دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الأولي. كما إذا تعذرت لتعذر تطهير البدن أو اللباس من الخبث كان بدلها الصلاة مع البدن النجس ، أو في الثوب النجس ، أو عاريا على الخلاف. فالمبدل على التقديرين هي الصلاة ، فلا فرق من هذه الجهة بين الطهارة عن الحدث ، والطهارة عن الخبث. فهذا الفرع ليس من صغريات هذه الكبرى.

المرجح الثالث : ذكروا ان الأهم يتقدم على المهم عند المزاحمة. وهذا من القضايا التي قياساتها معها. والوجه فيه ظاهر ، فإن المهم نفرض اشتماله على خمسة درجات من المصلحة ، والأهم على عشرة درجات ، والمكلف مضطر إلى تفويت الأقل أعني الخمسة ، فإذا ترك الأهم واختار المهم ، فقد فوت على نفسه الخمسة الأخرى من دون اضطرار.

وبعبارة أخرى : العقل والعقلاء يرون الأهم معذرا عن المهم ، ولا يرون المهم معذرا عن الأهم ، فيكون تركه لا عن عذر.

المرجح الرابع : ان الواجب الّذي هو مقدم زمانا على الآخر يتقدم عليه عند المزاحمة. وليعلم ان مورده ما إذا كان وجوب كليهما فعليا ، وكان ظرف امتثال أحدهما مقدما على زمان امتثال الآخر بنحو الواجب التعليقي ، كما إذا فرضنا ان المكلف نذر صوم الغد وما بعده فصار وجوبهما فعليا ، فاضطر إلى تركه ، اما في اليوم الأول ، أو اليوم الثاني. ولا إشكال في تقدم السابق زمانا ، فانه إذا أتى به المكلف لا محالة يسقط التكليف بالقياس إلى اللاحق بسقوط شرطه ، وهي القدرة ، فلا يكون هناك عصيان أصلا. وهذا بخلاف العكس ، فانه يكون عصيانا لخطاب الواجب الفعلي لا محالة ، فانه فيما إذا تردد أمر المكلف في شهر الصيام بين إفطار الصوم في النصف الأول من الشهر أو في نصفه الأخير ، لا يحتمل عاقل جواز إفطاره في النصف الأول لحفظ قدرته للنصف الأخير ، إلّا إذا كان اللاحق أهم ، فهناك كلام.

٣٦١

وقد ذكروا لهذه الكبرى ما إذا دار الأمر بين ترك القيام أو الركوع ، فقالوا بتقدم القيام ، لتقدمه على الركوع زمانا. وذكر هذا الفرع في موردين من العروة في باب المكان ، وفي باب القيام. وذهب الميرزا في الحاشية في أحد الموردين إلى تقديم القيام لسبقه ، وفي مورد آخر يتقدم الركوع لأهميته ، فيكون داخلا تحت المرجح المتقدم ، فكأن بين حاشيتيه تهافت.

وبالجملة ذكروا من جملة المرجحات ما إذا كان أحد الواجبين متقدما زمانا على الآخر ، فانه يتقدم السابق على اللاحق. والسر فيه ظاهر ، فإن السابق يكون ظرفه فعليا ، والمكلف قادر على الإتيان به ، فلا يسوغ العقل تركه من دون عذر ، فإذا أتى به المكلف صار عاجزا عن اللاحق ، وسقط وجوبه ، لعجزه ، إلّا إذا كان اللاحق أهم بحيث يراه العقل معجزا عن الواجب السابق ، كما إذا دار امر العبد بين إتلاف مال المولى فعلا أو إتلاف نفسا بعد ساعة ، فإن الأهم حينئذ يتقدم ولو كان زمانه متأخرا ، وهذا كله واضح.

إنّما الكلام في بعض صغريات هذه الكبرى. فانهم ذكروا منها : ما إذا دار أمر المصلي بين ترك القيام أو الركوع مثلا. وقد ذكر هذا الفرع في موردين من العروة ، وحكم في المتن بالتخيير في كلا الموردين. إلّا أن الميرزا في أحد الموردين قدم الركوع ، لأهميته ، وفي الآخر قدم القيام لسبقه.

والصحيح : خروج هذا الفرع عن باب التزاحم رأسا. والوجه في ذلك هو ان التزاحم إنّما يكون فيما إذا كان هناك وجوبان لا يتمكن المكلف من امتثال كليهما ، كما في الواجبين المستقلين. وأما في الواجبات الضمنية فالوجوب النفسيّ واحد ، وهو متعلق بالمجموع المركب ، فالواجب حقيقة هو العمل المركب ، فإذا تعذر بتعذر بعض اجزائه أو شرائطه سقط التكليف المتعلق به لا محالة ، ولذا في الصوم إذا لم يتمكن المكلف من إمساك ساعة واحدة مثلا لم يجب عليه الإمساك في بقية النهار ،

٣٦٢

غايته في باب الصلاة ثبت بالإجماع والضرورة ولقوله عليه‌السلام فانها «لا تدع الصلاة بحال» (١) عدم سقوطها بسقوط بعض ما يعتبر فيها ، وحينئذ ان تعذر بعض ما اعتبر فيها معينا وجب بالأمر الثانوي الإتيان بالباقي.

وأما إذا تردد المتعذر بين جزءين ، أو شرطين ، أو جزء وشرط ، فالأمر الأولي قد سقط يقينا. كما نعلم بتعلق أمر ثانوي بأحد أمرين من الفاقد للجزء أو الشرط مثلا ، فالمجعول الثانوي يكون مجهولا ، لا أنه يكون هناك أمران ثانويان يعجز المكلف من امتثالهما ليكون من باب التزاحم.

