دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

وأما القرائن الداخلية ، فهي أمور :

أحدها : ان اليقين والشك من الصفات ذات الإضافة ، كالحب والبغض ، والشوق والإرادة والكراهة. لا أريد أن أقول : انها من مقولة الإضافة ، بل المراد انها تشترك مع غيرها من الأعراض من حيث احتياجها في وجودها الخارجي إلى الموضوع ، وتزيد عليها في احتياجها إلى المتعلق ، فلا تحقق لليقين والشك إلّا متعلقا بشيء.

وعليه فتقيدهما بالمتعلق في قوله «فانه كان على يقين من وضوئه» يكون من هذه الجهة ، إذ لو لا ذلك لكان الكلام ناقصا ، وأما تقييده بخصوص الوضوء فانما هو لكونه مورد السؤال ، فلا يوجب الاختصاص ، فكأنه قال : لأنه من وضوئه كان على يقين ولا ينقض اليقين بالشك ، فيؤخذ بإطلاقه.

ثانيها : أنه لا ريب في ان النقض عبارة عن حل الأمر المستحكم ، وإطلاقه في الصحيحة انما هو بلحاظ نفس اليقين لا المتيقن كما ستعرف. وعليه فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي عموم المنع عن نقض اليقين بالشك من غير خصوصية لليقين بالوضوء.

ثالثها : ان ذكر كلمة (أبدا) في هذه الصحيحة ولفظ (لا ينبغي) في الأخرى إشارة إلى كون ذلك أمرا ارتكازيا عند العقلاء ، ولا ينبغي مخالفته دائما ، ومن الظاهر أنه لا يفرق فيما هو المرتكز عندهم بين أنحاء ما تعلق به اليقين.

لا يقال : هذا ينافي ما تقدم من إنكار قيام السيرة على العمل على طبق الحالة السابقة ، وأنه مبني على الاطمئنان أو الرجاء أو الغفلة ونحوها.

فانه يقال : لا ينبغي الريب في ثبوت الكبرى ، وان العقلاء لا يرفعون اليد عن الأمر المبرم بغيره ، ولذا ترى لو كان طريقان أحدهما مأمون قطعا والآخر احتمالا ، لا يختار عاقل الطريق الثاني على الأوّل ، وهذه هي التي أثبتناها ، وذكرنا

٢١

ان التعليل إشارة إليها ، وما أنكرناه انما هو تطبيق هذه الكبرى على مورد الاستصحاب ، أعني اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، لأن ما تعلق به كل منهما مغاير لما تعلق به الآخر ، وما تعلق به اليقين لم يتعلق به الشك. وكذا العكس ، فالعقلاء لا يرونه من مصاديق هذه الكبرى ، ولم يثبت منهم سيرة على ذلك ، غاية الأمر طبقها الإمام عليه‌السلام عليه تعبدا ، فالتطبيق تعبدي ، فتأمل. كما وقع نظيره في بعض الموارد الأخر.

فظهر ان المستفاد من الصحيحة على التقديرين كبرى كلية ، وإن كانت على التقدير الأوّل أظهر. نعم الشبهة الحكمية والموضوعية من غير استلزام ذلك استعمال للفظ في أكثر من معنى ، كما بيناه في حديث الرفع ، وقلنا ان المجهول دائما هو الحكم ، والاختلاف في منشئه ، وفي المقام ظاهر الصحيحة إبقاء اليقين السابق عملا ، سواء كان متعلقا بالحكم الجزئي أو الكلي.

نعم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ممنوع من جهة أخرى سنتعرض لها إن شاء الله تعالى.

بقي إشكال طفيف أورد على الصحيحة ، تعرض له المحقق النائيني (١) ولم يعرف مورده ، وهو توهم كون النهي عن نقض اليقين بالشك ظاهرا في سلب العموم ، لا عموم السلب ، لأن اليقين اسم جنس ادخل عليه لام الجنس ، فالمعنى لا ينبغي نقض جنس الشك أي دائما في جميع الموارد ، فلا يستفاد منه إلّا حجية الاستصحاب في الجملة بنحو الموجبة الجزئية.

وفيه أولا : ان «لا» النافي للجنس ظاهر في عموم السلب ، كما في قولك : لا رجل في الدار ، النفي في الصحيحة من هذا القبيل.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

٢٢

وثانيا : ان العام ظاهر في العموم الأفرادي وان كان النفي واردا عليه ، كما في قولك : لا تكرم العلماء ، فانه ظاهر الاستغراق ، أي عموم السلب ، فكيف بما إذا كان العموم مستفادا من السلب ، لوقوع النكرة في سياقه كما في المقام.

وثالثا : في الصحيحة قرينة على عموم السلب ، فان النهي لو كان لسلب العموم لما استفاد منه السائل شيئا ، لاحتمال كون مورد عدم انتقاض اليقين بالشك غير مورد سؤاله ، إذ لم يبين الإمام عليه‌السلام إلّا ان كل يقين لا ينقض بالشك ، ولعل مورد السؤال كان مما ينقض فيه اليقين بالشك ، ومورد عدم الانتقاض غيره.

الثانية : مضمرة أخرى لزرارة (١). وهي مشتملة على فروع ، فانه سأل الإمام عليه‌السلام أولا عن حكم الصلاة في الثوب المتنجس نسيانا فقال عليه‌السلام «تعيد الصلاة وتغسله ـ أي الثوب ـ».

