصحب النجاسة كان الأصل الجاري في السبب مثبتا لما تعلق به الشك في المسبب وموافقا له في المؤدى.

وبالجملة حكومة الأصل السببي على المسببي إنما هي فيما إذا كان المسبب مترتبا على السبب شرعا ، وهذا مراد صاحب الكفاية من السببية الشرعية. وأما إذا كان الترتب عقليا فلا حكومة كما في المقام ، فان انتفاء الكلي من لوازم عدم حدوث الفرد الطويل عقلا ، فاستصحابه لا ينفي بقاء الكلي شرعا ، ولا يوجب انعدام الشك فيه تعبدا ، فيجري فيه الاستصحاب ، ولو جرى استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل.

وهذا الوجه متين جدا. وعليه نفصل في موارد استصحاب الكلي بينما إذا كان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل أو كون الحادث فردا طويلا نافيا شرعا لبقاء الكلي ، كما فيما إذا تردد ملاقي الثوب المغسول مرة واحدة بين ان

١٠٥

يكون بولا أو عرق جنب من الحرام ونحوه مما لا يعتبر فيه التعدد ، فان استصحاب عدم اتصاف ما أصاب الثوب بالبولية يثبت طهارة الثوب المغسول مرة واحدة ، لدخوله حينئذ تحت إطلاق ما ورد من الأمر بغسل المتنجس الّذي خرج عنه عنوان المتنجس بالبول ونحوه مما يعتبر فيه التعدد أو التعفير ، وهكذا ما يحتمل كونه إناء إذا ولغ فيه الكلب ثم غسلناه بالماء بدون التعفير ، فان استصحاب عدم اتصافه بالإنائية محموليا أو نعتيا يثبت طهارته شرعا ، لما ذكرناه ، فلا مجال لاستصحاب بقاء طبيعي النجاسة ، وبينما إذا لم يكن كذلك ، كاستصحاب عدم تحقق الجنابة ، فان ارتفاع الحدث بالوضوء لا يثبت به تعبدا ، وليس من آثاره شرعا.

ولصاحب الكفاية جواب آخر ، وهو الجواب الثاني في كلامه ، وحاصله (١) : ان الكلي عين الفرد ، لا من لوازمه ليكون الشك في بقائه مسببا عن الشك في حدوثه.

ولم نعرف حقيقة مرامه ، لأن الكلي إذا كان عين الفرد فاستصحاب عدم حدوث الفرد ينفي بقاء الكلي بطريق أولى ، فعلى ما ذكره يكون عدم جريان استصحاب الكلي أوضح.

ثم لا يخفى أنه لا بد في جريان استصحاب الكلي من كون الخصوصية الموجودة في ضمنها الكلي مرددة بين الطويل والقصير ، بأن كانت حينما كان الفرد من أوّل حدوثه مرددا بين الأمرين بحيث لم يكن هناك أصل يعين إحدى الخصوصيّتين ، وإلّا فلا يبقى معه مجال لاستصحاب الكلي ، كما إذا خرج من المحدث بالأصغر بلل مردد بين البول والمني ، فانه بعد ما توضأ وإن كان يشك في بقاء حدثه ، إلّا ان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٢.

١٠٦

استصحاب عدم تحقق الجنابة يعين تعبدا بقاء الحدث الأصغر وارتفاعه بالوضوء ، من غير فرق بين القول بأن الحدث الأكبر مضاد للأصغر ، والقول بأنه مرتبة شديدة منه ، أو القول بأنهما متخالفان يمكن اجتماعهما كالحلاوة والحمرة. فانه على الأول يستصحب عدم تبدل الأصغر بالأكبر. وعلى الثاني يستصحب عدم ترقي الحدث من المرتبة الضعيفة إلى المرتبة القوية. وعلى الثالث يستصحب عدم عروض الأكبر ، فإذا جرى الاستصحاب وثبت بالتعبد الشرعي عدم كونه جنبا شمله قوله سبحانه (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) ، فان التفصيل بين الجنب وغيره كما هو صريح الآية المباركة قاطع للشركة ، فبضم الوجدان إلى الأصل يكون مأمورا بالوضوء دون الغسل ، فلا مجال حينئذ لاستصحاب بقاء كلي الحدث بعد الوضوء.

