دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ونظير هذا ما إذا صدر من المولى عام ، ثم كتب إلى العبيد مكتوبين ، وكان كل منهما مشتملا على حكم خاص ، وفرضنا أن المكتوب المشتمل على أحد الخاصّين وصل إلى العبيد قبل وصول الآخر ، فهل يوجب ذلك توقف العبيد عن تخصيص العام بالخاص المتأخر في الوصول ، لانقلاب النسبة بينه وبين العام؟! كلّا ، بل يخصصون العام بكلا الخاصّين ، وليس ذلك إلّا من انّ جهة الميزان انما هو بالصدور دون الوصول.

الصورة الثالثة : ما إذا كان بين الخاصّين عموم مطلق ، فهل العام يخصص أولا بأخصهما ، فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر ، أو يخصص بهما معا؟ مثاله ما إذا ورد في دليل ليس على المستعير ضمان (١) ، وفي آخر في عارية الذهب والفضة (٢) ضمان ، وفي ثالث في الدرهم والدينار (٣) ضمان. فإذا خصصنا العام بأخص الخاصّين وهو قوله عليه‌السلام «في الدرهم والدينار ضمان» كان المراد به عدم الضمان في عارية غير الدرهم والدينار ، فمورد اجتماعه مع الخاصّ الآخر هو عارية الحلي ، فان مقتضى العام المخصص عدم الضمان فيها ، ومقتضى الخاصّ الآخر ثبوته لأنها من الذهب ، ومورد الافتراق من ناحية الخاصّ هو الدرهم والدينار ، ومن ناحية العام عارية غير الذهب.

وبما بيناه في الصورة السابقة ظهر انه لا مجال للالتزام بانقلاب النسبة في هذه الصورة ، لأن نسبة كلا الخاصّين إلى العام نسبة واحدة ، وكلاهما يخبر عن ما هو المراد الجدي من العام من حين صدوره ، فلا وجه للتقديم ، فلا بد من تخصيص العام بكليهما.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٣ ـ باب ١ من أبواب العارية.

(٢ ، ٣) وسائل الشيعة : ١٣ ـ باب ٣ من أبواب العارية.

٣٨١

وحينئذ تبقى شبهة لغوية صدور أخص الخاصّين. وقد أجبنا عنها في بحث مفهوم الوصف واللقب ، وقلنا : انه يمكن أن يكون ذكره لنكتة من كونه مورد السؤال ، أو كونه متعارفا ، أو نحو ذلك. وقد ورد في الروايات كثير من هذا القبيل ، مثلا ورد في بعض الاخبار المنع عن الصلاة في وبر السباع (١) ، وفي موثقة ابن بكير منع عن الصلاة في اجزاء كل ما لا يؤكل لحمه (٢) ، والسر ما ذكرناه ، ولذا لا يحمل المطلق على المقيد فيها.

نعم إذا كان أخص الخاصّين متصلا بالعامّ ، كما إذا قال : ليس على المستعير ضمان في غير الدرهم والدينار ، ثم قال : في الذهب والفضة ضمان ، كانت النسبة بين العام المخصص والخاصّ هو العموم من وجه ، لأن المخصص المتصل بالعامّ يمنع انعقاد ظهوره في العموم.

ثم في المقام فرع ، لا بد من التنبيه عليه. وهو ما إذا فرضنا وجود عام فوق في هذا الفرض ، كما إذا ورد ليس في العارية ضمان ، وورد ليس في العارية ضمان غير الدرهم والدينار ، وورد أيضا في عارية الذهب والفضة ضمان ، فبين الخاصّين يكون عموم من وجه ، ومورد اجتماعهما عارية الحلي ، فهل يمكن القول بأن العام الفوق هو العام المخصص ، أي يخصص بالمخصص المتصل ، فيكون طرفا للمعارضة ، أو لا يمكن ذلك؟ ذهب الميرزا قدس‌سره إلى الأول (٣) لوجهين :

أحدهما : ان العام الفوق مخصص بأخص الخاصّين يقينا على كل تقدير ، فيعلم ان العموم غير مراد منه ، بل المراد به في المثال عارية غير الدرهم والدينار ، فنسبته مع الخاصّ المنفصل هو العموم من وجه ، فهو أيضا طرف للمعارضة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٦ من أبواب لباس المصلي.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٢ من أبواب لباس المصلي.

(٣) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٣٨٢

ثانيهما : ان العام انما يخصص بالخاص فيما إذا كان حجة ، وفي المقام ليس شيء من الخاصّين حجة ، للمعارضة بينهما بالعموم من وجه ، فلا يمكن تخصيص العام بشيء منهما ، فتقع المعارضة بينها لا محالة.

ونقول : أما الوجه الأول ، فقد ظهر الجواب عنه مما ذكرناه ، فان نسبة كلا الخاصّين إلى العام الفوق واحدة ، وليس بينهما ثبوتا تقدم وتأخر ، فلا وجه لتخصيص العام بأحدهما دون الآخر.

وأما الوجه الثاني ، فالمقدمة وان كانت صحيحة ، فان الخاصّين متعارضان ، فلا يمكن تخصيص العام بشيء منهما ، إلّا انه ليس نتيجتها كون العام طرفا للمعارضة ، بل المعارضة تكون بين الخاصّين. فان قلنا : بتساقطهما في مورد الاجتماع ، وهو عارية الحلي ، كان اللازم بعد سقوطهما الرجوع إلى العام الفوق ، والنتيجة انتفاء الضمان في عارية الحلي. وان قلنا : بتقديم أحدهما تعيينا أو تخييرا كان اللازم تخصيص العام الفوق به. فعلى كلا التقديرين ليس العام طرفا للمعارضة أصلا. وهذا هو الفارق بين هذه الصورة وما إذا كان بين الخاصّين عموم مطلق وكانا منفصلين ، حيث قلنا بأن العام مخصص بكليهما ، فانه لا معارضة حينئذ بين الخاصّين.