ثم سأل بنجاسة الثوب فأجاب عليه‌السلام بما يظهر منه عدم الفرق بينه وبين العلم التفصيليّ.

ثم بعد فقرتين بيّن له الإمام عليه‌السلام كيفية الغسل في مورد العلم الإجمالي بقوله عليه‌السلام «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها».

ثم سأل عن الفحص في الشبهة الموضوعية فأجاب عليه‌السلام بعدم وجوب النّظر فضلا عن الفحص ، فانه عبارة عن التحسس المحتاج إلى مئونة ، بخلاف النّظر.

ثم سأل عن الصلاة في النجس جهلا بقوله «فان ظننت أنه قد أصابه ، ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثم صليت فرأيت فيه ، قال : تغسله ، ولا تعيد الصلاة» فكأنه استغرب ذلك ، أي عدم وجوب الإعادة ، مع حكمه عليه‌السلام بلزومها في فرض النسيان فقال : «قلت : لم ذلك» فأزال الإمام عليه‌السلام استعجابه بقوله «لأنك

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ ـ ٤٢١.

٢٣

كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا» ولا بد وان يراد من الشك ما يقابل اليقين ليعم الظن كما هو الصحيح ، بناء على ما سيجيء في بعض التنبيهات من جريان الاستصحاب مع الظن أيضا ، أو يفرض حصول الشك المتساوي الطرفين لزرارة بعد ان نظر في الثوب ولم يجد النجاسة. وهذه الجملة أحد الموردين اللذين يتمسك بهما من الرواية.

ثم بعد ذلك سأل عما إذا رأى بثوبه النجاسة في أثناء الصلاة ، فقسمه الإمام عليه‌السلام إلى قسمين. ففيما إذا علم بها إجمالا قبل الشروع ، وشك في موضعها ، ومع ذلك صلى فيها ، حكم بوجوب الإعادة بقوله «تنقض الصلاة ، وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته». وفيما لم يحصل له العلم بالنجاسة ، بل شك فيها ثم رآها في الأثناء قال عليه‌السلام «قطعت الصلاة ، وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء وقع عليك». فهذه الجملة متكفلة لفرعين :

أحدهما : ما إذا علم إجمالا بنجاسة الثوب وصلى فيه.

ثانيهما : ما إذا احتمل طروها في الأثناء. ويجب الإعادة في الأوّل دون الثاني.

وفي المقام فرع ثالث لم يتعرض له ، لا في هذه الجملة ، ولا في سائر الجملات صريحا ، وهو ما إذا علم في الأثناء بوقوع الصلاة في الثوب المتنجس. إلّا أن شيخنا الأنصاري ذهب فيه إلى عدم الإعادة بالأولوية (١) ، لما حكم الإمام عليه‌السلام في بعض الفقرات السابقة بعدم الإعادة إذا وقع تمام الصلاة في النجس نسيانا.

ولكن الظاهر أنه لا وجه له ، بعد كون الأحكام الشرعية تعبدية. ولا ملازمة بين الأمرين ، بل مقتضى قوله عليه‌السلام «لعله شيء وقع عليك» وجوب الإعادة فيما إذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٦ (ط. جامعة المدرسين).

٢٤

علم بأن النجاسة الموجودة هي النجاسة السابقة ، وليست شيئا وقع عليه في الأثناء. وهكذا قوله عليه‌السلام بعد ذلك «فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك» وهو الاستصحاب ، إذ لا مجال له فيما إذا انكشف له وقوع ما أتى به من الصلاة في الثوب النجس.

فالصحيح هو البطلان ووجوب الإعادة. هذا من حيث الحكم الفرعي.

وأما مورد التمسك بالرواية للاستصحاب ، فهو قوله عليه‌السلام «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» الّذي كرر ذكره في فقرتين منها.

أمّا المذكور في الجملة الثانية ، فدلالته على الكبرى الكلية أظهر من الرواية السابقة ، لوجهين ، صراحة قوله عليه‌السلام «لأنك لا تدري لعله شيء وقع عليك» في التعليل ، وظهور لا ينبغي في الكبرى الكلية الارتكازية.

وإنّما الكلام في التمسك بما ذكر في الجملة الأولى ، فان الإمام عليه‌السلام طبقه على عدم وجوب الإعادة ، ولم يطبقه على جواز الدخول في الصلاة ، وإلّا لكان أيضا ظاهرا في ذلك ، إذ من الظاهر ان إعادة الصلاة في مفروض السؤال ليست من نقض اليقين بالشك ، بل هي من نقض اليقين باليقين ، ولذا حمله بعضهم على قاعدة اليقين كما حكاه في الكفاية(١).

ولكنه غير تام ، لأنّ صفتي اليقين والشك في الشك الساري لا بد من تعلقهما بالحدوث ، بخلاف الاستصحاب ، فان اليقين فيه لا بد وان يتعلق بالحدوث والشك بالبقاء. فان أريد من اليقين في هذه الجملة اليقين بالطهارة السابقة على احتمال ملاقاة الثوب مع النجس ، فهو باق لم يتبدل بالشك. وان أريد به اليقين بالطهارة بعد احتمال ملاقاة الثوب مع النجس ، حيث نظر فيه ، ولم يجد النجاسة ، فتيقن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٠.