ومن الظاهر ان في تعيين مجعول المولى لا بد من الرجوع إلى الأدلة ، كما في المتعارضين ، وعليه فلا بد من الرجوع إلى دليلي الجزءين أو الشرطين ، فإن كان لأحدهما إطلاق دون الآخر ، واحتمل اختصاص جزئيته أو شرطيته بحال دون حال ، كما في الطمأنينة والقيام ، مثلا إذا دار الأمر بين ان يصلي قائما وماشيا أو عن جلوس مطمئنا ، فإن دليل الطمأنينة لبي يحتمل اختصاص اعتبارها بما إذا لم يستلزم منها فوات شرط أو جزء آخر ، بخلاف القيام ، فيتقدم عليها لا محالة. وان كان كلا الدليلين لبيا ، وصلت النوبة إلى الرجوع إلى الأصول العملية ، وبما ان وجوب الجامع ، أي أحد الأمرين ، محرز والشك في تعين إحدى الخصوصيّتين ، فالأصل عدم تعين كل منهما ، فيثبت التخيير.

وإن كان دليل كليهما لفظيا فلا محالة تقع بينهما المعارضة بالعموم من وجه ، حيث يكون أحد الحكمين مجعولا قطعا ، فإن كان شمول أحد الدليلين بالإطلاق والآخر بالعموم ، قدم العام على المطلق ، على ما سنبينه من تقدم العموم على الإطلاق. وان كان في كليهما بالإطلاق ، سقطا معا ، ويرجع إلى الأصل العملي ، وهو البراءة عن تعين كلتا الخصوصيّتين ، على ما عرفت وتعرف أيضا من ان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ ـ باب ١ من أبواب الاستحاضة ، ح ٥.

٣٦٣

مقتضى القاعدة في تعارض الإطلاقين بالعموم من وجه هو التساقط. وان كانا معا بالعموم وصلت النوبة إلى الرجوع إلى المرجحات ، ففي موردين من الموارد المذكورة يحكم بالتخيير ، أحدهما : ما إذا كان الدليلان لبيين ، والثاني : ما إذا كانا مطلقين ، وفي غيرهما يجري التفصيل المتقدم.

هذا كله فيما إذا دار الأمر بين جزءين مختلفين ، أو شرطين ، أو بين جزء وشرط. وأما إذا دار الأمر بين ترك جزء واحد في الركعة السابقة أو اللاحقة ، كالقيام أو السجود مثلا ، ففي خصوص القيام وان كان مقتضى القاعدة التخيير ، إلّا انه قد يستظهر من قوله عليه‌السلام فيه «إذا قوى فليقم» (١) تعين القيام السابق على اللاحق.

وأما في غيره كالركوع أو السجود في الركعة الأولى والثانية فالحكم هو التخيير ، لأن الأمر الأولي قد سقط بالتعذر يقينا ، والمجعول الثانوي مردد بين الفاقد للجزء أو الشرط المتعذر في الركعة السابقة أو اللاحقة ، والقدر الجامع متيقن ، وكل من الخصوصيّتين مشكوك فيه ، والأصل البراءة عن كلا التعينين ، هذا ويترتب على ما ذكرنا فروع كثيرة.

هذا كله فيما إذا لم يكن سقوط كلا الجزءين أو الشرطين محتملا عند تعذر أحدهما.

وأما إذا احتمل ذلك ، ولم يكن لدليل أحدهما إطلاق يثبت اعتباره في هذا الحال أيضا ، فالأصل البراءة عن اعتبار كليهما عند تعذر أحدهما فيأتي بالمؤلف من باقي الأجزاء والشرائط غيرهما.

هذا كله في مرجحات باب التزاحم.

فلنرجع إلى باب التعارض ونقول : قد عرفت ان التعارض هو تنافي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ ـ باب ٦ من أبواب القيام ، ح ٣.

٣٦٤

الدليلين بحيث لا يمكن صدق كليهما ، ولزم من صدق كل منهما كذب الآخر ولو بالعرض ، فلا تعارض بين الحاكم والمحكوم ، ولا بين الخاصّ والعام ، لأن الخاصّ مبين للمراد من العام ، وقرينة عليه عرفا ، فينتفي به موضوع دليل حجية العام في العموم ، وهو ما قامت عليه سيرة العقلاء في مورد الشك من أصالة العموم في المخصص المتصل ، أو حجيته في المخصص المنفصل. فالخاص ان كان قطعيا كان واردا على دليل اعتبار العام ، وان كان تعبديا كان حاكما عليه ، فتقدم الخاصّ على العام أيضا بالحكومة. والفرق بينه وبين الحكومة المصطلحة ، هو ان الدليل الحاكم في موارد الحكومة ينفي موضوع دليل المحكوم ، والخاصّ لا ينفي موضوع الدليل العام ، وانما ينفي موضوع دليل اعتبار أعني أصالة العموم وهو الشك ، فيسقط عن العموم ، ولو كان في أعلى مراتب الظهور ، فإن الظهور وان كان قويا انما يكون حجة فيما إذا قام الدليل على اعتباره.

فما ذكره الشيخ من ان تقدم الخاصّ على العام انما هو من جهة تقدم الأظهر على الظاهر (١) غير تام ، فإن الظاهر قد يتقدم على الأظهر فيما إذا كان قرينة عرفية عليه ، كما في قولك : رأيت أسدا يرمي ، فإن ظهور الأسد في الحيوان المفترس وضعي ، وظهور الرمي في مرمى النبل إطلاقي ، لأنه موضوع للقدر الجامع بين رمي النبل والتراب والحجر وغيره ، ومع ذلك يتقدم ظهوره على ظهور الأسد ، لكونه قرينة عليه. والأوصاف التي تكون فضلة في الكلام غالبا تكون قرينة على غيرها ، ويؤتى بها لبيان المراد من غيرها مما هو العمدة في الكلام ، فيتقدم ظهور القرينة وان كان أضعف الظهورات على ذي القرينة ولو كان في أقوى مراتب الظهور ، والسر فيه هو السر في تقدم الخاصّ على العام ، وهو الحكومة على ما تقدم.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٨٧ (ط. جامعة المدرسين).