هذا كله في الكبرى الكلية. إلّا انها غير منطبقة على المثال ، لأن الاخبار الواردة في العارية على طوائف. مضمون بعضها ليس على المستعير ضمان. وبعضها في عارية الذهب والفضة ضمان. وبعضها لا ضمان إلّا في عارية الدينار. وبعضها إلّا في عارية الدرهم. وبعضها إلّا إذا اشترط.

أمّا الأخير فمنطوقه لا ينافي ما دل على الضمان في الدرهم والدينار. وإطلاق مفهومه يقيد بمنطوقهما ، وان كان بينه وبينهما عموم من وجه. كما ان ما ورد في الدرهم وما ورد في الدينار كلاهما بمنزلة دليل واحد ، ولا منافاة بينهما ، لأن إطلاق مفهوم كل منهما يقيد بمنطوق الآخر.

٣٨٣

ثم النسبة بين دليل الدرهم والدينار وما دل على الضمان في عارية الذهب والفضة وان كانت عموم من وجه ، إلّا أن من المرجحات على ما سنبينه ان يكون تقديم أحد العامين من وجه على الآخر موجبا لتخصيصه بالفرد النادر ، فانه يستلزم تقديم الآخر عليه. والمقام كذلك ، فانه ان قدمنا دليل الدرهم والدينار على ما دل على ثبوت الضمان في الذهب والفضة وخصصناه بهما لزم تخصيصه بالفرد النادر ، لعدم تعارف عارية الدرهم والدينار ، بل هي غير ممكنة ، إذ لا يمكن الانتفاع بهما مع بقائهما ، ولذا لا يجوز وقفها ، بخلاف الحلي حيث يجوز فيها الوقف. وعلى تقدير تصوير ذلك أيضا كانت عاريتهما نادرة جدا ، فلا بد من العكس ، وتقديم دليل الضمان في عارية الذهب والفضة ، فيخصص به العام الفوق لا محالة.

المورد الثاني : ما إذا ورد عامان بينهما عموم من وجه ، وكان هناك خاص.

فتارة : يكون الخاصّ مخصصا لكلا العامين ، بأن يكون مخرجا للمجمع عن العامين. مثلا ورد أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم الفساق ، فالنسبة بينهما عموم من وجه ، ومورد اجتماعهما العالم الفاسق ، ثم ورد يكره إكرام العالم الفاسق ، فأخرجه عن تحت كلا العامين ، فحينئذ يرتفع التنافي بين المقامين.

وأخرى : يكون الخاصّ مخصصا لأحد العامين دون الآخر ، بأن يكون مخرجا عن تحته مورد الافتراق. كما إذا ورد يستحب إكرام العلماء ، وورد يكره إكرام الفساق ، وورد يجب إكرام العلماء العدول ، فحينئذ تنقلب النسبة بين العامين من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، لأن العام كما عرفت نصّ في بعض افراده ، فبعد ما خرج عن تحته بعض الأفراد صار نصا في الباقي ، وصار أخص من العام الآخر ، فان العالم الفاسق أخص من الفاسق ، فيخصصه ، فهذا أحد موارد انقلاب النسبة.

وما ذكرناه انما هو فيما إذا اخرج الخاصّ تمام افراد مورد الافتراق عن تحت

٣٨٤

العام ، كما في المثال. وأما إذا اخرج عنه بعض تلك الأفراد ، كما إذا كان الخاصّ هكذا : يجب إكرام العلماء العدول من الهاشميين ، فالنسبة باقية على حالها ، غايته أوجب ذلك قلة بعض أفراد مورد الافتراق عن أحد الطرفين.

وثالثة : يكون هناك خاصان ، كل منهما يخصص أحد العامين ، لا ان الخاصّ الواحد يخصص كلا العامين بإخراج مورد الاجتماع ، كما في الفرض الأول ، فنفرض الخاصّين هكذا : أحدهما يجب إكرام العلماء العدول ، والثاني يحرم إكرام الفساق الجهلاء ، فحينئذ تنقلب النسبة بين العامين إلى التباين ، ويكون النفي والإثبات واردين على مورد واحد ، وهو العالم الفاسق. وقد عرفت ان العام نصّ في بعض أفراده ، فإذا خصص العامان كان كل منهما نصا في الباقي وهو المجمع. فالمعارضة بين نصين.

وانما الكلام في ان المعارضة هل هي بين العامين فقط ، ولا بد من الرجوع إلى المرجحات فيهما ، وأما الخاصان فيؤخذ بهما ، أو ان المعارضة تكون بين المجموع؟ ظاهر الميرزا هو الأول ، لانقلاب النسبة (١).

والصحيح : هو الثاني ، لما ذكرناه في الصورة الأولى من ان كلا من العامين نصّ في بعض أفراده ، وبعد ورود الخاصّين يعلم إجمالا بعدم صدور واحد من الأدلة الأربعة ، فكل واحد منها معارض مع أحد الثلاثة الباقية ، فلا بد من ملاحظة المرجحات في مجموعها. فإذا فرضنا ان العامين مع أحد الخاصّين أرجح من الخاصّ الآخر ، قدمت عليه ، إلّا ان الخاصّين يؤخذ بهما ، ثم يعالج المعارضة بين العامين.