٢٥

بعدمها ، فلم يفرض ذلك في السؤال ، فلا مناص من الحمل على الاستصحاب ، فان أمكن تطبيقه على المورد وإلّا فيرد علمه إلى أهله ، ويؤخذ بالكبرى الكلية ، بداهة انّ الاستدلال بها لا يتوقف على فهم الانطباق.

مع ان الظاهر كون التطبيق من حيث إحراز شرط الصلاة ، وهي طهارة الثوب بالاستصحاب ، وهو الّذي عبر عنه الشيخ باجزاء الأمر الظاهري (١).

توضيح ذلك انّه لا ريب في صحة الصلاة الواقعة في الثوب النجس عن غفلة ، من غير فرق بين القول بشرطية الطهارة للصلاة ، والقول بمانعية النجاسة عنها. كما أنه مورد تسالم الأصحاب ، فلا الطهارة شرط في فرض الغفلة ، ولا النجاسة مانع فيها.

وأما في فرض الالتفات ، فقد وقع الخلاف في أن الطهارة جعلت شرطا للصلاة ، أو النجاسة جعلت مانعا عنها ، أو كلا الأمرين مجعول من شرطية الطهارة ومانعية النجاسة. أما الاحتمال الأخير ، فهو مقطوع الفساد ، لما ذكرنا في بحث الضد من أن جعل الشرطية لأحد الضدين يغني عن جعل المانعية للضد الآخر ، وكذا العكس ، بل أحدهما لغو محض ، مثلا إذا جعلت الطمأنينة شرطا في الصلاة فلا معنى لجعل الحركة مانعا عنها ، فيبقى الاحتمالان الأولان. والظاهر عدم ترتب ثمر عملي على القولين ، فانه لا إشكال في صحة الصلاة الواقعة في الثوب المتنجس مع القطع بطهارته على التقديرين. كما ان صحتها في فرض الجهل بالنجاسة مسلمة منصوصة في الصحيحة وغيرها ، فيستكشف من ذلك أن الشرط على تقدير جعل الشرطية ليس خصوص الطهارة الواقعية ، وإلّا لزم فساد الصلاة في الفرضين المزبورين ، كما ان المانع على القول بجعل المانعية ليست النجاسة الواقعية ، لعين ما ذكر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٦ (ط. جامعة المدرسين).

٢٦

وربما يتوهم ان الشرط على القول به هو إحراز الطهارة وجدانا أو تعبدا ، ولو بقاعدة الطهارة ، والمانع على القول به هي النجاسة المحرزة كذلك. وعليه يتخيل ظهور الثمرة بين القولين فيما إذا علم المكلف إجمالا بنجاسة أحد ثوبين ، واحتمل نجاسة كليهما ، فكرر الصلاة الواحدة فيهما. فانه على الأول يحكم بفساد كلتا الصلاتين ، لعدم إحراز الطهارة في شيء منهما ، فان إحداها واقعة في النجس يقينا ، والأخرى وان احتمل وقوعها في الطاهر ، إلّا أنه لمكان العلم الإجمالي وتساقط الأصول ليس هناك أصل يحرز به الطهارة. وعلى الثاني تصح إحدى الصلاتين ، وإن لم يميز الصحيحة من الفاسدة ، لعدم إحراز النجاسة إلّا في إحداهما وأما الأخرى وإن كان يحتمل وقوعها في النجس إلّا انها ليست بمحرزة ، وقد فرضنا ان المانع هي النجاسة المحرزة.

وفيه : ما تقدم في بحث العلم الإجمالي من انه انما يمنع جريان الأصل في كل من الأطراف بخصوصه معينا. وأما جريانه في الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال لا بعينه فلا مانع منه إذا ترتب عليه أثر عملي ، كما في المقام ، فتجري قاعدة الطهارة في أحد الثوبين لا بعينه ، فيحرز بها صحة إحدى الصلاتين ووقوعها في الثوب الطاهر بالتعبد وان لم يمكن تمييزها. ونظير هذا ما إذا أتى بصلاتين متماثلتين قضاء ، فعلم بفوات ركوع واحد من إحداهما ، فقاعدة الفراغ وان لم تكن جارية في كل منهما معينا إلّا انها تجري في إحداهما ، فلا تجب إلّا إعادة إحدى الصلاتين. فالنزاع على كل تقدير علمي محض.

إلّا ان الشرط على القول بجعل الشرطية لا بد وان يكون هو الطهارة ، لكن الأعم من الواقعية والظاهرية والاعتقادية لتعم موارد الجهل المركب أيضا.

وأما ما ذكره المحقق الخراسانيّ (١) من كون الشرط إحراز الطهارة ، فأشكل

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٠ ـ ٢٩٢.

٢٧

على جريان استصحاب الطهارة ، لاعتبار كون المستصحب بنفسه حكما شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي ، وليست الطهارة بناء عليه كذلك. ثم أجاب بأنها غير منعزلة عن الشرطية مطلقا ، إلى آخر ما أفاد ، فهو أيضا غير تام ، بداهة صحة الصلاة فيما إذا علم بنجاسة الثوب وصلى فيه بزعم الاضطرار إلى لبسه ، أو تقدم الصلاة في النجس على الصلاة عاريا ، فتمشى منه قصد القربة مع أنه غير محرز للطهارة.

