دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

مقدمة الجزء الآخر ان كان محققا للتجاوز لزم إلغاء الشك في الموردين ، وإلّا لزم الاعتناء به كذلك.

وفيه ما لا يخفى ، فان المقام ليس من قبيل الأحكام والملازمات العقلية التي لا تقبل التخصيص. وقد استظهر صاحب المدارك هذا التفصيل من روايتين واردتين في المقام :

إحداهما : صحيحة زرارة الواردة في من شك في السجود بعد ما نهض وقبل ان يستوي قائما من أنه يسجد.

والثانية : رواية عبد الرحمن فيمن شك في الركوع بعد ما أهوى إلى السجود ، فقال عليه‌السلام «قد ركع» واستفاد من الثانية إلغاء الشك في الركوع بعد الشروع في الهوي. فمناقشة الحدائق بلا وجه ، خصوصا على مسلكه قدس‌سره.

ولكن الصحيح هو الاعتناء بالشك في كلا الموردين. أما على القاعدة فواضح ، لأن مقدمات الاجزاء ليست بمأمور بها ، لخلو الأخبار الواردة في بيان الأجزاء عنها. بل يستحيل ذلك ، لأنها مما لا بد منها ، كالهوي والنهوض ، لاستحالة الطفرة أو عجزنا عنها ، ومعها كيف يعقل تعلق الأمر بها شرعا ، فليس لها محل شرعي فضلا عن اعتبار تقدم الجزء السابق عليها ، فلا يتحقق بها عنوان التجاوز أصلا.

وهكذا بملاحظة الرواية أعني رواية عبد الرحمن (١). لا لما ذكره الميرزا قدس‌سره من ان رواية عبد الرحمن مطلقة (٢) ، لأن قوله «أهوى إلى السجود» مطلق يعم فرض الوصول إلى السجود وعدمه ، فيقيد إطلاقه برواية إسماعيل بن جابر ، فان قوله فيها «ان شك في الركوع بعد ما سجد أو في السجود بعد ما قام» يدل على

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ ـ باب ١٣ من أبواب الركوع ، ح ٦.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٧٤.

٣٠١

الاعتناء بالشك في ما إذا شك في الركوع ولم يدخل بعد في السجود.

فانه فاسد ، وذلك لعدم ثبوت المفهوم لهذه الرواية ، وهي غير قابلة للتقييد ، لأنّ الجملة الشرطية فيها مسوغة لبيان الموضوع ، فان الرواية لو كانت هكذا ، إن كان شكه في الركوع بعد ما سجد لا يعتني به ، لكان لثبوت المفهوم وجه ، إلّا انها ليست كذلك ، بل الموضوع فيها إذا شك في الركوع بعد ما سجد ، ومفهومه عدم تحقق الشك في الركوع بعد ما سجد. وهذا نظير ما ذكرناه في آية النبأ على ما تقدم تفصيله ، فمفهوم الشرط غير ثابت فيها. نعم مفهوم الوصف موجود ، إلّا انه غير معتبر.

بل لعدم ثبوت الإطلاق لرواية عبد الرحمن بالإضافة إلى ما قبل الوصول إلى السجود ، حيث عبر فيها عن الهوي بصيغة الماضي ، فانها هكذا «أهوى إلى السجود وشك في الركوع» ومن الظاهر ان صيغة الماضي للتحقيق والمضي ، وتحقق الهوي ومضيه لا يكون إلّا بالوصول إلى السجود ، فلا يقال : أهوى إلى السجود إلّا بعد وصوله إليه. وإذا كان الشك في حال الهوي يعبر بصيغة المضارع ، فيقال : يهوي إلى السجود ، ويشك في الركوع.

وبالجملة ظاهر قوله عليه‌السلام «أهوى إلى السجود وشك في الركوع» ان الشك كان بعد الهوي وتحققه ، وهو لا يكون إلّا بالدخول في السجود ، وهذا بخلاف ما إذا كان التعبير بصيغة المضارع ، بأن كان هكذا «يهوي إلى السجود وشك» فانه ظاهر في كون الشك في حال الهوي.

ومع التنزل فلا أقل من الإجمال ، فلا ينعقد للرواية إطلاق لما إذا كان الشك في حال الهوي ليتمسك به صاحب المدارك للتفصيل بين الهوي والنهوض.

ثم في المقام فرع لا بأس بالتعرض له. وهو أنه إذا قام المصلي عن الهوي فشك في أنه هل وصل في انحنائه إلى حد الركوع ، أو لم يركع ، هل يكون شكه

٣٠٢

ملغى أولا؟ ذكر في الحدائق انه لا بد فيه من الاعتناء بالشك نصا وفتوى. والظاهر ان نظره إلى رواية عمرو الحلبي وغيرها مما ورد في الاعتناء بالشك في الركوع في حال القيام.

