دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ظاهره حرمة ما هو خمر بالفعل ، لا ما كان خمرا سابقا. وكذا ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع ما لا يعلمون» (١) رفع المجهول بالفعل ، لا ما كان مجهولا.

ومن هذا القبيل دليل المنع عن نقض اليقين بالشك ، أو المضي على طبق اليقين السابق ، فانه ظاهر في أمرين ، أحدهما : في اعتبار فعلية اليقين والشك ، ثانيهما : اتحاد متعلقي اليقين والشك من جميع الجهات ليصدق عنوان النقض والمضي. ولا يمكن التحفظ على كلا الظهورين ، لاستحالة تعلق الصفتين الفعليتين بشيء واحد ، فلا بد من رفع اليد عن أحدهما. إلّا ان الإمام عليه‌السلام أسقط ظهوره في الاتحاد من جميع الجهات ، حيث طبقه عليه‌السلام في صحيحة زرارة على ما إذا تعلق اليقين بالحدوث ، والشك بالبقاء ، حيث سأل الإمام عليه‌السلام بقوله «فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم» فيبقى ظهوره في فعلية اليقين والشك على حاله ، فلا يعم قاعدة اليقين ، لزوال الصفة فيها حين تحقق الشك وثبوت التعبد.

ولا ينافي ما ذكرناه من ظهور الأدلة في اليقين الفعلي قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار «من كان على يقين فشك» لعدم دلالة هذا التعبير على المضي ، بل هو نظير ما ورد في التقليد من قوله عليه‌السلام «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه» (٢) مع اعتبار فعلية تلك الصفات في التقليد بلا إشكال. ولذا لو فرضنا أن أحدا تيقن بشيء كعدالة زيد ، ثم شك فيه حدوثا وبقاء ، لا يمكن استصحاب بقاء عدالته ، لعدم فعلية الموضوع ، وهو اليقين بالحدوث. فكما لا تعم الأدلة الاستصحاب في الفرض ، لعدم فعلية الموضوع ، لا تعم القاعدة أيضا.

وبعبارة أخرى : إذا تيقن أحد بطهارة ماء أو مائية مائع ، فتوضأ به وصلى ، ثم شك في ذلك حدوثا وبقاء ، فبناء على جريان قاعدة اليقين يفصل بين الأعمال

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١١ ـ باب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٧ باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ح ١٠ ص ١٣١ (ط. آل البيت).

٢٤١

السابقة التي أتى بها مع ذاك الوضوء في حال ثبوت اليقين ، وبين ما يريد ان يأتي به فعلا بعد حصول الشك ، فيحكم بصحة ما أتى به ، ولزوم الوضوء والتطهير لما يريد أن يأتي به. وذلك لأن قاعدة اليقين انما هي ناظرة الحدوث والتعبد بترتيب آثار اليقين حدوثا ، أي ما دام موجودا ، فلا يجب قضاء ذلك ، وليس لها نظر إلى مرحلة البقاء وحكم ما بعد الشك أصلا.

والاستصحاب أيضا غير جار ، لعدم فعلية اليقين. كما ان قاعدة الفراغ أيضا لا تجري في الوضوء وما هو من قبيله على ما سيتضح في محله. ولذا يفصل بين الأعمال كما عرفت. والسر في ذلك هو اعتبار فعلية اليقين. وعليه فلا مقتضي لشمول الأدلة لقاعدة اليقين أصلا.

وأما المانع : فهو انه يلزم من شمول الأدلة لهما عدم شموله كذلك ، وما يلزم من وجوده عدمه محال. وذلك لأن قاعدة اليقين ينافيها الاستصحاب في مورده إلّا نادرا. مثلا إذا تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ، ثم شك فيها حدوثا يوم السبت ، وقلنا بجريان قاعدة اليقين ، فمقتضاها التعبد بعدالته إلى يوم السبت ، مع ان مقتضى الاستصحاب عدم عدالته ، فان اليقين بالعدالة يوم الجمعة الزائلة مسبوق باليقين بعدم العدالة ولو أزلا ، فيجري فيه الاستصحاب ، إلّا في بعض الفروض النادرة ، التي لم يكن هناك يقين بالعدم سابقا حتى أزلا ، للعلم بتبدله. وهذا مانع عن شمول الأدلة لو فرض ثبوت المقتضي لهما.

ومن هنا نقول : شمول الأدلة للاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع أيضا ممنوع ، حتى مع قطع النّظر عما ذكرناه من عدم المقتضي لظهور الأدلة في اتحاد متعلق اليقين والشك ، المفقود في مورد القاعدة. وذلك لمعارضتها باستصحاب عدم تحقق المقتضى ـ بالفتح ـ كوصول الماء إلى البشرة إذا علم بالصب واحتمل وجود الحاجب.