والظاهر من عبارة السيد في العروة حيث أفتى في الفرع بوجوب كلا الأمرين من الغسل والوضوء هو فرض كون المكلف متطهرا سابقا وخرج منه البلل المردد. فتحصل : ان استصحاب الكلي في القسم الثاني لا مانع منه إذا رتب عليه أثر شرعا ، غايته لا يثبت به لازمه من حدوث الفرد الطويل ، ولا تترتب آثاره.

ثم انه بناء على القول بطهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ربما يجري في استصحاب الكلي إشكال ، لازمه رفع اليد عن أحد أمرين من استصحاب الكلي وطهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة. وهذا الإشكال أورده السيد الصدر ، وهو معروف بالشبهة العبائية ، لأنه فرضها في العباء ، وحاصله : انه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباء من الأعلى والأسفل ، فطهّر الأعلى ، فصار متيقن الطهارة ، اما لكونه طاهرا من الأول ، واما لطهارته بالغسل واصابته المطر. فإذا لاقى شيء أحد

__________________

(١) المائدة : ٦.

١٠٧

الطرفين لم يحكم بنجاسته ، أما الأعلى فلطهارته ، وأما الأسفل فلما بين في محله من طهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة. وأما إذا فرضنا شيئا لاقى كلا الطرفين ، كما إذا وضعنا العباء بنجاستها في قدر من الماء ، لا بد من الحكم بنجاسته ، بناء على جريان استصحاب الكلي. وذلك لأنه بعد غسل الطرف الأعلى يشك في بقاء طبيعي النجاسة في العباء ، لأنها إن كانت في الطرف الأعلى فقد ارتفعت ، وإن كانت في الطرف الأسفل فهي باقية ، فيستصحب بقاؤها ، فيكون الملاقي ملاقيا للنجس بالتعبد الاستصحابي.

وهذا أمر لا يمكن الالتزام به ، لأن لازمه أن تكون الملاقاة مع مقطوع الطهارة موجبة لنجاسة الملاقي ، إذ المفروض انه لم يلاق إلّا مع طاهر ، هو الطرف الأعلى ، وشيء آخر لا يوجب ملاقاته النجاسة ، وهو الطرف الأسفل ، فكيف أوجب ضم أحدهما إلى الآخر نجاسة الملاقي ، مع ان كلا منهما لم يكن موجبا لها ، فلا بد من رفع اليد من استصحاب الكلي أو طهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة.

وأجاب عنها المحقق النائيني بوجهين باعتبار دورتين (١) :

أحدهما : ان محل الكلام في القسم الثاني من استصحاب الكلي انما هو فيما إذا كان المتيقن مرددا بين فردين وحقيقتين ، بأن تردد وجود الكلي بين فرد متيقن الارتفاع وفرد آخر يحتمل البقاء. وأما إذا كان الإجمال من الجهات الأخر ، كالمكان أو الزمان واللباس ونحو ذلك ، فليس مورد استصحاب الكلي ، بل هو من قبيل استصحاب الفرد المردد الممنوع عنه ، نظير ما لو علم بوجود زيد في الدار ، وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي الّذي انهدم فمات ، وان يكون في الجانب الغربي فهو حي. أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين عشرة دراهم ، ثم ضاع

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٤٢٢. أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

١٠٨

أحدها ، واحتمل كونه درهم زيد ، فلا يجري في شيء من ذلك استصحاب بقاء المتيقن السابق ، لأنّه أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنما الترديد في المحل.

وفيه : انه على هذا يستصحب بقاء الفرد بخصوصه. وعدم كونه اصطلاحا من استصحاب الكلي لا يضر بما هو المقصود ، ففي المثال يقال : وجود شخص زيد في الدار كان متيقنا ، فيستصحب ، سمى باستصحاب الكلي أم لم يسم ، وليس هذا من استصحاب الفرد المردد واقعا كما هو واضح. وأما عدم جريان استصحاب بقاء درهم زيد في المثال الثاني فهو من جهة المعارضة باستصحاب بقاء درهم غيره.

ثانيهما : ان استصحاب بقاء طبيعي النجاسة في العباء لا بد وأن يكون بنحو مفاد كان التامة ، ولا يترتب عليه أثر أصلا ، فان ما يحتمل ترتبه على بقاء كلي النجاسة في الثوب أمران ، أحدهما : عدم جواز الصلاة فيه ، ويكفي في ثبوته وتنجزه نفس العلم الإجمالي السابق ، ثانيهما : نجاسة الملاقي ، وهي لا تترتب عليه إلّا بنحو الأصل المثبت.