ولكن الصحيح ان الشك فيه ملغى ، لصدق التجاوز فيه ، إذ المفروض ان القيام الّذي هو فيه قيام بعد الهوي ، ومن الظاهر ان الركوع مقيد بالسبق عليه ، فيصدق عنوان التجاوز فيه ، ويكون موردا لتلك القاعدة. هذا مضافا إلى ان رواية فضيل بن يسار مصرحة بإلغاء الشك في الفرض ، فانه ذكر فيها ان الرّجل يستتم قيامه فيشك في انه ركع أو لم يركع ، فحكم عليه‌السلام بأنه يركع ، فيكفي النص الخاصّ على إلغاء الشك في المقام مع ما عرفت من شمول الإطلاقات له أيضا.

وأما ما ورد في النصوص والفتاوى من الاعتناء بالشك في الركوع في حال القيام فهو فيما إذا كان المصلي قائما وشك في انه ركع أم لا ، ولم يعلم بكون قيامه قيام بعد الهوي إلى الركوع أو قبله وهو القيام المتصل بالقراءة. وفي الظاهر عدم تحقق عنوان التجاوز فيه ، فيكون الشك شكا في المحل ، لا بد من الاعتناء به. وهذا بخلاف ما إذا علم بأن القيام الّذي هو فيه قيام بعد الهوي إلى الركوع ، فانه محقق لعنوان التجاوز ، فيكون موردا لقاعدته.

الجهة الخامسة :

الأخبار الواردة في المقام هل هي مختصة بما إذا كانت الغفلة محتملة ، أو تعم ما إذا كانت الغفلة متيقنة؟

وبعبارة أخرى : القاعدة مختصة بما إذا احتمل الفاعل كونه اذكر حين الامتثال ، أو تعم ما إذا كان عالما بكونه غافلا حين العمل وكانت الصحة لمجرد احتمال المصادفة الواقعية؟ كما إذا كان المتوضئ بيده محبس ، وعلم بعد الوضوء بأنه لم يحركه حين غسل اليد لغفلته عن ذلك ، ولكن احتمل وصول الماء تحته

٣٠٣

لكثرة الماء مثلا. أو علم بعد الغسل بوجود حاجب في بدنه وانه كان غافلا عنه حين الغسل ، ولكنه احتمل وصول الماء تحته ، أو زواله حين الغسل اتفاقا. ذهب جمع ـ منهم الميرزا ـ إلى جريان القاعدة في كلا الفرضين ، تمسكا بإطلاق الأدلة.

ولكن الصحيح : اختصاصها بصورة احتمال الذّكر حين الامتثال ، وعدم جريانها عند القطع بالغفلة.

أولا : لقصور الإطلاقات عن الشمول لفرض اليقين بالغفلة ، لما ذكرنا من ان مفادها ليس حكما تعبديا ، بل المستفاد منها كون القاعدة أمارة نوعية على تمامية العمل ، لأن احتمال الإخلال العمدي مفروض العدم ، واحتمال الإخلال عن سهو أو غفلة ساقط ، لأن المشغول بالعمل نوعا يكون حين اشتغاله به أذكر للخصوصيات المعتبرة فيه ، ثم بعد الفراغ قد يشك في ذلك ويغفل عنها ، فيكون احتمال الغفلة ساقطا من جهة الظن النوعيّ. وعليه فلا تعم موارد اليقين بالغفلة ، بل تختص بموارد احتمالها.

وثانيا : ان العلة المذكورة في رواية الوضوء وهي قوله عليه‌السلام «هو حين يتوضأ اذكر» (١) وفي ما ورد في عدد الركعات من أنه حين ما ينصرف أي يسلم أقرب إلى الحق تكون قابلة لتقييد الإطلاقات على فرض تحققها. وظهور الجملتين عرفا في العلية التي يدور مدارها الحكم غير قابل للإنكار.

وما ذكره الميرزا من ان هذه الجملة حكمة ، وليست بعلة ، فلا تكون مطردة (٢) ، وقد بنى ذلك على ما ذكره في الفرق بين العلة والحكم في بحث اللباس المشكوك ، غير تام ، لعدم تمامية ذاك المبنى على ما بيناه في محله ، بل الميزان في العلية

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٧.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٨١.

٣٠٤

وعدمها بظهور اللفظ عرفا. وظهور الجملتين في العلية غير قابل للإنكار ، فتقيد بهما الإطلاقات.

ثم انه قد يستدل على إلغاء الشك بعد الفراغ مع العلم بالغفلة بما رواه في الوسائل في باب الوضوء مسندا ، وروى في غيره مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ما مضمونه أنه سئل عمن في يده محبس فيغتسل أو يتوضأ فأمر عليه‌السلام بأنه يحوله في الغسل ويديره في الوضوء وإذا نسيه حتى صلّى فلا آمره بالإعادة (١). فيتوهم دلالتها على إلغاء الشك في صحة الوضوء والغسل لمجرد احتمال وصول الماء إلى المحل في نفسه مع اليقين بالنسيان عن تحويل المحبس أو إدارته وإيصال الماء تحته.

