دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

من الانفكاك بينهما في ذلك. وكذا الحال في المتلازمين المعلولين لعلة ثالثة ، فان الملازمة بينهما واقعية فقط ، ولا مانع من التفكيك بينها في مقام التعبد. هذا كله في جلاء الواسطة.

وأما ما ذكره الشيخ من استثناء خفاء الواسطة ، أعني ما إذا كان أثر الواسطة أثرا لذي الواسطة عرفا ، لأن نظر العرف هو المتبع في الاستصحاب وتشخيص موضوعه ، وان لم يكن كذلك بالدقة ، وكان الأثر أثرا للواسطة حقيقة.

فتحقيق الكلام فيه : انّا ذكرنا غير مرة ان نظر العرف انما يكون متبعا في الشبهات المفهومية ، أي في ما إذا لم يعلم معنى اللفظ أصلا ، وفي الشك في الصدق ، أعني ما إذا شك في سعة المفهوم وضيقه ، والجامع باب الظهورات ، فان النّظر العرفي يكون متبعا فيها ، من غير فرق بين الظهورات الوضعيّة المستندة إلى المعنى اللغوي ، أو المستندة إلى قرائن حالية أو مقالية ، ومنها مناسبة الحكم والموضوع ، فإذا حكم العرف في مورد بظهور اللفظ في معنى يتبع ذلك ، ولذا يحمل الأحد في قولك : لا تضرب أحدا على الأحباء ، مع انه أعم منها ، لظهور الحكم أعني الضرب وانصرافه إلى المؤلم.

وأما إذا عرف المعنى ، ففي مقام التطبيق لا اعتبار بنظر العرف أصلا ، بل المتبع فيه هو النّظر الشخصي لكل أحد. مثلا بعد ما علمنا ان الكر سبعة أرطال مثلا ، فمسامحة العرف في التطبيق ، وإطلاق ذاك المقدار على الناقص منه بقليل لا يكون متبعا.

وفي المقام نقول : ان استظهر العرف من الدليل المثبت للأثر على الواسطة كونه أثرا لذيها ، ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، فهو وإن كان يرتب على استصحاب ذي الواسطة ، إلّا أنه أثر له ، وليس من الأصل المثبت في شيء.

١٦١

وأما ان كان الأثر للواسطة حتى عرفا ، غايته من باب المسامحة يراه العرف أثرا لذيها ، فهذا النّظر العرفي لا دليل على اعتباره ، فالأمر دائر بين عدم الواسطة وكونها واسطة جلية. وأما ثبوت الواسطة ، وكونها خفية بذاك المعنى الّذي أفاده ، فمما لا نتعقله ، فمثبت الاستصحاب ليس بحجة على جميع التقادير.

إلّا ان جملة من الفقهاء القدماء ذكروا فروعا ، كلها مبتنية على الأصل المثبت ، ولعل ذلك من جهة بنائهم على حجية الأصل المثبت ، أو أنهم لم يميزوا الأصل المثبت من غيره ، فانه بحث حادث تعرض له بعض المتأخرين.

وكيف كان لا بأس بالتعرض لها ، وبيان المختار فيها :

أحدها : انه إذا كان الملاقي نجسا ، وكان أحد المتلاقيين مرطوبا سابقا ، ثم شك في بقاء رطوبته حين الملاقاة وعدمه ، فرتبوا على استصحاب بقاء الرطوبة فيه نجاسة الملاقى. فان رطوبة أحد المتلاقيين معتبرة في نجاسة الملاقى ، فان كل يابس زكي أي لا ينفعل بالملاقاة إلّا مع الميتة على بعض الأقوال.

والتحقيق : انه إن قلنا : انّ موضوع نجاسة الملاقي للنجس أو للمتنجس أيضا مركب من نجاسة الملاقى ورطوبة أحد المتلاقيين ، فلا مانع من إثبات نجاسة الملاقي باستصحاب بقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين ، بضم الوجدان إلى الأصل ، فان الملاقاة للنجس وجداني ، وبقاء الرطوبة محرز بالاستصحاب ، فيتم الموضوع. وأما إن قلنا : بان موضوع النجاسة انما هو الانتقال والسراية ، أعني انتقال شيء من اجزاء النجس إلى الملاقي بسبب رطوبته أو رطوبة الملاقى ، فمن الظاهر عدم إمكان إثباته باستصحاب بقاء الرطوبة ، فانه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

والصحيح : هو القول الثاني ، وذلك لعدم ورود الدليل على سببية الملاقاة للنجاسة مطلقا ، ولا في بيان كيفية التنجس وطوره ، أو موضوع نجاسة الملاقي ، وإنما حكم بنجاسة جملة من الأشياء ، فلا محالة يرجع فيه إلى العرف ، فانه موكول

١٦٢

إليهم. والموضوع لقذارة الملاقى عرفا ليس إلّا الانتقال والسراية ، فلا يستقذرون من الملاقي إلّا ما انتقل إليه شيء من أجزاء القذر ، فكذا الحال في النجاسة الشرعية ، وعليه فلا يترتب على استصحاب الرطوبة في أحد المتلاقيين نجاسة الملاقي. هذا كله فيما إذا لم يكن الملاقى ـ بالفتح ـ حيوانا.