ومن هنا فرق شيخنا الأنصاري في استصحاب الكرية بينما إذا كان المتيقن وجود الكر في الحوض فاستصحب بقائه ، وما إذا كان المستصحب كرية الماء فيترتب على الثاني طهارة المتنجس المغسول به دون الأول ، لأنه لا يثبت كرية الماء الموجود في الحوض. والمقام من هذا القبيل ، فانه إذا جرى استصحاب نجاسة أحد الطرفين بخصوصه من الأعلى والأسفل بنحو مفاد كان الناقصة ، وحكم بنجاسته تعبدا ، والمفروض ان الملاقاة أمر وجداني ، فيكون الملاقي ملاقيا وجدانا لما هو نجس بالتعبد ، فيحكم بنجاسته ، إلّا أن استصحابها كذلك غير جار ، لأن نجاسة الطرف الأعلى متيقن الارتفاع والطرف الأسفل مشكوك الحدوث. وأما استصحاب طبيعي النجاسة في الثوب فلا يترتب عليها نجاسة الملاقي إلّا على القول بالأصل المثبت ، بداهة ان الملاقاة كانت مع الأطراف لا الكلي.

١٠٩

وفيه : انه يمكن استصحاب النجاسة بنحو مفاد كان الناقصة ، لكن لا بعنوان الطرف الأعلى أو الأسفل ، ليدور الأمر بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث ، بل بعنوان جزء من الثوب أو العباء ، ونفرضه خيطا واحدا فنقول : كان ذاك الخيط نجسا يقينا ، فان كان في الطرف الأعلى فقد طهر ، وإن كان في الطرف الأسفل فبعد باق على نجاسته ، فيستصحب نجاسته بنحو مفاد كان الناقصة ، والمفروض ان الملاقاة أمر وجداني ، فتثبت نجاسة الملاقي.

فالإنصاف : ان ما ذكره السيد ليست بشبهة ، بل نلتزم به ، ولا يلزم منه رفع اليد عن استصحاب الكلي ، ولا عن طهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة في غير المقام. كما لا يلزم منه أن تكون الملاقاة مع مقطوع الطهارة موجبة للنجاسة.

توضيح ذلك : ان طهارة ملاقي بعض أطراف الشبهة لم تكن لدليل خاص ، بل كانت على القاعدة ، حيث ان العلم الإجمالي إنما يوجب التنجيز وسقوط الأصول في أطرافه فقط ، والملاقي لبعضها ليس من أطرافه ، فيجري فيه قاعدة الطهارة بلا معارض. وفي مورد الشبهة لا تجري قاعدة الطهارة في الملاقي لوجود أصل حاكم عليه ، وهو استصحاب نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ فالملاقاة مع مقطوع الطهارة لم توجب نجاسة الملاقي ، وإنما أوجبها عدم جريان قاعدة الطهارة فيه.

نعم ملاقاته مع الطاهر أوجبت وجود الأصل الحاكم ، وهذا نظير ما إذا شك في طهارة شيء ، وجرى فيه قاعدة الطهارة ، وفرض ان دخول زيد في الدار أوجب القطع بنجاسته ، فان دخوله ليس موجبا لنجاسة ذلك الشيء ، بل هو موجب للقطع بالنجاسة ، فلا تجري قاعدة الطهارة.

وبالجملة التفكيك بين الأصول العملية غير عزيز. وكأن السيد قدس‌سره جعل طهارة ملاقي الشبهة مطلقا أمرا مفروغا عنه ، فأشكل على استصحاب الكلي.

١١٠

بقي فرع لا بأس بذكره ، وهو أنه إذا دار أمر النجس من أول الأمر ، أي قبل أن يحكم بطهارته ، بين كونه من النجاسات الذاتيّة ، أو من النجاسات العرضية ، كما إذا كان هناك شعر علم نجاسته ، وتردد بين ان تكون ذاتية بان كان شعر خنزير ، أو عرضية لكونه ملاقيا مع البول ، فلا محالة يشك في طهارته إذا غسل ، فهل تستصحب نجاسته أو لا؟ اما بناء على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، فيستصحب عدم كونه معنونا بعنوان النجس بالذات ككونه شعر خنزير ، فيدخل بذلك تحت مطلقات أدلة غسل المتنجس ، ومقتضاها طهارته بالغسل. وأما على القول بعدم جريانه ، فلا مانع من استصحاب بقاء النجاسة.