ولكن الظاهر عدم دلالته على ذلك. بل هذا الفرض داخل تحت ما ورد من لزوم الاستبانة بوصول الماء إلى البشرة ولو بالإعادة. وذلك لأن ظاهر الرواية على ما يستفاد من تخصيص التحويل بالغسل والإدارة بالوضوء انهما أمران معتبران في الغسل والوضوء ، وإلّا لم يكن وجه للاختصاص ، لإمكان إيصال الماء إلى البشرة بالعكس أو بغير ذلك. ولكن يعلم من نفس الرواية ومن الخارج بعدم وجوب ذلك ، فيحمل على الاستحباب ، فيكون تحويل المحبس للمغتسل ، وإدارته للمتوضئ مستحبا.

وعليه فعدم وجوب الإعادة إذا نسي ذلك حتى صلى لا يكون من جهة جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة ، بل لا ربط له بالقاعدة أصلا ، فمورد الشك في وصول الماء إلى البشرة مع اليقين بنسيان تحويل المحبس الّذي هو مانع عن وصول الماء لضيقه داخل تحت ما دل على الإعادة حتى يستيقن بوصول الماء.

ثم ان صور الشك في صحة العمل ثلاثة. لأن الشك فيها قد يكون من جهة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤١ من أبواب الوضوء ، ح ٣.

٣٠٥

الشك في تحقق الأمر الّذي هو فعل المولى. وقد يكون من جهة الشك في انطباق المأمور به على المأتي به بعد العلم بأصل الأمر وبما تعلق به.

وبعبارة أخرى : صحة العمل في الخارج متقوم بأمرين :

أحدهما : ثبوت الأمر الّذي هو فعل المولى.

ثانيهما : انطباق ما تعلق به على المأتي به.

فالشك في الصحة ، تارة : يكون من الناحية الأولى ، أي ناشئا من فعل المولى مع إحراز ما أتى به خارجا ، كما إذا اغتسل من اعتقد الجنابة ثم شك في صحة غسله من جهة الشك في انه كان مأمورا به أي كان جنبا أولا. وأخرى : يكون الشك في الصحة ناشئا من الناحية الثانية ، أي من جهة الشك في انطباق المأمور به على ما أتى به خارجا بعد إحراز الأمر.

ثم الشك في الانطباق قد يكون فيما يرجع إلى فعل اختياري للعبد ، كما هو الغالب. وأخرى : فيما هو خارج عن تحت اختياره ، ويعبر عنه بما إذا كانت صورة العمل محفوظة ، كما إذا علم بأنه صلى إلى جهة خاصة ، وكان حين العمل ملتفتا وتيقن بكون القبلة في تلك الجهة ، أو كان الالتفات محتملا ، إلّا أنه بعد الصلاة يشك في ان الكعبة كانت في تلك الجهة المعلومة التي صلى إليها أولا؟ ففي مثل ذلك ما أتى به في الخارج معلوم ، والشك انما هو في مجرد المصادفة الواقعية وكون تلك الجهة هي القبلة. فهذه صور ثلاثة.

أما الصورة الأولى : وهي ما إذا كان الشك في الصحة من جهة الشك في الأمر ، فلا ينبغي الشك في خروجها عن مورد الاخبار ، فانها ناظرة إلى إصلاح فعل المكلف ، لا إلى فعل المولى ، وان ما أتى به المكلف لم يكن فاسدا. وأما ان المولى أمر أو لم يأمر فالروايات أجنبية عنه.

ومن هذه الصورة ما إذا صلى المكلف تام الأجزاء والشرائط ، وكانت صورة

٣٠٦

الصلاة التي أتى بها محرزة ، إلّا انه شك في صحتها من جهة الشك في ثبوت الأمر ، لاحتمال عدم دخول الوقت.

وأما الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الشك في الانطباق فيما يرجع إلى اختيار المكلف ، فهي القدر المتيقن من مورد الروايات.

وأما الصورة الثالثة : وهي ما إذا كان الشك في الانطباق لأمر خارج عن اختيار المكلف ، فالظاهر أيضا انصراف الأخبار عنها ، لما عرفت من ان مفادها ليس تعبديا ، وانما هو أمارة نوعية من جهة ان الفاعل حين الاشتغال بالعمل يكون اذكر ، ولا يغفل عن الإتيان بما يعتبر فيه ، ومن الظاهر انّ الأذكرية حين العمل أجنبية عن المصادفة الواقعية وعدمها ، بداهة انها لا توجب كون الكعبة في الجهة التي صلى إليها ، وانما هي أمارة بالإضافة إلى ما هو فعل اختياري للفاعل ، فان أذكريته حين الاشتغال تقتضي عدم الإخلال به ، وهذا واضح.

نعم قد يكون العمل بحسب الظاهر صورته محرزة ، ويكون الشك فيه فيما هو خارج عن اختيار المكلف ، إلّا أنه بالدقة يرجع إلى ما هو فعل اختياري له ، كما إذا علم بأنه صلى مدة بلا سورة ، ثم شك في صحتها كذلك ، فان صورة العمل ظاهرا محفوظة ، إلّا ان الشك في صحتها وفسادها بالدقة ناش عن أن ما أتى به من الصلاة بدون السورة هل كان فيها مستندا إلى فتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده حتى لا تكون فاسدة ، أو كان بدون استناد إليها لتكون فاسدة. ومن الظاهر ان الإسناد وعدمه فعل اختياري للمكلف ، فتجري في مثله قاعدة الفراغ.