المورد الثالث : ما إذا ورد عامان متباينان ، ثم ورد مخصص على أحدهما.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥٢٠.

٣٨٥

كما ورد ان الزوجة لا ترث من العقار ، وورد أيضا انها ترث منها ، فبينهما التباين ، لأن النفي والإثبات واردان على الزوجة ، وفي بعض الأدلة ان ذات الولد ترث ، فهو يخصص الأول ، وبعده يكون نصا في الباقي كما عرفت ، فتنقلب النسبة ، ويخصص العام الآخر به.

وأما إذا ورد عليهما خاصان ، كل منهما يخصص أحد العامين المتباينين ، كما إذا ورد ان غسل المتنجس بالماء يكفي فيه المرة الواحدة ، وورد أيضا ان الغسل لا يكفي فيه المرة ، ثم ورد في ثالث كفاية الغسل مرة واحدة في الجاري ، وفي رابع عدم كفاية الغسل مرة واحدة بالماء القليل. فان الأول من الخاصّين يخصص العام الثاني ، أعني ما ورد في عدم كفاية المرة في الغسل بالماء ، فيختص بغير الجاري. كما ان الثاني منهما يخصص العام الأول ، وهو كفاية الغسل مرة واحدة بغير الماء القليل ، فلا محالة تنقلب النسبة بين العامين إلى العموم من وجه ، ويكون معارضتهما في الغسل بالكر ، فان مقتضى الأول عدم الاكتفاء في الغسل به بالمرة الواحدة ، ومقتضى الثاني هو الاكتفاء ، فلا بد من معاملة علاج التعارض بالعموم من وجه بينهما.

هذا كله في صور المعارضة بين أكثر من دليلين ، وان فرض هناك صورة أخرى غير ما ذكرنا يعرف الحال فيها مما بيناه.

والضابط الكلي في انقلاب النسبة ان يكون واحد من الأدلة المعارضة قرينة عرفية على أحد الآخرين بخصوصه ، فانه يتقدم عليه تقدم القرينة على ذيها ، ثم بعد ذلك يلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر. وان لم يكن كذلك ، بأن لم يكن واحد منها قرينة عرفية على أحد الآخرين وقعت المعارضة بينها أجمع ، ولا يتحقق انقلاب النسبة أصلا.

هذا تمام الكلام في بيان موارد الجمع العرفي.

٣٨٦

وأما إذا لم يمكن التوفيق بين الدليلين المتعارضين عرفا ، فالصور ثلاثة. لأنهما قد يكونان مقطوعي السند ، كما إذا وقعت المعارضة بين خبرين متواترين ، أو المحفوفين بقرينة قطعية ، أو بين خبر قطعي السند مع آية من الكتاب. وقد يكون أحدهما قطعي السند دون الآخر. وثالثة يكون كلاهما ظني السند.

أما على الأول : فلا محالة تكون المعارضة بين ظهوريهما ، للعلم بأن ظاهر أحدهما غير مراد ، امّا بالإرادة الاستعمالية وإرادة معناه المجازي ، واما بالإرادة الجدية بأن كان معناه مرادا استعمالا لكن لا بداعي الجد ، بل بأحد الدواعي الأخر ، فلا محالة يكونان مجملين كالمجمل الذاتي ، فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر من أصل أو إطلاق.

وما ذكره الشيخ من حمل كل منهما على بعض أفراده ، وسماه بالجمع التبرعي ، فغير تام ، لأن عدم إرادة الظاهر منهما وان كان متيقنا ، إلّا ان تعيين المؤول من بين المحتملات لا بد وأن يكون بدليل ، ولا دليل إلّا في موارد القرينية العرفية المنتفية في الفرض.

وأما على الثاني : فتقع المعارضة بين دليل حجية الظاهر في قطعي السند ودليل حجية السند في ظني السند ، وذلك لأن دليل حجية الخبر سندا انما يثبت حجيته بما له من الظهور ، ومن الظاهر أن اعتبار الدليل الظني السند بماله من الظهور ينافي حجية ظهور الآخر ، وبما أنه لا مرجح في أحدهما على الآخر يسقطان معا ، ولا يمكن الأخذ بشيء منهما. هذا على القاعدة.

ولكن مقتضى ما ورد في عرض الأخبار الظنية سندا على الكتاب والسنة النبوية أي القطعية ، وطرح المخالف لها ، هو طرح الخبر المخالف بظاهره مع الدليل القطعي السند إذا لم يمكن الجمع بينهما عرفا بحيث عد مخالفا للسنة.

وأما على الثالث : أي فيما إذا كان كلا الخبرين المتعارضين ظني السند. وهو

٣٨٧

الّذي عقد عليه هذا البحث ، فان حكم القسمين الأولين واضح. فتارة : يكون تعارضهما بالتباين ، كما إذا دل دليل على وجوب شيء ، وآخر على عدمه ، أو دليل دل على نجاسة شيء ، والآخر على عدمها. وأخرى : يكون بالعموم من وجه.

وفعلا نتكلم في فرض التباين ، ثم نتكلم في العامين من وجه. أما على القاعدة فقد عرفت ان الحكم هو التساقط ، ولكن في تعارض الخبرين ورد اخبار كثيرة بل متواترة على لزوم الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، فسقوطهما معا مقطوع البطلان.