وإذا فرضنا شيئا حكم بطهارته ابتداء ، ثم علمنا بنجاسته ، ودار أمرها بين الذاتيّة والعرضية ، كما إذا شك في الصابون المجلوب من الخارج انه من شحم الميتة مثلا أو من الزيت ، فقاعدة الطهارة تقتضي طهارته ، فإذا لاقى النجس بعد ذلك يعلم بنجاسته ، وتتردد بين أن تكون ذاتية أو تكون عرضية ، فإذا غسلناه نشك في ارتفاعها ، لأنها على الأول باقية ، وعلى الثاني مرتفعة ، إلّا أن الظاهر فيه هو الحكم بالطهارة من غير حاجة إلى التمسك باستصحاب العدم الأزلي ، وذلك لأن مقتضى الطهارة الظاهرية الثابتة فيه قبل العلم بنجاسته ترتيب آثار الطهارة الواقعية عليه ، ومن آثارها أنه يطهر بالغسل أو بإصابة المطر ونحو ذلك إذا تنجس.

هذا كله في القسم الثاني من استصحاب الكلي. وليعلم ان تفصيل البعض في استصحاب الشخص بين الشك في المقتضي والشك في الرافع جار هنا ، لوجود الملاك ، فتمثيل الشيخ في المقام بالحيوان المردد بين الفيل والبق لا يناسب مسلكه ، لأنه من الشك في المقتضي الّذي لا يلتزم به.

القسم الثالث : من استصحاب الكلي وهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد متيقن الارتفاع ، واحتمل بقائه في ضمن فرد آخر احتمل وجوده معه أو

١١١

حدوثه مقارنا لانعدامه بحيث لم يتخلل بينهما فصل زماني فهل يجري فيه الاستصحاب مطلقا ، أو يفصل بين الصورتين ، أعني بينما إذا احتمل تقارن الفرد المعلوم تحققه مع الفرد الآخر المحتمل في الوجود وما إذا احتمل حدوثه حين انعدامه. وهو مختار الشيخ (١) زعما منه ان في الفرض الثاني قد علم انحصار المتيقن من وجود الكلي بما تيقن ارتفاعه ، فلا يحتمل كون الثابت في الآن اللاحق بقاء للمتيقن السابق ، لمكان العلم بانحصاره فيما هو زائل قطعا ، فلا معنى فيه للاستصحاب ، وهذا بخلاف الفرض الأول ، حيث لا علم فيه بالانحصار ، لأن اليقين بوجود الكلي وإن كان مسببا عن اليقين بوجود الفرد الخاصّ المتيقن ارتفاعه ، إلّا ان ذلك لا يستلزم العلم بانحصار وجود الكلي بما تحقق في ضمن ذاك الفرد ، بل لا ينافي احتمال وجوده في ضمن فردين ، فيشك في بقاء المتيقن السابق ، فيستصحب. أو لا يجري فيه الاستصحاب مطلقا وجوه؟

والصحيح هو الثالث ، وذلك لوضوح أن مورد الاستصحاب إنما هو الوجود أو العدم لا الماهية ، على ما هو ظاهر دليل المنع عن نقض اليقين بالشك ولزوم الجري على طبق اليقين السابق. كما انه لا ريب أيضا في ان الكلي وإن كان موجودا حقيقة ، ولذا أسند إليه الوجود بلا عناية ، كما يسند إلى الفرد ، إلّا انه ليس له وجود مستقل ، وإنما هو موجود بوجود أفراده ، ووجوده في كل فرد مغاير لوجوده في ضمن الفرد الآخر ، وإن كانت الأفراد واحدة بالنوع أو بالجنس ، ولذا لا يصح حمل بعض الأفراد على بعض وإن كانت مماثلة ، فلا يقال زيد عمر أو الفرس بقر ، فالمضاف متعدد وان كان المضاف إليه واحدا.

وعليه فاليقين بوجود الفرد إنما يستلزم العلم بتحقق الكلي بذاك الوجود الخاصّ ، فما تعلق به اليقين من وجود الكلي هو وجوده في ضمن الفرد المعلوم

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٠ (ط. جامعة المدرسين).

١١٢

وقد ارتفع قطعا ، ووجوده في ضمن الفرد الآخر مشكوك الحدوث ، وليس هناك شيء ثالث سوى الطبيعي ، وهو غير قابل للاستصحاب. وهذا من غير فرق بين الصورتين ، بداهة ان احتمال عدم انحصاره فيه لا يجدي في جريان الاستصحاب بعد عدم تمامية أركانه.