وأما الحيوان إذا شك في بقاء الرطوبة النجسة فيه حين لاقى غيره ، سواء كان رطبا كحب من الماء أو يابسا ، فالظاهر فيه التفصيل بين القول بتنجس ظاهر الحيوان وعدمه ما دامت النجاسة موجودة فيه. فانه لا إشكال في طهارة ظاهر الحيوان بزوال عين النجاسة عنه كباطن الإنسان ، ولذا لم يقل أحد بلزوم تطهير ظاهر الحيوان وباطن الإنسان إذا شرب النجس ، كما دل على ذلك بعض الأخبار. منها : ما ورد في سؤر الطير الجارح. وانما الكلام في انه ينجس ما دام العين موجودة فيه ويطهر بزوالها ، أو انه حامل للنجس فقط ولا ينفعل أصلا؟ فعلى الثاني لا أثر لاستصحاب بقاء الرطوبة النجسة عليه ، حتى على القول بأن الموضوع لنجاسة الملاقي مركب من الملاقاة مع النجس ورطوبة أحد المتلاقيين ، فضلا عن القول الآخر. وذلك لأن استصحاب بقاء تلك الرطوبة لا يثبت الملاقاة مع النجس ، كما انه لم يكن محرزا بالوجدان أيضا ، فان ما ثبت بالوجدان ليس إلّا الملاقاة مع نفس الحيوان ، دون الرطوبة الموجودة فيه. وأما على الأول كما هو الظاهر من إطلاقات الأدلة فيستصحب نجاسة بدن الحيوان والمفروض ان الملاقاة معه وجدان بضم الوجدان بالأصل فلا بد من التفصيل.

الفرع الثاني : إذا شك في دخول شوال ، فيوم الشك يكون محكوما بكونه من رمضان بمقتضى التعبد الاستصحابي. وأما اليوم الّذي بعده فهل يحكم بكونه أول شوال وانه يوم العيد باستصحاب عدم طلوع هلال شوال في يوم الشك أو عدم كونه منه كما هو المعروف؟

١٦٣

التحقيق : انه ان قلنا : بان أول شوال عنوان مركب من أمر وجودي وهو كون اليوم من شوال ، وأمر عدمي وهو عدم كون اليوم السابق عليه من شوال ، فيمكن إحرازه بالاستصحاب ، بضم الوجدان إلى الأصل ، فان كون يوم ما بعد يوم الشك من شوال محرز بالوجدان ، ويجري عدم كون اليوم السابق عليه من شوال بالتعبد الاستصحابي. وأما ان قلنا : بأن أول الشهر عنوان بسيط ينتزع من كون اليوم من الشهر وعدم مسبوقيته بيوم آخر منه ، فلا يمكن إثباته باستصحاب عدم طلوع الهلال في اليوم السابق أو عدم كونه من الشهر اللاحق ، لأنه مثبت.

والظاهر عرفا ان عنوان أول الشهر وكذا ما بعده عنوان بسيط غير مركب ، وعليه يشكل الأمر في الحكم بكون ما بعد يوم الشك عيد.

وقد ذكر الميرزا (١) قدس‌سره ان الوجه في ذلك ليس هو الاستصحاب ، بل يستفاد ذلك من بعض الروايات الواردة في ان أول شهر شوال يثبت بأحد أمرين ، رؤية الهلال ومضي ثلاثين يوم من رمضان ، وفي الفرض مضى من رمضان ثلاثون يوما ، تسع وعشرين منه مضى وجدانا واليوم الثلاثون منه بالتعبد الاستصحابي.

وهذا الوجه وان كان متينا في الجملة ، إذ لا يجري في غير شهر شوال من بقية الشهور ، ولا في غير يوم أول الشهر من بقية الأيام ، لعدم ورود النص فيها ، بل لا بد في إثباته في كل من الموردين بعدم القول بالفصل ، إلّا انه غير محتاج إليه ، لإمكان إثبات ذلك بالاستصحاب ، وذلك لأنه بعد مضي آن أو أقل من ما بعد يوم الشك يقطع بتحقق أول شهر شوال ، أما قبل أربع وعشرين ساعة فيكون منقضيا ، وأما الآن فهو باق ، فيستصحب بقاؤه.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٢١ ـ ٤٢٢.

١٦٤

ولا يرد على هذا إلّا إشكال واحد وارد في استصحاب الزمان مطلقا ، وهو ان المتيقن انما كان وجود الزمان بنحو مفاد كان التامة ، فلا يثبت باستصحابه إلّا وجود أول يوم من شهر شوال بنحو مفاد كان التامة لا الناقصة ، إلّا أن الأثر المرغوب المترتب على الزمان مترتب على وجوده بنحو مفاد كان التامة لا الناقصة ، مثلا الحرمة متعلقة بالصوم مقارنا لوجود أول الشهر ، فيترتب على استصحابه ولو بنحو مفاد كان التامة.

وهذا الوجه جار في جميع الشهور والأيام.

الفرع الثالث : إذا احتمل وجود الحاجب في تطهير القذارات المعنوية والظاهرية ، أي في الطهارة الحدثية أو الخبثية ، فهل يعتبر فيه الفحص ليحصل له الاطمئنان ، أو يكفي فيه استصحاب عدم وجود الحاجب عن الغسل أو المسح كما ذهب إليه بعض؟ ويكثر الابتلاء بذلك في تطهير المخرج عن البول ، لاحتمال خروج بلل لزج مانع عن وصول الماء إلى البشرة.

وقد يتمسك بعدم وجوب الفحص بالسيرة المتشرعة القائمة على عدم الفحص عند احتمال وجود الحاجب.

والصحيح : عدم تمامية شيء من ذلك. اما الاستصحاب فلأنه مثبت ، فلا يترتب عليه وصول الماء البشرة. وأما السيرة فلعدم ثبوتها أولا ، لإمكان ان يكون عدم فحصهم من جهة عدم احتمالهم لوجود الحاجب ، اما لغفلتهم عنه ، أو لاطمئنانهم بالعدم. وثانيا على فرض قيام سيرة المتشرعة عليه في عصرنا هذا ، كيف يمكن إثبات استمرارها إلى زمان المعصومين عليهم‌السلام ، مع احتمال عدم استمرارها إلّا إلى زمان الفقيه القائل باستصحاب عدم وجود الحاجب.