وإنّما الكلام في المرجحات ، وانها إلزامية ، فلا تصل النوبة إلى التخيير مع وجودها ، أو انها استحبابية كمرجحات امام الجماعة ، والتخيير ثابت حتى في فرض وجود المرجح في أحدهما ، وقد ذهب إليه الآخوند (١) تبعا لصاحب الوافية؟

وبالجملة الكلام في تعارض الخبرين يقع في مقامين :

أحدهما : فيما إذا كان بالتباين.

ثانيهما : ما إذا كان بالعموم من وجه.

أما المقام الأول : فقد عرفت أن مقتضى القاعدة فيه هو التساقط ، لأن دليل حجية الخبر لا يمكن ان يشملهما معا ، فلا يمكن شموله لأحدهما أيضا ، فحجية أحدهما تعيينا أو تخييرا لا بد وأن يكون بدليل ، فيقع الكلام في بيانه.

وقد ذهب صاحب الكفاية (٢) إلى أن الأخبار الواردة في المقام على طوائف ، بينما يكون آمرة بالتوقف ، وما هو آمرة بالاحتياط ، وما ذكر فيه الترجيح ، وما يستفاد منه التخيير.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٩٣.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٨٩ ـ ٣٩١.

٣٨٨

ونقول : أما ما دل على التوقف فلم نعثر منه إلّا على ما في ذيل المقبولة من الأمر (١) بالتوقف وتأخير الواقعة إلى زمان لقاء الإمام عليه‌السلام بعد فرض الراوي تساوي الروايتين من حيث المرجحات. وما في رواية سماعة بن مهران (٢) من الأمر بالتوقف ابتداء.

ولا يمكن أن يكون شيء منهما مدركا للقائل بلزوم التوقف في مقام الإفتاء والتخيير في مقام العمل وهو السيد الصدر في الوافية على ما حكي عنه.

وذلك لأن المقبولة وان كانت متقبلة عند الأصحاب ، ولذا سميت بالمقبولة ، إلّا أنها واردة في المتخاصمين ، ومن الظاهر ان التخيير عند فقد المرجح لا يرفع المخاصمة بينهما ، لأن كلا منهما يختار حينئذ ما هو الموافق لغرضه ، ومن هنا لم يحكم الإمام عليه‌السلام هناك بالتخيير.

وامّا رواية سماعة فمضافا إلى ضعف سندها ، ظاهرا معارضة للمقبولة ، حيث حكم فيها الإمام عليه‌السلام ابتداء بالتوقف ، ثم الأخذ بما خالف العامة فيما إذا لم يمكن تأخير الواقعة إلى زمان لقاء الإمام عليه‌السلام ، والمقبولة بعكس ذلك. على أن موردهما هو فرض التمكن من تأخير الواقعة إلى زمان الوصول بخدمة الإمام عليه‌السلام فلا يعم عصر الغيبة ، ولا ما إذا لم يمكن تأخير الواقعة ، ولا ما إذا أمكن كل ذلك ولم يكن الوصول بخدمته عليه‌السلام ميسورا لبعد الطريق ونحوه.

ولم نعثر على غيرهما مما دل على التوقف عند تعارض الخبرين. نعم ورد الأمر بالتوقف عند الشبهة في روايات (٣) ، إلّا أنها عامة في مطلق الشبهات ، وما ورد في التخيير أو الترجيح في فرض المعارضة أخص منها ، فيخصصها بغير فرض المعارضة. مضافا إلى ان المقام خارج عنها موضوعا ، إذ بعد التعبد بالأخذ بأحد

__________________

(١ ، ٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١ ، ح ٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

٣٨٩

الخبرين لا يكون هناك شبهة ليجب التوقف فيها.

وأما الأخذ بأحوط الخبرين ، فلم نعثر فيه إلّا على رواية واحدة ، وهي رواية غوالي اللئالي (١) لابن أبي جمهور الأحسائي.

ويرد عليه : أولا : ضعف السند ، حتى ناقش في الكتاب وفي مؤلفه من ليس دأبه ذلك ، وهو صاحب الحدائق.

وثانيا : لو أخذ بها فعلى أي مورد نحمل اخبار الترجيح أو التخيير؟ فلا بد من تخصيصها بموارد دوران الأمر بين المحذورين ونحوه مما لا يمكن فيه الاحتياط ، ومن الظاهر انها أفراد نادرة ، لأن أغلب موارد التعارض ليس من هذا القبيل.

فتبقى المعارضة بين اخبار التخيير والترجيح ، وان اخبار الترجيح هل يمكن حملها على الأفضلية والأولوية ، فيمكن الأخذ بالمرجوح ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية في الأصول وان لم يعمل على طبقه في الفقه ، والظاهر أنه قدس‌سره متفرد بهذا القول. وما حكاه من الكليني ليس مطابقا للواقع ، فان الكليني في رسالة الكافي ذهب إلى التخيير بعد عدم المرجح على ما حكاه الشيخ قدس‌سره ، كما ان صاحب الوافية أيضا لم يذهب إلى التخيير إلّا في مقام العمل ، فصاحب الكفاية متفرد في هذا القول.

وعلى كل استدل عليه بوجوه :

الأول : اشتمالهما على الترجيح بمخالفة العامة وموافقة الكتاب ، وليس شيء منهما مرجحا لإحدى الحجتين على الآخر ، وانما هما لتمييز الحجة عن اللاحجة.

وذلك لأن الخبر المخالف للكتاب ليس حجة في نفسه ، لما ورد من الأخبار الكثيرة (٢) في ان ما خالف قول ربنا لم نقله ، أو زخرف ، أو اطرحوه ، أو اضربوه على

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٤ ـ ص ١٣٣ ، ح ٢٢٩.