٢٤٢

فظهر بما بينا عدم إمكان شمول الأدلة للقواعد الثلاثة. وعدم شموله للاستصحاب وقاعدة اليقين ، أو الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع ، بل مختص بالاستصحاب.

٢٤٣

تعارض الاستصحاب مع الأدلة

قد عرفت فيما سبق من التنبيهات ان اليقين في ما دل على المنع عن نقض اليقين بالشك يعم اليقين التعبدي ، كالأمارات المعتبرة شرعا ، فيجري الاستصحاب فيما إذا قامت على حدوث شيء ثم شك في بقائه ، ولو لم يحصل منها اليقين بالحدوث وجدانا.

والكلام في المقام في بيان المراد من اليقين المذكور في ذيل تلك الأخبار ، أعني قوله عليه‌السلام «وانّما تنقضه بيقين آخر» (١) فهل يعم قيام الأمارة على الانتقاض ، فيرفع بها اليد عن الاستصحاب ، وتتقدم عليه ، أم لا؟ أصل الحكم ، أي تقدم الأمارة على الاستصحاب ، مما لا ريب فيه.

وانما الإشكال في وجه تقدمها عليه ، وأنه بالتخصيص ، أو الحكومة ، أو الورود ، أو التخصيص؟ وجوه.

أمّا التخصيص فتقريبه : ان النسبة بين دليل الاستصحاب ودليل حجية كل من الأمارات وان كانت عموما من وجه ، لأن دليل الاستصحاب يعم ما إذا كان بخلافه أمارة أو لم يكن ، كما ان دليل اعتبار الأمارة مطلقة من حيث قيام الاستصحاب على خلافه وعدمه. إلّا أن هذه النسبة ثابتة بين دليل حجية الأمارات ودليل الأصل العملي مطلقا ، وتقديمه عليها يستلزم عدم بقاء مورد لها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٢٤٤

أصلا ، إذ لا مورد لقيام الأمارة على حكم إلزاميّ الا وهو مورد لأصل عملي من براءة أو استصحاب. كما ان تقديم الاستصحاب عليها يستلزم تخصيصه بأفراد نادرة ، لجريان الاستصحاب في أغلب موارد قيامها على حكم إلزاميّ ، لأنه مسبوق بالعدم ولو أزلا ، وهذا التخصيص مستهجن ، فلا يمكن الالتزام به ، فلا بد من تخصيص دليل الاستصحاب بأدلة اعتبار الأمارة.

وفيه : أولا : ان أخبار الاستصحاب آبية عن التخصيص ، لأن المنع عن نقض اليقين بالشك إرشادي إلى ما استقل به العقل من عدم رفع اليد عن الأمر المبرم ، بغير المبرم وهو غير قابل للتخصيص ، خصوصا إذا كان الإرشاد بهذا اللسان ، أي بقوله عليه‌السلام «لا ينبغي لك ، أو ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك» (١) فهذا يؤكد إباءها عن التخصيص.

وثانيا : ان التخصيص يتوقف على بطلان الحكومة والورود ، وإلّا فلا مجال للتخصيص أصلا ، وذلك لأن التخصيص عبارة عن رفع الحكم عن الموضوع ، فهو متفرع على ثبوت الموضوع ، والورود أو الحكومة ينفيان ثبوته ، ومعه لا مجال للتخصيص ، وستعرف تمامية الحكومة.

وأما الورود ، فيقرب من وجوه ثلاثة ، كلها تحمله من كلام الآخوند في الكفاية :

الأول : ان اليقين في قوله «ولكن انقضه بيقين مثله» طريقي ، بمعنى أنه أخذ بما أنه طريق وحجة على الواقع ، لا بما هو صفة ، وانما جيء به دون غيره من الطرق لكونه أظهر افرادها ، فالمراد به مطلق الطريق.

فيتعدى عنه إلى غيره من الحجج. فهو نظير أن يقول المولى : أكرم زيدا ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٣ باب ٣٧.

٢٤٥

وعلمنا بأن وجوب إكرامه ليس لخصوصيته ، وانما هو لكونه عالما ، فيتعدى منه إلى غيره من العلماء.

وفيه : انه وإن أمكن ثبوتا أخذ اليقين في الدليل بما هو طريق ، فيتعدى ، إلّا أنه يحتمل أخذه طريقيا لا موضوعيا ، لكن لا بما أنه طريق تعبدي ، بل بما انه صفة أي أقوى الطرق وكاشفيته ذاتية ، وظهور الدليل في مرحلة الإثبات يعين الثاني ، أي أخذه طريقيا بما أنه طريق خاص ، وإلغاء الخصوصية يحتاج إلى دليل.