وبالجملة الوجه في فساد التفصيل هو ان المسبب يدور مدار سببه سعة وضيقا ، فالعلم بوجود الفرد لا يستدعي سوى العلم بتحقق الكلي بذاك الوجود لا أكثر ، والمفروض ارتفاعه قطعا ، فكيف يستصحب.

وبما بيناه ظهر الفرق بين هذا القسم والقسم الثاني ، فانه في القسم الثاني يشك في بقاء وجود الكلي الّذي علم حدوثه بعينه من جهة احتمال كون الفرد الحادث هو الباقي ، فيستصحب ذاك الوجود بشخصه. وهذا بخلاف القسم الثالث ، حيث يعلم فيه بارتفاع الوجود المتيقن حدوثه ، ويشك في بقائه بوجود فرد مشكوك حدوثه.

وقد أورد على الشيخ بوجه آخر حاصله : انه إذا احتمل المكلف حدوث الجنابة حال النوم وجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل ، وعدم ارتفاع حدثه بخصوص الوضوء ، بناء على جريان استصحاب الكلي في الصورة الثانية من هذا القسم ، فان بعد ما نام وأحدث بالأصغر يحتمل تحقق فرد آخر من الحدث مقارنا له ، وهو باق لم يرتفع بالوضوء ، وهذا لا يمكن الالتزام به.

ونقول : أما مختار الشيخ فهو غير تام كما عرفت. ولكن هذا الإيراد غير وارد عليه ، لما مر من ان استصحاب الكلي في المثال محكوم باستصحاب عدم حدوث الجنابة ، ومقتضى التفصيل في الآية الشريفة ان القاطع للشركة انّ المحدث إذا لم يكن جنبا وجب عليه الوضوء دون الغسل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم موضوعه ، فلا مجال لاستصحاب الحدث.

١١٣

ثم انه ذكر في الكفاية (١) ان المشكوك فيه إذا كان من مراتب المتيقن ، وكان الاختلاف بينهما بمجرد الشدة والضعف ، كما في الألوان فيما إذا تيقن الإنسان بتحقق السواد الشديد مثلا ، ثم علم بارتفاع تلك المرتبة ، وشك في ارتفاعه رأسا وبقائه في ضمن مرتبة ضعيفة ، جرى فيه الاستصحاب ، لأن الضعيف والقوي من طبيعة واحدة وان كانا مختلفين في الوجود حقيقة ، إلّا أنهما متحدان بنظر العرف واختلاف المرتبة يعد من الأوصاف والحالات ، فكأن نفس الوجود المتيقن يشك في بقائه ، فيستصحب.

ونقول : أما ما أفاده من جريان الاستصحاب فيما إذا احتمل حدوث مرتبة أخرى بعد انعدام المرتبة المتيقنة ، كما إذا علمنا بارتفاع ما كنا على يقين منه من مرتبة عدالة زيد أو علمه ، واحتملنا حدوث مرتبة أخرى منها أشد أو أضعف ، فهو تام لا شبهة فيه ، إلّا أن عده من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، كما هو ظاهر كلامه ، غير صحيح ، لأنه يعتبر فيه أن يكون هناك وجودان ، أحدهما : متيقن الارتفاع ، والآخر : محتمل الحدوث ، وليس المقام هكذا ، بداهة ان اختلاف المرتبة لا يوجب ذلك ، بل المراتب المختلفة ماهية واحدة موجودة بوجود واحد حقيقة. وهذا أحد البراهين التي أقيمت على أصالة الوجود ، فانهم ذكروا أن الماهية لو كانت هي الأصيلة لزم تحقق أمور أصيلة غير متناهية فيما بين المبدأ والمنتهى عند اختلاف مراتب الكم والكيف ، لاستحالة الطفرة ، فان كل مرتبة منها ماهية مستقلة ، فإذا كانت الطفرة مستحيلة ، لا بد وأن يكون الرقي من الضعف إلى الشدة بالترتيب ، وكل مرتبة تفرض فهي قابلة للتجزية ، فيلزم المحذور المزبور.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٤.

١١٤

وكيف كان لا ريب في ان المراتب المختلفة بالشدة والضعف كلها موجودة بوجود واحد حقيقة. وعليه فهما شك في بقاء المتيقن بمرتبته الأخرى ضعيفة أو شديدة فنفس الوجود المتيقن هو الّذي يحتمل بقاؤه ، فاستصحابه من قبيل القسم الأول.