والصحيح : ان الطهارة شرط ، وليست النجاسة مانعة ، وذلك لأن ظاهر بعض الأخبار الناهية عن الصلاة في النجس وان كان مانعية النجاسة ، إلّا أن قوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بطهور» و «يجزيك في الاستنجاء ثلاثة أحجار» كالصريح في شرطية الطهارة ، فتكون قرينة للمراد من سائر الأخبار. والظهور وان أطلق على الطهارة الحدثية ، إلّا ان استعماله فيما يتطهر به شايع ، كالوقود الّذي يستعمل فيما يوقد به ، وقد أطلق على ذلك في الآية الشريفة وبعض الأخبار ، فيعم الطهارة عن الحدث وعن الخبث ، وذيل الرواية شاهد على ذلك.

إذا عرفت ما بيناه نقول : تطبيق التعليل على عدم إعادة الصلاة انما هو بلحاظ الكبرى المسلمة بينه عليه‌السلام وبين زرارة ولو من الخارج ، وهي عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة في النجس جهلا إذا كان مع معذر من أصل أو أمارة ، فكأن الإمام عليه‌السلام أراد بيان الفرق بين هذا الفرض والفرضين السابقين ، أعني فرض العلم بنجاسة الثوب ونسيانها وفرض العلم الإجمالي بالنجاسة ، فانه في هاتين الصورتين لم يكن للمصلي معذر في إتيان الصلاة في النجس ، فوجبت الإعادة ، وأما الفرض الثالث أي صورة الجهل فالمعذر فيه موجود ، وهو استصحاب الطهارة ، فلم تجب الإعادة ، فالتطبيق انما هو بلحاظ تلك الكبرى.

ثم ان ظاهر الشيخ ان التعليل انما هو من جهة اجزاء الأمر الظاهري (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٦ (ط. جامعة المدرسين).

٢٨

وأورد عليه في الكفاية (١) بأنه خلاف الظاهر ، إذ عليه كان الأولى ان يعلل عدم الإعادة باقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ، لا لزوم نقض اليقين بالشك من الإعادة ، إلّا ان يكون التعليل لبيان صغرى الاجزاء ، ولذا جعل صحة التعليل مبنيا على كون الشرط إحراز الطهارة لا نفسها أو الأعم من ذلك.

وأورد عليه المحقق النائيني بصحة التعليل بكلا اللحاظين (٢).

والصحيح : أنه لا وجه لتخصيص صحة التطبيق بما إذا كان بلحاظ الاجزاء ، ولا لتخصيصها بلحاظ أعمية الشرط ، ولا لتعميمها لكلا اللحاظين. وذلك لأن الاجزاء عين أعمية الشرط من الواقع والظاهر ، وليس أحدهما مغايرا مع الآخر ليدعى الاختصاص أو التعميم.

توضيحه انه تارة : يراد باجزاء الأمر الظاهري كفاية الإتيان بمتعلقه عن نفس الأمر الظاهري ، كما في اجزاء الإتيان بكل مأمور به عن الأمر المتعلق به ، وهذا الاجزاء يكون ظاهريا ، يستند إليه ما دام الشك ولم ينكشف الخلاف ، وأما بعده فليس هناك أمر ظاهري كي يستند إليه. وأخرى : يراد بالاجزاء الاكتفاء بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، أي اجزاء واقعيا حتى بعد انكشاف الخلاف. والاجزاء بهذا المعنى مستلزم لتبدل الواقع ، بل عين أعمية الشرط من الواقع والظاهر ، فان القول بالاكتفاء بغير المأمور به عن المأمور به مع بقاء الأمر الواقعي على حاله يعد من الجمع بين متناقضين ، ولذا يختص الاجزاء بهذا المعنى بالطهارة الخبثية ، ويلحق بها مما لا تعاد الصلاة بالإخلال بها جهلا ، فلا موضوع للتخصيص ، كما لا مجال للتعميم.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٩

وقد ظهر بما بيناه صحة التمسك بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب ، بل هي أظهر من سابقتها ، لصراحتها في التعليل.

الثالثة : مضمرة ثالثة لزرارة عن أحدهما «قال : قلت له : من لم يدر هو في أربع أو في ثنتين ، قال : يركع ركعتين ، وأربع سجدات ، وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهد ، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك. ولا يدخل الشك في اليقين. ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» (١).

والحديث تعرض أولا : لمسألة الشك بين الاثنتين والأربع بعد إحراز الأوليين ، فحكم عليه‌السلام بالإتيان بركعتين ، والظاهر كونهما منفصلتين ، بقرينة فاتحة الكتاب ، كما نسب ذلك إلى العامة.

وثانيا : لمسألة الشك بين الثلاث والأربع ، وحكم فيها بإتيان الرابعة.

وتقريب الاستدلال به على الاستصحاب ان المصلي في مفروض السؤال كان متيقنا بعدم الإتيان بالركعة الرابعة ، فشك فيه ، فأمره عليه‌السلام بالبناء على اليقين ، وعدم نقضه بالشك.

وأورد عليه بوجهين :

أحدهما : ان الضمير في قوله عليه‌السلام «لا ينقض» الوارد بصيغة المعلوم يرجع إلى المصلي ، فلا يستفاد منه إلّا حجية الاستصحاب في خصوص الشك في عدد الركعات ، بل في خصوص الشك بين الثلاث والأربع ، وليس ذلك تعليلا كما في المضمرتين السابقتين. ولا مشتملا على كلمة (لا ينبغي) ليستفاد منه كبرى كلية ، فيختص بمورده.

