دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الاستصحاب فيه إذا احتمل ارتفاعه ، بزعم ان الميزان في الضرر بالظن ، وهو يحصل بالاستصحاب (١).

وفي كلا شقي كلامه نظر. أما ما ذكره من استثناء الضرر ففيه :

أولا : ان الاستصحاب لا يفيد الظن الشخصي ، كما صرح به الشيخ قدس‌سره نفسه ، ولا الظن النوعيّ كما بيناه.

وثانيا : ان الميزان في الضرر غالبا خوفه ، لا الظن به ، وهو يحصل بنفس الاحتمال العقلائي من دون احتياج إلى الاستصحاب.

وأما ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب في غير الضرر مما أخذ في موضوع الحكم المستكشف بدليل العقل ، فلم يكن مترقبا من الشيخ قدس‌سره ، لأن تبعية حكم الشرع لحكم العقل إنما هي في الأحكام الكلية والكبريات ، لا في الأحكام الجزئية وتطبيقها على الصغريات ، بل ليس للعقل فيها حكم أصلا ، وإنما شأنه إدراك الأحكام الكلية ، وأما اتصاف الفعل الخاصّ الصادر من الشخص المعين بالحسن أو القبح فإدراكه ليس من شأنه ، إذ لا طريق للعقل إلى إحراز قصد الفاعل وداعيه ، الّذي به يختلف حسن الفعل وقبحه.

وعليه فإذا حكم العقل بحسن إكرام العالم العادل ، واستكشفنا به وجوبه شرعا ، وكان زيد متصفا بالصفتين ، ثم احتملنا زوال علمه أو عدله ، فشككنا في بقاء وجوب إكرامه ، نستصحب بقاء اتصافه به ، ويترتب عليه وجوب إكرامه.

وبالجملة لا فرق في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية أو الجزئية في نفسها أو موضوعها بين ما إذا كان الحكم مستكشفا من الكتاب أو السنة أو من حكم العقل ، لصدق عنوان نقض اليقين بالشك عرفا في جميع ذلك على حد سواء.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٥٤ ـ ٥٥٥ (ط. جامعة المدرسين).

٦١

نعم لنا كلام في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا ، سواء كان مدركه الدليل الشرعي أو حكم العقل.

٣ ـ التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية :

وحاصله : ان النراقي تبعا لجمع من المحدثين فصل في جريان الاستصحاب بين الأحكام الكلية الإلهية وغيرها ، واختار عدم جريانها فيها في مواضع من المستند ، ولم يبين وجهه تفصيلا. وما وجهه به شيخنا الأنصاري (١) غير ظاهر من كلامه. وعلى كل من ذهب إلى جريانه في الأحكام الكلية فدليله عموم العلة المستفاد من قوله عليه‌السلام «فانه لا ينبغي ان ينقض اليقين بالشك» وان كان موردها حكما جزئيا.

إلّا ان التفصيل في محله ، لا من جهة اختصاص الصحيحة بمقام دون مقام ، لما عرفت ان مفادها التعبد ببقاء اليقين ، وكونه حجة بقاء بالتعبد ، كما انه حجة حدوثا بالذات ، ولا لأجل ان موردها الشبهة الموضوعية ، لأنه يستفاد من التعليل الوارد فيها ومن غيرها أيضا كبرى كلية ، بل لأن الاستصحاب في الأحكام الكلية دائما معارض بمثله.

توضيح ذلك أن للحكم مرحلتان ، مرحلة الجعل أعني الاعتبار المبرز ، ومرحلة المجعول أي فعلية المعتبر والحكم الّذي تعلق به الجعل والتشريع. وان شئت عبر عن المرحلة الأولى بالجعل ، وعن الثانية بالمجعول ، أو عن الأولى بالاعتبار ، وعن الثاني بالمعتبر ، أو عن الأولى بالإنشاء ، وعن الثانية بالفعلية ، وكل ذلك صحيح ، ولا مناقشة في الاصطلاح ، فانه بعد تشريع الحكم بنحو القضية الحقيقية على الموضوعات المفروضة وجودها كما في قوله سبحانه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٦ (ط. جامعة المدرسين).

٦٢

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) جعل الحكم بعد ما لم يكن متحققا من دون توقف له على وجود الموضوع في الخارج ، بل ولا وجود مكلف أصلا. كما أنه بعد وجود الموضوع بما له من الخصوصيات يتحقق البعث أو الزجر الفعلي متعلقا بالأشخاص بعد ما لم يكن ، فإذا وجد المستطيع في الخارج يصير وجوب الحج فعليا ، وإذا تحقق الماء المتغير بالنجس صارت النجاسة فعلية.

ثم إذا تحقق الموضوع ووجد المجعول فمنشأ الشك في ارتفاعه أحد أمرين : اما الشك في بقاء الموضوع بعد إحراز مقدار سعة الحكم ، كما في الشبهات الموضوعية كالشك في بقاء التغير في الماء ، واما الشك في سعة المجعول وضيقه ، كما في الشبهات الحكمية. فالشك في بقاء الحكم يكون على أقسام ثلاثة :

الأول : الشك في بقاء الجعل من جهة احتمال النسخ ، ويجري فيه استصحاب عدم النسخ.

الثاني : الشك في بقاء المجعول أي الحكم الفعلي لأجل الشك في بقاء الموضوع ، فيجري فيه الاستصحاب ، ويترتب عليه الحكم.

الثالث : الشك في الحكم الفعلي من جهة الشك في سعة المجعول وضيقه ، الراجع إلى الشك في سعة ما أخذه الشارع موضوعا في مقام الجعل والتشريع بنحو القضية الحقيقية ، كما إذا شك في نجاسة الماء القليل المتمم كرا ، فان منشأه الشك في ان موضوع جعل النجاسة هو الماء في حال القلة فقط أو أعم منه ومما إذا تمم كرا. وكذا إذا شك في بقاء الملكية في بيع المعاطاة بعد فسخ أحد المتعاطيين ، أو بقاء الزوجية بعد قول الزوج أنت خلية أو برية ، أو في حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع الدم عنها مع بقاء حدثها لأنها لم تغتسل.