ومن هذا القبيل ما إذا علم المسافر بأنه صلى تماما ولكن احتمل أنه قصد الإقامة فأتم صلاته ، فان هوية العمل بحسب الظاهر ولو كانت محرزة ، إلّا ان منشأ الشك ليس إلّا قصد الإقامة ، الّذي هو فعل اختياري للمصلي.

وبالجملة في الصورة الأولى لا مجال للقاعدة جزما. وفي الثانية تجري

٣٠٧

جزما. وفي الثالثة الظاهر عدم الجريان ، لانصراف الأدلة عنها ، واختصاصها بما إذا كانت الأذكرية أمارة على الصحة ، وهو غير هذه الصورة.

الجهة السادسة :

لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ إذا شك في صحة العمل بعد الفراغ عنه ، سواء كان منشؤه الشك في وجود بعض اجزائه ، أو الشك في تحقق بعض شرائطه ، لإطلاق الأدلة.

وأما قاعدة التجاوز فيما إذا شك في صحة العمل في الأثناء ، فان كان منشؤه الشك في وجود الجزء السابق ، فلا ريب في جريانها إذا كان محل الجزء المشكوك فيه متجاوزا بالدخول في الغير المترتب عليه شرعا على ما تقدم تفصيله.

وأما إن كان منشأ الشك الشك في تحقق شرط الجزء السابق ، ففي جريان القاعدة تفصيل. وذلك لأن الشرائط المعتبرة في العمل كالصلاة على قسمين :

أحدهما : ما يكون معتبرا في خصوص الأجزاء دون الأكوان المتخللة فيها ، كالاستقرار ، فانه غير معتبر في الأكوان المتخللة بين اجزاء الصلاة. ومن هذا القبيل النية بكلا معنييها بمعنى قصد القربة ، وبمعنى قصد عنوان العمل ، فان القربة والإضافة إلى المولى انما يعتبر في افعال الصلاة. وهكذا قصد عنوان صلاة الظهر مثلا ، فان الأفعال لا بد وان يؤتى بها بذاك العنوان ، وأما الأكوان المتخللة بينها فلا يعتبر فيها شيء من الأمرين.

ومن هنا إذا عدل المصلي في الأثناء عن قصده ، ثم بدا له الإتمام ، صحت صلاته على خلاف. ولكن لا خلاف في ذلك في الوضوء إذا عدل المتوضئ عن قصده في الأثناء ثم بدا له إتمامه. نعم إذا عدل في أثناء الصوم عما نواه بطل ، ولا يمكن إتمامه بعد ذلك ، لأن الإمساك في كل آن جزء من الصوم ، لا بد من وقوعه مع النية ، فإذا لم يقع كذلك بطل ، فهو خارج عن محل الكلام.

٣٠٨

وبالجملة الاستقرار والنية انما يعتبران في افعال الصلاة دون أكوانها.

ثانيهما : ما يكون معتبرا في العمل مستمرا من مبدئه إلى منتهاه ، كالاستقبال والطهارة.

ثم المشكوك فيه إن كان من قبيل الثاني ، فان كان للشرط المزبور محل شرعي قد مضى حين الشك وتجاوز جرت فيه قاعدة التجاوز ، كما في الإقامة ، فانها معتبرة في الصلاة مستمرا ، ولا بد أن تكون الصلاة من أولها إلى آخرها مسبوقة بالإقامة على ما هو الصحيح ، وذهب إليه جملة من المتأخرين ، ولكن عين لها محل شرعي ، وهو قبل الشروع في الصلاة ، فإذا شك المصلي في أثناء الصلاة في أنه أتى بالإقامة أو لم يأت بها يصدق أنه تجاوز محلها ومضى ، فتجري فيها القاعدة ، ويكون الشك فيها ملغى.

وأما إن لم يكن للشرط المشكوك فيه محل شرعا ، فان كان المكلف محرزا له في حال الشك ، وكان شكه فيما مضى من الأجزاء جرت القاعدة أيضا ، لصدق المضي بالإضافة إلى الأجزاء السابقة وما اعتبر فيها ، كما إذا فرضنا ان المصلي حين الشك يعلم بأنه إلى القبلة ، ولكنه يشك في وقوع الاجزاء السابقة إليها. وأما إذا لم يكن محرزا للشرط حين الشك أيضا ، فبالنسبة إلى الحال الفعلي لا يصدق عنوان المضي والتجاوز ، بل يكون المحل باقيا ، ومقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإحراز.

وبما ذكرناه ظهر الحال فيما إذا شك في النية ، كما إذا أتى المكلف بصلاة الظهر ، ثم شرع في صلاة أخرى ، وفي الأثناء شك في أنه نوى بالثانية أيضا صلاة الظهر لتكون فاسدة ، أو نوى بها العصر لتكون صحيحة. فان كان حين الشك ناويا للعصر ، وكان شكه في انه نواه في الركعة السابقة أولا ، جرت فيه قاعدة التجاوز ، لصدق عنوان المضي والتجاوز. وأما إذا لم يكن محرزا للنية حين الشك أيضا ، فلا يصدق المضي بالقياس إلى حال الشك ، فلا مجال لجريان القاعدة.