__________________

(١) الكافي : ٣ ـ ٣٥٢.

٣٠

وأجاب عنه في الكفاية بأنه يستفاد منه الإطلاق ، لورود هذه الجملة في موارد مختلفة (١).

وفيه : انه لا يوجب عموم الجملة الواقعة في هذه المضمرة ، بل في مورد ثبت ذلك يؤخذ به ، وإلّا فلا. اللهم إلّا ان يتمسك للعموم بقوله عليه‌السلام في ذيل المضمرة «ولا يعتد بالشك في شيء من الحالات».

الثاني : ما ذكره الشيخ (٢) وهو العمدة ، من أنه ان أريد من البناء على اليقين إضافة ركعة منفصلة إلى ما أتى به فهو وان كان موافقا للمذهب ، إلّا أنه مناف للاستصحاب ، لأن مقتضاه هو الإتيان بالركعة متصلة. بل ينطبق حينئذ قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشك» على قاعدة اليقين في الصلاة ، التي دلت عليها جملة من الأخبار ، كقوله عليه‌السلام لعمار الساباطي «ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء» (٣) وهو البناء على الأكثر ، والإتيان بالركعة الاحتياطية منفصلة ، فانها على تقدير عدم نقصان الصلاة تكون نافلة ، وعلى تقدير النقصان متممة. ولا يلزم من ذلك زيادة الركن من الركوع والسجدتين. وزيادة التكبيرة والتشهد والتسليم لا بأس بها في الفرض. وهذا بخلاف الإتيان بالركعة المشكوكة متصلة ، فانه على تقدير يستلزم زيادة الركن المبطلة على كل حال ، ولهذا عبروا عن هذا بقاعدة اليقين ، لكونه موجبا لليقين بفراغ الذّمّة على جميع التقادير.

وان أريد من البناء على اليقين البناء على الأقل والإتيان بالركعة متصلة ، كما عليه العامة ، فهو وان كان موافقا للاستصحاب إلّا أنه مخالف للمذهب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٥.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٧ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ ـ ٣٤٩.

٣١

وعليه فيدور أمر الرواية بين الحمل على قاعدة اليقين في الصلاة ، أو الحمل على التقية ، أو حمل خصوص التطبيق عليها. والمتعين هو الأوّل ، لأن الثاني خلاف الأصل من جهة ، والثالث من جهتين : إحداهما : أصل الحمل على التقية ، والأخرى : كونها في خصوص التطبيق ، فتكون الرواية أجنبية عن الاستصحاب.

وأورد عليه في الكفاية (١) بإمكان الحمل على الاستصحاب من دون استلزامه مخالفة المذهب ، بدعوى : ان الاستصحاب لا يقتضي إلّا عدم الإتيان بالركعة الرابعة المشكوكة ، وأما كيفية الإتيان بها فهي خارجة عن مقتضى الاستصحاب ، فيقيد إطلاق ما دل على وجوب الإتيان بها كقوله عليه‌السلام «قام فأضاف إليها أخرى» بخصوصية المنفصلة بما دل على وجوب الإتيان بالركعة مفصولة.

وأيد بعض الأعاظم قدس سرّه ما أفاده الشيخ ، مدعيا عدم جريان الاستصحاب في نفسه عند الشك في عدد الركعات ، مع قطع النّظر عن الأخبار الدالة على إلغائه ، وذلك لأن المعتبر في الصلاة إيقاع التشهد في الركعة الرابعة ، وهذا العنوان لا يمكن إثباته باستصحاب عدم الإتيان بالرابعة إلّا على القول بالأصل المثبت. وجعل هذا الوجه مبنى فساد الصلاة في غير الشكوك المنصوصة ، كالشك بين الأربع والست ، وعدم الرجوع فيها إلى الاستصحاب.

والظاهر ان شيئا من التأييد ، وما أفيد في الكفاية ، وما ذكره الشيخ ، لا يخلو عن مناقشة.

أما التأييد ، ففيه : أولا : أنه لا دليل ظاهرا على اعتبار وقوع التشهد والتسليم في الركعة الرابعة بهذا العنوان الوجوديّ ، ليقال أنه لا يثبت بالاستصحاب ، بل الواجب هو الإتيان بالاجزاء مرتبا بلا زيادة ونقيصة ، ويمكن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٥.

٣٢

إحراز ذلك في المقام بضم الوجدان إلى الأصل ، فان النقصان منتف بالوجدان ، والزيادة منتفية بالتعبد.

وثانيا : سلمنا اعتبار ذلك ، إلّا أنه يمكن إحراز كون المصلي في الركعة الرابعة بالاستصحاب ، فان المصلي بعد ما أتى بالركعة الاحتياطية يعلم بأنه مرّ عليه زمان كان في الركعة الرابعة قطعا ، امّا فعلا وامّا سابقا ، فيستصحب بقائه فيها وعدم انتقاله إلى حالة أخرى ، فإذا أتى بالتشهد وقع في الركعة الرابعة بالتعبد الشرعي. ويمكن إلحاقه باستصحاب الكلي ، للجهل بخصوصية المستصحب ولو من حيث الزمان.

نعم بناء على اعتبار اتصال زمان اليقين بالشك ربما يمنع هذا الاستصحاب ، كما منع جريانه عند توارد الحالتين ، إلّا ان المبنى فاسد كما سيتضح.