٣٦٥

ثم القرينية ليست تحت ضابط معين ، بل تختلف باختلاف خصوصيات الموارد ، لكن غالبا كما ذكرنا يكون الفضلة في الكلام قرينة على غيرها.

وقد ينعكس الأمر ، فيكون الفضلة هو ذو القرينة.

ومن هنا ذكر شيخنا الأنصاري في حديث لا تنقض اليقين بالشك أن النقض قرينة على اختصاص اليقين مع كونه فضلة في الكلام ، أي مفعولا بما إذا تعلق بما فيه إبرام واستعداد للبقاء ، فخص الاستصحاب بالشك في الرافع. وكذلك في قولك : لا تضرب أحدا ، ذكروا انّ ظهور الضرب في المؤلم قرينة على أن المراد من الأحد خصوص الحي دون غيره.

ولكن شيخنا الأنصاري ذكر موارد يكون تقدم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر فيما تحت ضابط كلي.

منها : ما إذا وقعت المعارضة بين العام والمطلق ، فالعام يتقدم. وذكر في وجهه ان ظهور العام في الشمول تنجيزي ، وظهور المطلق فيه تعليقي ، أي معلق على عدم بيان القيد ، فيصلح أن يكون العام عند المعارضة بيانا للمطلق (١).

وأورد عليه المحقق الخراسانيّ في الحاشية وفي الكفاية (٢) في المقام وغيره أن ظهور المطلق وان كان تعليقيا إلّا أنه ليس معلقا على عدم البيان إلى الأبد ، بل معلق على عدم البيان في اللفظ ، فإذا تم الكلام وسكت المتكلم صار ظهوره تنجيزيا لحصول المعلق عليه ، كما كان ظهور العام تنجيزيا بنفسه ، فلا وجه للتقديم.

والجواب عنه : أولا : انّا إذا فرضناهما في كلام واحد لا ريب في تقدم العام على المطلق ، وصيرورته بيانا لما أريد منه ، كما اعترف به المحقق الخراسانيّ في بحث الواجب المشروط. ولا فرق في ذلك بين الكلام الواحد والمتعدد.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٩٢ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

٣٦٦

وثانيا : وهو أيضا عبارة أخرى عن الوجه الأول ، أو متمم له ، ان شمول المطلق وسريانه متوقف على عدم بيان القيد إلى الأبد غايته بقاء. وذلك لأن الشمول في المطلق ليس مدلولا لدليل لفظي كما في العام ، وانما هو مدلول لعدم البيان ، فما دام عدم البيان متحققا وهو الدليل كانت الدلالة أيضا ثابتة ، فينكشف بها الإطلاق ، وإذا لم تبدل بالبيان انتفت الدلالة والمنكشف لا محالة ، فثبوت الإطلاق في كل آن متوقف على عدم البيان في ذاك الآن ، وبانتفائه ينتفي الإطلاق حقيقة ، فهو ينظر إلى الأصول العملية مع الأمارة ، فإذا لم تكن الأمارة متحققة كان الأصل العملي جاريا حقيقة ، وإذا قامت الأمارة انتفى موضوع الأصل العملي لا محالة ، وهذا هو الحال في الإطلاق ، فما لم يكن بيان يكون الإطلاق ثابتا حقيقة ، وبمجرد تحقق البيان ينتفي الإطلاق ، لأنه كما عرفت مدلول عدم البيان ، وليس مدلولا للفظ ، ولذا لا يكون تقييده مستلزما للمجازية ، بخلاف تخصيص العام مستلزم لمجازيته ، وان لم يكن صحيحا على المختار ، إلّا ان غيره من الظهورات كذلك.

وبالجملة ما ذكره الشيخ من تقدم العام على المطلق ، لأنه تعليقي ، بخلاف العام ، تام ويترتب عليه ثمرة مهمة ، نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. فالعام لكون ظهوره في السريان تنجيزيا يتقدم على المطلق عند المعارضة ، لأن سريانه تعليقي على عدم بيان القيد ، والعام صالح لأن يكون بيانا.

المورد الثاني : مما ذكروا ان تقدم أحد الدليلين فيه على الآخر تحت ضابط كلي هو تعارض المطلق الشمولي مع المطلق البدلي ، فإن الإطلاق قد يكون شموليا منحلا إلى أحكام عديدة ، كإطلاق قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) الشامل لكل فرد من افراد البيع. وقد يكون بدليا ، بمعنى أن مفاده حكم واحد متعلق بالجامع ،

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٣٦٧

أي بأحد الأفراد على البدل ، كما في قولك : أكرم عالما ، فانه حكم تكليفي متعلق بطبيعي العالم. فإذا وقعت المعارضة بين مطلق شمولي ومطلق بدلي ، كما إذا ورد لا تكرم فاسقا ، وورد في دليل آخر أكرم عالما ، فإن الأول مطلق شمولي ، والآخر بدلي ، والتعارض بالعموم من وجه ، ومورد اجتماعهما العالم الفاسق ، فالدليل الأول يقتضي حرمة إكرامه ، والدليل الثاني يقتضي وجوب إكرامه ، وقد أوضحنا مفصلا في بحث اجتماع الأمر والنهي انه ليس من باب الاجتماع ـ وان كان ظاهر بعض كلمات المحقق الخراسانيّ كونه من ذاك الباب ـ وانما هو من باب التعارض.