٣٠٩

وأما الشك في الطهارة ، فان قلنا : بأنها عبارة عن نفس الأفعال ، وهي الشرط في الصلاة ، فيكون حالها حال الإقامة ، حيث اعتبر فيها محل شرعي ، فإذا شك فيها بعد تجاوزه جرت فيه قاعدة التجاوز. وأما بناء على ما ذهب إليه بعض من ان الشرط هي الطهارة المعنوية الحاصلة من تلك الأفعال ، لإسناد النقض إليها في الاخبار ، ولا يصح اسناده إلّا إلى ما فيه بقاء واستمرار ، والأفعال لا تكون قابلة للبقاء ، أو إذا قلنا : بأن الشرط نفس الأفعال لكن لا بوجودها الحدوثي ، بل بوجودها الاستمراري ولو اعتبارا ، كما هو الصحيح ، فيجري فيها القسمان المتقدمان. فان كان المصلي حين الشك محرزا للطهارة وكان شكه منحصرا بما تقدم من الاجزاء ، صدق عنوان التجاوز ، وجرت فيه القاعدة. وإن كان شاكا في ذلك حتى حين الشك ، فالمضي والتجاوز غير متحقق بالإضافة إلى حال الشك ، فلا مجال لقاعدة التجاوز.

والحاصل : إذا شك في اقتران العمل بشرطه وعدمه بعد الفراغ عنه جرت فيه قاعدة التجاوز ، وحكم بصحته ، إلّا انه لا يترتب عليه الأثر بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة ، كما هو واضح. وأما إذا شك في ذلك في الأثناء ، ففي جريان قاعدة التجاوز وعدمه تفصيل. فإذا كان الشرط مما يعتبر في الاجزاء دون الآنات المتخللة جرت قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، وحكم بصحتها ، فإذا أمكن إحراز الشرط بالنسبة إلى الاجزاء الأخر تم العمل وصح.

وإذا كان الشرط شرطا مستمرا معتبرا حتى في الأكوان المتخللة من العمل ، فان كان من قبيل الشرط المتقدم ، كالإقامة بالإضافة إلى الصلاة ، والوضوء أيضا بناء على ان يكون نفس الأفعال شرطا للصلاة ، جرت فيه قاعدة التجاوز عند الشك فيه ، فتصح الاجزاء السابقة ، ويكفي ذلك في الإتيان بالأجزاء اللاحقة ، بل الأعمال المتأخرة أيضا. وذلك لأن نفس الشرط يكون موردا للقاعدة ، لصدق

٣١٠

عنوان التجاوز ومضي المحل عليه ، حيث انه مقيد بالسبق على اجزاء الصلاة ، كما انها مقيدة بتقدمه عليها ، لمكان الارتباطية ، كما في الاجزاء بعضها مع بعض ، فللشرط محل شرعي قد تجاوز على الفرض ، فتجري في نفسها قاعدة التجاوز ، ويحكم بتحققه ، فيترتب عليه الأثر بالقياس إلى الاجزاء السابقة واللاحقة والأعمال الأخر المشروطة به.

وأما إن كان من قبيل الشرط المقارن ، ولم يكن له محل شرعي سابق على العمل ، كالطهور بناء على أن الشرط ليس نفس الأفعال ، وانما هو عنوان متولد أو منتزع عنها المقارن للصلاة ، فلا مجال حينئذ لقاعدة التجاوز إذا شك في تحققه في الأثناء. وذلك لعدم صدق التجاوز على الآنات المتخللة حال الشك ، وقد فرضنا اعتبار الشرط فيها أيضا.

وبهذا ظهر فساد ما أفتى به بعض من الحكم بصحة الصلاة بإجراء القاعدة في الاجزاء السابقة ، وتحصيل الطهارة للأجزاء اللاحقة ، فان نفس الآنات المتخللة إلى أن يتطهر ليس بمتطهر ، لا تعبدا ولا وجدانا.

وقد يقال : بإمكان إجراء القاعدة على هذا الفرض أيضا ، لأن الشك في الطهارة التي فرضناها شرطا مقارنا مسبب عن الشك في الإتيان بالافعال قبل الصلاة وعدمه ، والسببية شرعية ، وقد تجاوز محل الأفعال ، فتجري فيها قاعدة التجاوز ، ويترتب على ذلك صحة الاجزاء السابقة واللاحقة.

وفيه : ان الأفعال على هذا المسلك ليست بواجبة شرعا ، ولا بد من الإتيان بها قبل الصلاة عقلا ، حيث ان تحصيل الشرط وهي الطهارة المقارنة لأول جزء من الصلاة لا يكون إلّا بذلك ، فليس لها محل شرعي ، ولم تتقيد بالتقدم على اجزاء الصلاة شرعا ليصدق التجاوز عن محلها بالدخول في اجزاء الصلاة.