وفي هذا الفرض ، إن كان المجعول حكما انحلاليا ، وكان الزمان مفردا للمتعلق ، نظير حرمة وطئ الحائض ، التي تنحل بعدد ما يفرض للوطء من

٦٣

الأفراد ، ويكون لكل منها إطاعة وعصيان ، ووجوب إكرام زيد إذا تردد بين المرة والمرات ، فلا مجال فيه للاستصحاب على جميع المباني ، لأن الحكم المتيقن من الوجوب أو الحرمة الثابت في الزمان السابق سقط قطعا بالإطاعة أو العصيان ، والمحتمل منه لم يكن متيقنا في زمان ليستصحب.

وتوهم تعلق الحرمة أو الوجوب بالطبيعي ، فاسد لاستلزامه عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، ولزوم الرجوع فيها إلى الاشتغال ، للعلم حينئذ بتعلق التكليف بالطبيعة ، والشك في الخروج عن العهدة.

وأما إذا لم يكن المجعول انحلاليا كنجاسة الماء المتغير وشك في بقائه ، فهو مورد لاستصحابين باعتبارين ، فتارة : يلحظ اليقين والشك متعلقين بالحكم الفعلي ، أعني مرحلة المجعول ، فيقال نجاسة الماء كانت متيقنة ونشك في بقائها بعد زوال التغير أو تتميمه كرا فيستصحب بقاؤها. وأخرى : يلحظ اليقين والشك باعتبار تعلقهما بمرحلة الجعل والتشريع ، فيقال قبل ورود الشريعة لم يكن الماء القليل أو المتغير محكوما بالنجاسة ، ولا طرفا للجعل والتشريع يقينا ، وقد ثبت له الجعل في إحدى حالتيه ، وهي حالة التغير أو القلة ، وأما تشريع النجاسة له في حالته الأخرى أعني زوال قلته أو تغيره فمشكوك فيه ، فيستصحب عدمه.

وليس اللحاظان مجرد فرض لا واقع له ، بل هناك حقيقة يقينان وشكان ، أحدها في مرحلة الجعل ، والآخر في مرحلة المجعول ، وكل منهما في نفسه مورد للاستصحاب. أما مرحلة المجعول فواضح. وأما مرحلة الجعل ، فلأنه أيضا قابل للسعة والضيق ، وإلّا لما أمكن الجواب عما أورده الخوانساري على الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية من ان البيان من قبل المولى تام ، فانه جعل الحكم على الطبيعي ، وليس تطبيق الموضوع وبيانه من وظائف الشارع ، فإذا شك في خمرية مائع مثلا يقال ان التكليف بالاجتناب عن طبيعي الخمر معلوم ، والشك في

٦٤

الامتثال ، وهو مورد الاشتغال ، فانا أجبنا عن هذه الشبهة في محله بان مرجع الشك إلى الشك في جعل الحرمة للمائع المشكوك خمريته ، والأصل هو البراءة عنه ، فلو لم يكن الجعل انحلاليا قابلا للسعة والضيق لم يكن لهذا الجواب مجال.

وبالجملة فاستصحاب بقاء المجعول يعارضه استصحاب عدم الجعل في المقدار الزائد على المتيقن. ولعل ما ذكرناه هو مراد النراقي من تعارض الاستصحابين.

وعلى هذا البيان لا يرد ما أورده عليه في الكفاية (١) من ان جريان استصحاب عدم الجعل مبني على اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب بالنظر الدقي ، واستصحاب بقاء المجعول مبني على الاكتفاء ببقائه بالنظر العرفي ، فانه إذا جعل الميزان بالنظر الدقي كان الماء القليل مثلا مغايرا مع المتمم كرا ، فلا يجري فيه استصحاب النجاسة. كما انّه إذا جعل الميزان بالنظر العرفي فنفس الماء الواحد قد حكم الشارع بنجاسته ، فكيف يستصحب عدم نجاسته. وقد عرفت ان الميزان بنظر العرف لا الدقة ، وذلك لأن النراقي يسلم ان المعتبر اتحاد القضيتين بالنظر العرفي لا الدقي ، ومع ذلك يقول بتعارض الاستصحابين بالنظر إلى المرحلتين ، أعني الجعل والمجعول.

كما لا يرد عليه ما أورده الشيخ (٢) من ان الزمان أو الوصف إن كان مفردا بأن كان قيدا للموضوع ، وكان الفاقد للوصف فردا مغايرا لواجده ، لم يجر استصحاب بقاء الحكم ، وإلّا لم يجر استصحاب عدمه ، فان النراقي إنما أراد باستصحاب العدم استصحاب عدم الجعل ، وانه يعارض استصحاب بقاء المجعول بعد فرض الزمان مثلا ظرفا للحكم. فشيء من الإشكالين غير وارد على النراقي على ما أوضحناه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٨ ـ ٦٤٩ (ط. جامعة المدرسين).

٦٥

وليعلم ان ما ذكرناه في الشبهة الحكمية لا ينتقض بالشبهات الموضوعية ، فان الشك فيها إنّما هو في بقاء الموضوع ، فإذا شك في الطهارة لاحتمال تحقق النوم ، فإذا جرى فيه الاستصحاب وثبت بقاء الموضوع بالتعبد الشرعي ترتب عليه الحكم الشرعي لا محالة. وهذا بخلاف الشك في سعة المجعول وضيقه ، فانه ليس هناك شك من غير ناحية الحكم أصلا لا في بقاء ذات الموضوع ، ولا في شيء من خصوصياته ، ليجري فيه الاستصحاب ، إلّا بعنوان الموضوعية للحكم الّذي مرجعه إلى الشك في نفس الحكم ، وقد عرفت المعارضة فيه.