وان بنينا على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فهل يقدم الأول على الثاني أو لا؟ ذهب الميرزا (١) وغيره إلى تقدم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي. وذكروا في وجهه وجوها :

أحدها : أن تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي يستدعي رفع اليد عن أحد أحكام المولى ، وإسقاطه وإخراج فرد عن الحكم ، لأن المطلق الشمولي ينحل إلى أحكام عديدة ، فإذا قدمنا الإطلاق الشمولي في مورد الاجتماع خرج فرد من افراده عن الحكم العام لا محالة. وهذا بخلاف ما إذا قدمنا الإطلاق الشمولي على البدلي ، فانه لا يستدعي إسقاط حكم أصلا ، وانما يستلزم تضييق دائرة الحكم ، لأنه حكم واحد على الفرض ، وهو باق بعد ، غايته كانت دائرة متعلقه وسيعة ضيقت بتقديم الإطلاق الشمولي عليه ، ومن الظاهر ان الثاني أولى.

وفيه : أولا : انّا ذكرنا ان الميزان في تقديم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر انما هو كونه قرينة عليه عرفا. وما ذكر وجه اعتباري على فرض تماميته لا يوجب التقديم.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥١٣ ـ ٥١٤.

٣٦٨

وثانيا : ان هذا الوجه الاعتباري أيضا غير تام ، وذلك لأن كل إطلاق بدلي يستلزم الإطلاق الشمولي من حيث التطبيق لا محالة ، إذا امر المولى بإكرام العالم مثلا كان له ان يمنع عن تطبيق الجامع على بعض الافراد إلزاما أو تنزيها ، كما كان له ان يأمر بتطبيقه على بعض الافراد إلزاما أو استحبابا ، فإذا لم يفعل ذلك فقد خص المكلف في تطبيقه الجامع على أي فرد شاء ، فثبت الترخيص الشرعي. وإطلاق هذا الترخيص شمولي فينحل إلى ترخيصات عديدة ، فالمطلق البدلي إطلاقه من حيث الحكم الوجوبيّ بدلي ، ومن حيث الحكم الترخيصي شمولي ، ولو قدم عليه الإطلاق الشمولي لزم إسقاط أحد هذه الأحكام الترخيصية وان لم يلزم إسقاط حكم إلزاميّ ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ثانيها : ان سريان الحكم في الإطلاق البدلي إلى جميع الاجزاء يتوقف على مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة المشتركة بين الإطلاق البدلي والشمولي ، وهي كون جميع الأفراد متساوية الأقدام من حيث وفائها بغرض المولى ، واشتمالها على المصلحة أو المفسدة. فهذه المقدمة معتبرة في الإطلاق البدلي دون الشمولي.

وذلك لأن المطلق الشمولي كما عرفت ينحل إلى أحكام عديدة ، ولا مانع من اختلاف متعلقات الأحكام في ملاكاتها ، كما لا يلزم فسادها في ذلك ، مثلا قتل النبي أعظم مفسدة من قتل المؤمن ، وهو من قتل المسلم وهكذا سائر المحرمات وكلها محرمة ، وكذا الواجبات.

وهذا بخلاف المطلق البدلي ، فانه حكم واحد. وكون المكلف مخيرا في تطبيقه على أي فرد شاء انما هو فيما إذا أحرز تساويهما في الوفاء بغرض المولى وفي اشتمالها على الملاك ، وإلّا فليس للمكلف تطبيق الواجب عليه.

وعليه ففي فرض المعارضة لا يمكن إحراز تساوي مورد الاجتماع مع غيره من الأفراد في ذلك ، لاحتمال كونه مشتملا على مفسدة يزاحم بها المصلحة الموجودة فيه ، فلا يتحقق الإطلاق بالقياس إليه.

٣٦٩

ثالثها : ما هو تقريب آخر لهذا الوجه وحاصله : ان سريان الحكم في الإطلاق البدلي متوقف على عدم وجود مانع عن ذلك ، والإطلاق الشمولي المعارض له صالح للمانعية ، لما عرفت من صلاحيته لنفي تساوي مورد مع بقية الأفراد في وفائه بالملاك ، فإذا توقف إطلاقه على الإطلاق البدلي لزم الدور.

والجواب عن ذلك : هو ان الإطلاق البدلي بنفسه كاشف عن تساوي الأفراد ، ولذا لو احتملنا عدم تساويها في غير فرض المعارضة ، كما إذا ورد في الدليل أكرم عالما واحتملنا عدم كون العالم الفاسق كالعالم العادل من حيث اشتماله على الملاك ، فنفس إطلاق الدليل ينفي هذا الاحتمال ، وكذا الحال عند المعارضة ، فلا يتوقف السريان في الإطلاق البدلي على إحراز التساوي من الخارج كالإطلاق الشمولي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، إذا كما يصلح المطلق الشمولي للمانعية عن الإطلاق البدلي ، كذلك الإطلاق البدلي صالح لأن يكون مانعا عن الإطلاق الشمولي ، كما في كل متعارضين ، فلا وجه لتقديم الشمولي على البدلي ، بل يسقطان معا بالمعارضة على ما هو مقتضى القاعدة.

المورد الثالث : من موارد تقدم أحد الدليلين على الآخر عند المعارضة كلية ، ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ، فإن دوران الأمر بينهما تارة : يكون في دليل واحد. وأخرى : في دليلين.

والأول : كما إذا ورد عام ثم ورد بعده خاص ، كما هو الكثير المتعارف ، مثلما ورد عن النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ الماء لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه ، ثم ورد عن بعض الأئمة عليهم‌السلام ما يستفاد انفعال الماء القليل (٢). ودار أمر الخاصّ بين كونه مخصصا للعام ومبينا للمراد منه في الأول أو ناسخا له من الآن ، وقد بينا في محله

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١ ـ باب ٣ من أبواب الماء المطلق ، ح ١١.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٨ من أبواب الماء المطلق.