وقد يقال : ان محلها الشرعي وان لم يتجاوز ، لعدم ثبوت محل شرعي لها ،

٣١١

إلّا ان تجاوز المحل العقلي كاف في جريان قاعدة التجاوز ، لأنها ليست وظيفة عملية تعبدية ، بل هي من الأمارات على ما استظهرنا من الأدلة ، والتعليل فيها وعموم العلة يقتضي جريانها عند تجاوز المحل العقلي أيضا ، لأن الأذكرية النوعية في المحل العقلي أيضا متحققة.

وفيه : ان القاعدة وان كانت من الأمارات النوعية ، إلّا انها انما اعتبرت شرعا في مقام الامتثال لا مطلقا. وعموم العلة لا يقتضي التعدي إلّا إلى ما يكون مماثلا لموردها ، فالأذكرية النوعية الكاشفة عن الإتيان بالمشكوك جعلها الشارع حجة في مقام امتثال المأمور به دون غيره.

ويؤيد الاختصاص أنه لم يتوهم أحد جريان قاعدة التجاوز بتجاوز المحل العادي ، كما إذا فرضنا أن أحدا كان من عادته الصلاة في أول الوقت ، فشك في يوم بعد تجاوزه ، أو كان معتادا بالاستنجاء بعد البول ، فشك فيه بعد القيام عن البول ، مع ان الأذكرية النوعية متحققة في تجاوز المحل العادي أيضا.

والحاصل : انه إذا شك في صحة العمل بعد الفراغ عنه ، لأجل احتمال الإخلال بشرط من شروطه تجري فيه قاعدة الفراغ ، ويترتب عليها صحة ما أتى به دون ما لم يأت به بعد.

وأما إذا شك في ذلك في أثناء العمل ، فان كان الشرط معتبرا في مجموع العمل حتى الأكوان المتخللة في البين ، لا بد من الاعتناء بالشك ، لعدم صدق التجاوز بالإضافة إلى حال الشك.

وإن كان الشرط لمجموع العمل. فان كان من قبيل الشرط المقارن ، جرت قاعدة التجاوز في الأجزاء السابقة دون اللاحقة. وإن كان من قبيل الشرط المتقدم ، وكان له محل شرعي سابق على العمل ، جرت القاعدة في نفس الشرط ، لصدق تجاوز محله ، وترتب عليه صحة الأجزاء السابقة واللاحقة والأعمال الآتية

٣١٢

أيضا ، لأن الشرط على الفرض اعتبر فيه التقدم على جميع اجزاء العمل.

وقد يتخيل كون صلاة الظهر بالإضافة إلى صلاة العصر من هذا القبيل ، فإذا فرضنا ان المصلي في أثناء اشتغاله بصلاة العصر شك في أنه هل أتى بالظهر أم لم يأت بها؟ جرت قاعدة التجاوز في صلاة الظهر ، فلا يجب إعادتها ، وصحت صلاة العصر أيضا ، لأن صلاة العصر مشروطة بصلاة الظهر كاشتراط الصلاة بالغسلات والمسحات.

وفيه : أولا : ما ذكره الشيخ من ان الترتيب بين العصر والظهر شرط ذكري لا واقعي ، وليس العصر في فرض النسيان مشروطا بأن تكون متعقبة بالظهر ، ولذا لو فرضنا ان المصلي نسي الإتيان بصلاة الظهر حتى أتم العصر صحت صلاته ، فامّا أن تحسب ظهرا ، كما صرح به في العروة لقوله عليه‌السلام «أربع مكان أربع» (١) وامّا تحسب عصرا ، فيجب عليه الإتيان بالظهر بعد ذلك ، فليس لصلاة الظهر محل شرعي سابق على صلاة العصر في فرض النسيان ليصدق انه تجاوز محله ، بل لا يشك في صحة الصلاة حينئذ ليرجع إلى قاعدة التجاوز أو غيرها.

وثانيا : نفرض ان الترتيب بين الصلاتين شرط واقعي ، إلّا أنك قد عرفت ان صلاة الظهر غير مشروطة بالسبق على العصر ، ولذا تصح ولو لم يأت المكلف بصلاة العصر بعد ذلك عصيانا أو لموت ونحوه. بل صلاة العصر مشروط بالتعقب بالظهر ، لقوله عليه‌السلام «إلّا ان هذه قبل هذه» (٢) فليس لصلاة الظهر محل شرعي ليصدق مع فوته عنوان التجاوز ، فمقتضى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لزوم الإتيان بها.

وبعبارة أخرى : في صلاة الظهر حيثيتان : حيثية وجوبها النفسيّ ، وحيثية

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٦٣ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٤ من أبواب المواقيت ، ح ٢٠.

٣١٣

وجوبها الشرطي. فمن حيث وجوبها النفسيّ ليس لها محل شرعي لتجري فيه قاعدة التجاوز ، فيكون مقتضى الاشتغال العقلي أو الاستصحاب البناء على عدم الإتيان بها ، فلا بد من إتيانها ، ومعه لا يترتب أثر على إجراء قاعدة التجاوز من حيث وجوبها الشرطي.