بقي الكلام فيما حكاه شيخنا الأنصاري عن الفاضل التوني. فانه قدس‌سره أورد على المشهور حيث ذهبوا إلى نجاسة اللحم والجلد مما شك في وقوع التذكية عليه تمسكا بأصالة عدم التذكية ، بأنها أعني الذبح مع الشرائط المعتبرة فيه لازم أعم للميتة التي هي الموضوع للنجاسة والحرمة ، فان عدم التذكية قد يجتمع مع الحياة فلا يترتب عليه النجاسة ولا الحرمة ، وقد يقارن زهاق الروح ، والمتيقن إنما هو عدم التذكية حال الحياة ، واستصحابه لا يثبت عدم التذكية حال زهاق الروح.

وبعبارة أخرى : موضوع النجاسة والحرمة أمر وجودي ، وهو الموت ، ولا يثبت باستصحاب عدم وقوع التذكية على الحيوان الّذي كان متيقنا حال حياته ، فانه نظير التمسك باستصحاب بقاء الضاحك في الدار ، فيما إذا علم بوجود زيد فيها ، وعلم خروجه منها أيضا ، مع احتمال دخول عمرو مقارنا لخروجه ، لإثبات وجود عمرو في الدار ، وهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، فحينئذ يجري استصحاب عدم كونه من الميتة ، فان لم تعارضه أصالة عدم التذكية ترتب عليه الحل والطهارة ، وان سقط بالمعارضة كانت قاعدة الطهارة والحل كافية لإثباتهما.

وأشكل عليه الشيخ ، أولا : ان الميتة شرعا عبارة عما لم يذك ، فالموت عنوان عدمي.

وثانيا : ان النجاسة والحرمة رتبا على ما لم يذك. واستدل عليه بآيات

١١٥

وروايات. فمن الآيات قوله سبحانه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)(١) وقوله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(٢) ، فالموضوع مركب من الحيوان الّذي زهق روحه ولم تقع التذكية عليه ، ويمكن إحرازه بضم الوجدان إلى الأصل ، فبالوجدان يحرز زهاق الروح ، وبالأصل عدم وقوع التذكية عليه ، فيحكم بنجاسته وحرمته (٣).

ويؤكد ما ذكره الشيخ تسالمهم على نجاسة الحيوان الّذي لم يمت حتف أنفه ولم يذبح مع الشرائط المعتبرة في التذكية ، كما إذا ذبح على غير القبلة ، أو بغير الحديد إلى غير ذلك ، فان النجاسة لو كانت مترتبة على عنوان الميتة وكان أمرا وجوديا لزم أن لا يحكم فيه بالنجاسة.

وأشكل على الفاضل التوني أيضا بما حاصله : بأن النجاسة وان رتبت على الميتة إلّا أنها رتبت على ما لم يذك أيضا ، فللنجس فردان ، الميتة وغير المذكى ، فإثبات عنوان الميتة وان لم يمكن بأصالة عدم التذكية ، إلّا ان ثبوت العنوان العدمي كاف في نجاسته.

ونقول : الصحيح ما ذهب إليه الفاضل التوني. ولا يرد عليه شيء من الإشكالين.

أما ما أورده الشيخ أولا من أن الميتة أمر عدمي ، فهو مخالف للفهم العرفي وما صرح به بعض اللغويين من ان الموت عبارة عن زهاق الروح بحتف الأنف.

وأما ما ذكره ثانيا من ان كون موضوع النجاسة هو اللحم أو الجلد الّذي لم تقع التذكية عليه ، مستدلا بالآيات والأخبار.

ففيه : ان جميع ذلك وارد في حرمة الأكل ، أو عدم جواز الصلاة فيه ، وليس

__________________

(١) الأنعام : ١٢١.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤١ ـ ٦٤٢ (ط. جامعة المدرسين).

١١٦

شيء منها ناظرا إلى النجاسة ، فقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) صريح في حرمة الأكل. كما ان المستثنى منه في الآية الثانية أيضا كذلك ، وكلام الفاضل التوني ليس في حرمة الأكل ، ولا في عدم جواز الصلاة ، بل هو ناظر إلى النجاسة. وكأن الشيخ لم يتأمل كلامه كما هو حقه. ومن الظاهر عدم ترتب النجاسة على ما لم يذك في شيء من الأدلة.