٣٧٠

إمكان ورود الناسخ عن الإمام عليه‌السلام لأن النسخ ليس رفعا للحكم ، وانما هو بيان أمد الحكم الموقت ، فيمكن ذلك وان كان الوحي منقطعا. إلّا انه لا يترتب ثمرة على ذلك في هذا الفرض بالقياس إلى المكلفين بعد زمان ورود الخاصّ ، لأن العمل لا بد وان يكون على طبق الخاصّ ، سواء كان مخصصا للعام أو ناسخا ، وفي المثال يكون الماء القليل منفعلا فعلا ، سواء كان كذلك من الأول أو لم يكن قابلا للانفعال سابقا ونسخ ذلك.

نعم يترتب على ذلك ثمرة عملية بالقياس إلى من كان مكلفا قبل ورود الخاصّ ، فانه لو كان توضأ بماء قليل لاقى النجس حينئذ ، وصلى مع ذلك الوضوء ، بناء على التخصيص ، لم يكن عمله صحيحا ، لأنه توضأ بماء نجس واقعا ، وان كان محكوما بعدم الانفعال ظاهرا ، لجهل المكلف بالحال ، فلا بد له من تكرار العمل. وعلى النسخ كان عمله السابق صحيحا واقعا ، فلا حاجة إلى التكرار.

والثاني : كما إذا ورد الخاصّ أولا ثم بعده ورد عام. ونفس المثال المتقدم نعكسه ، فيدور الأمر بين ان يكون الخاصّ المتقدم مخصصا للعام المتأخر ، أو يكون العام المتأخر ناسخا للخاص المتقدم. وظهور الثمرة في هذا الفرض أمر واضح ، إذ لو كان العام ناسخا للخاص كان العمل عليه ، وان كان مخصصا ـ بالفتح ـ لزم العمل على طبق الخاصّ. والمعروف فيه ترجيح التخصيص على النسخ. وذكروا في وجهه ان التخصيص كثير شايع ، حتى قيل ما من عام إلّا وقد خص ، بخلاف النسخ ، ولذا يتقدم التخصيص عليه.

وفيه : ان هذا وجه اعتباري غايته ان يفيد الظن ، لأنه يلحق الشيء بالأعم الأغلب ، وقد عرفت ان مرجح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر انما هو قرينيته العرفية ، ولذا ارجع صاحب الكفاية هذا الوجه إلى الأظهرية في مقام الإثبات والدلالة بتقريب : ان الخاصّ حيث انّ له ظهور في الاستمرار والعام

٣٧١

ظاهر في شمول الأفراد ، وقعت المعارضة بين الظهورين ، وبما أن التخصيص أكثر من النسخ ، فغلبة التخصيص وقلة النسخ يوجب قوة ظهور الخاصّ في الاستمرار ، وضعف ظهور العام في شمول الأفراد ، فيقدم الخاصّ لأظهريته في الاستمرار في العام في شمول الأفراد.

وبالجملة ذكروا في تقديم التخصيص على النسخ فيما إذا ورد عام سابق وخاص لاحق وجوها :

الأول : ان التخصيص شايع كثير ، والنسخ قليل ، فيوجب تقديمه عليه.

وفيه : انه وجه اعتباري ، لا يوجب تقديم أحد الظهورين.

الثاني : ان الخاصّ ظاهر في الاستمرار ، والعام في العموم الأفرادي ، وظهور الخاصّ في الاستمرار أقوى من ظهور العام في العموم الأفرادي ، لكون النسخ قليلا والتخصيص شايعا.

وأورد عليه الميرزا قدس‌سره بما بنى عليه في بحث الاستصحاب من ان الاستمرار الجعلي في مقابل النسخ لا يمكن ان يتكفل دليل الحكم لإثباته ، فاستمرار الأحكام يكون بالاستصحاب. وهذا بخلاف العموم الأفرادي في العام ، فانه ثابت بأصالة العموم ، فالمعارضة تكون بين الأصل اللفظي والأصل العملي ، ومن الظاهر ان الأصل العملي لا يقاوم الأصل اللفظي ، فلا بد من تقديم النسخ ، أعني العام على التخصيص (١).

ونقول : قد بينا في محله ان العام والمطلق كما يعم الافراد العرضية كذلك يعم أفراده الطولية أيضا ، لعدم الفرق بينهما ، مثلا إذا قال : أكرم كل عالم ، كما يعم عمومه الافراد العرضية من العلماء كذلك يعم افرادها الطولية ، وهكذا المطلق ، فالخاص بإطلاقه دال على الاستمرار والدوام ، فالمعارضة تكون بين ظهورين ، إلّا

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥١٥.

٣٧٢

ان استمرار الخاصّ يكون ثابتا بالإطلاق ، وسريان العام يكون بالعموم اللفظي ، وقد بينا تقدم العموم اللفظي على الإطلاق عند المعارضة ، فلو كان الوجه في التقديم هو الأظهرية لا بد من ترجيح النسخ على التخصيص.

الثالث : ما ذكره الميرزا (١) قدس‌سره في تقديم التخصيص على النسخ ، وهو : ان سريان الحكم في العام وان كان بالوضع إلّا انه متوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مدخولها ، وذلك لأن أداة العموم موضوعة لسريان الحكم إلى تمام أفراد ما يراد من مدخوله ، فإثبات ان المراد من المدخول هو الجامع غير المقيد بقيد خاص لا بد وان يكون بمقدمات الحكمة ، والخاصّ المتقدم يمنع جريانها.

