دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الاعتناء بالشك بعد الفراغ عن المركب ، والاعتناء به إذا كان قبل التجاوز عنه.

ثم في صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر صرح بعدم الاعتناء بالشك في اجزاء الصلاة في الأثناء بعد التجاوز عنها بقوله «رجل شك في الركوع وهو ساجد ، أو شك في السجود وهو قائم» فجعل التجاوز عن محل الجزء في الصلاة كالتجاوز عن المجموع المركب في غيرها.

ويمكن أن يقال : انه ليس ملاك قاعدة الفراغ كون الشك بعد الفراغ عن المركب ، بل ملاكها الشك في الصحة ، سواء كان صحة مجموع العمل بعد الفراغ عنه ، أو صحة الجزء بعد التجاوز عن محله. كما ان ملاك قاعدة التجاوز كون الشك في الوجود ، والشاهد عليه إطلاق دليل قاعدة الفراغ بل عمومه الشامل لما إذا كان الشك بعد مضي مجموع العمل أو مضي الجزء المشكوك فيه ولو كان في أثناء العمل. كقوله عليه‌السلام «إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وبعد ما أرجعنا الشك في الصحة إلى الشك في الوجود اتحدت القاعدتان.

وأما رواية ابن أبي يعفور فمضافا إلى اختصاصها بباب الوضوء دون سائر الأبواب ، فهي مجملة ، لأن الاستدلال بها مبني على رجوع الضمير إلى الوضوء ، وهو خلاف الظاهر ، بل الظاهر رجوعه إلى المشكوك من الجزء أو الشرط ، والدخول في غيره لا في غير الوضوء ، كما يستفاد ذلك من بقية الاخبار ، ولا أقل من الإجمال ، فلا يستفاد منها الاختصاص ، أي اختصاص قاعدة الفراغ بما إذا كان الشك بعد الفراغ عن المجموع المركب ، هذا أولا.

وثانيا : ان موثقة جابر (١) وصحيحة زرارة (٢) وان كانتا واردتين في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ ـ باب ١٣ من أبواب الركوع ، ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ١.

٢٨١

خصوص الصلاة ، إلّا انهما مشتملتان على كبرى كلية. ومجرد الإجماع على لزوم الاعتناء بالشك في الأثناء في غير باب الصلاة لا يوجب انقلاب ظهور الرواية في الكبرى الكلية واختصاصه باب الصلاة.

فتحصل : انه ثبوتا لا مانع من دخول الشك في الأجزاء أو الشرائط في الأثناء أو بعد العمل تحت قاعدة واحدة ، بإرجاع الفراغ إلى التجاوز على ما تقدم. وليس المجعول في كل من الموردين مخالفا للمجعول في المورد الآخر.

فيقع الكلام في مقام الإثبات ، وان المستفاد من الأدلة أي شيء. هل المستفاد منها قاعدة واحدة أو قاعدتان في موردين؟. وعليه يمكن ان يعتبر في إحداهما ما لم يعتبر في الأخرى ، كالدخول في الغير في قاعدة التجاوز دون الفراغ.

ونقول : الروايات المشتملة على عنوان المضي كقوله عليه‌السلام «كل ما شككت في شيء مما قد مضى فأمضه كما هو» (١) ظاهرة في قاعدة الفراغ ، لظهور المضي في المضي الحقيقي ، كما ان ظاهر الإسناد يكون حقيقيا. وعليه فيختص بموارد الشك في صحة العمل الّذي مضى حقيقة ، ولا يعم موارد الشك في أصل وجود الجزء أو الشرط ، بداهة عدم صحة اسناد المضي إليه حقيقة ، فان ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وكيف يصدق المضي على ما لم يحرز وجوده بعد؟!

نعم تعم هذه الأخبار موارد الشك في صحة الجزء وفساده بعد فرض تحققه ، لإطلاقها وصدق مضي الجزء الّذي يشك في صحته وفساده. فهذه الروايات مختصة بقاعدة الفراغ وعدم الاعتناء بالشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه.

وأما أخبار قاعدة التجاوز ، فهي منحصرة بصحيحة زرارة ، وموثقة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ٣.

٢٨٢

إسماعيل (١) بن جابر. وهما مشتملتان على عنوان الخروج عن المشكوك ، والدخول في غيره ، ولا بد وان يكون اسناده إليه مسامحيا لما عرفت. ومفادهما عدم الاعتناء بالشك في الجزء أو الشرط بعد تجاوز محلهما ، فالمجعول بحسب مقام الإثبات أمران بملاكين ، أحدهما : إلغاء الشك في الصحة بعد الفراغ ، والثاني : إلغاء الشك في وجود الجزء أو الشرط بعد تجاوز محله. هذا وإن أمكن استفادة قاعدة الفراغ من الصحيحة والموثقة أيضا ، بناء على ما ذكرناه من رجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود ، لو لم تكن بنفسها مجعولة بملاك يخصه كما عرفت.

فمقام الإثبات يقتضي تعدد القاعدتين. فلا بد من البحث عن خصوصيات كل منهما ، من عمومها وخصوصها ، واعتبار ما احتمل اعتباره فيها.

فنقول : أما قاعدة الفراغ ، فلا إشكال في كونها عامة ، تجري في جميع الأبواب من العبادات والمعاملات ، على ما هو مقتضى عموم دليلها. بل هي عين أصالة الصحة ، الجارية في فعل الغير ، غاية الأمر انها تجري في فعل نفس الإنسان.