فالصحيح : أنه لا بد من الفحص عند احتمال الحاجب إلى ان يحصل الاطمئنان بعدمه.

١٦٥

الفرع الرابع : ما إذا ادعى ولي المجني عليه انه مات بسبب الجناية ، وادعى الجاني انه مات بسبب آخر. ومن هذا القبيل ما إذا ضرب أحد الملفوف في اللحاف بالسيف فقده نصفين ، واحتمل موته حتف أنفه قبل وصول السيف إليه. وتردد الشيخ الطوسي رحمه‌الله في ثبوت الدية في الفرع وعدمه ، معللا ذلك بتساوي الاحتمالين. ورجح العلّامة احتمال ثبوت الدية (١) ، لاستصحاب حياته ، أو عدم تحقق سبب آخر لموته ، بناء منه على حجية الأصل المثبت. والمحقق ذهب إلى الاحتمال الآخر ، وأنكر ثبوت الدية (٢).

ونقول : الظاهر عن عنوان القتل المترتب عليه الدية أمر وجودي مسبب عن الجناية مع كون المجني عليه حيا إلى زمان تحقق الجناية ، وليس مركبا من الأمرين ، فإثباته باستصحاب الحياة ، أو عدم تحقق سبب آخر للموت يكون من الأصل المثبت ، ولا نقول به. فالأصل عدم اشتغال ذمة الجاني بالدية. وتردد الشيخ الطوسي في الفتوى وتوقفه لا وجه له ، لأنه على القول باعتبار الأصل المثبت لا بد من الحكم بالضمان ، وعلى تقدير إنكاره لا بد من اختيار عدمه ، إلّا إذا كان التردد من جهة احتمال ان لا يكون عنوان القتل أمرا وجوديا.

والصحيح : على المختار عدم الضمان وفاقا للمحقق.

الفرع الخامس : ما إذا اختلف المالك ومن تلف المال في يده في ثبوت الضمان عليه وعدمه. والكلام فيه تارة : يقع في الضمان الواقعي ، وأخرى : في الضمان الجعلي. والأول كما إذا ادعى المالك ان يد من تلف المال عنده يد عدوان ، وادعى هو ان يده يد أماني ، فالمالك يدعي ضمانه بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة ، وهو ينكر ذلك. والثاني كما إذا اعترفا على ان اليد لم يكن يد عدوان ، وانما اختلفا في

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢ ـ ٢٦١.

(٢) شرائع الإسلام : ٤ ـ ١٠١.

١٦٦

الضمان بالبدل الجعلي ، أي المسمى وعدمه ، كما إذا ادعى المالك انه باعه المال ، وادعى من بيده انه وهبه إياه مجانا. هذا في العين.

وقد يكون اختلافهما في البدل الجعلي لمنافع العين ، لا لنفس العين. كما إذا اتفقا على عدم الضمان للعين لا بالبدل الواقعي ولا الجعلي ، ولكن تنازعا في ضمان المنافع وعدمه ، كما إذا ادعى المالك ان العين كان إجارة عنده ، فطالبه ببدل المنافع وهو الإيجار ، وهو أنكر ذلك ، وادعى ان العين كانت عارية عنده ، فلم يضمن منافعها.

والمعروف في جميع الفروع الثلاثة هو الضمان. ويحتمل ان يكون حكمهم بالضمان مبنيا على اعتبار الأصل المثبت ، وأنه يثبت باستصحاب عدم اذن المالك عنوان الغصب ، وكون اليد يد عدوان. ويحتمل كونه مبنيا على قاعدة المقتضي والمانع بتقريب : ان اليد مقتضى للضمان ، ورضا المالك مانع عنه ، والعلم بالمقتضي يقتضي ترتيب آثار المقتضي ما لم يحرز المانع. ويحتمل ان يكون مبنيا على التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ، فان عموم على اليد ما أخذت حتى تؤدي يقتضي الضمان ، خرج عنه اليد الأماني ، ويشك في كون المقام من مصاديق الخاصّ وبقائه تحت العام.

وذكر الميرزا (١) ان القول بالضمان فيها غير مبني على شيء من الأمور المذكورة ، بل يمكن إثباته بضم الوجدان إلى الأصل. وذلك لأنّ المحقق للضمان ليس هي اليد العدواني ، ولا عنوان الغصب ، بل هو الاستيلاء على مال الغير وعدم اذن المالك ، لأن على اليد يقتضي ان يكون اليد مطلقا موجبا للضمان ، وقد خرج عنه عنوان وجودي وهو الاستئمان ، وغيره باق تحت العموم ، وفي المقام الاستيلاء محرز بالوجدان ، والاستئمان ورضا المالك يدفع بالاستصحاب فيلتئم الموضوع.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٢٣.