ومن ثم أنكرنا تبعا للشيخ جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية ، كما إذا ثبت وجوب إكرام العالم ، وشككنا في ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس أو يعمه وما انقضى عنه المبدأ. أما في الموضوع ، فلعدم الشك في بقاء ما كان متيقنا ، إذ المفروض أنه كان متلبسا بالعلم سابقا ، وقد انقضى عنه المبدأ بالفعل يقينا ، وأما في الحكم ، فلعدم إحراز الموضوع ، فلا تقاس الشبهة الحكمية بالموضوعية.

ثم ان الفاضل النراقي أشكل على نفسه بأن شرط استصحاب عدم الجعل وهو اتصال زمان اليقين بالشك مفقود ، فان زمان اليقين بعدم حرمة وطئ الحائض مثلا هو قبل الحيض ، وزمان الشك في ذلك بعد انقطاع الدم ، واتصالهما معتبر في الاستصحاب ، لمكان الفاء في الصحيحة.

ثم أجاب عنه باتصالهما ، لإمكان فرض زمان الشك أيضا قبل الحالتين ، فالجعل بالقياس إلى الزمان المشكوك فيه من أول الأمر كان مشكوكا.

واستغرب المحقق النائيني (١) من هذا الجواب ، وذكر ان اتصال زماني الصفتين وان كان ثابتا إلّا ان المعتبر اتصال زمان المتيقن بالمشكوك ، وهو مفقود ، مثلا إذا علم عدالة زيد يوم الجمعة ، وعلم بارتفاعها يوم السبت ، وشك

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٦٦

فيها يوم الأحد ، لم يجر استصحاب العدالة ، لأن المشكوك متصل بالفسق المتيقن يوم السبت ، لا بالعدالة المتيقنة يوم الجمعة ، والمقام من هذا القبيل ، لأن الحرمة الفعلية المتيقنة حال الحيض قد تخللت بين المتيقن والمشكوك ، فان المتيقن عدم حرمة الوطء قبل تحقق الحيض ، والمشكوك عدمها بعد انقطاع الدم قبل الغسل.

ونقول : ما أفاده قدس‌سره من عدم اعتبار اتصال زماني الصفتين وإن كان متينا ، وإلّا لاختص الاستصحاب بموارد نادرة ، إذ قل ما يتفق ان لا يتخلل بين اليقين والشك نوم أو غفلة أو نحو ذلك ، بل قد يحدثان في زمان واحد ، فالمعتبر اتصال زمان المتيقن والمشكوك ، إلّا أنه موجود فيما نحن فيه أيضا ، وذلك لأن الشك في بقاء المجعول مسبوق بيقينين ، أحدهما في مرحلة الجعل ، والآخر في مرحلة المجعول ، من دون ان يتخلل بين المتيقن والمشكوك في كل من المرحلتين شيء ، أما من ناحية الحكم الفعلي فواضح ، وأما من ناحية الجعل فلأن المشكوك تبدل عدم الجعل أزلا بالجعل في الزائد على المقدار المتيقن تبدله.

والحاصل : الشك في بقاء الحكم الفعلي مسبوق بيقينين في مرحلتين ، ففي مرحلة الجعل مسبوق باليقين بثبوت الحكم ، فيكون الشك شكا في البقاء ، فيجري فيه الاستصحاب ، وبما ان المجعول لا واقع له سوى الجعل ، بمعنى انه بعد فعلية الموضوع بنفسه يكون حكما فعليا ، فالشك فيه من ناحية الجعل مسبوق باليقين بالعدم ، ومن هذه الجهة يكون الشك في الحدوث ، فيجري فيه استصحاب عدم الجعل ، فيتعارضان.

وقد أورد عليه بوجوه :

الأول : ما يقال ان استصحاب بقاء الحكم الفعلي لا يعارضه استصحاب عدم جعله ، لأنه في نفسه معارض باستصحاب عدم جعل غيره ، بعد العلم الإجمالي

٦٧

بجعل الحكم الإلزامي أو الترخيصي في مورد الشك ، ويسقطان ، فيجري استصحاب بقاء المجعول بلا معارض.

وفيه : أولا : ان الترخيص كان ثابتا في أول الشريعة لجميع الأشياء ما لم يجعل لها إلزام من وجوب أو حرمة ، ويشهد له قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ليس عليكم السؤال» وقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) وهذا هو الترخيص العقلائي الثابت ببنائهم ، وقد أمضاه الشارع ، وموضوعه مغيا بعدم جعل الإلزام ، فإذا شك فيه كانت الشبهة موضوعية ، لأنه شك في بقاء موضوع الترخيص وارتفاعه بجعل الإلزام ، فيجري فيه الاستصحاب ، فيثبت حكمه وهو الترخيص ، فالاستصحاب من حيث الحكم الترخيصي مثبت للترخيص ، لا ناف له ليعارض به استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي.

وثانيا : سلمنا جريان الاستصحابين ، إلّا أنه لا وجه للمعارضة بينهما ، وذلك لأن المعارضة بين الأصلين الجاريين في طرفي العلم الإجمالي إنما تكون فيما إذا استلزم جريانهما المخالفة القطعية أو التعبد بمتناقضين ، وإلّا فلا مانع من جريانهما ، وشيء من الأمرين غير موجود في المقام.