نعم قد يتوهم ذلك من مفهوم رواية الصيقل وقوله عليه‌السلام فيها (وإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس) بدعوى ان مفهومه أنه إذا لم يكن ذكيا ففيه بأس ، والمراد بالبأس النجاسة. وقد أجبنا عنه في بعض تنبيهات البراءة بضعف السند والدلالة. أما ضعف السند فظاهر. وأما ضعف الدلالة فلعدم تحقق المفهوم لهذه الجملة ، إذ المراد بما لم يذك فيها هي الميتة المسئول عنها في صدر الرواية ، والقرينة على ذلك عدم ثبوت المفهوم لها بالإضافة إلى القيد الآخر المذكور فيها ، وهو قوله عليه‌السلام (وحشيا) بداهة عدم خصوصية لكون الحيوان وحشيا في نفي البأس أصلا.

وأما الإشكال الآخر فيرده : ان دعوى ثبوت النجاسة لعنوان غير المذكى تحتاج إلى دليل ، ولم نعثر عليه.

فالصحيح : ما ذهب إليه الفاضل التوني من طهارة اللحم والجلد المشكوك وقوع التذكية عليه وان حرم أكله ولم تصح الصلاة فيه.

القسم الرابع : من استصحاب الكلي وهو ما إذا حصل للمكلف يقينان ، وتعلق كل منهما بعنوان مغاير لما تعلق به الآخر ، واحتمل اتحاد المعنون بهما خارجا مع العلم بزوال ما تعلق به اليقين الأول ، مثلا بأن علم بشيء من طريق الرؤية وعلم بارتفاعه ، وعلم أيضا من طريق السمع مثلا بتحقق عنوان قابل للانطباق على المتيقن الأول الّذي علم زواله ومحتمل الانطباق على فرد آخر يحتمل بقاؤه ، كما إذا

١١٧

رأى زيدا في الدار ، فعلم بوجوده فيها ، ثم رآه قد خرج ، وسمع صوت متكلم ، فعلم بوجوده فيها بهذا العنوان واحتمل كونه زيدا الّذي علم بخروجه كما احتمل أن يكون غيره وهو باق في الدار بعد جزما أو احتمالا.

والفرق بينه وبين القسم الثاني والثالث واضح. ففي القسم الثاني لم يتعلق اليقين بارتفاع المتيقن أصلا ، بل كان المتيقن مرددا بين متيقن الارتفاع ومشكوك البقاء ، فاليقين بالارتفاع فيه كان تقديريا ، بخلاف ما نحن فيه ، حيث يعلم المكلف بزوال ما علم بتحققه أولا. وفي القسم الثالث وان كان اليقين بارتفاع الفرد المتيقن حدوثه موجودا ، فهما مشتركان من هذه الجهة ، إلّا انه ليس فيه إلّا يقين واحد ، قد تعلق بأمر واحد ، وهو الفرد المتيقن زواله ، وفي المقام يقينان تعلقا بعنوانين ، أحدهما : ذات زيد في المثال ، والآخر : عنوان المتكلم ، بحيث لو سئل عما علم به أجاب بأني عالم بأمرين.

ويجري فيه الاستصحاب ، لتمامية أركانه ، إذ لا يعتبر فيه سوى اليقين بحدوث شيء بأي عنوان تعلق اليقين به والشك في بقائه ، ففي المثال تحقق الإنسان في الدار بعنوان المتكلم متيقن ، ويشك في بقائه ، فيستصحب بقاء الطبيعي الملغى عنه خصوصية كونه في ضمن زيد أو عمرو. ولا يعتبر في الاستصحاب كون المتيقن معلوما بذاته دون عنوانه ، على ما هو ظاهر إطلاق الأدلة.