١٦٧

ونقول : ما أفاده قدس‌سره تام في خصوص الفرض الأول ، أعني ما إذا كان النزاع في الضمان الواقعي. وأما في الفرضين الآخرين فلا مجال له أصلا ، إذ المفروض فيها اعتراف كليهما بدخول المال في ملك من تلف في يده ، فرضا المالك حاصل قطعا ، فكيف يستصحب عدمه ، وانما النزاع في الضمان بالبدل الجعلي للعين أو المنافع. بل لا يمكن فيها الرجوع إلى الاستصحاب حتى بناء على حجية مثبتاته ، للمعارضة ، فان أصالة عدم تحقق البيع تعارض استصحاب عدم تحقق الهبة ، وهكذا في الإجارة. كما انّ قاعدة المقتضي والمانع والتمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية لا أساس لها. فلا بد فيها من الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مورد بخصوصه لو لم يكن فيه نصّ. وقد ورد النص في بعض الفروض ، مثلما إذا اختلفا في مقدار الثمن ، وادعى المالك الزائد ، وأنكره المشتري ، فانه ورد في الصحيح أن الجنس ان كان موجودا يتبع قول البائع ، وان كانت تالفة اتبع قول المشتري.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر في المقام أمورا أنكر فيها اندراج الاستصحاب في جملة من الموارد في الأصل المثبت (١) :

أحدها : أنه لا مانع من استصحاب الفرد وترتيب آثار الكلي عليه ، وأنه ليس من الأصل المثبت ، إذ ليس الطبيعي ملازما للفرد ، بل عينه خارجا ، فإذا شك في بقاء خمرية مائع خارجي يستصحب خمريته ، ويرتب عليه آثار طبيعي الخمر من الحرمة والنجاسة ونحوها.

ثانيها : أنه إذا لم يكن للأمر الانتزاعي كالملكية ونحوها حالة سابقة ليستصحب ، لا مانع من جريان الاستصحاب في منشأ انتزاعه ، ويرتب عليه آثار الأمر الانتزاعي ، إذ لا وجود للأمر الانتزاعي خارجا إلّا بوجود منشئه ، وليس

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٢٩ ـ ٣٣١.

١٦٨

من الأصل المثبت في شيء. وهذا بخلاف العرض وموضوعه ، فانهما موجودان مستقلان ، غايته لا يستغنى العرض عن موضوعه ، ويحتاج إليه خارجا كالسواد ، فلا يمكن استصحاب المعروض وترتيب آثار العرض عليه ، مثلا لو علمنا بان الجسم الكذائي لو كان باقيا فعلا لصار أسود ، فلا يرتب آثار السواد على استصحاب بقاء الجسم ، ففرق بين ما هو من قبيل الخارج المحمول والمحمول بالضميمة.

ثالثها : انه في المجعولات بالتبع كالشرطية والجزئية والمانعية لا مانع من استصحاب بقاء الشرط أو الجزء أو المانع ، وترتيب آثار الشرطية والجزئية والمانعية عليه.

وبعبارة أخرى : لا يلزم في كون المستصحب أثرا شرعيا أو موضوعا للأثر كون الأثر مجعولا استقلالا ، بل يكفي في ذلك كون الأثر مجعولا تبعا.

رابعها : كما يجري الاستصحاب في الأمور الوجودية يجري في الأمور العدمية أيضا. وبعبارة أخرى : يجري الاستصحاب في العدم بلحاظ الأثر المترتب على الوجود ، لأن العدم أيضا مما تناله يد الجعل فانّ ما يكون أمر وضعه بيد الشارع فرفعه أيضا بيده.

هذه الأمور التي ذكرها في هذا التنبيه.

ونقول : أما ما ذكره أولا من جريان استصحاب الفرد ، وترتيب آثار الطبيعي عليه ، فهو وان كان أمرا مسلما ، وإلّا لانسد باب الاستصحاب في الشبهات الموضوعية مطلقا ، إلّا أنه أجنبي عن الأصل المثبت بالكلية ، لأن الأثر المترتب على الطبيعي في موضوعات الأحكام لا المتعلقات كحرمة الخمر لم يرتب عليها بما هي ، فليس طبيعي الخمر مثلا أعم من الموجود والمعدوم حراما ، بل أخذ الموضوع مرآة للأفراد الخارجية ، غاية الأمر مع إلغاء خصوصياتها الشخصية من

١٦٩

اللون والطعم والمنشأ ونحو ذلك ، فمورد الأثر هو الوجود الخارجي الفرضي ، على ما هو شأن القضية الحقيقية التي يرتب فيها الحكم على الأفراد المفروضة خارجا ، فالأثر أثر لنفس المستصحب ، لا للطبيعي بما هو ليتوهم كون ترتيبه على استصحاب الفرد من الأصل المثبت ، بتخيل كون الكلي لازما للفرد ، ويجاب عنه : بان الكلي غير الفرد خارجا ، والوجود الواحد يضاف إلى الفرد تارة ، وإلى الطبيعي أخرى ، وهذا ظاهر.

وأما ما ذكره ثانيا في الأمر الانتزاعي من استصحاب منشائه ، وترتيب آثار الأمر الانتزاعي عليه فلم نفهم إلى الآن مراده منه.

وذلك لأنه ان أراد به استصحاب شخص الأمر الانتزاعي كالزوجية الخاصة ، وترتيب آثار الطبيعي عليه ، كطبيعي الزوجية ، فهو مضافا إلى كونه عين الأمر الأول ، غير مختص بالأمور الانتزاعية ، بل يجري في غيرها أيضا ، فيستصحب عدالة زيد ، ويرتب عليه آثار طبيعي العدالة. وان أراد به استصحاب ما يكون بقاؤه منشأ للانتزاع ، وترتيب الأثر الشرعي المرتب على الأمر الانتزاعي عليه ، فهو من أوضح أنحاء المثبت. ولا يجدي كون الأمر الانتزاعي موجودا بوجود منشئه أصلا ، مثاله ما إذا علمنا من الخارج ان هندا لو كانت حية إلى الآن فهي زوجة لزيد ، فاستصحبنا بقائها لترتيب آثار الزوجية عليه ، أو رأينا ان زيدا استولى على جميع أموال الكافر ، أو صالحه أحد على جميع أمواله ، وكان في الأموال فرس ، فان كان حيا إلى زمان استيلائه عليه فهو ملك لزيد ، فأريد استصحاب بقائه لترتيب آثار الملكية عليه.