وفيه : انّا قد بينا في محله ان أداة العموم بنفسها متكفلة لإثبات إطلاق مدخولها أيضا ، وهي موضوعة لذلك ، ببيان تقدم ، فلا يتوقف عموم العام وسريانه إلى جميع الأفراد إلى إجراء مقدمات الحكمة في المدخول ليكون الخاصّ المتقدم مانعا عنه.

ولكن الصحيح : تقدم التخصيص على النسخ لوجهين ، ذكرناهما في بحث العام والخاصّ :

أحدهما : انه وان وقع الخلاف بينهم في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وعدمه ، وبنو عليه ان الخاصّ المتأخر ان كان واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ فهو ناسخ له ، وإلّا فهو مخصص ، إلّا انه لم يحتمل أحد قبح تقديم البيان عن وقت الحاجة ، فلا مانع من ان يعلن المتكلم بأنه يريد من جميع ما تكلم به غدا معانيها المجازية. وعليه فيكون الخاصّ المتقدم بيانا ، أتى به المتكلم قبل وقت الحاجة ، فلا ينعقد معه للعام ظهور في العموم أصلا.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥١٤.

٣٧٣

ثانيهما : وهو أظهر من الأول ، ان النسخ يحتمل فيما إذا احتمل كون العام المتأخر بيانا للحكم من الآيات ، وهو غير محتمل في الأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم‌السلام لكونها بيانا لحكم الشريعة المقدسة ، ومقتضى إطلاقها ثبوت تلك الأحكام من أول تشريع الإسلام إلّا ان ينصب قرينة على إرادة الحكم من الآن.

نعم إذا كان كلا الدليلين صادرين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتمل كون الثاني ناسخا للحكم السابق. ومن هنا لم نر أحدا من الفقهاء احتمل النسخ في الاخبار الخاصة الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام بالإضافة إلى العمومات السابقة عليها ، بل يجعلونها مخصصة لها ، فتقدم أحد الحكمين على الآخر انما هو في مقام الإثبات والدليل دون المنكشف والمدلول ، فان مدلول كلا الدليلين انما هو بلحاظ زمان واحد ، ومعه كيف يحتمل كون الثاني ناسخا للأول.

وبعبارة أخرى : كأن الأئمة عليهم‌السلام بأجمعهم بمنزلة رجل واحد ، وكلامهم بمنزلة كلام واحد ، لا فرق بين المتقدم منهم والمتأخر ، فإذا لا بد من تقديم الخاصّ المتقدم على العام ، لما عرفت من تقدمه عليه بالحكومة بالمعنى المتقدم ، وعدم كون تقديمه عليه من جهة الأظهرية.

ثم انّا ذكرنا في أول البحث معنى التعارض ، وأنه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم ، ولا بين العام والخاصّ ، ولا بين المطلق والمقيد ، ولا بين كل قرينة عرفية صارفة عن ظهور الدليل الآخر. ولو كان غير العموم والإطلاق. وذكرنا ان لتعارض قد يكون بين دليلين ، ومقتضى القاعدة فيه هو التساقط.

وقد يكون بين أكثر من دليلين ، فهل يمكن ان تعالج المعارضة بين دليلين منها ثم لحاظ المعارضة بين نتيجة ذلك وبين الدليل الآخر ، ويعبر عنه بانقلاب النسبة ، فانه قد يوجب تبدل النسبة بينهما من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، أو العكس. فإذا فرضنا النسبة بين دليلين العموم من وجه ، وأخرج الدليل الثالث

٣٧٤

مورد الافتراق عن تحت أحدهما ، لكونه مخصصا له ، فلا محالة تنقلب النسبة بين الدليلين إلى العموم المطلق. مثلا إذا ورد يستحب إكرام العلماء ، وفي دليل آخر يحرم إكرام الفساق ، فبينهما عموم من وجه ، ومورد اجتماعهما هو العالم الفاسق ، فانه يستحب إكرامه بمقتضى الأول ، ويحرم بمقتضى الثاني ، فإذا ورد في دليل ثالث يجب إكرام العلماء العدول ، فهو أخص من دليل استحباب إكرام العالم ، فيخصصه بالعالم الفاسق ، فيصير أخص من دليل حرمة إكرام الفساق ، فهل يخصصه أو لا يمكن ذلك ، بل لا بد من ملاحظة حال الدليلين في نفسهما؟ وإذا كان مقتضى القاعدة فيها التساقط سقطا ، ويرجع إلى الأصول.

ذهب صاحب الكفاية (١) تبعا للشيخ (٢) إلى الثاني ، بدعوى : ان المعارضة انما تكون بين ظهورات الأدلة ، وتقديم أحد الدليلين على الآخر عند المعارضة أي القرينة المنفصلة لا يوجب سقوط ظهوره ، وانما يوجب سقوطه عن الحجية.

والصحيح : هو الثاني. وبما انه يترتب على هذه المسألة فروع مهمة كثيرة ، لا بد من تنقيحها ببيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ما تقدم في بحث العام والخاصّ ، وحاصله : ان دلالة اللفظ تكون على أنحاء ثلاثة :

الأولى : انتقال العالم بالوضع من سماع اللفظ إلى معناه ، المعبر عنها بحسب اصطلاح القوم بالدلالة الوضعيّة. ونحن عبرنا عنها بالدلالة الأنسية ، لعدم كونها مستندة إلى الوضع ، وانما هي ناشئة من أنس اللفظ مع المعنى ، لكثرة استعماله فيه ، ولذا تتحقق بمجرد سماع اللفظ ، ولو كان من حيوان ، أو استكاك حجر بحجر ، أو إنسان لم يكن في مقام البيان ، أو نصب القرينة على عدم إرادته من اللفظ ، كما في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٠٦.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٩٤ ـ ٧٩٦ (ط. جامعة المدرسين).