نعم ربما يكون هذا الاستصحاب معارضا باستصحاب آخر شخصي أو كلي ، فيسقطان بالمعارضة ، والمثال الشرعي لذلك ما إذا علم المكلف بالجنابة ليلة الخميس ، وعلم بارتفاعها بالغسل ، ثم رأى في ثوبه أثرا ، فعلم بحدوث الجنابة حين خروجه بهذا العنوان ، وتردد بين ان تكون هي الجنابة السابقة التي اغتسل منها ، أو تكون جنابة أخرى باقية ، فيستصحب بقاء طبيعي الجنابة المتيقنة حين خروج ذاك الأثر مع إلغاء خصوصية كونها هي الجنابة السابقة أو غيرها ، ويعارضه استصحاب

١١٨

بقاء شخص الطهارة المتيقنة حين الفراغ من الغسل ، فانه يشك في ارتفاعها ، فيستصحب بقاؤها. ونظيره ما إذا علم بأنه أتى بوضوءين وحدث ، واحتمل كون الحدث بعد الوضوء الأول وقبل الوضوء الثاني فالطهارة الحاصلة منه باقية ، أو بعد كلا الوضوءين فالوضوء الثاني كان تجديديا ، فهو محدث فعلا ، فيستصحب بقاء الطهارة المتيقنة حين فراغه من الوضوء الثاني ، سواء كانت مسببة عنه أو عن سابقه على تقدير كونه تجديديا ، إلّا أنه يعارضه استصحاب بقاء الحدث المتيقن حينما أحدث المشكوك ارتفاعه.

وبالجملة فاستصحاب الكلي في القسم الرابع جار في نفسه ، فكلما عارضه استصحاب آخر كما في المثالين سقط بالمعارضة ، وإلّا عمل على طبقه كما في المثال العرفي المتقدم.

وللمحقق الهمداني قدس‌سره تفصيل في جريان الاستصحاب في المقام بين تعدد السبب ووحدته ، أي بينما إذا كان تحقق ذات السبب ثانيا متيقنا والشك في سببيته وتأثيره وما إذا كان الشك في أصل تحققه ، فصحح جريان الاستصحاب في الأول دون الثاني ، لأن مرجع الشك فيه إلى حدوث ما يوجب ، والأصل عدمه. مثال الأول ما لو علم بوضوءين وشك في سببية الثاني للطهارة لاحتمال كونه تجديديا ، فيستصحب فيه الطهارة. ومثال الثاني ما إذا علم بالجنابة والاغتسال منها ، ثم رأى في ثوبه أثرا ، واحتمل كونه هو السبب الأول للجنابة وكونه سببا آخرا غير الأول ، فلا يجري فيه استصحاب الجنابة ، لجريان استصحاب عدم تحقق السبب لها ثانيا ، وزعم قدس‌سره تقدمه على استصحاب الجنابة على ما يظهر من بعض كلماته.

وبما ذكرناه ظهر فساد هذا التفصيل ، لأن العلم بتعدد السبب لا ربط له باستصحاب المسبب ، بل جريانه فيه يدور مدار العلم بتحقق نفس المسبب حدوثا

١١٩

والشك فيه بقاء ، وهو موجود في الصورتين ، بداهة تيقن المكلف في الصورة الثانية أيضا بالمسبب أي الجنابة حين خروج الأثر ، والشك في ارتفاعه ، فيستصحب ، وإن لم يكن له علم بتعدد ذات السبب.

وبعبارة أخرى : جواب هذا التفصيل ما بيناه في دفع ما أورد به على استصحاب الكلي في القسم الثاني ، حيث توهم ان منشأ الشك في بقاء الكلي هو الشك في حدوث الفرد الطويل ، وأصالة عدم حدوثه حاكمة على استصحاب الكلي.

وأجبنا عنه بوجهين :

أحدهما : أنه ليس الشك في بقاء الكلي مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، بل هو مسبب عن الشك في كيفية الحادث ، وأنه هو الفرد الطويل أو القصير ، وليس لها حالة سابقة لتستصحب.

ثانيهما : ان ارتفاع الكلي ليس أثرا شرعيا لعدم حدوث الفرد الطويل ليكون التعبد به رافعا للشك في بقاء الكلي وتتم الحكومة.

وفي المقام يجري كلا الوجهين فنقول :

أولا : ليس الشك في بقاء الكلي كطبيعي الجنابة مسببا عن الشك في حدوث الفرد الثاني من السبب ، وإنما هو مسبب عن احتمال انطباق ما تعلق به اليقين الثاني على ما تعلق به اليقين الأول وعدمه.

وثانيا : نسلم ذلك إلّا ان ارتفاع الكلي ليس أثرا شرعيا لعدم حدوث الفرد الثاني من السبب ليكون التعبد به رافعا للشك في بقاء الكلي على ما هو شأن حكومة أحد الأصلين على الآخر.

وعليه فلا يمنع أصالة عدم حدوث الفرد الثاني في السبب من استصحاب بقاء الكلي. نعم يكون معارضا له.

١٢٠