وأما قاعدة التجاوز فذهب الميرزا قدس‌سره إلى اختصاصها بباب الصلاة (٢) ، تبعا لبعض من تقدم. والمعروف انها أيضا عامة ، وقد خرج عنها باب الوضوء جزما ، والغسل والتيمم احتمالا إلحاقا. والظاهر من الأدلة هو الثاني.

وقد ذكر في وجه الاختصاص ما حاصله : ان الصحيحة وان كانت مطلقة ، والموثقة عامة ، إلّا أنه لا يمكن الأخذ بإطلاق الأولى وعموم الثانية ، وذلك لأن من مقدمات الإطلاق عدم وجود القدر المتيقن في البين ، وهو موجود في الصحيحة ، وهو موارد السؤال ، فيها رجل شك في التكبير وهو في القراءة أو شك في الركوع

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ ـ باب ١٣ من أبواب الركوع ، ح ٤.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٦٨.

٢٨٣

وهو ساجد إلى غيره من اجزاء الصلاة ، فلا يتحقق للجواب إطلاق. وكذلك العموم ، فان دلالته عليه مبني على جريان مقدمات الإطلاق في المدخول ، وإثبات ان المراد به الطبيعة المحضة ، وقد عرفت عدم تماميته ، لوجود القدر المتيقن في البين.

ونقول : الحق عدم تمامية شيء منهما. أما الإطلاق فهو متوقف على عدم البيان. واما وجود المتيقن فغير مانع عن جريان المقدمات ، ولذا لم يتوقف أحد من الفقهاء من التمسك بالمطلقات مع وجود القدر المتيقن لها ، منها : رواية ابن أبي بكير ، فانّ مورد السؤال فيها الصلاة في وبر السنور والسنك والسنجاب ، وهي المتيقن من إطلاق جواب الإمام عليه‌السلام ومنعه عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه (١) ، ولم يتوقف أحد من الفقهاء في التمسك بإطلاقه إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

هذا ومع التنزل فلا ينبغي الشك في التمسك بعموم الموثقة ، ولو سلمنا كون القدر المتيقن مانعا عن التمسك بالإطلاق ، وذلك لما بيناه في بحث العام والخاصّ من ان شمول العام يكون بالوضع من غير حاجة إلى مقدمات الحكمة في المدخول ، ومن هنا قدمناه على المطلق عند المعارضة. نعم على مسلك الآخوند يكون حالها حال الصحيحة من هذه الجهة.

ثم هل يعتبر في قاعدة الفراغ أو التجاوز الدخول في الغير أو لا يعتبر ذلك؟ أما قاعدة التجاوز ، فالظاهر فيها اعتبار الدخول في الغير ، فانه صرح بذلك في الصحيحة والموثقة. ولو لم يكن مذكورا فيهما لقلنا باعتباره فيها أيضا ، لما عرفت من ان استناد التجاوز إلى ما يشك في وجوده لا بد وأن يكون مسامحيا باعتبار تجاوز محله ، إذ يستحيل صدق التجاوز عن الشيء الّذي لم يحرز وجوده بعد حقيقة ، فلا بد وان يكون بلحاظ تجاوز محله ، ومن الظاهر عدم تحقق التجاوز

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٢ من أبواب لباس المصلي ، ح ١.

٢٨٤

عن محل المشكوك قبل الدخول في غيره ، فلا يكون الشك في وجود الجزء أو الشرط ملغى إلّا إذا كان بعد الدخول في غير المشكوك. وسنتكلم في اعتبار خصوصية خاصة في الغير وعدمه.

وأما قاعدة الفراغ : فمن هذه الجهة لا يعتبر فيها الدخول في الغير ، لصدق المضي عن الشيء حقيقة فيما إذا شك في صحته بعد الفراغ عنه قبل الدخول في الغير ، فعنوان المضي لا يقتضي الدخول في الغير.

إلّا انّه يقع الكلام فيها في مقامين :

أحدهما : في انّه هل لدليلها إطلاق يعم موارد الشك في الصحة قبل الدخول في الغير ، أي من حيث ثبوت المقتضي لعدم اعتبار الدخول في الغير.

ثانيهما : في أنه بعد ثبوت الإطلاق ، هل يكون هناك مانع عن التمسك به أي مقيد أو مخصص لإطلاقه أو عموم ، أو لا؟

أما المقام الأول : فقد يمنع عن التمسك بإطلاق إحدى الروايتين ، وعموم الأخرى من جهات :

إحداها : ان المطلق ينصرف إلى أفراده الشائعة ، ولا يعم الأفراد النادرة ، والأفراد الشائعة للشك فيما مضى موارد الدخول في الغير دون غيره.

وفيه : ان اختصاص المطلق بالفرد النادر مستهجن لا عمومه له ، وإلّا لما أمكن التمسك بإطلاق أكثر المطلقات ، مع أنه لم يستشكل في التمسك بإطلاقها أحد ، ولذا تمسكوا بإطلاق موثقة ابن بكير التي حكم الإمام عليه‌السلام فيها بفساد الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه ، وحكموا بفسادها في اجزاء الأفراد النادرة من الحيوان كالأسد والكركدن ونحوها من دون نكير.

ثانيها : وجود القدر المتيقن في البين ، فان المتيقن من الشك فيما مضى ما إذا كان بعد الدخول في الغير.

٢٨٥

وفيه : أولا : ان وجود القدر المتيقن لا يمنع التمسك بالإطلاق.

وثانيا : على فرض تسليمه لا يمنع ذلك في التمسك بعموم الرواية الأخرى.