أمّا المحذور الثاني ، فلأن التعبد بعدم الضدين ليس أمرا مستحيلا كالتعبد بالوجود والعدم. وأما المحذور الأول أعني المخالفة القطعية فعدم لزومه في مقام العمل ظاهر. واما في مقام الفتوى ، فلأن الفقيه إذا أفتى في الفرض بالإباحة تعويلا على أصل عملي ، لا يعلم بمخالفة فتواه للواقع ، لأن ثبوت الإباحة الواقعية محتملة.

هذا مضافا إلى أن مجرد المخالفة الالتزامية في الفتوى لو كانت مانعة عن الإفتاء لانسد بابها رأسا ، فان المجتهد لا يحتمل مطابقة جميع ما أفتى به وجمعه في

__________________

(١) الكافي : ١ ـ ١٦٤.

٦٨

الرسالة للواقع ، بل يعلم بمخالفة بعضها للحكم الواقعي ، لا من جهة الخطأ في الاستنباط ، فانه يمكن أن يطمئن الفقيه بعدم الخطاء فيه ، بل من جهة العلم بعدم مطابقة جميع مداركه للواقع ، فكيف يسوغ له تجويز العمل بما فيه.

والجواب عنه منحصر بما ذكرناه ، فانه وإن علم إجمالا بمخالفة بعض ما أفتى به للواقع ، إلّا ان كونها موجبة للمخالفة العملية غير معلوم ، فانه لا يعلم بأن بعض ما أفتى فيه بالترخيص محكوم بالحرمة أو الوجوب واقعا ليلزم منه المخالفة العملية ، بل يحتمل العكس ، بأن تكون المخالفة في الموارد التي أفتى فيها بالإلزام مع كونها محكومة بالإباحة واقعا ، التي ليست فيها مخالفة عملية لتمنع من الإفتاء ، بل المخالفة حينئذ التزامية محضة.

وثالثا : سلمنا المعارضة ، إلّا انها تقع بين استصحابات ثلاثة في عرض واحد ، أعني استصحاب عدم جعل الإلزام ، وعدم جعل الترخيص في مرحلة الجعل ، واستصحاب بقاء الحكم الفعلي في مرحلة المجعول ، فتسقط جميعا.

والسر في ذلك ان الاستصحاب في الشبهات الحكمية غير متوقف على ثبوت الموضوع خارجا ، بل المجتهد في مقام الاستنباط يفرض موضوعا ، فإذا تيقن بحكمه ثم شك فيه عند فرض تبدل بعض الخصوصيات يجري الاستصحاب ولو لم يكن ذلك الموضوع مخلوقا بعد ، فإذا يكون ظرف جريان الاستصحاب في مقام الجعل متحدا مع الاستصحاب في المجعول.

الثاني : وهو ما يتوهم من ان استصحاب عدم الجعل حاكم على استصحاب بقاء المجعول ، لأن الشك سببي ومسببي.

وهذا وإن كان موافقا بحسب النتيجة لما ذكرناه من عدم جريان الأصل في المجعول ، فان مقتضى ما ذكرناه سقوط استصحاب بقاء المجعول للمعارضة ، ومقتضى هذا الوجه سقوطه بالحكومة ، إلّا أنه غير تام في نفسه ، فان مجرد السببية غير كافية

٦٩

للحكومة ، بل لا بد فيها من كون الأصل الحاكم رافعا لموضوع الأصل المحكوم ، وهو الشك بإثبات متعلقه أو نفيه بأن كان أثرا شرعيا مترتبا عليه ، كنجاسة الثوب المغسول بماء يشك في طهارته ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فان الشك في بقاء المجعول وإن كان مسببا عن الشك في الجعل ، بل لا واقع للمجعول سوى الجعل ، فانهما نظير الفرض والمفروض ، والبناء والمبنى ، والوجود والماهية ، فالمجعول هو المعتبر ، والجعل هو الاعتبار ، ولا واقع للمعتبر إلّا الاعتبار. ولكن بقاء المجعول وعدمه ليس أثرا شرعيا للجعل ، بل هو من آثاره تكوينا ، فالحكومة غير ثابتة ، والصحيح هي المعارضة.

الثالث : ان مجرد الجعل لا يترتب عليه الأثر ، فانه انما يترتب على الحكم الفعلي ، حتى الأثر العقلي من البعث والزجر ، ولذا كثيرا ما نعلم بالجعل ولا يترتب عليه أثر ، لعدم فعليته بالقياس إلينا ، كعلمنا بوجوب الزكاة على من ملك مائتي درهم أو عشرين دينار بعد مضي الحول عليها ، فلا يترتب أثر عملي على استصحاب عدم الجعل ، واعتباره في الاستصحاب مما لا ريب فيه ، ولا يترتب عليه عدم المجعول إلّا بنحو الأصل المثبت.

وفيه : ما تقدم تفصيله في بحث الواجب المشروط من أن الأحكام سواء كانت تكليفية أو وضعية لا واقع لها سوى الاعتبار ، غاية الأمر ان الاعتبار قد يتعلق بأمر فعلي ، وقد يتعلق بأمر استقبالي ، فيكون الاعتبار فعليا والمعتبر متأخرا ، نظير الوصية ، إذ يعتبر الموصي لغيره الملكية بعد وفاته ، وفي الإجارة يعتبر الملكية الفعلية المتعلقة بأمر متأخر ، فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعليا ومتعلق المعتبر أمرا متأخرا. وبهذا فرقنا بين المعلق والمشروط ، ففي المعلق يكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعليا والمتعلق استقباليا ، وفي المشروط يكون الاعتبار فقط فعليا والمعتبر أمرا متأخرا لا يوجد إلّا بعد تحقق الشرط.