(٢) تفسير العياشي : ١ ـ باب ترك الرواية التي تخالف القرآن ، ص ٨ ـ ٩.

٣٩٠

الجدار ، فالخبر المخالف للكتاب ليس بنفسه حجة. وكذا الخبر الموافق للعامة ، فانه إذا كان هناك روايتان متعارضتان ، إحداهما : موافقة للعامة ، والأخرى : مخالفة لهم ، فالوثوق بالرواية المخالفة للعامة يستلزم الوثوق بعدم صدور الأخرى الموافقة للعامة ، أو بعدم صدورها لبيان الحكم الواقعي ، فلا يكون مشمولا لدليل حجية الخبر. فالأمر بالأخذ بالموافق لعدم كون معارضه حجة في نفسه.

والجواب : أما عن مخالف الكتاب فهو ان الأخبار الواردة في طرح ما خالف الكتاب على طائفتين :

إحداهما : ما ورد في عرض اخبار الآحاد على كتاب الله. ويستفاد منها اشتراط حجية الخبر بعدم مخالفته للكتاب كقوله عليه‌السلام «ما خالف قول ربنا لم نقله» أو باطل ، أو زخرف إلى غير ذلك. وموضوع هذه الأخبار هو الخبر المخالف للكتاب ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما عرفا ، أي المخالف له بالتباين ، أو العموم من وجه ، لا المخالف بالنظر البدوي القابل للجمع العرفي ، للقطع بصدور أخبار كثيرة مخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه ، فانهم هم العالمون بمعاني كلام الله ، وعمومه وخصوصه ، كما ذكرت ذلك الصديقة الزهراء عليها‌السلام في بعض خطبها ، وخروجها عن تلك الأخبار يكون بالتخصص لا التخصيص ، فان لسانها آبية عنه.

الطائفة الثانية : ما ورد في الخبرين المتعارضين ، والأخذ بما وافق منهما للكتاب وطرح ما خالف. والمراد بالمخالف فيها هو المخالف بالنظر البدوي ، أي لإطلاق الكتاب أو عمومه ، لا بالتباين أو العموم من وجه ، بحيث كان مقيدا لإطلاق الكتاب أو مخصصا لعمومه لو لا المعارض ، فموردها ما إذا وردت روايتان متعارضتان ، إحداهما : موافقة لإطلاق الكتاب ، والأخرى : مخالفة له ، ولم يكن شيء منهما مشمولا لدليل حجية الخبر ، لمكان المعارضة ، فجعل خصوص الموافق لعموم الكتاب أو إطلاقه حجة دون غيره ، وهذا الترجيح لا التخيير.

٣٩١

وامّا الجواب عن الترجيح بمخالفة العامة ، فهو ان المراد بالوثوق في الخبر الموثق ليس الوثوق الشخصي ، ليلزم من ثبوته في الخبر المخالف للعامة الوثوق بعدم صدور الموافق لهم ، فان الخبر وان كان رواته موثوقين لا يوجب الوثوق الشخصي ، لاحتمال الاشتباه والنسيان ونحوه ، بل المراد به الوثوق النوعيّ ، فاحتمال صدور الموافق يكون كاحتمال صدور المخالف من غير فرق بينهما ، إذ ليس كل أقوال العامة مخالفا للواقع ، ونسبة دليل الحجية إليهما على حد سواء ، فكل منهما في نفسه حجة ، ورجح الإمام عليه‌السلام المخالف للعامة على الموافق عند المعارضة.

ويشهد لما ذكرناه في الموردين ان الترجيح بموافقة الكتاب أو بمخالفة العامة لم يجعل شيء منهما أول المرجحات ، بل جعل أولها الشهرة ، وقد يكون المخالف للكتاب أو الموافق للعامة أشهر من غيره ، فإذا لم يكن حجة كيف أمر بالأخذ به.

الثاني : أنه إن قيدنا اخبار التخيير باخبار الترجيح لزم تخصيصها بالأفراد النادرة ، لوجود المرجح في أغلب الموارد.

والجواب : انّما يتم فيما إذا تعدينا عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، كما فعله الشيخ ، لعدم خلو أحد الخبرين المتعارضين عن مزية ما ، ولو كون راوي أحدهما هاشميا مثلا ، فلا يبق لاخبار التخيير مورد أصلا إلّا نادرا. واما لو اقتصرنا على المرجحات المنصوصة ـ كما هو الصحيح ـ فلا يلزم ذلك ، لأنها ثلاثة ، الشهرة ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، ويمكن تساوي خبرين متعارضين من جميع الجهات ، بأن لا يكون شيء منهما مشهورا ، ولم يكن شيء منهما مخالفا للكتاب ، فان الأحكام ليست بأسرها مذكورة في القرآن ولم يكن أحدهما موافقا للكتاب ، لأن إطلاقات الكتاب أكثرها غير واردة في مقام البيان ، والوارد منها في

٣٩٢

مقام البيان قليل جدا ، كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) مثلا فيمكن أن لا يكون شيء من الخبرين موافقا ولا مخالفا للكتاب. ولم يكن أحدهما موافقا للعامة والآخر مخالفا ، بل كانا معا موافقين ، فان علماء العامة أيضا مختلفون في الفتوى فكان كل من الخبرين موافقا لقول ، أو كانا معا مخالفين للعامة ، أو لم يكن ذاك الحكم معنونا في فقه العامة ليعرف فتواهم فيه ، فكثيرا ما يتحقق خبران متعارضان ليس لأحدهما ترجيح من هذه الجهات ، فلا يلزم من تقييد أدلة التخيير بها تخصيصها بالأفراد النادرة.