ثالثها : وهو الّذي اختاره الميرزا ، وبنى عليه ، وهو ان التمسك بالإطلاق انما يكون في الماهية التي يكون صدقها على جميع أفرادها على حد سواء ، كالماء الصادق على ماء الفرات وماء دجلة وماء البحر وغيرها بنحو واحد. وأما الماهية التشكيكية فلا يجوز فيها التمسك بالإطلاق ، كعنوان الحيوان ، فانه لغة وان كان صادقا على الإنسان أيضا ، إلّا أنه منصرف عنه عرفا ، ولذا لو أطلق على أحد اشمأز وانزجر ، ففي مثله لا يمكن الأخذ بالإطلاق ، ولذا لم يتمسك أحد بإطلاق موثقة ابن أبي بكير للحكم بفساد الصلاة في شيء من اجزاء الإنسان كشعره مثلا.

ثم طبق هذا المعنى على المقام وادعى ان المضي عن المشكوك ماهية تشكيكية صدقه على ما قبل الدخول في الغير خفي ، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه.

وفيه : ان التشكيك في صدق الماهية على قسمين ، لأن اختلافها في الصدق تارة : يكون من حيث الظهور والأظهرية ، بأن تكون صدقها على جميع افرادها ظاهرا إلّا ان صدقه على بعضها أظهر من صدقها على البعض الآخر ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ، بل أكثر المطلقات من هذا القبيل. وأخرى : يكون الاختلاف من حيث الخفاء والظهور ، بأن يكون صدق الماهية على فرد خفيا ، كصدق الحيوان على الإنسان حيث لا يراه العرف فردا لتلك الطبيعة ، وفي مثله يتم ما أفاده قدس‌سره. إلّا ان عنوان المضي من قبيل الأول دون الثاني ، فان صدقه على جميع الموارد ظاهر ، إلّا انه أظهر صدقا فيما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير ، وإلّا لزم الاقتصار في مورد القاعدة على ما إذا كان الشك بعد الحيلولة أي بعد خروج الوقت ، لأن صدق الشك فيما مضى عليه أوضح من صدقه على غيره.

فتحصل : ان المقتضي لعدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ تام ،

٢٨٦

وهو إطلاق إحدى الروايتين وعموم الأخرى.

المقام الثاني : وهو البحث عن المانع. ربما يقال : ان المانع عن التمسك بإطلاق أدلة الفراغ اعتبار الدخول في الغير في صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر ، حيث اعتبر فيهما الدخول في الغير بقوله عليه‌السلام «إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وقوله عليه‌السلام في الأخرى «كلما شككت في شيء مما جاوزته ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» فانه يوجب تقييد إطلاق ما دل على عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ.

وفيه : أولا : ان الروايتين واردتان في قاعدة التجاوز ، واعتبار الدخول في الغير فيها لا يوجب اعتباره في قاعدة الفراغ ، بعد ما فرضناهما قاعدتين.

وبعبارة أخرى : ما تعلق به الشك في مورد قاعدة التجاوز انما هو الجزء أو الشرط لا بما هي ، بل بوجود الطبيعي الّذي هو المأمور به ، والتجاوز عنه لا بدّ وأن يكون بعناية التجاوز عن محله ، وهو لا يتحقق إلّا بالدخول في الغير. وهذا بخلاف الشك في الصحة ، الّذي هو مورد قاعدة الفراغ ، فاعتبار الدخول في الغير في دليل تلك القاعدة غير مستلزم لتقييد إطلاق دليل هذه القاعدة.

وبعبارة ثالثة : ان التعبد في مورد قاعدة الفراغ وهو الشك في الصحة بملاك مغاير لملاك التعبد بإلغاء الشك في مورد قاعدة التجاوز ، وهو الشك في الوجود ، فاعتبار أمر في إحداهما لا يستلزم اعتباره في الأخرى.

وثانيا : ان هذا القيد أعني الدخول في الغير توضيحي وليس باحترازي ، لأن الدخول في الغير كما عرفت عند الشك في وجود الجزء محقق للتجاوز ، ولذا ذكرنا انه لا بد من القول باعتباره ولو لم يدل عليه دليل خاص ، فإذا لا يمكن ان يكون مقيدا لإطلاق دليل الشك في الصحة ، الّذي يتحقق فيه المضي حقيقة قبل الدخول في الغير.

٢٨٧

وربما يتمسك لتقييد الإطلاقات بقوله عليه‌السلام في موثقة ابن أبي يعفور «إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» فاعتبر فيها الدخول في الغير في قاعدة الفراغ ، فيقيد به إطلاق ما دل على إلغاء الشك في الشيء بعد مضيه أو عمومه.

وفيه : أولا : ان هذه الرواية مجملة ، لاحتمال رجوع الضمير إلى المشكوك ، فيكون دليلا على قاعدة التجاوز كالصحيحة والموثقة المتقدمتين. وقيام الدليل على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء لا يوجب ظهور الرواية فيما لم يكن ظاهرا فيه ، ولا رجوع الضمير إلى الوضوء.

وثانيا : نفرض رجوع الضمير فيها إلى نفس الوضوء ، إلّا ان قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» الّذي هو كبرى كلية ينافي ـ لاشتماله على الحصر ـ اعتبار الدخول في الغير على نحو الإطلاق ، إذ حينئذ يكون في البين واسطة ، وهو ما إذا كان الشك بعد التجاوز وقبل الدخول في الغير ، فلا بد من حمل اعتبار الدخول في الغير على ما إذا توقف صدق التجاوز على ذلك.