٧٠

والأحكام بأجمعها مشروطة بوجود موضوعها ، فيصح نفيها حقيقة إذا لم يتحقق موضوعها خارجا ، فإذا حكم الشارع بنجاسة الخنزير ، وقال : الخنزير نجس ، فمرجعه إلى انه إذا وجد في الخارج شيء وصدق عليه الخنزير فهو نجس ، فإذا فرضنا عدم وجود الخنزير في العالم صح نفي نجاسة الخنزير ، ويكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وعليه فتحقق الحكم المجعول يكون بثبوت أمرين ، أحدهما : تحقق الاعتبار والجعل ، ثانيهما : فعلية الموضوع. وأما عدم المجعول فيكفي فيه انتفاء أحد الأمرين ، فإذا تحقق الجعل ولم يتحقق الموضوع انتفى المجعول. كما انه إذا وجد الموضوع ولم يتحقق الاعتبار والجعل انتفى المجعول أيضا ، فإذا يكفي استصحاب عدم الجعل في انتفاء المجعول ، بل هو عينه لا لازمه ، لما عرفت من أنه لا واقع للمجعول سوى الجعل والاعتبار ، غاية الأمر إذا انتفى الجعل واقعا انتفى المجعول كذلك ، وإذا انتفى بالتعبد الاستصحابي ظاهرا حكم بانتفاء المجعول ظاهرا. ولا فرق من حيث الأثر في الحكم بانتفاء المجعول بين الظاهر والواقع ، ولهذا لم يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ أي بقاء الجعل ، بل ادعى المحدث الأسترآبادي ضروريته ، مع أنه لا يترتب عليه الأثر إلّا بعد فعلية الموضوع. نعم أثره جواز الإفتاء بالقياس إلى المفتي ، وهو غير متوقف على وجود الموضوع.

فتلخص : أنه لا مانع من استصحاب عدم الجعل ، ودائما يعارض به استصحاب بقاء المجعول ، إلّا في الشبهات الموضوعية التي هي مورد الصحيحة ، فانه يستصحب فيها بقاء الموضوع ، ويترتب عليه حكمه.

ولكن ما ذكرناه مختص بالأحكام الإلزامية وما يلحق بها من الأحكام الوضعيّة. ولا يجري في الإباحة وما يلحق بها من الطهارة الحدثية أو الخبثية ، فإذا شككنا في بقاء إباحة العصير التمري مثلا بعد غليانه أو الزبيبي ، مع قطع النّظر عن

٧١

الاستصحاب التعليقي ، يجري فيه استصحاب بقاء الإباحة الثابتة قبل الغليان ، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة لما بعد الغليان.

وذلك لما تقدم في دفع توهم المعارضة بين الاستصحابين في مرحلة الجعل ، من ان الإباحة غير محتاجة إلى جعل مستقل ، بل الإباحة العقلائية ثابتة لجميع الأشياء ما لم يجعل لها حكم إلزاميّ ، وقد أمضاها الشارع على ما يستفاد من قوله عليه‌السلام «اسكتوا عما سكت الله عنه» وغير ذلك ، فكأن الشريعة المقدسة إنما شرعت لبيان الإلزامات. وأما الترخيص فكانت الأشياء عليه قبل ثبوت الشرع ، فاستصحاب عدم جعل الإلزام يجري ، ويثبت به موضوع الإباحة ، فالشك في بقاء الإباحة مسبوق بيقينين في مرحلتين ، ومقتضى الاستصحاب في كليهما بقاء الإباحة.

وأما الطهارة الخبثية ، فكذلك كانت الأشياء عليها في أوّل الشريعة بحسب الارتكاز العقلائي ما لم تثبت لها نجاسة ، فأمضاها الشارع ، وهكذا الآثار المترتبة عليها ، فكل ذلك غير محتاج إلى جعل وبيان مستقل ، ولذا لم يبين طهارة كل موضوع مستقلا ، فلم يرد في دليل ان الشجر طاهر ، والحجر طاهر ، والمدر طاهر إلى غير ذلك ، وإنما بين النجاسات ، فهي المحتاجة إلى الجعل والبيان ، والذوق العرفي يوافق ما ذكرناه ، فان القذارة العرفية طارئة على الأشياء ، وهي المحتاجة إلى المئونة ، وإلّا فكل الأشياء طاهر عرفا ما لم يكن فيه موجب القذارة ذاتا أو عرضا.

وعليه فإذا شك في طهارة ماء التمر بعد ما غلى ، فاستصحاب طهارته بلا معارض ، إذ لا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة له ، بل الأصل عدم جعل نجاسته ، وهو موافق من حيث المؤدى لاستصحاب بقاء الطهارة.

وأما الطهارة عن الحدث ، فهي أيضا غير محتاجة إلى الجعل بقاء في كل حال

٧٢

وزمان ، بل هي ثابتة بعد تحقق سببها ، وناقضية النواقض محتاجة إلى الجعل ، لا عدم ناقضية ما ليس بناقض ، ولذا لو فرض عدم جعل الناقضية للنوم كانت الطهارة بنفسها باقية بعد تحققه خارجا.

وعليه فإذا شك في بقاء الطهارة بعد الرعاف جرى فيها الاستصحاب ، ولا يعارض باستصحاب عدم جعل الطهارة لما بعد الرعاف ، بل يجري في مرحلة الجعل استصحاب عدم جعل ناقضية الرعاف ، ومقتضاه بقاء الطهارة.

نعم في غير الطهارة من الأحكام الوضعيّة يتحقق التعارض ، فإذا شك في بقاء نجاسة الماء القليل المتمم كرا كان استصحاب بقاء نجاسته معارضا باستصحاب عدم جعل النجاسة له إلى هذا الحد.