الثاني : التمسك بصدر الأخبار كقوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» بدعوى : ان الممنوع وما تعلق به النهي هو نقض اليقين بالشك ، أي رفع اليد عن اليقين لمجرد احتمال الخلاف ، فلا يعم موارد قيام الأمارة على الخلاف ، لأن رفع اليد عن اليقين فيها ليس نقضا لليقين بالشك ، بل هو من نقض اليقين بالحجة. وهذا الوجه أنسب مع ما في الكفاية.

وفيه : ان «لا تنقض اليقين بالشك» ليس ناظرا إلى الدواعي ، وليس الممنوع عنه خصوص نقض اليقين بداعي الشك وبسببه ، وإلّا لزم عدم صدقه فيما إذا رفع اليد عن اليقين بداعي إجابة التماس مؤمن ، أو داعي آخر ، ولم يكن لمجرد الشك ، مع وضوح فساده ، بل النهي انما هو عن نقض اليقين بغير اليقين مطلقا ، كما يظهر من ذيل الأخبار كقوله عليه‌السلام «لكن انقضه بيقين مثله».

وبالجملة المراد بالنهي عن نقض اليقين بالشك هو رفع اليد عن اليقين في ظرف الشك بأي داع كان. ويشهد له حصر الإمام عليه‌السلام ناقض اليقين باليقين في قوله عليه‌السلام «ولكن تنقضه بيقين مثله» وغيره هو الشك ، لأنه خلاف اليقين ، فلا يكون ناقضا لليقين.

الثالث : ان المراد باليقين وان كان خصوص الصفة الخاصة لا مطلق الطرق ، إلّا ان في مورد قيام الحجة على الخلاف يكون نقض اليقين السابق باليقين بحجية

٢٤٦

الأمارة ، فيكون مصداقا لنقض اليقين باليقين لا بالشك.

توضيحه : ان كل حجة لا بد وان تنتهي إلى اليقين ، الّذي حجيته ذاتية ، وإلّا لتسلسل ، فالأمارة وان لم تكن موجبة لليقين بمؤداها ، إلّا ان حجيتها متيقنة ، وإلّا لم يمكن الاجتزاء بها مؤمنا. وعليه فالناقض لليقين السابق ، يكون هو اليقين بحجيتها.

وفيه : ان الناقض لليقين السابق لا بد وان يكون اليقين المتعلق بارتفاعه ، لا اليقين بشيء آخر أجنبي عنه ، فانه يستحيل ان يكون ناقضا له.

وبالجملة اليقين بحجية الأمارة وإن كان ثابتا ، إلّا ان حجية الاستصحاب متيقنة ، ولا وجه لرفع اليد عن إحدى الحجتين بالأخرى بلا مرجح. فكل هذه الوجوه الثلاثة في تقريب الورود فاسدة.

فالصحيح : ان الوجه في تقدم الأمارات على الاستصحاب هو الحكومة. توضيحه : ان انتفاء الحكم العام عن بعض الأفراد تارة : يكون من جهة كون أحد الدليلين رافعا عن الآخر بعض أفراد موضوعه ، من دون أن يكون نافيا لموضوعه ، كقوله عليه‌السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» (١) بالنسبة إلى قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) وهذا هو التخصيص الشائع المتعارف حتى قيل : ما من عام إلّا وقد خص. وأخرى : يكون انتفاء الحكم عن فرد من جهة خروجه عن الموضوع تكوينا ، من دون حاجة إلى التعبد ، وهو التخصص. وبينهما أمران : أحدهما الورود ، والآخر الحكومة. وهما وسطان بين التخصيص الّذي ليس ناظرا إلى نفي الموضوع أصلا ، والتخصص الّذي يكون انتفاء الموضوع فيه تكوينيا من غير حاجة إلى التعبد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، ح ٣.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٢٤٧

وتوضيح الفرق بينهما ان في موارد التعبد يتحقق أمران : أحدهما : نفس التعبد ، فانه يوجد بوجود تكويني خارجي ، ثانيهما : المتعبد به ، فانه يثبت بثبوت تعبدي ، وهذا هو الشأن في جميع الأمور التعلقية ، كالفرض والتنزيل ونحوه ، فإذا تحقق التنزيل في الخارج فنفس التنزيل يوجد بوجود تكويني ، ويثبت المنزل بوجود تنزيلي ، وهكذا في الفرض. وبين وجود التعبد وثبوت المتعبد به وان كان ملازمة ، إلّا انه يمكن الفرق بين الحيثيتين ، فان كان انتفاء موضوع الدليل الآخر من حيث ثبوت نفس التعبد كان واردا عليه. وإن كان بلحاظ ثبوت المتعبد به كان حاكما عليه.