وثالثا : الغير مطلق لم يقيد بكونه غيرا مترتبا على المشكوك ، فيعم حتى مثل السكوت والتكلم أو السكون والحركة من الأكوان الأربعة التي لا يخلو عنها إنسان ، ومن الظاهر ان الدخول في مثل ذلك ملازم لتحقق عنوان المضي ، فان المصلي بمجرد ان سلم دخل فيها لا محالة. والدخول في الغير بهذا المعنى مما لا بد منه ، وهو خارج عن محل الكلام.

ورابعا : على فرض التنزل عن جميع ذلك ، فالرواية انما اعتبرت الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ في خصوص الوضوء ، وبينت كبرى كلية بعد ذلك من غير تقييد ، ولعل للوضوء خصوصية لا يتحقق المضي عنه أحيانا إلّا بذلك ، بخلاف غيره كالصلاة مثلا ، فانه بمجرد التسليم فيها يصدق المضي عليها ، وأن

٢٨٨

الشك في شيء من اجزائها أو شرائطها شك بعد المضي.

فتحصل : انّه ليس لإطلاق دليل الفراغ أو عمومه مقيد. امّا موثقة ابن أبي يعفور ، فلما عرفت من ان ذيلها قرينة على عدم اعتبار الدخول في الغير إلّا فيما إذا توقف صدق التجاوز عليه.

وبهذا ظهر عدم صلاحية صحيحة زرارة أيضا لتقييد الإطلاقات ، وهي ما ورد فيمن شك في غسل يديه وهو على وضوئه أي مشغول به ، فأمر عليه‌السلام بالاعتناء بالشك ، ثم ذكر عليه‌السلام ما مضمونه أنه إذا فرغ من وضوئه وأتمه ودخل في الصلاة أو غيرها ثم شك فيه فلا يعتنى بشكه.

وقد يتخيل تقييد المطلقات بها ، حيث صرح فيها بالدخول في الغير بعد الفراغ وإتمام الوضوء.

وفيه : ان ذكر هذا القيد ان كان للاحتراز لزم إهمال الإمام عليه‌السلام لبيان حكم بعض صور الشك ، وهو ما إذا كان الشك بعد الفراغ وقبل الدخول في الغير ، وهو بعيد ، فلا بد من ان يكون ذكره لبيان مفهوم صدر الحديث ، أعني عدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ ، أو لبيان الافراد الشائعة من موارد الشك في الصحة ، أعني جريان قاعدة الفراغ ، أو لأن الشك في صحة الوضوء إذا كان من جهة احتمال عدم الإتيان بالمسح الأخير لا يصدق عليه كونه فيما مضى إلّا إذا كان بعد الدخول في الغير من الصلاة ونحوها ، أو بعد فوات الموالاة بيبوسة الأعضاء مثلا ، وإلّا فهو شك فيما لم يمض.

ويؤكد ما ذكرناه من عدم اختصاص قاعدة الفراغ بما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير ان العلة المذكورة في بعض الاخبار وهي قوله عليه‌السلام «لأنّه حين ما يتوضأ أذكر منه حين ما يشك» عامة لا يفرق فيها بين كون الشك بعد الدخول في الغير أو قبله. وقد بينا انها ليست قاعدة تعبدية ، وانما هي إشارة إلى أمر

٢٨٩

ارتكازي ، وهو أذكرية الإنسان حين اشتغاله بالعمل.

وبالجملة المدعى ان قاعدة الفراغ والتجاوز وان أمكن ثبوتا كونهما قاعدة واحدة ، إلّا انهما بحسب مقام الإثبات قاعدتان ، ويعتبر في إحداهما ـ وهي التجاوز ـ الدخول في الغير دون الأخرى لما عرفت ، فلا نعيد.

بقي الكلام في أمور :

أحدها : أن عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء منصوص. ومما دل عليه نفس الصحيحة المتقدمة. ولم يستشكل في ذلك أحد. والمشهور ألحقوا به الغسل والتيمم. والكلام في وجه الإلحاق ، ويحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : ما بنى عليه الميرزا من اختصاص دليل قاعدة التجاوز بالصلاة ، وان مفادها جعل صغرى تعبدية لقاعدة الفراغ كما تقدم تفصيله. وعليه لا تجري في غير الصلاة من الغسل والتيمم وغيرهما.

وقد عرفت فساده ، وان المذكور في الصحيحة وموثقة جابر كبرى كلية ، وقد طبقها الإمام عليه‌السلام على مورد السؤال فيهما ، وهي أجزاء الصلاة من غير أن يكون لها خصوصية.

الثاني (١) : ما ذكره الشيخ من ان الوجه في عدم جريان القاعدة في الوضوء انّ الوضوء وإن كان مركبا من الغسلات والمسحات ، إلّا ان الشارع اعتبرها امرا واحدا ، سماها بالطهارة ، فكأنه أمر بسيط لا يعقل فيه الشك في الاجزاء بعد التجاوز عنها.

وفيه : انّه ان أراد ان المأمور به عنوان بسيط متحصل من الغسلات والمسحات كما هو ظاهر الكلام ، فيرد عليه :

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧١٣ (ط. جامعة المدرسين).

٢٩٠

أولا : أنه مناف لظاهر الآية ، وهي قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) والروايات الظاهرة في حمل الآثار كالطهور والنور على نفس الأفعال ، كقوله عليه‌السلام «الوضوء نور أو طهور» (٢).