٣٧٥

قولك : رأيت أسدا يرمي ، فهي نظير اللوازم الذاتيّة.

الثانية : دلالة اللفظ على ان المتكلم به أراد تفهيم معناه. وهي الدلالة التصديقية على المعروف ، والدلالة الوضعيّة على المختار ، لأنها هي الدلالة المستندة إلى الوضع ، إذ الوضع كما بيناه في بحثه عبارة عن البناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى. وهذه الدلالة لا تتحقق إلّا فيما إذا كان المتكلم في مقام البيان ، فإذا كان اللافظ غافلا أو نائما لم يكن لكلامه تلك الدلالة ، ولا يصح اسناد قصد تفهيم المعنى إليه ، وهذا معنى تبعيتها للإرادة.

الثالثة : دلالته على انّ ما أراد تفهيمه كان بداعي الجد دون الهزل ونحوه. وهي ثابتة ببناء العقلاء ، فانهم يحتجون بظهورات الألفاظ للمولى على العبد ، وللعبد على المولى ، وللعبيد بعضهم على بعض.

أما الدلالة الأولى : فهي كما عرفت ثابتة للفظ في جميع الأحوال ، حتى إذا لم يكن اللافظ في مقام الاستعمال أصلا ، بل كان في مقام التمثيل للفعل ، فقال : جاءني زيد ، فعل وفاعل ومفعول مثلا.

وأما الدلالة الثانية : فتنتفي إذا نصب المتكلم قرينة متصلة على عدم إرادة تفهيم معنى اللفظ ، فإذا قال المتكلم : أكرم العلماء إلّا فساقهم ، لم يصح ان يسند إليه إرادة تفهيم العموم ، ولا ترتفع بنصب القرينة المنفصلة على ذلك.

نعم الدلالة الثالثة : تنتفي بنصب القرينة ولو كانت منفصلة ، فإذا قال المتكلم : أكرم العلماء ، ثم قال : لا تكرم فساقهم في دليل منفصل ، استكشف به ان العموم لم يكن مرادا جديا له ، وانما اراده بداعي آخر.

وبالجملة دلالة اللفظ على أنحاء ثلاثة :

أحدها : الدلالة اللفظية على المعروف التي عبرنا عنها بالدلالة الأنسية.

الثانية : دلالته على أن المتكلم قصد تفهيم المعنى. وهي الدلالة التصديقية

٣٧٦

على المعروف ، واللفظية على المختار ، وهي تتوقف على كون اللافظ بصدد التفهيم.

الثالثة : دلالته على ان المراد الاستعمالي موافق مع المراد الجدي. وهي الثابتة ببناء العقلاء. وهي متوقفة على عدم ثبوت قرينة متصلة ولا منفصلة على الخلاف إلى الأبد ، فإنّا بينا في محله ان وجود القرينة يوجب سلب هذه الدلالة الثابتة ببناء العقلاء ، وينكشف به عدم تطابق المراد الجدي مع المراد الاستعمالي ، فينتفي به موضوع الحجية ، وهي هذه الدلالة والكاشفية ، لا انه يزيل الحجية مع بقاء الدلالة كما يظهر من جماعة.

المقدمة الثانية : ان المعارضة لا بد وان تكون بين دليلين ، فيكون كل منهما حجة في نفسه ، كاشف عن المراد الجدي ، مع قطع النّظر عما يعارضه ، وإلّا فهو من قبيل معارضة الحجة مع غير الحجة.

وعلى هذا فإذا كان هناك عامان متعارضين ، وورد مخصص على أحدهما ، لم يكن حجة في العموم ، حتى مع قطع النّظر عن العام الآخر المعارض له ، فلا يمكن ان يعارضه إلّا في المقدار الخاصّ الّذي هو حجة فيه.

فما ذكره الميرزا من ان تصور انقلاب النسبة يوجب الجزم بتصديقه (١) هو الصحيح ، ولكن مع ذلك أنكره جماعة منهم الآخوند (٢) قدس‌سره. وبما ان المسألة مهمة ، لا بأس ببيان جميع موارد وقوع المعارضة بين أكثر من دليلين ، وتحقيق موارد انقلاب النسبة منها.

المورد الأول : ما إذا ورد عام وورد عليه خاصان. وهو يتصور على صور :

الصورة الأولى : ما إذا كان الخاصان متباينين ، لا يوجب تخصيص العام

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥١٨.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٠٩.

٣٧٧

بأحدهما انقلاب النسبة بين العام وبين الخاصّ الآخر ، بل النسبة بينهما بعد ذلك أيضا هو العموم المطلق. مثاله ما إذا ورد أكرم العلماء ، وورد في دليل لا تكرم زيدا العالم ، وفي آخر لا تكرم بكرا العالم ، فانه لو خصصنا العام بغير زيد ولو متصلا كانت النسبة بينه وبين لا تكرم بكرا عموم مطلق ، فلا محالة يخصص العام بكلا الخاصّين فيما إذا لم يلزم منه محذور بقاء العام بلا مورد ، أو تخصيص الأكثر المستهجن ، كما إذا ورد في دليل يستحب إكرام العلماء ، وفي دليل آخر يجب إكرام عدولهم ، وفي دليل ثالث يحرم إكرام فساقهم ، فان تخصيص دليل استحباب العلماء بهما لم يبق له مورد لو لم يكن واسطة بين العدالة والفسق ، وان قلنا بثبوت الواسطة ، لأن العدالة عبارة عن الملكة ، والفسق عبارة عن ارتكاب الذنب ، فمن كان في أول بلوغه لم يرتكب ذنبا ولم يحصل الملكة لم يكن فاسقا ولا عادلا لزم تخصيصه بالفرد النادر وهو مستهجن ، فحينئذ يقع المعارضة ، فلا بد من الرجوع إلى المرجحات السندية. وعلى المعروف تكون المعارضة بين العام ومجموع الخاصّين.