نعم إذا كان الأمر الانتزاعي بنفسه أثرا شرعيا للمستصحب ، بأن كان نفسه تمام الموضوع للحكم الشرعي أو جزئه رتب ذاك الأثر على إحرازه بالاستصحاب ، لعدم الفرق بين الأثر الوضعي والتكليفي ، كما إذا شككنا في بقاء

١٧٠

مال خاص في ملك الميت حين موته ، فلا مانع من استصحابه ، فيكون مما تركه الميت ، وترتيب الأثر الشرعي عليه من انتقاله إلى وارثه ، إذ لا نعني من ما تركه الميت إلّا ما كان ملكا له حال موته ، ويتم ذلك بضم الوجدان بالأصل.

وأما ما ذكره في المجعولات التبعية من كفاية ترتب الأثر المجعول بالتبع في جريان الاستصحاب ، كالشرطية والجزئية والمانعية ، ورتب على ذلك جريان استصحاب بقاء الشرط أو الجزء أو المانع ، وترتيب آثار الشرطية أو الجزئية أو المانعية عليه ، فأصل الكبرى أعني كفاية ترتب الأثر المجعول بالتبع في جريان الاستصحاب تامة ، لأنه مما تناله يد الجعل بالتبع. وانما الكلام في موردها أعني استصحاب الشرط لترتيب آثار الشرطية عليه ، وكذا في الجزء والمانع. وما ذكره قدس‌سره في المقام انما ذكره لدفع الشبهة المعروفة في استصحاب الشرط وأخويه ، من انه يعتبر في الاستصحاب ان يكون أثرا شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي ، والشرط كالتستر والاستقبال أمر خارجي ، وكذا الجزء والمانع ، كما لا يرتب على استصحابها أثر سوى جواز الدخول في الصلاة ، وهو من أحكام العقل ، فانه مستقل بلزوم إحراز كل ما أخذه المولى في متعلق حكمه. فأجاب عنها : بأنه يترتب على استصحاب الشرط الشرطية ، وكذا في استصحاب الجزء أو المانع ، وهي أثر مجعول بالتبع ، ويكفي في ذلك ترتبه.

ونقول : قد عرفت ان أصل الكبرى مسلمة. إلّا ان ما ذكره من ترتيب الشرطية على استصحاب الشرط ، أو الجزئية على استصحاب الجزء ، أو المانعية على استصحاب المانع ، فاسد.

وذلك لأن الشرطية ليست من أوصاف الموجود الخارجي. كما في الأحكام التكليفية وموضوعاتها ، وانما هي منتزعة من أخذ أمر وجودي في متعلق الحكم ، وبمجرد ذلك تتحقق الشرطية خارجا ولو لم يتحقق في الخارج شرط أصلا ،

١٧١

كالحكم التكليفي ومتعلقه مثل وجوب الصلاة ، فان الصلاة واجبة ولو لم يوجد فرد منها في الخارج ، فكيف يرتب الشرطية كشرطية التستر على استصحاب وجود الشرط كوجود التستر ، بل الشرطية لا يجري فيها الاستصحاب أصلا ، لا في نفس الشرط لترتيب آثار الشرطية لما عرفت ، ولا في نفسها إذا شك في بقائها لاحتمال النسخ ، وذلك لكون الشك فيها مسببا عن شك آخر هو مجرى الاستصحاب ، فيكون حاكما على الاستصحاب الجاري فيها ، لأن الشرطية كما ذكرنا منتزعة من تقيد الأجزاء بأمر وجودي ، فالشك في الشرطية ناش من الشك في بقاء التقيد وعدمه ، فيجري فيه الاستصحاب ، فيثبت التقيد ظاهرا ، وينتزع منه الشرطية الظاهرية ، كما كان ينتزع الشرطية الواقعية من التقيد الواقعي ، وكذا الحال في الجزئية والمانعية ، فلا مجال للاستصحاب في شيء منها أصلا. هذا كله في جواب المحقق الخراسانيّ.

واما الإشكال المعروف ، فقد أشرنا فيما سبق إلى دفعه وحاصله : ان اعتبار كون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي مما لا دليل عليه ، بل المعتبر ان يكون المستصحب قابلا للتعبد الشرعي ، ومن الظاهر انه كما يكون التكليف في مرحلة الجعل مما تناله يد التعبد وضعا ورفعا ، كذلك في مرحلة الامتثال ، فللشارع ان يكتفي في مرحلة الامتثال بما يحتمل كونه مصداقا للمأمور به ، وله ان لا يكتفي به ، فيستقل العقل بالامتثال اليقيني للاشتغال القطعي. مثلا في موارد قاعدة الفراغ اكتفى بالامتثال الاحتمالي ، وفي موارد الشك في المحل لم يكتف به ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في مرحلة الامتثال. واستصحاب وجود الشرط أو الجزء أو المانع مرجعه إلى التعبد في مرحلة الامتثال ، فحال استصحاب الجزء أو الشرط حال قاعدتي الفراغ والتجاوز ، غاية الأمر هما مختصتان بمرحلة الامتثال ، وهو جار فيها وفي مرحلة التكليف ، فإذا استصحبنا

١٧٢

وجود الشرط وأتينا بالاجزاء وجدانا تحقق المأمور به بضم الوجدان بالأصل.

وذلك لأن معنى الاشتراط الإتيان بالاجزاء والشرط موجود ، لا تقيدها به ، فانه مما لا معنى له ، إذ الجزء والشرط كلاهما عرض ، معروضه المكلف ، ولا معنى لتقيد أحدهما بالآخر وأخذ هذا العنوان في متعلق التكليف لأن لا يمكن إثباته بالاستصحاب. فالإشكال مندفع من أصله.