وأما بطلان الصلاة بالشك في غير الموارد المنصوصة ، فالوجه فيه صحيحة منصور بن حازم «إذا شككت ولم يذهب وهمك إلى شيء فأعد الصلاة» وقد خرج عنه الموارد المنصوصة ، وبقي الباقي ، ولولاها لعملنا بالاستصحاب وفاقا للعامة ولبعض الخاصة.

وأما في الكفاية من عدم منافاة الاستصحاب في المقام لمذهب الخاصة ، وإنما المنافي إطلاقه فيقيد.

ففيه : ان مقتضى الاستصحاب والبناء على اليقين بعدم الإتيان بالرابعة إنما هو بقاء الأمر الأول ، ولزوم العمل على طبق وظيفة المتيقن بعدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وليس في هذا إطلاق ليقيد بما دل على اعتبار الانفصال ، بل هو مناف معه.

وأما ما أفاده الشيخ قدس سرّه من ان حمل الصحيحة على الاستصحاب مخالف للمذهب ، وحملها على التقية مع كونه خلاف الأصل يأباه صدرها ، وحمل خصوص التطبيق على التقية خلاف الظاهر من جهتين ، فنحمل على قاعدة اليقين المستفادة من الروايات الأخر.

٣٣

فالجواب عنه : مضافا إلى أن حمل قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشك» على قاعدة اليقين ، أعني البناء على الأكثر وإحراز الفراغ على كل تقدير ، خلاف الظاهر إلى درجة يلحق بالأغلاط ، هو ما أشرنا إليه من ان لازم اجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي هو تبدل الحكم الواقعي ، فلا بد حينئذ من النّظر إلى أدلة الشكوك ، وما يستفاد منها ، ولا ريب في ان المستفاد من الأخبار كرواية عمار الساباطي المتقدمة وغيرها تبدل وظيفة الشاك بالإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة ، لأنها على تقدير تمامية الصلاة تكون نافلة ، وعلى تقدير النقصان تكون متممة لها من دون لزوم زيادة ركن. وزيادة التكبير والتشهد والتسليم حينئذ غير مضر ، فانها ليست ركنا. وهذا التبدل واقعي لا ظاهري ، ولذا لو أتى الشاك بما هو وظيفته من البناء على الأكثر والركعة المفصولة أجزأه ولو انكشف له الخلاف في الوقت بلا إشكال. إلّا ان هذا التبدل الواقعي للشاك ليس على إطلاقه ، وإنما هو فيما إذا لم يكن آتيا بالركعة المشكوكة ، بداهة صحة صلاة من شك فيها ولم يأت بما هو وظيفته من الركعة المفصولة نسيانا أو عصيانا ، أو أتى بها متصلة ثم انكشف مطابقة ما أتى به للواقع. فيستفاد من مجموع ذلك أن من شك بأحد الشكوك الصحيحة ولم يكن في الواقع آتيا بالركعة المشكوكة تبدلت وظيفته بالإتيان بها منفصلة ، فموضوع التبدل مركب من الشك وعدم الإتيان بالمشكوك فيه واقعا.

وعليه فلا بد في وجوب الإتيان بالركعة المنفصلة من تحقق كلا الأمرين : أما الشك فهو محرز وجدانا ، وقد فرض في كلام الإمام عليه‌السلام ، فيبقى عدم الإتيان بالركعة المشكوكة واقعا ، وهو يحرز بالاستصحاب ، فتطبيق الاستصحاب انما هو بلحاظ إحراز عدم الإتيان بالركعة منفصلة.

ومما يؤكد ما ذكرناه ظهور قوله عليه‌السلام «قام فأضاف إليها ركعة» في الركعة

٣٤

المنفصلة بقرينة تصريحه عليه‌السلام في صدر الرواية في فرض الشك بين الاثنتين والأربع بالإتيان بالركعتين بفاتحة الكتاب ، فان تعيين القراءة ظاهر في اعتبار الانفصال ، إذ المنفصلة لا بد فيها من القراءة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) وإلّا فلم يكن وجه لتعيينها مع ان التسبيح في الأخيرتين أفضل ، ولعل الإمام عليه‌السلام لم يصرح بالانفصال تقية.

وأوضح من ذلك في القرينية بعض الجمل المذكورة في ذيلها «ولا يدخل اليقين في الشك» و «لا يخلط أحدهما بالآخر» ، إذ لا معنى لخلط إحدى الصفتين بالأخرى ، فلا بد وان يراد خلط المتيقن كونه من الصلاة بالمشكوك فيه من الركعات ، وهذا كالصريح في سقوط الواقع وتبدله عند الشك ، فيمكن حمل الرواية على الاستصحاب من دون استلزامه الحمل على التقية.