٤ ـ التفصيل بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود :

وهذا ما ذكره المحقق السبزواري قدس‌سره. فذهب إلى جريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني. والوجه فيه على ما يظهر من كلماته انّ العنوان المأخوذ في الأخبار إنّما هو نقض اليقين بالشك ، فإذا كان الشك في بقاء المتيقن من جهة الشك في وجود الرافع كان موردا لتلك الأخبار ، لأنّ رفع اليد عن اليقين السابق يكون من مصاديق نقض اليقين بالشك. وإذا كان من جهة الشك في رافعية الموجود فليس رفع اليد عن اليقين السابق مصداقا لنقض اليقين بالشك ، بل هو من نقض اليقين باليقين ، سواء كان الشك في رافعية الموجود لشبهة حكمية ، كما إذا تحقق الرعاف في الخارج واحتملنا ناقضيته للطهارة ، أو لشبهة موضوعية ، كالشك في انّ البلل الخارج بول أو وذي ، وذلك لأن المعلول لا بد وأن يستند إلى الجزء الأخير من أجزاء علته ، ومن الظاهر ان الجزء الأخير من علة رفع اليد عن اليقين السابق في الفرض لم يكن الشك في ناقضية الرعاف مثلا ، ولا في رافعية البلل المردد للطهارة ، ولذا كان اليقين بالطهارة موجودا مع وجود هذا الشك ، بل المناقض

٧٣

لليقين السابق الموجب لرفع اليد عنه هو اليقين بتحقق ما يحتمل رافعيته ، فهو الجزء الأخير من العلة الثابتة لنقض اليقين السابق ، فيستند إليه ، فيكون من نقض اليقين باليقين لا بالشك.

وفيه : أنه ليس كل يقين أو شك ناقضا لكل يقين ، بل يعتبر في الناقض تعلقه بضد ما تعلق به اليقين السابق بحيث يتحد النقيضان ، وإلّا فلا علاقة بينهما ليكون أحدهما ناقضا للآخر.

وعليه ففي المقام لا يعقل ان يكون اليقين بتحقق الرعاف أو بخروج البلل ناقضا لليقين بالطهارة ، لعدم الارتباط ، بل الناقض لليقين بالطهارة هو الشك فيها ، وهو نتيجة الشك في رافعية الموجود ، أي الشك في الرافعية واليقين بتحقق ما يحتمل رافعيته.

وأما ما ذكره من مجامعة الشك في الرافعية مع اليقين بالطهارة فهو مغالطة ظاهرة ، بداهة ان في المقام شكان ، أحدهما : الشك في الكبرى الكلية أعني ناقضية الرعاف ، ثانيهما : في النتيجة المسبب عن الشك في الكبرى بعد العلم بتحقق صغراها في الخارج ، فانها تابعة لأخس المقدمتين ، وهو الشك في بقاء الطهارة. وما يناقض اليقين بالطهارة ويستحيل اجتماعه معه هو الثاني دون الأول ، فنقض اليقين يكون بهذا الشك ، فيعمه دليل المنع عن ذلك. نعم لو كانت الكبرى كانطباقها قطعية لكان النقض باليقين. فالتفصيل لا وجه له.

٥ ـ التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية :

وبيانه يبتني على تقديم أمور :

الأول : في الفرق بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية. لقد ذكرنا في محله أن الأحكام مطلقا بأنحائها من أفعال المولى ، وليس شيء منها عين الإرادة ولا الكراهة ، بل هما من مبادئ الحكم ومقدماته. وأما الحكم نفسه فهو اعتبار

٧٤

نفساني ، ولذا قلنا يستحيل إنشاؤه باللفظ ، بل اللفظ يكون مبرزا له من غير فرق في ذلك بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية ، وإنما الفرق بينهما من ناحية متعلق الاعتبار ، فان الاعتبار تارة يتعلق بفعل المكلف ، وأخرى بغيره. وعلى الأولى ان اعتبر المولى ثبوت الفعل على ذمة المكلف نظير ثبوت الدين على ذمة المديون كان هو الوجوب ، وقد عبّر عن الواجبات بالدين في قوله عليه‌السلام «دين الله أحق أن يقضى» وان اعتبر حرمان المكلف عن الفعل كان هي الحرمة ، وقد أطلق عنوان الحرام على الحرمان في بعض الأخبار ، كما ورد ان الجنة حرام على آكل الرّبا ، بداهة أنه ليس المراد به الحكم التكليفي ، بل المراد أنه محروم منها. وان اعتبر إرسال المكلف بالإضافة إلى الفعل فهو الإباحة بالمعنى الأعم ، الجامع بين الجواز والندب والكراهة. وهذه هي الأحكام التكليفية.

وأما إذا تعلق الاعتبار بغير فعل المكلف ، أو تعلق به ولكن لم يكن المعتبر أحد الأمور الثلاثة كان حكما وضعيا. فالحكم التكليفي منحصر بالأمر الاعتباري المتعلق بفعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير. وأما سائر الأمور الاعتبارية فجميعها أحكام وضعية ، سواء كان موردها فعل المكلف ، كاعتبار شرطية فعل أو جزئيته أو مانعيته ، أو نفس المكلف ، كاعتبار الزوجية لأحد الزوجين ، أو غير ذلك من الأمور الخارجية كاعتبار ملكية الأموال.