وأما ما ذكره رابعا من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين ان يكون المستصحب أمرا وجوديا أو عدميا ، لأن ما يعتبر في الاستصحاب ليس إلّا ان يكون المستصحب أمرا قابلا للتعبد الشرعي ، لا أن يكون حكما ليقال ان نفي الحكم ليس حكما مجعولا. ومن الظاهر انه كما يمكن أن يكون وجود الحكم مجعولا شرعا حدوثا بدليله وبقاء بالاستصحاب ، كذلك نفيه يمكن ان يكون متحققا حدوثا بدليله وبقاء بالاستصحاب.

وجعله ردا على شيخنا الأنصاري ، حيث تخيل ان ما ذهب إليه من عدم جريان استصحاب نفي التكليف والبراءة الأصلية مبني على إنكاره للاستصحاب في الأمور العدمية ، لأنه بنفسه ليس أثرا شرعيا ، كما لا يترتب عليه إلّا عدم استحقاق العقاب ، وهو أيضا أثر عقلي لا شرعي ، وأحد الأمرين معتبر فيه.

وأورد عليه بما ذكر من ان عدم التكليف بنفسه قابل للتعبد شرعا ، فلا حاجة في جريان الاستصحاب فيه من الأثر الشرعي.

فأصل ما أفاده تام ، لما ذكرنا من ان ما يعتبر في الاستصحاب ليس إلّا ان يكون المستصحب أو أثره قابلا للتعبد شرعا ، وعدم التكليف كثبوته قابل لذلك. إلّا ان إنكار الشيخ لاستصحاب البراءة الأصلية غير مبني على ذلك ، كيف وهو يصرح في بعض كلامه بعدم الفرق بين الأمور العدمية والوجودية في الاستصحاب. بل ما ذهب إليه مبني على ما صرح به في بعض التنبيهات ، وتعرض

١٧٣

له الآخوند في التنبيه الآتي منه انه بعد استصحاب البراءة الشرعية ان كان احتمال استحقاق العقاب موجودا فلا بد في رفعه من التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعه يكون التمسك بالاستصحاب لغوا ، لإمكان الرجوع إلى القاعدة ابتداء. وأما توهم كون الاستصحاب موجبا للقطع بعدم العقاب والأمن منه فهو فاسد ، لأن استحقاق العقاب ليس أثرا شرعيا للتكليف وعدمه ، وانما هو أثر عقلي لا يثبت بالاستصحاب. وبعبارة أخرى : ما لا بدّ من إحرازه في مقابل الاخباري انما هو القطع بعدم العقاب ، وهو لا يثبت.

ثم تعرض لدفع توهم ان استصحاب نفي التكليف يثبت الاذن والترخيص بأنه مثبت ، لأن الإذن والإلزام متضادان ، وإثبات أحد الضدين بنفي الآخر من الأصل المثبت.

والجواب عنه : انّ نفي استحقاق العقاب وان كان أمرا عقليا ، إلّا أنه مترتب على التكليف الأعم من الواقعي والظاهري ، فإذا أخبر المولى بعدم العقاب في فرض الشك في التكليف ، فالعقل يستقل بنفي العقاب لا محالة ، وإذا كان الأثر العقلي كذلك ترتب على الاستصحاب لا محالة كما سيتضح في التنبيه الآتي.

التنبيه التاسع :

ذكر صاحب الكفاية ان ما ذكرناه من عدم اعتبار الأصل المثبت ، وعدم ترتب الأثر العقلي على الاستصحاب ، انما هو فيما إذا كان الأثر أثرا للمستصحب لوجوده الواقعي ، كملكية زيد للفرس على تقدير بقائه في المثال المتقدم. وأما الأثر العقلي المترتب على المستصحب ولو بوجوده الجعلي التعبدي فهو يثبت بالاستصحاب (١).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٣١ ـ ٣٣٢.

١٧٤

والسر في ذلك ان الوجه في عدم اعتبار الأصل المثبت هو ان موضوع أدلة الاستصحاب ما تعلق به اليقين والشك ، فلا يعم غيره. والمفروض ان ما تعلق به اليقين والشك ليس إلّا نفس المستصحب ، لا لوازمه العقلية ، فلا وجه لترتيبه. وأما إذا كان الأثر العقلي لازما للأعم من الواقع والتعبد فهو محرز وجدانا.

وبعبارة أخرى : لا بد في ثبوت الأثر من ان يكون موضوعه محرزا بالوجدان أو بالتعبد ، وفي موارد الأصول المثبتة ليس موضوع الأثر محرزا بالوجدان ولا بالتعبد إن كان الأثر أثرا لنفس التعبد ، لا لخصوص المتعبد به ، كوجوب الإطاعة المترتب على التكليف بوجوده الواقعي والجعلي ، أو نفي استحقاق العقاب المترتب على عدم التكليف ولو تعبدا ، فنفس جريان استصحاب بقاء الوجوب أو نفي التكليف يحرز الموضوع وجدانا ، فيترتب عليه ذلك لا محالة.

وبهذا الوجه يجاب عما ذكره الشيخ من إنكار استصحاب البراءة الأصلية ، بل يجري فيها الاستصحاب ، ويترتب عليه القطع بعدم العقاب ، من دون حاجة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

التنبيه العاشر :

ذكر في الكفاية (١) ان الاستصحاب بما أنه ناظر إلى مرحلة البقاء دون الحدوث فلا يلزم أن يكون المستصحب قابلا للتعبد حدوثا ، بل يكفي أن يكون قابلا للتعبد بقاء ، كاستصحاب البراءة الأصلية ، فان نفي التكليف أزلا وان لم يكن قابلا للتعبد ، إلّا أنه قابل له بقاء ، فلا يمنع ذلك عن جريان الاستصحاب فيه. وهكذا إذا كان المستصحب موضوعا للحكم لا يعتبر في جريان الاستصحاب فيه

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

١٧٥

أن يكون موردا للأثر حدوثا ، بل يكفي كونه كذلك بقاء ، كاستصحاب حياة الابن ، فان حياته قبل موت مورثه وان لم يكن مما يترتب عليه الأثر ، إلّا أنه يجري فيه الاستصحاب بعد موت مورثه ، ويترتب عليه أثره من انتقال أمواله إليه. والسر في ما قلناه من ان الاستصحاب ناظر إلى مرحلة البقاء ، ولا ربط له بالحدوث.