والظاهر ان الكليني أشار إلى هذا في ديباجة كتاب الكافي حيث ذكر بما حاصله : ان قلّ مورد يكون من موارد التعارض يكون أحد المرجحات المذكورة موجودا في أحد الخبرين ، فليس هناك شيء أوسع وأحوط من التخيير والأخذ بأحد الخبرين ، ولم يذهب قدس‌سره إلى التخيير ابتداء (٢).

الثالث : انّ ظاهر اخبار التخيير كونها في مقام البيان ، فإذا قيدناها باخبار الترجيح لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح.

والجواب : ان ظهور أخبار التخيير في كونها في مقام البيان وان كان مما لا ينكر ، وتقييدها باخبار الترجيح يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إلّا انه ليس بقبيح إذا كان التأخير لمصلحة ، كما هو الحال في جميع موارد تقييد المطلقات بالمقيدات المنفصلة ، وليس للمقام خصوصية. ومن الظاهر أن أقوى المطلقات كقوله عليه‌السلام «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال» (٣) وفي بعض الأخبار

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) أصول الكافي : ١ ـ ص ٨ ـ ٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ ـ باب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ١.

٣٩٣

ثلاث (١) خصال ، وقد قيد إطلاقه لأجله باقي المفطرات للصوم.

الرابع : ان أجمع روايات الترجيح هي مقبولة عمر بن حنظلة (٢) ، ومرفوعة زرارة (٣) ، وكلاهما واردان في مورد التخاصم ، وحكم الحاكمين. وثبوت المرجح لحكم الحاكم في فرض المعارضة أجنبي عن ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى عند المعارضة. مضافا إلى ضعف المرفوعة سندا.

ونقول : أما ما ذكره من كون المرفوعة واردة في التخاصم ، فهو غير صحيح ، فراجع الرواية. وأما كونها ضعيفة السند فكذلك ، لأن صاحب كتاب عوالي اللئالي نقلها عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، فلو كان العلّامة بنفسه يرويها مرفوعا لم يكن حجة ، لسقوط الوسائط ، فكيف ينقل عوالي اللئالي عنه مع عدم وجود ذلك في شيء من كتبه. ولم يوثق الكتاب ، ولا مؤلفه ، حتى طعن فيهما صاحب الحدائق أيضا.

وأما المقبولة فراويها عمر بن حنظلة لم يمدح ولم يذم في كتب الرّجال ، إلّا أنه ورد في مدحه رواية عن الصادق عليه‌السلام نقلها صاحب الوسائل في باب الوقت وباب القضاء ، مضمونها ان أحدا قال للإمام عليه‌السلام : ان عمر بن حنظلة أتانا بوقت جديد ، فقال عليه‌السلام : انه لا يكذب علينا (٤) ، فلما بيّن السائل ما ذكره ، صدّقه عليه‌السلام وهذا وان كان توثيقا من الإمام عليه‌السلام وهو أقوى من توثيق الرجاليين ، إلّا أن تلك الرواية أيضا ضعيفة السند ، لضعف بعض رجال سندها.

هذا ولكن رواية عمر بن حنظلة تلقاها الأصحاب بالقبول ، بحيث صار من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ ـ باب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٣) عوالي اللئالي : ٤ ـ ص ١٣٣ ، ح ٢٢٩.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٥ من أبواب المواقيت ، ح ٦.

٣٩٤

المجمع عليه حتى ان الكليني قدس‌سره عبر في مقدمة الكافي ببعض عباراتها ، ولذا سميت بالمقبولة ، فان اكتفينا بذلك في اعتبار الرواية وحجيتها فهي موثقة سندا.

وأما دلالة ، فهي وان كانت واردة في التخاصم وحكم الحاكمين ، إلّا أن المرجحات المذكورة فيها مرجحات لإحدى الروايتين ، لأن حكم كل من الحاكمين سقط بالمعارضة مع حكم الآخر ، فسأل الراوي بعد ذلك عن الأخذ بأي الروايتين المنقولتين عن الإمام في ذلك ، فأرجعه الإمام إلى المرجحات ، كما هو ظاهر الرواية. ثم أمر عليه‌السلام في ذيل الرواية بالتوقف عند عدم وجود المرجح ، لأن الخصومة لا ترتفع بالتخيير.

وان لم نكتف بذلك في حجية السند ، أو قلنا بورود المقبولة في التخاصم ، مع ذلك لا يثبت ما ذهب إليه الآخوند من التخيير الابتدائي ، لعدم انحصار اخبار الترجيح بالمقبولة والمرفوعة ، بل هناك روايات أخر (١) بعضها صحيحة ، وان لم تكن مشتملة على الشهرة.

ثم يقع الكلام في ترتيب المرجحات.

أما الشهرة ، فالظاهر عدم كونها من المرجحات ، لأن المراد بالشهرة في المقبولة هو المجمع عليه ، الّذي لا ريب فيه ، حيث علل عليه‌السلام الترجيح بالشهرة بأنّ المجمع عليه مما لا ريب فيه ، كما يشهد لهذا تقسيم الأمور في ذيل المقبولة إلى بين الرشد وبين الغي وشبهات. فالمراد بالمشهور ما يكون بين الرشد ، ومما لا ريب فيه ، أي مما يطمئن بصدوره ، اما لكثرة نقله ، أو لغير ذلك. ومن الظاهر أن الخبر المعارض لما يقطع أو يطمئن بصدوره يكون خارجا عما نحن فيه. وقد ذكرنا في معارضة مقطوع الصدور مع ظني الصدور ان مقتضى ما ورد من عرض الأخبار

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٣٩٥

على الكتاب والسنة وان المخالف للسنة لا بد من طرحه طرح الخبر الظني الصدور المخالف للخبر القطعي الصدور.