والأول : كتقدم الأمارات على الأصول العملية العقلية في البراءة العقلية ، والاشتغال والتخيير العقليين. وذلك لأن موضوع قبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان ، وموضوع الاشتغال العقلي احتمال الضرر ، وموضوع التخيير التحير في مقام اللابدية من الفعل والترك ، وعدم إمكان الجمع بينهما ، لاستلزامه اجتماع النقيضين ، مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، وعدم مرجح في البين. فإذا تعبدنا الشارع بالفعل أو الترك مثلا ، فبنفس التعبد يكون بيانا ومؤمنا من الضرر ، ورافعا للتحير ، ومرجحا في مقام العمل.

والثاني : كتقدم الأمارات على الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ، فان موضوعها الشك ، وهو ينتفي تعبدا بلحاظ ثبوت مؤدى الأمارة.

توضيحه : انّ كل قضية ، سواء كانت خبرية أو إنشائية لا تتكفل إثبات موضوعها ، بل مفادها ثبوت الحكم على الموضوعات المفروضة ، مثلا قوله : الخمر حرام لا يثبت ان المائع المشكوك خمر أو ليس بخمر ، وانما يثبت الحرمة على الخمر الواقعي ، فإذا كان هناك دليل آخر ينفي الموضوع ، أي ذاك التقدير تعبدا ،

٢٤٨

لا يكون بينهما منافاة وتناقض أصلا ، لأن ما يثبته الدليل الأول وهو الحكم لا ينفيه هذا ، وما ينفيه هذا وهو الموضوع لم يكن ذاك مثبتا له ، كما في قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) وقوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» فان الرّبا بين الزيادة وان كانت موجودة بينهما وجدانا ، إلّا أن الشارع نفاها تعبدا. وكذا قوله عليه‌السلام «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه» (٢) مع أدلة الشكوك إلى غير ذلك. وفي الموضوعات كما إذا أخبرت البينة بنجاسة إناء زيد ، وأخبرت بينة أخرى بان هذا ليس بإنائه ، فلا تهافت بين البينتين ، ولذا إذا حكم الإمام عليه‌السلام بوجوب الصلاة عند طلوع الفجر مثلا ، فأخبرت البينة بعدم طلوع الفجر ، لم تكن البينة مخالفة لحكم الإمام عليه‌السلام. فالميزان في الحكومة ان يكون الدليل نافيا لموضوع الدليل الآخر تعبدا بحيث لم يكن بينهما تهافت.

وعليه ففي ما نحن فيه دليل الاستصحاب وهو لا تنقض اليقين بالشك انما هو متكفل لحرمة النقض على تقدير تحقق موضوعه أعني اليقين والشك ، وأما إثبات الشك في مورد دون آخر فهو خارج عن مدلوله ، ولا يكون متكفلا له. ودليل الأمارة ينفي الشك واحتمال الخلاف تعبدا في مورد قيام الأمارة ، فلا تنافي بينهما ، بل يكون دليل الأمارة حاكما على دليل الأصل ، ورافعا لموضوعه تعبدا ، وهذا من غير فرق بين كون الأمارة مخالفة في المؤدى مع الاستصحاب ، أو موافقة معه ، لعدم بقاء موضوع الاستصحاب معها.

فلا وجه لما في الكفاية من لزوم اعتبار الاستصحاب حينئذ مع الأمارة على طبقه (٣). والظاهر أنه ناظر إلى ما ذكره الشيخ في وجه حكومة الأمارة على

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ٢٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٨.

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٥٠.

٢٤٩

الاستصحاب من أن الأمارة تلغي احتمال الخلاف (١) فكأنّ صاحب الكفاية تخيل ان مراده إلغاء احتمال بقاء الحالة السابقة ، فأشكل عليه بأنه عليه لا بد من العمل بالاستصحاب إذا كانت الأمارة موافقة معه ، لأنها حينئذ لا تلغي احتمال الخلاف. وغفل عن أن مراد الشيخ إلغاء الشك واحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، وهذا ثابت في الأمارة الموافقة مع الاستصحاب ، والمخالفة له.