وأما الموالاة فتارة : يتكلم في الموالاة المعتبرة بين الأجزاء المستقلة. وأخرى : بين اجزاء كلمة واحدة. وثالثة : بين كلمتين.

أما الموالاة المعتبرة بين الأجزاء المستقلة فلا بد وأن تكون شرعية ، ولذا لا تعتبر فيما لم يعتبرها فيه الشارع كالغسل ، فان كان الشك في تحققها بين الأجزاء السابقة كالركعة السابقة جرت قاعدة التجاوز فيه ، وحكم بتحققها ، وصحة ما تجاوز محله. وإن كان الشك فيها في غير الاجزاء السابقة فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز. نعم يجري استصحاب عدم تحقق الفصل الطويل ، وهو خارج عن محل الكلام.

وأما الموالاة المعتبرة بين أجزاء كلمة واحدة وكلمتين فهي عقلية ، بل هي مقومة لتحقق الكلمة أو الكلام واستفادة المراد منها فإذا شك في تحققها لا محالة يرجع الشك إلى وجود تلك الكلمة. مثلا إذا كبر ، فشك في أنه فصل بين لفظ الله ولفظ أكبر أم لم يفصل ، بما ان الموالاة بينهما مقومة لحقيقتها كان الشك في وجود التكبيرة ، وبما ان محلها باق لزم الاعتناء بالشك. نعم ان كان الشك في الموالاة بين الكلمات التي جاز محلها جرت القاعدة فيها.

وبالجملة الموالاة تارة : تكون معتبرة شرعا ، كالموالاة بين الأجزاء المستقلة. وأخرى : يكون اعتبارها عقليا ، كالموالاة المعتبرة بين الكلمات ، أو بين اجزاء كلمة واحدة المقومة لحقيقتها. أما الموالاة الشرعية ، فحالها حال سائر الشرائط ان كان الشك فيها بعد تجاوز محلها ، كما إذا شك في اقتران الأجزاء السابقة

٣١٤

بها جرت فيه قاعدة التجاوز ، وإلّا فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الاعتناء بالشك ، إلّا إذا قلنا : بأن المعتبر شرعا بين الاجزاء هو عدم الفصل الطويل ، لا العنوان الوجوديّ ، فانه حينئذ يجري استصحاب عدم الفصل الطويل ، فيحكم بصحة الصلاة.

وأما الموالاة العقلية فالشك فيها يرجع إلى الشك في وجود المشروط ، فلا مجال فيه لقاعدة الفراغ أصلا. وقاعدة التجاوز انما تجري فيما إذا شك في تحققها بين اجزاء الكلمة التي تجاوز محلها دون غيره.

وأما النية فما يكون معتبرة منها شرعا ، وهي قصد القربة ، فحالها حال سائر الشرائط المعتبرة شرعا ، فان كان الشك فيها بعد تجاوز المحل ، كما إذا شك المصلي في انه أتى بالافعال السابقة رياء أو مع قصد القربة جرت القاعدة ، وحكم باقترانها مع قصد القربة. وإن كان قبل تجاوز المحل فلا بد من الاعتناء بالشك كما انها مورد لقاعدة الفراغ إذا كان الشك بعد الفراغ.

وأما ما يكون معتبرة منها عقلا ، وهو قصد عنوان العمل المقوم لحقيقته ، فحاله حال الموالاة العقلية. فان كان الشاك حين شكه محرزا له ، بأن كان قاصدا لعنوان صلاة العصر مثلا ، وشك في أنه قصدها فيما مضى من اجزاء الصلاة أو أتى بها لتعليم الغير ولم يقصد العنوان؟ جرت فيه قاعدة التجاوز. وإن لم يكن محرزا لذلك حين الشك ، فمرجع الشك إلى الشك في الوجود ، وأنه هل شرع في الصلاة أم لم يشرع فيها ، ومن الظاهر انه ليس موردا لقاعدة التجاوز. ومقتضى الاستصحاب والاشتغال لزوم الاستئناف.

وبما بيناه من التفصيل ظهر فساد ما ذكره السيد في الفرع الأول ، مما جعله ختاما للشكوك في كتاب العروة ، وهو انه إذا شك المصلي في أثناء صلاته انه قصد صلاة الظهر أو العصر. فان لم يكن عالما بأنه صلى الظهر صحت صلاته ، ولا بد له

٣١٥

من العدول إلى الظهر ، لأن مقتضى قاعدة الاشتغال والاستصحاب هو وجوب الظهر عليه ، فان كان ما بيده من الصلاة قد قصد بها الظهر فهو ، وإلّا فبالعدول تحتسب ظهرا. وإن كان عالما بأنه قد أتى بالظهر قبل ذلك ، فالعدول لا وجه له ، فيحكم ببطلان صلاته ، حيث لا يعلم بأنه قصد عنوان العصر أم لم يقصد ذلك.

وفيه : أنه في الفرض الثاني أيضا تصح صلاته فيما إذا كان حال الشك قاصدا لصلاة العصر ، فانه تجري قاعدة التجاوز فيما سبقه من الأجزاء.