ولا يبعد أن يكون المراد بالشهرة في المرفوعة أيضا هي الشهرة بهذا المعنى ، لا الشهرة الاصطلاحية ، فان الشهرة لغة كما ذكره الشيخ في بحث حجية الشهرة (١) بمعنى الظهور والبروز ، فيقال : فلان شاهر سيفه إذا أبرزه وأظهره ، ولا بد من حمل ألفاظ الروايات على معانيها اللغوية. فالمراد بالشهرة في المرفوعة أيضا هو البروز والظهور والوضوح وأمثال ذلك من المعاني.

وبالجملة تقديم المشهور بهذا المعنى على معارضه غير محتاج إلى دليل خاص ، فلو فرضنا سقوط المقبولة أيضا كالمرفوعة لقدمنا الخبر المشهور كذلك ، لما عرفت من ان المراد بالشهرة ليست الشهرة المصطلحة بمعنى المستفيض ، بل المراد به المجمع عليه الّذي لا ريب فيه. ويشهد له ما حكاه الإمام عليه‌السلام في ذيل المقبولة من تقسيم الأمور إلى الأقسام الثلاثة ، فكأنه عليه‌السلام جعل المشهور مما لا ريب فيه ، فيكون الخبر المعارض لمثله من المخالف للسنة القطعية ، الّذي يجب طرحه بمقتضى الروايات الواردة في طرح ما يخالف السنة. فالشهرة تكون مميزة للحجة عن غير الحجة.

ثم ان الشيخ أوقع المعارضة بين المقبولة والمرفوعة (٢) ، حيث قدم الشهرة في المرفوعة على الترجيح بصفات الراوي. وفي المقبولة انعكس الأمر ، فقدم الترجيح بالصفات على الترجيح بصفات الرواية.

ولكن الصحيح : ان صفات الراوي من الأفقهية والأعدلية والأصدقية ليس بشيء منها مرجحا للرواية أصلا ، وذلك لأن الصفات لم تذكر إلّا في المقبولة

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٠٧ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٧٦ (ط. جامعة المدرسين).

٣٩٦

والمرفوعة. أما المرفوعة فقد عرفت ضعف سندها ، وأما المقبولة فلأن الصفات ذكرت فيها مرجحا لحكم أحد الحاكمين ، ثم بعد ما فرض السائل تساويهما من حيث الصفات تعرض عليه‌السلام لترجيح إحدى الروايتين.

كما ان من الظاهر ان الصفات من الأفقهية والأعدلية يناسب ترجيح أحد الحكمين ، فان الأفقه يكون متوجها إلى خصوصيات الحكم ، بخلاف غيره ، وكذا الأعدل ، ولا مناسبة بينهما وبين أقربية النقل والرواية إلى الواقع. بل الأصدقية أيضا كذلك إلّا فيما إذا كان الناقل راويا عن الإمام عليه‌السلام بغير واسطة ، وإلّا فأصدقيته لا يوجب أقربية الخبر إلى الواقع. بل نفس إطلاق ما في المقبولة وغيرها من الأخذ بالمشهور وبما وافق الكتاب أو خالف العامة يقتضي عدم اعتبار الترجيح بصفات الراوي ، فان المشهور ، أو الموافق للكتاب ، أو المخالف للعامة ، قد لا يكون رواته أفقه ، ولا أعدل ، ولا أصدق ، بل ينعكس الأمر فإطلاق ذلك ينفي الترجيح بها.

ويؤكد ما ذكرناه ان الكليني مع انه قدس‌سره تعرض للمقبولة ، وبنى عليها ، حيث عبر في الديباجة ببعض عباراتها ، من لفظ المجمع عليه ونحوه ، لم يتعرض إلّا للترجيح بصفات الرواية من الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، ولم يتعرض لصفات الراوي أصلا ، بل رأى ان الأوسع والأحوط حينئذ هو التخيير ، وليس ذلك إلّا لما قلناه من ان الصفات جعلت في المقبولة مرجحة لأحد الحكمين لا لأحد الخبرين.

ومن الغريب ما ذكره الشيخ قدس‌سره من ان عدم تعرض الكليني للترجيح بصفات الراوي انما هو لوضوحه ، فان الترجيح بها ليس بأوضح من الترجيح بصفات الرواية من الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فلما ذا نفرض لها دونها.

٣٩٧

وأغرب من ذلك ما ذكره بعض من ان عدم تعرضه لها انما هو لكون جميع الروايات التي نقلها في الكافي صحاح ، فان المراد بصحة جميع ما فيه انما هو كونه حجة أي موثقة ، كما صرح بذلك في الديباجة ، لا انها صحاح بالمعنى المصطلح ، فلا ينافي ذلك تفاوتها من حيث الرّواة ، فيمكن أن يكون رواة بعضها موثقين غير إماميين ، فلا تكون تلك الروايات من الصحيح المصطلح ، بل الصحيح بهذا المعنى اصطلاح من العلّامة ومن تبعه ، ولم يكن يراد بصحة الرواية قبل ذلك إلّا الوثوق.