وثانيا : نفرض صحة ذلك ، إلّا ان الأفعال الخارجية لا ريب في كونها مقدمة شرعية لذاك الأمر البسيط ، فتكون مأمورا بها شرعا بالأمر المقدمي ، وليست كالمقدمات العقلية ، فتجري فيها قاعدة التجاوز ، لعدم اختصاصها بما هو مأمور به بالأمر النفسيّ ، فلا دليل على إلحاق التيمم والغسل بالوضوء. وصاحب الجواهر قدس‌سره على ما ببالي ناقش في الإلحاق أيضا.

فالصحيح : جريان التجاوز فيهما ، فإذا شك في الجزء السابق من الغسل أو التيمم بعد الدخول في اللاحق جرت فيه قاعدة التجاوز.

وقد ظهر مما بيناه ان الغسل والتيمم تجري فيهما قاعدة التجاوز ، لما عرفت من انّ القول بعدم جريان قاعدة التجاوز فيهما يبتني على أحد أمرين ، لا يتم شيء منهما. وعرفت أيضا ان دليلها عام غير مختص بباب الصلاة ، إلّا أنه خصص في باب الوضوء للنص دون غيره. فإذا شك في جزء من اجزاء أحدهما بعد الدخول في الجزء الآخر كان الشك ملغى ، ولا يعتنى به.

نعم لا يبعد القول بأن غسل الطرفين في الغسل ليس بينهما ترتب شرعا ، بل هما جزء واحد. وعليه إذا شك في غسل الجانب الأيمن بعد الدخول في غسل الجانب الأيسر كان الشك في المحل ، لا بعد تجاوزه.

وأما الوضوء فقاعدة التجاوز غير جارية فيه ، فإذا شك في الإتيان ببعض أجزائه بعد الدخول في الجزء الآخر لا بد من الاعتناء به ، كما صرح بذلك في

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٨ من أبواب الوضوء ، ح ٨.

٢٩١

صحيحة زرارة.

وأما إذا شك في صحة بعض اجزائه بعد التجاوز عنه جرت فيه قاعدة الفراغ ، لما عرفت من ان عموم دليلها يقتضي جريانها عند الشك في صحة الأجزاء أيضا. إلّا إذا شك في صحة غسل الوجه أو اليدين ، من جهة الشك في أنه غسله بالماء المطلق أو بغيره ، فانه لا تجري فيه قاعدة الفراغ ، لا لقصور في دليلها ، بل لصحيحة زرارة ، حيث صرح فيها بلزوم الاعتناء بالشك فيما سماه الله إذا كان في الأثناء ، والغسل بالماء المطلق مما سماه الله بقوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(١) فانه ظاهر في وجوب الغسل بالماء ، فهو مما سماه سبحانه في كتابه ، فالشك فيه مما يعتنى به. وهذا بخلاف ما إذا شك من غير جهة الغسل بالماء ، كما إذا شك في صحة غسل اليدين ، لاحتمال كونه منكوسا ، فتجري فيه قاعدة الفراغ ، لعدم كون هذا الشرط مما سماه الله تعالى في كتابه ، فان قوله سبحانه : (إِلَى الْمَرافِقِ) قيد للمغسول لا غاية للغسل ، وانما نعتبر الغسل من الأعلى إلى الأسفل للروايات الدالة عليه. ولو كان القيد غاية للغسل لزم طرح الروايات ، لمخالفتها للكتاب. وهكذا قوله سبحانه (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢) فان القيد غاية للممسوح لا للمسح ، ولذا ذهب المشهور إلى جواز المسح من الكعب إلى الأصابع.

وبالجملة الشك في صحة جزء من اجزاء الوضوء إذا لم يكن مما سماه الله تعالى يكون موردا لقاعدة الفراغ.

وقد يناقش في ذلك لموثقة ابن أبي يعفور ، حيث يظهر منها عدم الاعتناء بالشك في صحة أجزاء الوضوء إذا لم يكن بعد الدخول في غير الوضوء والفراغ عنه.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المائدة : ٦.

٢٩٢

وفيه : أولا : انّه مجمل ، لاحتمال رجوع الضمير في غيره إلى المشكوك ، لا الوضوء ، وعليه فيكون بيانا لصدق التجاوز عن المشكوك.

وثانيا : ان تلك الرواية ليس لها إطلاق من هذه الجهة ، أي من جهة المفهوم ، لعدم كونها في مقام البيان منها ، بل هي في مقام بيان عدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ ، وأما إذا كان في الأثناء فلا بد من الاعتناء به مطلقا.

وثالثا : على تقدير التنزل تقع المعارضة بين إطلاقها وعمومات دليل قاعدة الفراغ بالعموم من وجه ، وقد بينا في محله تقدم العام على المطلق عند المعارضة إذا كانت بالعموم من وجه.

الأمر الثاني : انّه على فرض تسليم عدم جريان التجاوز في الغسل والتيمم ، لا ريب في عدم الاعتناء بالشك ، لقاعدة الفراغ ، إذا شك في صحة جزء بعد المضي عنه من جهة احتمال الإخلال بشرط الجزء أو جزء الجزء. وهكذا في الوضوء ، من غير فرق بين الجزء الأخير منها والاجزاء السابقة ، فإذا علم المتوضئ بأصل غسل يديه ، وشك في صحته ، لاحتمال انه غسلهما منكوسا ، لا يعتني بشكه ، وهكذا إذا شك في صحة المسح بعد إحراز أصله بنى على صحته.

الجهة الرابعة : في بيان الفرق بين قاعدتي التجاوز والفراغ ، وما يعتبر فيهما أو في إحداهما.