وبما ذكرناه ظهر الجواب عما أورده الشيخ على التمسك بموثقة إسحاق ابن عمار عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام «قال : إذا شككت فابن علي اليقين. قلت : هذا أصل. قال : نعم» (٢) من لزوم حملها على قاعدة اليقين في الصلاة ، لأن حملها على الاستصحاب والبناء على الأقل مناف للمذهب (٣) ، بل لا مجال في الموثقة لذاك التوهم ليحتاج إلى الجواب ، لأنها لم ترد في الشك في عدد ركعات الصلاة ، خصوصا بعد قول الراوي هذا أصل ، وقوله عليه‌السلام (نعم) ، فانه صريح في عدم الاختصاص بمورد دون آخر ، فإذا فرضنا قيام الدليل على عدم جريان الاستصحاب عند الشك في عدد الركعات يقيد به إطلاقه من دون لزوم الحمل على التقية. هذا مضافا إلى عدم استقامة حملها على البناء على اليقين ، أي تحصيل اليقين

__________________

(١) عوالي اللئالي : ١ ـ ١٩٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ٨ من أبواب الخلل ، ح ٢.

(٣) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٨.

٣٥

بفراغ الذّمّة بالبيان المتقدم ، فان البناء على اليقين غير تحصيله ، وإذا كان هو المراد لكان المناسب ان يقول : إذا شككت فحصل اليقين.

نعم ربما تحمل الموثقة على قاعدة اليقين ، أعني الشك الساري ، ويدفعه : ظهور عنوان اليقين في اليقين الفعلي عند البناء عليه ، ولا يستقيم فعلية اليقين والشك معا عند البناء على اليقين إلّا في مورد الاستصحاب. وأما في مورد القاعدة فاليقين منتف في ظرف البناء عليه.

ومن الأخبار التي استدل بها على الاستصحاب رواية الخصال عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد روي بنحوين :

أحدهما : قوله عليه‌السلام «من كان على يقين فشك ، فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين» (١).

ثانيهما : قوله عليه‌السلام «من كان على يقين فأصابه شك ، فليمض على يقينه ، فان اليقين لا يدفع بالشك» (٢).

وأورد عليه الشيخ بأن ظاهر الفاء في قوله عليه‌السلام «فشك» أو «فأصابه شك» هو تأخر زمان حدوث الشك عن زمان حدوث اليقين ، وهذا لا يعتبر إلّا في مورد قاعدة اليقين ، لأنه في مورد الاستصحاب قد يتحد زمان حدوث الصفتين ، وقد يتأخر حدوث صفة اليقين عن حدوث الشك. بل عدم ذكر المتعلق مشعر باتحاد متعلق الوصفين ، وهذا أيضا لا يكون إلّا في القاعدة.

وأجاب باحتمال كون التعبير بلحاظ اختلاف زماني الموصوفين ، وسرايته إلى الوصفين لما بين اليقين والمتيقن من الاتحاد (٣).

والصحيح أن يقال : تأخر حدوث صفة الشك عن حدوث صفة اليقين زمانا

__________________

(١) الخصال : ٦١٩.

(٢) الإرشاد : ١٥٩.

(٣) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٩ ـ ٥٧٠.

٣٦

وان لم يكن معتبرا في الاستصحاب إلّا ان الغالب سبق حدوث اليقين على حدوث الشك ، فالتعبير محمول على الغالب ، كما ورد في صحيحة زرارة المتقدمة ، حيث قال عليه‌السلام فيها «لأنك كنت على يقين من طهارتك ، فشككت» مع تعين حملها على الاستصحاب. كما ان متعلق اليقين والشك متحد في الاستصحاب أيضا ، غاية الأمر عرفا لا بالدقة. مضافا إلى ان حمل الرواية على قاعدة اليقين خلاف الظاهر ، لأن ظاهر المضي على اليقين هو البناء عليه مع انحفاظه ، لا تبدله بالشك وزوال عنوانه على ما بين في بحث المشتق ، بل لا يصح إطلاق المشتق في الصفات النفسانيّة بلحاظ حال الانقضاء أصلا ، إذ لا يبقى في النّفس بعد انقضائها ما يطلق عليه المشتق سوى ضد تلك الصفة.

وعليه حملت الرواية على قاعدة اليقين لا بد وان يكون إطلاقه بلحاظ حال تحققه ، فيكون المعنى فليمض على ما كان يقينا. بل لا يستقيم إطلاق اليقين في المقام حتى بلحاظ حال وجوده ، لأن اليقين هو القطع المطابق للواقع ، فإذا تبدل بالشك لا يكون كذلك حتى بنظر المتيقن ليطلق عليه اليقين ولو بحسب اعتقاد المتيقن ، بل لا بد من إطلاق القطع عليه حينئذ. فيتعين حمل الرواية على الاستصحاب ، وهو المضي على طبق اليقين الموجود بالفعل كما هو ظاهره ، ويؤكده قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية «لأن اليقين لا يدفع بالشك».

ثم انه يوجد في هامش بعض نسخ الرسائل حاشية منسوبة إلى السيد الشيرازي حاصلها : أن الزمان في القاعدة لا بد وان يكون قيدا للمتيقن والمشكوك ، وفي الاستصحاب يكون طرفا ، ولحاظه قيدا يحتاج إلى مئونة زائدة ، لأن طبع الزمان هو الظرفية ، وبما انه لم يقم في الرواية قرينة عليها فتحمل على الاستصحاب.

وفيه : ان الزمان في الاستصحاب وان لم يكن قيدا إلّا أنه في القاعدة أيضا

٣٧

يكون ظرفا ، وقد عرفت ان الفرق بينهما ليس بتقييد اليقين بالزمان السابق والشك بالزمان اللاحق في القاعدة دون الاستصحاب ، بل الفرق بينهما ان اليقين والشك كليهما متعلق بالحدوث في مورد القاعدة ، والأول متعلق بالحدوث والثاني بالبقاء في الاستصحاب ، فالفرق بينهما من حيث متعلق الصفتين ، لا التقيد بالزمان.