الجهة السابعة :

الظاهر اختصاص القاعدتين بما إذا كان الشك في الصحة من جهة احتمال الإخلال السهوي. ولا يجري شيء منهما إذا كان منشأ الشك احتمال الإخلال العمدي. وذلك لما ذكرناه من ان إلغاء الشك فيها ليس حكما تعبديا ، وانما هو من جهة ظاهر الحال ، وان المشغول بالعمل يكون حين اشتغاله به اذكر ، ونفس الأدلة منصرفة إلى ذلك. مضافا إلى استفادته من التعليلين.

ومن الظاهر ان ظاهر الحال لا يقتضي عدم إبطال العمل عمدا. كما لا تقتضيه أذكرية الفاعل حين الاشتغال بالعمل ، فإذا احتمل المكلف بعد الفراغ أو في الأثناء أنه ترك ركوعا من الركعة السابقة ، أو احتمل الصائم عند الغروب أنه شرب الماء عمدا في الصبح وأبطل صومه ، لا مجال للرجوع إلى قاعدة التجاوز ولا الفراغ ، بل لا بد له من الرجوع إلى أصل آخر. فان كان المشكوك فيه مما اعتبر وجوده في العمل كان مقتضى الاستصحاب فساد العمل. وإن كان مما اعتبر عدمه فيه كان مقتضى الاستصحاب صحة العمل ، كما في الصوم.

٣١٦

أصالة الصحة

الفرق بينها وبين قاعدة الفراغ

مدرك أصالة الصحة

مثبتات أصالة الصحة ولوازمها العقلية

تقدم أصالة الصحة على الاستصحاب

٣١٧
٣١٨

أصالة الصحة

والمعروف جريانها في الجملة. ويقع الكلام فيها من جهات :

الجهة الأولى : في الفرق بينها وبين قاعدة الفراغ ، وهو من ناحيتين :

إحداهما : ان قاعدة الفراغ انما تجري في فعل الفاعل نفسه. وأصالة الصحة تجري في فعل الغير.

ثانيتهما : ان القاعدة يختص جريانها بما إذا كان الشك بعد الفراغ عن العمل ، غايته عممنا ذلك من حيث الفراغ عن العمل المركب ، وعن اجزائه. وأصالة الصحة تجري فيه ، وفيما إذا كان الشك في الأثناء ، فإذا رأينا أن أحدا يصلي على الميت ، وفي أثناء صلاته شككنا في ان الميت وضع على الأرض مقلوبا أو كما هو اللازم ، يحمل فعله على الصحة ، بناء على جريانها. فالفرق بينهما انما هو في ان القاعدة مختصة بفعل الفاعل نفسه ، ولا تجري إلّا بعد الفراغ عن العمل ، بخلاف أصالة الصحة.

الجهة الثانية : في بيان مدرك أصالة الصحة. تارة : يراد من الصحة فيها الحسن ، ويقابله القبح والحرام ، فإذا شك في ان ما صدر عن الغير كان قبيحا أو حسنا يحمل على الحسن بمقتضى أصالة الصحة. وأخرى : يراد بها المؤثر ، ويقابله الفاسد.

أما أصالة الصحة بالمعنى الأول ، أي حمل فعل الغير على الحسن دون القبيح ، فلا تستلزم صحته بالمعنى الثاني ، أي ترتب الأثر عليه ، كما هو واضح.

٣١٩

ويدل عليها الكتاب والسنة ، إلّا أن موضوعها فعل المؤمن دون غيره.

وأما أصالة الصحة بالمعنى الثاني ، أي بمعنى ترتب الأثر في المعاملات بالمعنى الأخص ، بل بمعناها الأعم منها ومن الإيقاعات ، بل الأعم من ذلك ومن التوصليات ، بل في العبادات أيضا ، فقد استدل عليها بوجوه :

الوجه الأول : الإجماع واتفاق الأصحاب على إجرائها عند الشك في الصحة ، فإذا ترافع شخصان في صحة معاملة وفسادها ، كان المدعي من يدعي الفساد ، وعليه الإثبات. وأما مدعي الصحة فهو مستريح عن ذلك ، لأن قوله موافق لأصالة الصحة.

وفيه : ان تحصيل الاتفاق في كل مورد بخصوصه مشكل جدا ، وكونه تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم أشكل.

الوجه الثاني : قوله سبحانه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) بدعوى : ان الخطاب يعم جميع المكلفين ، وعمومه يقتضي ان يرتب كل أحد آثار الصحة على فعل غيره.

وفيه : أولا : ان الدليل أخص من المدعى ، لاختصاصه بالعقود ، ولو بمعناها اللغوي الشامل للإيقاع دون الاصطلاحي.

وثانيا : بينا في محله ان الخطاب فيهما متوجه إلى الملاك دون غيرهم.

وثالثا : ان التمسك بهما في موارد الشك من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، لورود مخصصات كثيرة عليهما ، ويحتمل كون الصادر منها ، والتمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية غير جائز.

الوجه الثالث : التعليل الوارد في بعض اخبار أمارية اليد عن الملك ،

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النساء : ٢٩.

٣٢٠