وما أفاده قدس‌سره متين جدا.

التنبيه الحادي عشر :

كما يجري الاستصحاب إذا شك في تبدل الحالة السابقة ، كذلك يجري فيما إذا علم تبدلها وشك في التقدم والتأخر.

وتفصيل ذلك : ان الشك في التقدم والتأخر ، تارة : يفرض بالقياس إلى نفس الزمان ، وأخرى : بالقياس إلى زماني آخر. والأول كما إذا علم بعدالة زيد يوم الجمعة ، وارتفاعها يوم الأحد قطعا ، وشك في بقائها يوم السبت ، يستصحب بقاؤها يوم السبت وتترتب عليه آثارها. هذا من طرف الوجود. واما من طرف العدم فيما إذا علم بتحقق الجنابة له فعلا ، وشك في انها حدثت اليوم أو قبل يومين ، ويجري فيه الاستصحاب ، ويترتب عليه آثار عدم تحققها قبل ذلك ، من صحة ما أتى به من الوضوء ، لأن من لم يكن جنبا وظيفته الوضوء ، لكن لا يترتب عليه آثار حدوثها في ذاك الوقت ، ولا تقدمها عليه ولا تأخرها عنه ، لأنه مثبت ، إلّا لو قيل بأن الحدوث مركب من وجود شيء وعدمه في الزمان السابق ، فحينئذ يمكن إثباته بضم الوجدان إلى الأصل ، وكذلك التقدم والتأخر.

إلّا ان الظاهر انه عنوان بسيط ينتزع من وجود شيء مسبوق بالعدم ، فلا يمكن إحرازه باستصحاب عدم تحقق الحادث في الزمان السابق. كما لا يمكن ترتيب آثار الحدوث عليه بدعوى شدة الملازمة بين الأمرين ، كالأبوة والبنوة ،

١٧٦

حيث ذهب الآخوند قدس‌سره إلى ترتيب آثار كل منهما على استصحاب الآخر ، لما عرفت من ان الملازمة ثابتة في جميع موارد الأصول المثبتة ولا يخرجها ذلك عن الأصل المثبت ، لأن دليل الاستصحاب موضوعه ما تعلق به اليقين والشك ، والمفروض عدم تعلقه باللازم ، فكيف يرتب عليه آثاره ، إلّا إذا كانت الملازمة أعم من الواقعية والظاهرية. هذا كله في التقدم والتأخر من حيث نفس الزمان.

وأما بالإضافة إلى الحادث الآخر ، فصور الشك ثمانية ، وقبل بيانها لا بد من تقديم مقدمة : وهي ان الموضوع للأثر أو المتعلق إذا كان عنوانا بسيطا لا يمكن إثباته بالاستصحاب إلّا إذا كان لنفس العنوان حالة سابقة فتستصحب ، وإلّا فلا يمكن إثباته بضم الوجدان بالأصل. واما إن كان مركبا ، كتركب موضوع التقليد من الاجتهاد والعدالة ، أو متعلق التكليف من الصلاة والتستر فلا مانع من إحرازه بضم الوجدان بالأصل ، فإذا أحرز اجتهاد زيد بالوجدان ، وعدالته بالاستصحاب ، تم الموضوع بضم الوجدان بالأصل. وكذلك في المتعلق ، مثل ما إذا كان تحقق الصلاة محرزا بالوجدان ، ووجود التستر بالاستصحاب. إلّا أنه ناقش فيه بعض بتخيل معارضة استصحاب جزء الموضوع باستصحاب عدم تحقق المجموع المركب في الخارج ، فانه مسبوق بالعدم.

وبالجملة إذا كان الموضوع أو المتعلق مركبا من جزءين مثلا ، وأحرز أحد جزئيه بالوجدان ، وجرى الاستصحاب في جزئه الآخر تمّ الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل. ولا يعارضه استصحاب عدم تحقق المركب ، لا بما ذكره الميرزا (١) من حكومة الأصل الجاري في الجزء على الأصل الجاري في المركب ، لسببية الأول بالإضافة إلى الثاني ، إذ ليس كل أصل سببي حاكما على الأصل المسببي ما لم تكن

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٢٦.