الثاني : لا خفاء في انقسام الأمور الخارجية إلى المتأصل وغيره. فان منها ما يكون له ما بحذاء في الخارج ولو بالفرض ، أي إذا فرض موجودا خارجا وان لم يكن له وجود خارجي كالعنقاء ، ويعبر عنها بالموجودات المتأصلة والمقولات كالجواهر والأعراض. ومنها ما ليس له ما بحذاء في الخارج ، بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه ، كالعلية والمعلولية ، فانه ليس لها ما بحذاء خارجي وإلّا لتسلسل ، إذ العلية لو كانت موجودة فوجودها محتاج إلى علة ، وينقل الكلام إلى

٧٥

علّيته وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فما هو الموجود في الخارج ذات العلة وذات المعلول ، والعلية منتزعة من ترتب الثاني على الأول. وكذا الحال في جميع العناوين الاشتقاقية ، فان الموجود الخارجي فيها ليس إلّا الذات والمبدأ ، وأما العنوان الاشتقاقي فهو منتزع من اتصاف الذات به على ما مرّ تفصيله في بحث المشتق. وهذا التقسيم جار في جميع الأمور الاعتبارية ، فان بعضها متأصلة في وعاء الاعتبار ، كالملكية المعتبرة عند الحيازة أو البيع ونحوها من الأحكام الوضعيّة والتكليفية ، فانها متأصلة في الجعل ، وبعضها ليست متأصلة ، كسببية الحيازة لحصول الملك ، فانها منتزعة من حكم الشارع بالملكية عند حصولها ، فهي مجعولة بالتبع. فالوجود الانتزاعي جامع بين الأمور الخارجية والاعتبارية ، بمعنى أنه يتصف به كل منهما ، وينقسم إليه كل منهما ، والفرق انما هو في الوعاء. كما ان الوجود المتأصل كذلك أيضا.

الثالث : أن الاعتبار كما عرفت من أفعال النّفس ، والموجود به هو المعتبر. وأما نفس الاعتبار فليس موجودا اعتباريا وإلّا لتسلسل ، بل هو موجود حقيقي كالتصور والبناء ونحو ذلك ، فان الموجود بالتصور هو المتصور في وعاء التصور ، وأما نفس التصور فهو موجود واقعي خارجي ، فالاعتبار أيضا موجود خارجا ، والمعتبر موجود بالاعتبار ، فنسبة المعتبر إلى الاعتبار نسبة الماهية إلى الوجود تقريبا.

إذا عرفت هذه الأمور نقول : فصل صاحب الكفاية (١) في جعل الأحكام الوضعيّة ، حيث قسمها إلى أقسام ثلاثة. وذهب إلى ان منها ما لا تناله يد الجعل لا بالأصالة ولا بالتبع ، كالشرطية والمانعية بالإضافة إلى التكليف ، فانها غير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

٧٦

مجعولة تشريعا ، لا بالأصالة ولا بالتبع ، بل هي منتزعة من خصوصية خارجية تكوينية في الشرط أو المانع ، كخصوصية الحرارة في النار. نعم تجعل بتبع إيجاد منشأ انتزاعها تكوينا ، فإذا تحقق شرط التكليف في الخارج فقد تحققت الشرطية بتبعه ، إلّا أنه جعل تكويني لا تشريعي. ومنها ما هي مجعولة بالتبع ، كشرطية شيء للمأمور به ، أو مانعيته عنه. ومنها ما هي مجعولة بالأصالة كالملكية والزوجية ونحوها.

ونقول : أما ما اختاره في القسم الأوّل ، أعني عدم تناول يد التشريع لجعل شرطية ما هو شرط التكليف ، أو مانعية ما هو مانع عنه ، فهو خلط بين الاعتبار والمعتبر ، فكأنه قدس‌سره زعم ان ما هو محل الكلام من مجعولية الشرط أو المانع وعدمها هو شرط الاعتبار ، لكنه توهم فاسد ، بداهة ان الاعتبار فعل اختياري للمولى ، كبقية أفعاله الاختيارية ، مستند إلى مبادئ الاختيار من التصور وموافقة الغرض ونحو ذلك إلى ان يصل الأمر إلى تحقق سببه وهو الإرادة ، ولا معنى لدخل الجعل الشرعي في شيء من ذلك ، ولا لتوهمه.

وإنما البحث عن شرطية شيء للحكم ، أعني المعتبر. واستحالة دخل أمر تكويني فيه أمر ظاهر ، لعدم السنخية بين الموجود الخارجي والموجود الاعتباري ، فشرطية شيء للمعتبر كالدلوك لوجوب الظهر منتزعة من جعل الشارع ، أعني اشتراط ما اعتبره من الوجوب بأمر وجودي كالدلوك ، كما أن شرطية الشيء للمأمور به منتزعة من تقييد الآمر متعلق حكمه به. وكذا المانعية ، فانها منتزعة من تقييد الآمر حكمه أو متعلق حكمه بأمر عدمي ، غاية الأمر يعبر اصطلاحا عن الأمر الوجوديّ المأخوذ في الحكم الوضعي بالسبب كالبيع في الملكية ، وعن الأمر الوجوديّ المأخوذ في الحكم التكليفي بالشرط.

٧٧

وبالجملة ما اختاره في هذا القسم من الخلط بين مقام الجعل ومقام المجعول ، فان محل الكلام مجعولية الثاني دون الأول ، ومن الواضح ان شرطية شيء للحكم أو مانعيته عنه مرجعها إلى أخذ أمر وجودي أو عدمي في موضوع الحكم ، فان كل ما يؤخذ شرطا فيه ولو كان ذلك بنحو الجملة الشرطية فهو قيد للموضوع ، مثلا قول المولى : إذا زالت الشمس فصلّ مرجعه إلى الحكم بوجوب الصلاة عند الدلوك. كما ان القيود المأخوذة في الموضوع في الحقيقة شرط للحكم ، وهذا معنى ما ذكروه من ان القضايا الحملية الحقيقية خبرية كانت أو إنشائية ترجع إلى قضايا شرطية مقدمها تحقق الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فمعنى قولك المستطيع يجب عليه الحج انه إذا وجد في الخارج مكلف وكان مستطيعا فليحج ، فالشرطية منتزعة من تقييد موضوع الحكم بأمر وجودي كالمكلف بالاستطاعة في المثال ، والمانعية منتزعة من تقييد الموضوع بأمر عدمي كتقييد المكلف في إيجاب الصلاة بالخلو عن الحيض ، بداهة انه إذا كان الموضوع مطلقا ولم يقيد لم تكن الاستطاعة شرطا في الأول ولا الحيض مانعا في الثاني ، ولم يكن مجال لانتزاع الشرطية ولا المانعية. وهكذا الحال في السببية فانها تنتزع من تقييد الموضوع في الحكم الوضعي بأمر وجودي. فما ذكره قدس‌سره في هذا القسم غير تام ، ناش من الخلط بين المرحلتين. كما ان ما ذكره من إنكار الشرط المتأخر مدعيا ان الشرط دائما هو اللحاظ ناشئ من ذلك.