قد عرفت ان قاعدة الفراغ انما تجري عند الشك في صحة العمل بعد تحققه. وقاعدة التجاوز انما تجري عند الشك في أصل وجوده ، ويعتبر فيها الدخول في الغير نصا وقاعدة ، بخلاف قاعدة الفراغ ، لصدق مضي العمل في موردها بدون الدخول في الغير. وتوهم اعتباره فيها لصحيحة زرارة قد عرفت فساده.

فلا بد من التكلم في ما يعتبر في الغير الّذي يلزم الدخول فيه في صدق عنوان التجاوز.

٢٩٣

ويقع الكلام أولا فيما إذا شك في الجزء الأخير من العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وصورة ثلاثة. فانه تارة : يكون الشك في التسليم قبل الدخول في عمل أصلا ، كما إذا اعتقد أنه سلم ثم تبدل اعتقاده بالشك فيه ، أو بعد الدخول في عمل مباح ، أو مستحب غير مترتب عليه ، كالاشتغال بالكتابة أو قضاء حوائج الإخوان أو نحوه. وأخرى : يكون الشك فيه بعد الدخول في التعقيب ونحوه مما هو مترتب عليه شرعا. وثالثة : يكون بعد الإتيان بالمنافي ، ولو مثل السكوت الطويل.

أما في الصورة الأولى : فلا بد من الإتيان بالتسليم ، لعدم صدق المضي ، ولا التجاوز عنه ، لاحتمال كونه في الصلاة ، وعدم فوات محل التسليم.

وقد ذهب الميرزا إلى صدق كلا العنوانين. أما المضي ، فلأنه يصدق عند مضي معظم الأجزاء ، والمفروض تحققه في الفرض. وأما التجاوز ، فلأنه اكتفى في صدقه بالدخول في مطلق الغير ولو لم يكن مترتبا ، وهو متحقق أيضا.

وفيه : ان التجاوز عن ما شك في وجوده لا يكون إلّا بعد التجاوز عن محله ، والمفروض عدم فوات محل التسليم. والمضي عن المركب لا يكون إلّا بمضي جميع اجزائه ، وفي الفرض يحتمل بقاء بعضها.

نعم بناء على ما ذكره بعضهم من ان المراد بالمضي هو المضي الاعتقادي ، وإلّا لم يمكن إحراز المضي الحقيقي مع الشك في الإتيان ببعض ما يعتبر فيه في مورده أصلا. يمكن دعوى مضيه في المقام ، إلّا أنه في نفسه غير تام ، فان ظاهر المضي هو المضي الحقيقي ، غايته أعم من المضي صحيحا أو فاسدا ، كما يستفاد العموم من نفس الأدلة ، حيث أطلق فيها المضي مع فرض الشك في الصحة واحتمال الفساد ، فلا بد وان يكون المضي أعم من الفاسد والصحيح. فلا يصدق عنوان المضي في محل الكلام ، كما لا يصدق التجاوز أيضا.

٢٩٤

وأما الصورة الثانية (١) : فكذلك لا يصدق فيها التجاوز ولا المضي.

ولكن الميرزا ذهب فيها إلى صدق التجاوز عن التسليم. وذكر ان الفقيه يشرف على القطع بأن لواحق الصلاة بمنزلة (٢) اجزائها ، لما ورد في مقدمات الصلاة كالأذان والإقامة ، وأن الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة لا يعتنى به.

وفيه : ما لا يخفى ، فان صدق التجاوز عن الشيء بالدخول في غيره انما يكون فيما إذا اعتبر تقدمه عليه ولو استحبابا ، كما في الأذان والإقامة ، فان الأذان الوارد اعتبر فيه التقدم على الإقامة ، فيصدق التجاوز عنه بعد الشروع في الإقامة على ما في الرواية على القاعدة. وهذا بخلاف التسليم ، حيث لم يعتبر فيه التقدم على التعقيب كتسبيحة الزهراء عليها‌السلام وان اعتبر فيها التأخر استحبابا. فالتسليم والتعقيب من هذه الجهة نظير صلاة الظهر والعصر ، فان قوله عليه‌السلام «إلّا ان هذه قبل هذه» (٣) تعبير عن الملزوم بلازمه ، أي كناية عن تأخر العصر عن الظهر ، لا تقدمه على العصر. فلا يقاس التسليم والتعقيب بالأذان والإقامة ، فليس الدخول في التعقيب إلّا مثل الدخول في أمر مباح أو مستحب أجنبي عن الصلاة ، ولذا لو شك في أصل الصلاة بعد الدخول في التعقيب يجب الاعتناء به بلا خلاف ، لبقاء الوقت ، ولم يتوهم فيه أحد جريان قاعدة الفراغ.

نعم في الصورة الثالثة يصدق المضي إذا كان المنافي منافيا ولو سهوا. وأما المنافي العمدي ، فلا أثر فيه لقاعدة الفراغ من حيث صحة الصلاة ، فانها صحيحة ولو لم تجر القاعدة. وانما يترتب عليها الأثر من حيث الإتيان بالتسليم وسجدتي السهو. وهذا بخلاف ما إذا كان الشك بعد الإتيان بالمنافي ولو سهوا ، فانه يوجب

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٧٢.

(٢) نفس المصدر : صفحة ٤٦٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٤ من أبواب المواقيت ، ح ٢٠.

٢٩٥

البطلان لو لم تجر القاعدة.