ولكن الصحيح : ان المعارضة تكون بين كل منها مع أحد الآخرين ، لما عرفت ان المعلوم عدم صدوره ليس إلّا واحدا منها لا أكثر ، فالعام يعارض أحد الخاصّين. كما ان كل من الخاصّين يعارض أحد الأمرين من العام والخاصّ الآخر ، فالشقوق ثلاثة.

وعليه ان كان كلا الخاصّين أرجح من العام سقط العام عن الاعتبار ، وأخذ بهما ، وان كان العام أرجح منهما ، فتارة : يكون الخاصان متساويين ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وأخرى : يكون أحد الخاصّين في نفسه أرجح من الآخر ، إلّا ان العام أرجح منهما.

وفي القسم الثاني بما ان المعارضة بين العام وأحد الخاصّين ، والمفروض انه

٣٧٨

أرجح منهما يتقدم عليهما ، ثم تقع المعارضة بين الخاصّين ، إذ المفروض ان المعلوم عدم صدوره لم يكن إلّا واحدا منها ، وهو مردد بينهما ، فيقدم الراجح منهما لا محالة ويفرض الآخر كأن لم يكن ، فيكون مخصصا للعام. وبعبارة أخرى : تكون المعارضة في الحقيقة بين الخاصّ المرجوح وأحد الأمرين من العام والخاصّ الآخر ، وبما انهما راجحان عليه يتقدمان لا محالة.

وفي القسم الأول ، أعني ما إذا كان الخاصان متساويين ، قدم العام عليهما ، ويحكم في الخاصّين بالتخيير ، لعدم المرجح. وبعبارة أخرى : كل من الخاصّين يعارض أحد الأمرين من العام والخاصّ الآخر ، وبما انّ العام أرجح يتقدم عليه ، وبما انه مساو مع الخاصّ الآخر يثبت بينهما التخيير.

وأما إن كان العام أرجح من أحد الخاصّين ومرجوحا بالقياس إلى الآخر ، فظاهر الكفاية هو التخيير بين الأخذ بالعامّ أو الأخذ بالخاصين ، لأن المعارض للعام مجموع الخاصّين ، فالضعيف منهما يكتسب القوة من القوي ، وبعد الكسر والانكسار يكونان متساويين مع العام (١).

ونقول : بعد ما بيناه من ان المعارضة انما هي بين العام وأحد الخاصّين ، لا مجموعهما ، ولا كل منهما ، ظهر لك فساد ذلك ، بل لا بد من ترجيح الخاصّ الراجح ، ثم تقديم العام على الخاصّ المرجوح على ما عرفت.

وبما ذكرناه ظهر الحال فيما إذا كان العام مساويا مع كلا الخاصّين ، فانه يثبت التخيير في جميعها لا محالة.

وما بيناه من التفصيل جار في جميع موارد ثبوت المعارضة بالعرض بين أكثر من دليلين ، كما هو واضح غير محتاج إلى التطويل.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٠٩.

٣٧٩

الصورة الثانية : ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه. كما إذا ورد أكرم العلماء ، ثم ورد لا تكرم فساقهم ، وورد لا تكرم شعراءهم ، فان النسبة بين العالم الشاعر والعالم الفاسق هو العموم من وجه. وفي هذا الفرض تقديم أحد الخاصّين وتخصيص العام به يوجب انقلاب نسبة العام مع الخاصّ الآخر أي العموم من وجه ، بداهة ان العالم غير الشاعر مع العالم الفاسق بينهما عموم من وجه ، فان أمكن تخصيص العام بهما معا تعين ، وان لم يمكن لاستلزامه التخصيص المستهجن جرى فيه التفصيلات المتقدمة بأجمعها.

إلّا ان هذه الصورة تفرق عن الصورة الأولى بتوهم وهو : ان السابق من الخاصّين زمانا يخصص العام ، لعدم المانع ، ثم الخاصّ المتأخر تكون النسبة بينه وبين العام عموم من وجه ، فلا يمكن تخصيص العام به ، ولو لم يلزم منه التخصيص المستهجن. فالفرق بينهما من هذه الجهة ، فان تخصيص العام بأحد الخاصّين المتباينين لا يستلزم انقلاب النسبة بين العام المخصص والخاصّ الآخر ، بخلاف تخصيصه بأحد الخاصّين اللذين بينهما العموم من وجه.

لكنه توهم فاسد ، لما بيناه من ان السبق واللحوق الزماني بين الأدلة انما يكون في مرحلة الإثبات دون الثبوت ، فان جميعها تخبر عن الجعل والتشريع ، فنسبة الخاصّ المتأخر والمتقدم إلى العام نسبة واحدة ، لأن كلا منهما يبين المراد الجدي من العام ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، لأنه بلا مرجح. فالأئمة عليهم‌السلام بأجمعهم بمنزلة رجل واحد ، والمخبر به في الروايات الصادرة منهم هو أمر واحد ، ومن هنا يجعل الخاصّ الصادر من أحدهم مخصصا للعام الصادر من الآخر ، وإلّا لم يكن لذلك وجه أصلا ، إذ لا مجال لجعل الخاصّ الصادر من أحد مخصصا للعام الصادر من شخص آخر ، فلا بد في الفرض من تخصيص العام بكلا الخاصّين ان لم يلزم منه محذور ، وإلّا وقعت المعارضة بينهما كما في الخاصّين المتباينين.

٣٨٠