وبما بيناه ظهر الحال في القسم الثاني ، أعني القيود المعتبرة في المأمور به شرطا أو جزء أو مانعا ، فان شرطية شيء له منتزعة من تقييد المولى متعلق أمره بأمر وجودي. كما ان جزئيته له منتزعة من أخذه جزء وإيقاع الأمر على ما هو المركب منه ومن غيره. ومانعيته منتزعة من تقييده بأمر عدمي. مثلا لو لم يقيد المولى ما تعلق به أمره من الصلاة بكونها إلى القبلة لم يكن ينتزع شرطيتها لها ، كما لم

٧٨

يعتبرها في النوافل على ما فسر بذلك قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فلم تكن شرطا فيها. كما انها إذا كانت مطلقة من حيث وقوعها في غير المأكول لم يكن ينتزع مانعيته عنها. وكذا الحال في الجزئية. فكلها مجعولة بالتبع ، غايته ينتزع شرطية شيء ومانعيته للحكم عن تقييد الموضوع ، وللمأمور به عن تقييد متعلق الحكم ، وهذا ظاهر.

وأمّا ما أفاده في القسم الثالث فهو متين جدا ، فان ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري (١) من كون الملكية والزوجية ونظائرها من الأحكام الوضعيّة منتزعة من أحكام تكليفية ثابتة في مواردها ، كجواز تصرف المالك ، وعدم جواز تصرف غيره إلّا بإذنه في الملكية ، وجواز النّظر والوطء في الزوجة وإن كان ممكنا ثبوتا ، كما انها قابلة للجعل وتعلّق الاعتبار بها مستقلا ففي مرحلة الثبوت كلا الأمرين ممكن.

إلّا انه إثباتا خلاف ظاهر الأدلة ، لترتبها على الملك في لسان الأدلة. ففي قوله عليه‌السلام «الناس مسلطون على أموالهم» (٢) جعل السلطنة من آثار المال المضاف وفرض الملكية ثم حكم بجواز التصرف فيما هو ملك. وفي قوله عليه‌السلام «لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا بإذنه» رتب المنع على ما فرض ملك الغير ، وكذا الحال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من نفسه» (٣) فهو أيضا أثر مترتب على الملك ، فكيف يمكن انتزاعه منه ، وهكذا الزوجية وآثارها. والظاهر ان الذوق العرفي أيضا يساعد جعلها استقلالا.

هذا مضافا إلى أنه وقوعا لم نعرف أثرا تكليفيا ملازما مع الحكم الوضعي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٠١ ـ ٦٠٣.

(٢) عوالي اللئالي : ١ ـ ٢٢٢.

(٣) عوالي اللئالي : ١ ـ ٢٢٢.

٧٩

في موارد ثبوته ، بل أي أثر يفرض منشأ لانتزاعه يكون بينهما العموم من وجه ، مثلا جواز التصرف والملكية قد يجتمعان. وقد يفترقان ، فيجوز التصرف ولا ملك كما في موارد حق المارة ، ويثبت الملك ولا ينفذ التصرف كما في المحجور عليه والسفيه والمجنون ، بل قد يحرم تكليفا أيضا ، كالتصرف في متعلق حق الغير كالمرهون. وهكذا عدم جواز التصرف في مال الغير بدون اذنه قد يجتمع مع الملكية للغير. وقد يفترقان ، كالتصرف في مال الغير عند المخمصة ، وعدم جواز تصرف الإنسان في مال نفسه لبعض الموانع. وكذا الحال في الزوجية ، فان بينها وبين جواز الوطء أو النّظر إلى العورة عموم من وجه كما هو ظاهر.

بل يرد على الشيخ جدلا ان لازم انتزاعية هذه الأحكام عدم إمكان التمسك بالاستصحاب لإثبات الأحكام التكليفية المترتبة على الحكم الوضعي فيما إذا لم تكن لها حالة سابقة وشك في ثبوتها ، كما إذا كان لأحد زوجة صغيرة ، ثم شك بعد بلوغها في انه طلقها أم لا ، فانه بناء على القول بجعل الزوجية مستقلا جرى فيها الاستصحاب ، لتمامية أركانه ، وترتب عليها جميع الأحكام التكليفية الثابتة قبل البلوغ ، كوجوب الإنفاق عليها ، والتي لم تثبت في تلك الحال كجواز الوطء. وأما على القول بانتزاعيتها ، فهي ليست حكما قابلا للاستصحاب ، إذ المجعول الثابت في الحقيقة لم يكن إلّا الحكم التكليفي الّذي كان منشأ لانتزاعها ، وهو بنفسه مورد الاستصحاب ، وأما الحكم التكليفي الّذي لم يكن ثابتا قبل البلوغ فالشك فيه شك في الحدوث ، فلا يجري فيه الاستصحاب إلّا تعليقيا. وكذا الحال في الملكية الثابتة للصبي بالقياس إلى جواز تصرفه بعد البلوغ فيما إذا شك في بيع الولي لماله قبل البلوغ.

وقد تحصل ان الشرطية للتكليف والمانعية والسببية مجعولة تبعا كالشرطية والمانعية للمأمور به ، والملكية ونحوها مجعولة استقلالا.

٨٠