فتحصل : ان الصفات أيضا لا تكون من مرجحات أحد الخبرين المتعارضين على الآخر. كما ان الشهرة أيضا ليست منها.

ثم المقبولة جعل فيها المرجح بعد الشهرة موافقة الكتاب ومخالفة العامة منضما معا ، فيستفاد منه ان الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما مشتملا على المزيتين ، ولم يكن الآخر مشتملا لهما ، قدم عليه.

ثم فرض الراوي ان كلا الخبرين موافق للكتاب ، فأمر عليه‌السلام بالأخذ بما خالف العامة ، فاستفيد منه بالدلالة المطابقية كون مخالفة العامة وحدها من المرجحات ، كما استفيد منه بالالتزام ان موافقة الكتاب وحدها أيضا من المرجحات ، وذلك لأنه لو كانت مخالفة الكتاب وحدها مرجحا ، ولم تكن موافقة الكتاب كذلك ، فلما ضمها إليها أولا ، فهو لغو واضح ، فيستفاد من المقبولة حكم ثلاث صور. ما إذا كان أحد الخبرين فيه كلا المزيتين دون الآخر ، وما إذا كان أحدهما واجدا لإحدى المزيتين ، وكان الآخر فاقدا لها.

وبقي حكم فرض آخر ، لم يعرف من المقبولة ، وهو ما إذا كان أحدهما واجدا لمزية ، والآخر واجدا للأخرى ، كما إذا فرضنا ان أحدهما موافقا للكتاب وموافقا للعامة ، والآخر مخالف للكتاب وللعامة ، فهل يقدم الأول ، أو الثاني؟ مقتضى إطلاق حكمه عليه‌السلام بالتخيير عند عدم وجود المرجحات المذكورة هو

٣٩٨

التخيير. إلّا ان صحيحة الراوندي (١) على ما حكاه الشيخ (٢) قدم فيها الترجيح بموافقة الكتاب على مخالفة العامة ، فلا بد من الترتيب.

ثم قد يتوهم ان المرجحات لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر هو التأخر الزماني ، فلا بد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بما هو المتأخر منهما ، سواء كانا صادرين من امام واحد أو من إمامين.

ونقول : الأخبار الواردة في ذلك أربعة.

أحدها : موثقة محمد بن مسلم. عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال : انّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (٣) فيستفاد من ذلك لزوم الأخذ بثاني الخبرين.

وفيه : انّه لا يمكن الأخذ بظاهر الموثقة. اما بناء على استحالة كون الخبر تاما فواضح. وأما بناء على إمكانه ، فللإجماع من الفريقين على عدم جواز النسخ بالخبر الواحد. مضافا إلى ان الأخبار الواردة في عرض الأخبار على الكتاب والسنة ، وطرح ما خالف منها لشيء منهما أيضا ، دال على عدم ثبوت النسخ بها ، فلا بد من الالتزام بأحد أمرين ، من حمل الرواية الناسخة على قطعي الصدور ، أو حمل النسخ على معناه اللغوي ، بمعنى رفع الظهور بالتخصيص والتقييد ، فمعنى نسخ السنة بالخبر ارتفاع ظهورها في العموم بتخصيصها بالخبر أو تقييدها به.

وعلى التقديرين تكون هذه الرواية أجنبية عن تعارض الخبرين الظني الصدور بالعموم من وجه أو التباين ، وترجيح المتأخر منهما كما هو واضح.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٩.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٧٤ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤.

٣٩٩

ثانيها وثالثها (١) : روايتان ، إحداهما : صحيحة ، ومضمونهما واحد ، وهو ان الإمام عليه‌السلام سأل الراوي ، فقال له : أرأيت ان حدثتك بشيء ، فحدثتك بخلافه من قابل ، فبأيهما تأخذ؟ قال : آخذ بالثاني. فقال عليه‌السلام : أصبت ، أبى الله ان يعبد إلّا سرا أو إلّا تقية.

ويرد على الاستدلال بهما ان موردهما سماع الحديثين من الإمام عليه‌السلام أي مقطوعي الصدور ، ومن الظاهر ان وظيفة السامع حينئذ ليس إلّا الأخذ بالثاني ، لأنه هو الحكم الواقعي الأولي إن كان الحديث الأول صادرا تقية ، أو واقعي ثانوي تقية ، فيجب الأخذ به أيضا ، لأن الإمام عليه‌السلام أعرف بوضع الوقت والزمان. كما أمر (٢) عليه‌السلام علي بن يقطين بالوضوء الصحيح في زمان ، وعلى وضوء القوم في زمان آخر ، ثم أرجعه إلى الوضوء الواقعي بعد ذلك ، لارتفاع التقية. وأي ربط لذلك بما إذا ورد إلينا خبران ظني الصدور ، فان احتمال التقية نسبته إلى كل منهما واحدة ، ولسنا فعلا في زمان التقية.

رابعها : رواية معلى بن خنيس يسأل الإمام عن حديثين ، يردا علينا من إمامين أو امام واحد في وقتين ، فبأيهما يؤخذ؟ فأمر عليه‌السلام بالأخذ بالسابق إلى أن يحكم الإمام الحي عليه‌السلام بخلافه فيؤخذ به ، ثم قال : انّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم (٣).

وهذه الرواية وان لم تختص بقطعي الصدور ، لأن المأخوذ فيها عنوان الحديث ، إلّا انه يرد عليه :

أولا : ضعف السند.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٧ و ١٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٣٢ من أبواب الوضوء ، ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٨.

٤٠٠