والحاصل : أن عنوان المضي الحقيقي الّذي هو مورد قاعدة الفراغ انما هو بمضي المشكوك فيه ، الأعم من الصحيح والفاسد ، بحيث لو أريد إحراز صحته لم يمكن ذلك إلّا بتكرار أصل العمل. كما ان عنوان التجاوز عن محل المشكوك وجوده ، الّذي هو مورد قاعدة الفراغ ، لا يتحقق إلّا إذا كان للمشكوك فيه محل شرعي أخذ فيه التقدم على ما دخل فيه ، كالأذان والإقامة ، حيث ان الأذان الموجب لحصول المزية الخاصة في الصلاة أخذ فيه السبق على الإقامة ، وبدونه لا يحصل للصلاة تلك المزية. وكذا في اجزاء الصلاة حيث أنها ارتباطية قد أخذ في كل منها ملحوقيته ببقية الاجزاء المتأخرة عنه.

وعليه فلا يصدق شيء من العنوانين فيما إذا شك في التسليم بعد الدخول في التعقيب ، أو فيما هو مناف مع الصلاة لكن عمدا لا سهوا. أما عدم تحقق المضي ، فلأنه ان يكون في أثناء الصلاة ، إذ التعقيب لا ينافيهما ، وكذا المنافي السهوي على الفرض ، فيمكنه إحراز الصحة من دون استلزامه التكرار بالإتيان بالتسليم. وأما عدم صدق التجاوز ، فلعدم اعتبار تقدم التسليم على التعقيب ، وان اعتبر تأخره عنها كما هو واضح ، فلا بد من الاعتناء بالشك إلّا إذا كان بعد الإتيان بالمنافي العمدي والسهوي ، كالحدث والاستدبار ونحوه ، فان عنوان التجاوز حينئذ ولو لم يكن صادقا إلّا ان المضي صادق ، حيث انه خارج عن الصلاة قطعا ، ولا يمكنه إحراز صحتها إلّا بالتكرار ، فتجري قاعدة الفراغ. هذا كله في التسليم في الصلاة.

وأما الوضوء إذا شك في الجزء الأخير منه ، فان كان بعد زوال الرطوبة عن الأعضاء ، فالمضي متحقق تجري فيه قاعدة الفراغ. وإلّا فمقتضى القاعدة هو الاعتناء بالشك ، والإتيان بالمشكوك فيه حتى إذا كان الشك بعد الدخول في الصلاة ، لعدم صدق شيء من العنوانين. إلّا ان النص دل على الاعتناء بالشك في

٢٩٦

اجزاء الوضوء إذا كان المكلف حين الشك على وضوئه ، وعدم الاعتناء به إذا لم يكن حين الشك قاعدا على وضوئه ، وبإطلاقه يعم الشك في الجزء الأخير من اجزاء الوضوء أيضا.

وأما الغسل ، فلا بد من الاعتناء بالشك في الإتيان بجزئه الأخير مطلقا حتى إذا كان الشك بعد الشروع في الصلاة ، لعدم اعتبار الموالاة فيه ، فلا يصدق عليه المضي ، ولا التجاوز ، كما لم يرد فيه نصّ.

وبالجملة عنوان التجاوز عن محل المشكوك فيه لا يتحقق إلّا فيما إذا كان له محل سابق على الجزء المتأخر عنه ، ولم يؤخذ في الغسل. سبقه على الصلاة ، وان اعتبر في الصلاة التأخر عن الغسل.

هذا كله في الجزء الأخير.

وأما الشك في بقية الاجزاء فله صور ، لأنه قد يشك في الجزء بعد الدخول في جزء مستقل آخر. وقد يشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر غير مستقل ، أي في جزء الجزء. وهو قد يكون مستقلا في نفسه ، كما إذا شك في جملة بعد الدخول في جملة أخرى. وقد لا يكون مستقلا في نفسه أيضا ، كما إذا شك في حرف من كلمة واحدة بعد الدخول في حرف آخر ، أو شك في المبتدإ بعد الدخول في الخبر في جملة واحدة. كما أنه قد يشك في الجزء بعد الدخول في جزء استحبابي كالقنوت ، وقد يشك فيه بعد الدخول في مقدمة جزء آخر.

وبالجملة هل يعتبر في الدخول في الغير أن يكون جزء مستقلا واجبا ، أو يكفي فيه الدخول في الجزء المستقل حتى إذا كان من جملة واحدة ، أو يكفي الدخول في الجزء الاستحبابي ، أو يكفي الدخول في مقدمة الجزء الآخر؟.

لا ينبغي الريب في ان المتيقن من مورد الروايات انما هو الدخول في الجزء المستقل من الأمور المذكورة فيها ، كالشك في التكبيرة بعد ما ركع وهكذا. كما

٢٩٧

يلحق بالأمور المذكورة فيها التشهد ، لأنه أيضا جزء مستقل ، فتعمه الاخبار ، ولو كانت الأمثلة للتحديد ، بداهة عدم خصوصية لها من بين الاجزاء المستقلة ، وانما ذكر فيها الشك في السجود بعد ما قام ، ولم يذكر الشك فيه بعد ما تشهد ، لأنّ فرض كلام الراوي كان في الركعة الأولى ، ولا تشهد فيها.

كما لا ينبغي الشك أيضا في ان السورة جزء مستقل في مقابل الفاتحة ، كل منهما ثابت بدليل خاص ، فاعتبار الحمد ثابت بقوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) واعتبار السورة انما هو بما دل على وجوب الإتيان بسورة تامة بعد الحمد. فعنوان القراءة وإن كان يعمهما ، إلّا انهما جزءان مستقلان ، فالشك في الحمد بعد الدخول في السورة مورد للرواية.

وانما الكلام في شمولها لما إذا شك في شيء بعد الدخول في جزء آخر غير مستقل.