ثم الّذي يهون الخطب أن هذه الرواية ضعيفة السند باشتمالها على القاسم بن يحيى ، الّذي ضعفه ابن الغضائري ، وتضعيفه وان لم يعتمد عليه ، لكثرة تشكيكه ، إلّا أنه مجهول الحال. ونقل الثقات عنه لا يوجب التوثيق.

ومما استدل به على حجية الاستصحاب رواية القاساني «قال : كتبت إليه أسأله عن اليوم الّذي يشك فيه أنه من رمضان ، فكتب اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية» (١) وقد ذكر الشيخ أنها أظهر روايات الباب (٢) ، حيث حكم فيها الإمام عليه‌السلام بالبناء على اليقين ببقاء الشهر السابق ما لم يتيقن دخول الشهر اللاحق.

وأورد عليه كما في الكفاية (٣) بأن المراد منها بقرينة بعض الروايات الواردة في الصوم كقوله عليه‌السلام «الصوم فريضة لا يدخلها الشك» اعتبار العلم في وجوبه ، فالواجب صوم اليوم الّذي علم كونه من رمضان.

وأيده المحقق النائيني بأنه لا معنى لأن يراد من قوله «اليقين لا يدخله الشك» نفس الصفتين ، إذ لا معنى لإدخال إحداهما في الأخرى ، ولا يستعمل الدخول بمعنى النقض ، بل لا بد وان يراد المتيقن والمشكوك. فالمعنى ان ما يشك في كونه من

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ ـ ١٥٩.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٧٠ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٩٨.

٣٨

رمضان لا يدخل في المتيقن منه (١).

والصحيح : ما أفاده الشيخ من دلالتها على الاستصحاب.

وما في الكفاية يرد عليه :

أولا : ان دلالة بعض أخبار الصوم على اعتبار العلم في وجوب صوم شهر رمضان لا يقتضي حمل هذه الرواية عليه.

وثانيا : ينافيه ذيل المكاتبة (وأفطر للرؤية) فان السؤال فيها وان كان عن صوم يوم الشك من أول الشهر ، إلّا أن الإمام عليه‌السلام تعرض في الجواب لحكم الشك من آخر الشهر أيضا بقوله «وأفطر للرؤية» الظاهر في وجوب صومه ، مع أنه لا يكون إلّا مع الشك في كونه من رمضان ، فكيف يمكن حمل صدرها على اعتبار العلم في صوم رمضان.

ومن الغريب إنكار الميرزا النائيني استعمال الدخول بمعنى النقض ، مع ان النقض عبارة عن رفع الهيئة الاتصالية ، ودخول الجسم في الجسم يستلزم ذلك ، ولذا ترى التعبير عن النقض بالدخول كناية شايعا في ألسنة العلماء ، وقد وقع كثيرا في كلمات المحقق نصير الدين الطوسي ان دليل الخصم مدخول فيه ـ أي منقوض ـ فإذا الدخول في المكاتبة كناية عن النقض ، والمراد باليقين والشك نفس الصفتين ، ويستفاد منها كبرى كلية ، لعدم اختصاصها بمورد دون آخر.

ومما استدل به للمقام أخبار أصالة الحل وقاعدة الطهارة. وهي على طوائف ثلاث :

منها : ما ورد في طهارة الماء ما لم يعلم نجاسته كقوله عليه‌السلام «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٧٣.

(٢) الكافي : ٣ ـ ١.

٣٩

ومنها : ما ورد في طهارة كل شيء كذلك قوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت انه قذر فقد قذر» (١).

ومنها : ما ورد في حلية الأشياء ما لم يعلم حرمتها كقوله عليه‌السلام «كل شيء حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» (٢).

وقد استدل صاحب الفصول وغيره بالأوليين ، وصاحب الوافية بالثالثة. والوجوه المحتملة في هذه الأخبار سبعة :

الأول : ان تحمل على بيان الحكم الواقعي الثابت للأشياء بعناوينها الأولية ، بأن يكون العلم مأخوذا في الغاية طريقا إلى واقع النجاسة والحرمة ، فالمعنى كل شيء محكوم بالطهارة ما لم ينجس ، ومحكوم بالحل ما لم يحرم ، كما أخذ التبين طريقا في قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)(٣) فان غاية جواز الأكل والشرب هي طلوع الفجر ، ولذا يبطل الصوم على المعروف فيما إذا لم يتبين المكلف وأكل أو شرب جاهلا بطلوعه ، فأريد من التبين الّذي هو بمعنى الانكشاف تحقق المنكشف.

الثاني : ان تكون دالة على الحكم الظاهري فقط ، بأن تكون الغاية أعني الجهل قيدا لموضوع الحكم بالطهارة أو بالحل ، وهذا هو المعروف.

الثالث : ان يراد بها الاستصحاب فقط ، بأن تكون الحلية والطهارة للأشياء حدوثا أمرا مفروغا عنه ، ومفروض الوجود في الأخبار ، وتكون هي متكفلة لبيان استمرارها حتى يعلم ارتفاعها.

الرابع : أن يستفاد من صدرها قاعدة الطهارة والحل ، وبالغاية استمرار

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ ـ باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة : كتاب التجارة ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٤٠