١٧٧

السببية شرعية بان كان المسبب أثرا شرعيا للسبب ، والمقام ليس كذلك ، بل لأن مفروض الكلام ما إذا كان الأثر مترتبا على المركب أي الجزءين ، لا على العنوان البسيط المنتزع منه ، فانا أنكرنا إمكان إثباته بالاستصحاب الجاري في الاجزاء ، ومن الظاهر ان نفس المركب ليس إلّا نفس الأجزاء ، فإذا فرضنا انها محرزة بأجمعها ، بعضها بالوجدان ، وبعضها بالتعبد ، فلا يشك في تحقق المركب ليجري فيه الاستصحاب ويعارض به الأصل الجاري في الاجزاء.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم ان صور المسألة كما ذكرنا ثمانية. لأن الحادثين اللذين يشك في تقدم أحدهما على الآخر ، تارة : يكون كلاهما مجهول التاريخ ، وأخرى : يكون أحدهما مجهول التاريخ دون الآخر. وأما كونهما معا معلومي التاريخ فلا يتصور مع فرض الشك في تقدم كل منهما على الآخر. وعلى التقديرين ، تارة : يكون الأثر مترتبا على أمر وجودي ، وهو التقدم أو التأخر أو التقارن ، فيراد بالاستصحاب نفي الأثر المترتب على ذلك ، وأخرى : يكون الأثر مترتبا على أمر عدمي ، أي عدم التقدم أو التأخر أو التقارن ، فيراد بالاستصحاب إثبات ذلك. وعلى التقادير الأربعة ، تارة : يكون الأثر مترتبا على وجود ذلك بنحو مفاد كان التامة أو على عدمه بنحو مفاد ليس التامة ، وأخرى : مترتب على وجوده أو عدمه بنحو مفاد كان أو ليس الناقصة. فهذه وجوه ثمانية :

أما الصورة الأولى : أي ما إذا شك في التقدم والتأخر في مجهولي التاريخ فيما إذا كان الأثر مترتبا على أمر وجودي ، فالظاهر جريان استصحاب عدم التقدم فيها ، وينفى به الأثر المترتب على ثبوته إذا لم يكن معارضا بمثله. وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على التقدم من طرف واحد دون الآخر ، بان لم يكن لتقدم أحدهما المعين على الآخر أثر عملي واحد ليجري فيه الاستصحاب ، فيجري فيما له الأثر بلا معارض. أو كان لتقدم كل منهما أثر ، إلّا ان احتمال المقارنة أيضا كان موجودا ،

١٧٨

فحينئذ يجري استصحاب عدم تقدم كل منهما على الآخر. ولا يكون هناك معارضة لاحتمال المقارنة ، وإلّا فالاستصحابان يسقطان بذلك. وهذا من غير فرق بين كون التقدم المأخوذ في موضوع الأثر مأخوذا بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة.

إلّا ان الآخوند (١) ناقش في جريان الاستصحاب في الثاني ، أي فيما إذا كان التقدم مأخوذا بنحو مفاد كان الناقصة ، بدعوى : ان ما كان متيقنا انما هو عدم التقدم بنحو مفاد كان التامة ، وامّا مفاد كان الناقصة فلم يكن متيقنا ليستصحب.

والظاهر انه قدس‌سره غفل في المقام عما ذكره في بحث العام والخاصّ ، حيث منع عن التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ، بقوله قدس‌سره إلّا انه يمكن إدخال الفرد المشتبه تحت العام بالاستصحاب ، كما في المرأة التي يشك في كونها قرشية ، فان المأخوذ في المخصص عنوان القرشية بنحو مفاد كان الناقصة ، ومع ذلك اختار إمكان إدخالها تحت عموم قوله المرأة تحيض إلى خمسين باستصحاب عدم كونها قرشية أزلا قبل وجودها (٢). خلافا للميرزا حيث أنكر إدراج الفرد المشتبه تحت العام في الشبهات المصداقية بالاستصحاب.

وما ذكره الآخوند هناك صحيح ، إذ لا تعبد في العدم أي عدم الاتصاف وجود الموضوع ، فلا فرق في جريان استصحاب العدم الأزلي بين ما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة. نعم بينهما فرق من ناحية استصحاب الوجود كما هو ظاهر.

الصورة الثانية : ما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بنحو مفاد كان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٣٥.

(٢) كفاية الأصول : ١ ـ ٣٤٦.

١٧٩

الناقصة ، أي اتصاف الحادث بالتقدم أو التأخر أو التقارن. وقد منع الآخوند قدس‌سره من جريان الاستصحاب فيه ، بدعوى : ان الوجود النعتيّ ليس له حالة سابقة ليجري فيه الاستصحاب (١).

وفيه : ان التفصيل بين الوجود النعتيّ والمحمولي من حيث جريان الاستصحاب انما هو في استصحاب الوجود. وأما استصحاب عدمه ، فلا يفرق فيه بين القسمين أصلا ، لأن الاتصاف بالوجود مسبوق بالعدم ، فيجري فيه الاستصحاب ، ويترتب عليه نفي أثر الوجود النعتيّ لو لا المعارضة في البين.

نعم لا يترتب الأثر الثابت للوجود النعتيّ على استصحاب الوجود المحمولي. فلا فرق بين هذه الصورة والصورة الأولى.

الصورة الثالثة : ما إذا كان الأثر مترتبا على العدم النعتيّ. وقد أنكر صاحب الكفاية جريان الاستصحاب فيه أيضا ، لعدم وجود الحالة السابقة له ، لتوقفه على وجود الموضوع(٢).

ونقول : العدم النعتيّ وان كان في ثبوته محتاجا إلى وجود الموضوع خارجا ، بخلاف العدم المحمولي ، فان الأول من قبيل القضية السالبة المعدولة ، والثاني من قبيل السالبة المحمولة ، وهي لا تحتاج إلى وجود الموضوع ، بل تصدق السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنها لسلب النسبة ، لا للنسبة السلبية ، وسلب النسبة غير محتاج إلى الموضوع ، فليس العدم النعتيّ ثابتا أزلا ، بل الثابت هو العدم المحمولي. إلّا ان ما أفاده قدس‌سره انما يتم لو أريد استصحاب تحقق العدم النعتيّ وترتيب آثاره عليه. ولا يتم فيما هو المقصود في المقام من استصحاب عدم تحقق العدم النعتيّ ، أي الاتصاف بالعدم ، فان له حالة سابقة ، أي عدم الاتصاف بالعدم أزلي ،

__________________

(١ ، ٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٣٥.

١٨٠