وقد ذهب الميرزا إلى عدم شمول الرواية له ، لما بني عليه من ان المجعول الشرعي ليس إلّا قاعدة واحدة ، وهي قاعدة الفراغ ، ولم يجعل قاعدة أخرى للشك في الأثناء ، وانما الحق الشارع بالحكومة الشك في اجزاء الصلاة في الأثناء بالشك في الصحة بعد العمل ، ولا بد فيه من الاقتصار على المتيقن من مورد الرواية ، وهو ما إذا كان الشك في الجزء بعد الدخول في جزء آخر مستقل (٢).

وفيه : مضافا إلى ضعف المبنى على ما تقدم ، ان جواب الإمام عليه‌السلام في الرواية كبرى كلية ، وهي قوله عليه‌السلام ، «يا زرارة إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وليس عنوانه إلّا الدخول في الغير ، الّذي هو صادق عرفا

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٤ باب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ح ٥ و ٨ ص ١٥٨.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٧٣ ـ ٤٧٥.

٢٩٨

عند الشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر غير مستقل ، ولا عبرة بما أخذ في كلام السائل.

نعم فيما إذا شك في الحرف الأول من كلمة واحدة بعد الدخول في الحرف الآخر وان كان العنوان صادقا بالدقة ، إلّا انه غير صادق عرفا ، والميزان انما هو بالصدق العرفي ، فلا تعمه الكبرى المذكورة في كلام الإمام عليه‌السلام. وهكذا في جملة واحدة. وأما في غير ذلك فعنوان التجاوز صادق عرفا ، فيعمه الدليل.

وأما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير المستحب ، أو فيما هو مقدمة لجزء آخر ، كالهوي أو النهوض. أما الدخول في الجزء المستحب كالقنوت ، فالمعروف أنه موجب لصدق عنوان التجاوز ، بل لم نعثر على مخالف في ذلك. إلّا أنه قابل للمناقشة ، وذلك لأن الجزء المستحب لعمل واجب لا معنى له إلّا أن الواجب ظرف للمستحب ، وأما الاستحباب والجزئية للواجب حقيقة فهما متنافيان ، فلا يراد بالجزء الاستحبابي إلّا ما ذكرناه ، لما بيناه في بحث الأقل والأكثر ، وبحث اجتماع الأمر والنهي ، من ان الخصوصيات التي يمكن تقيد الواجب بها لا بد وان يكون الواجب مقيدا بوجودها ، فيكون شرطا ، أو بعدمها فيكون مانعا ، أو يكون مطلقا ولا شرط بالإضافة إليها. والقسم الثالث منها ربما لا تكون راجحة في نفسها ، ولا توجب انضمامها إلى الواجب مزية ولا نقصانا وحزازة فيه. كما قد توجب المزية فيه كالصلاة في المسجد. وربما توجب الحزازة وان لم تكن في نفسها مرجوحة ، كالصلاة في الحمام ، فان الكون هناك وان لم يكن مرجوحا في نفسه ، إلّا أنه غير مناسب لأن يتحقق في ضمنه ما هو معراج المؤمن ، فيوجب حزازة فيها من دون أن يكون الواجب مقيدا بشيء من ذلك وجودا ليكون شرطا ، أو عدما ليكون مانعا. بل مع عدم دخل شيء من تلك الخصوصيات في الواجب ، منها ما لا يوجب تخصص الواجب مزية فيه ولا منقصة. ومنها ما يوجب المزية. ومنها

٢٩٩

ما يوجب المنقصة.

وهذا الّذي ذكرناه في القيود يجري في الأمور المستقلة أيضا كالقنوت ، فان انضمام الواجب ببعضها قد يوجب مزية في الواجب ، كما قد يوجب منقصة فيه ، وربما لا يوجب شيئا من الأمرين. هذا من دون ان يكون لها دخل في الواجب ، أو يكون جزء له أصلا ، فالجزء المستحب ليس إلّا كالشرط المستحب مما يوجب انضمامه إلى الواجب مزية فيه من دون ان يكون دخيلا فيه.

وعلى هذا ليس الدخول في الجزء المستحب محققا لعنوان التجاوز ، لما عرفت من أن المراد بالتجاوز هو التجاوز عن محل المشكوك ، إذ لا معنى لتجاوزه بنفسه مع فرض الشك في أصل وجوده ، وهو انما يكون فيما إذا كان السبق في المشكوك فيه على ما دخل فيه معتبرا. وذكرنا ان الجزء المستحب ليس جزء حقيقة ليكون سبق الاجزاء السابقة عليه معتبرا فيها ، ولم يتقيد المشكوك فيه بالتقدم على ذاك الأمر المستحب.

نعم القنوت اعتبر تأخره على القراءة المشكوك فيها على الفرض إلّا أنه لا يكفي في صدق التجاوز كما تقدم.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا شك في تكبيرة الإحرام بعد الدخول في الاستعاذة ، فانه لا بد من الاعتناء به. ويترتب على ما ذكرنا ثمر مهم في فروع العلم الإجمالي.

وأما الدخول في مقدمات الجزء الآخر ، فالأقوال في تحقق التجاوز به ثلاثة. ثالثها ما ذهب إليه صاحب المدارك من التفصيل بينما إذا شك في الركوع بعد الهوي إلى السجود فلا يعتني بالشك ، وبين ما إذا شك في السجود بعد ما نهض للقيام فلا بد من الاعتناء به.

وأورد عليه في الحدائق بأنه من الجمع بين متناقضين ، فان الدخول في

٣٠٠