ثم انه ربما يتوهم ان الحكومة المذكورة انما تتم على المسلك المعروف في الفرق بين الأمارة والأصل من تقيد موضوع الأصل بالجهل والشك ، دون الأمارة ، فانها مطلقة تعم مورد الأصل ، فتكون حاكمة عليه. ولا تتم على المختار من عدم الفرق بينهما من هذه الجهة ، وتقيد موضوع الأمارة بالجهل أيضا ، لاستحالة الإهمال ، واستحالة شمول دليل حجيتها للعالم بالواقع أو اختصاصها به ، فلا محالة تختص بالجاهل.

ولكنه توهم فاسد ، وذلك لأن أدلة الأمارة غالبا مطلقة من هذه الجهة ، إلّا قوله سبحانه وتعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) وانما قيدناها بحكم العقل باستحالة شمولها للعالم ، فلا بد في التقييد من الاقتصار على ما يستقل العقل بعدم إمكان حجية الأمارة فيه ، وهو ما إذا كان الإنسان متيقنا وجدانا ، وأما في غيره ولو كان مورد الاستصحاب فإطلاق الأدلة شاملة ، فالأمارة تكون حجة ولو كانت مخالفة للاستصحاب.

وأما الاستصحاب فقد أخذ فيه الشك بقول مطلق في لسان الدليل على ما هو ظاهر إطلاقه ، لا خصوص الشك الوجداني ، والشك بقول مطلق ينافيه اليقين التعبدي ، فينتفي بدليل الأمارة ، لأنه ينفي الشك تعبدا ، فلا يبقى معها الشك

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٠٤ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) النحل : ٤٣. الأنبياء : ٧.

٢٥٠

بقول مطلق ، الّذي كان موضوعا للاستصحاب ، فالحكومة ثابتة على كلا المسلكين ، وتمام الكلام في الحكومة موكول إلى محله من بحث التعادل والتراجيح.

والحاصل : الكلام في تعارض الاستصحاب مع الأدلة يقع في جهات :

الأولى : في تعارضه مع الأمارات. وقد عرفت تقدمها عليه للحكومة ، لا للورود ولا بالتخصص ، وذلك لارتفاع موضوع الاستصحاب بقيام الأمارة تعبدا. وهذا من غير فرق بين موافقتهما في المؤدى ، ومخالفتهما. وما في الكفاية من توهم اختصاص الحكومة بصورة المخالفة ناش من تعبير الشيخ في الرسائل ، وهو فاسد ، لأن ملاك الحكومة وهو ارتفاع موضوع الاستصحاب تعبدا ثابت في كلا الفرضين.

الثانية : في تعارض الاستصحاب مع سائر الأصول العملية من البراءة والاحتياط والتخيير. ولا إشكال في تقدمه عليها. أما تقدمه على الأصول العملية العقلية ، فهو بالورود ، فانه بمجرد جريان الاستصحاب ينتفي موضوع البراءة العقلية ، وهو عدم البيان ، وموضوع الاحتياط العقلي كما في أطراف العلم الإجمالي ، وموضوع التخيير العقلي وهو التحير كما في دوران الأمر بين المحذورين ، فإذا جرى الاستصحاب في بعض الأطراف انتفى ذلك كما تقدم تفصيله.

وأما تقدمه على الأصول الشرعية من حديث الرفع ، والاحتياط الشرعي لو قلنا به في مورد ، أو التخيير كذلك ، فهو بالحكومة بعين البيان المتقدم في تقدم الأمارات على الاستصحاب ، فانّ الاستصحاب أيضا أمارة غايته في طول سائر الأمارة ، وحيث لا أمارة ، وليست الأمارات في عرض واحد كما تقدم ، فبعين البيان المزبور يتقدم الاستصحاب على الأصول الشرعية.

الثالثة : في تعارض الاستصحابين ، وتعارضه مع بعض القواعد الأخر.

٢٥١

أما في تعارض الاستصحابين ، فنقول مقدمة : ان التنافي بين الدليلين ، تارة : يكون في أنفسهما مع قطع النّظر عن عجز المكلف عن امتثالهما ، أي في مقام الجعل ، فيكونان متعارضين ، سواء كان تعارضهما بالذات ، لاستلزام جعلهما اجتماع النقيضين ، أو الضدين ، كجعل الحكم بشيء وعدمه ، أو جعل وجوب شيء وحرمته ، أو بالعرض كما في جعل الوجوب للظهر أو الجمعة ، فانه يعلم إجمالا بكذب أحدهما مع عدم التنافي بينهما ذاتا. وفي مثله يرجع إلى مرجحات باب التعارض.

وأخرى : يكون التنافي بين الدليلين من جهة عجز المكلف عن امتثال كلا الحكمين ، كوجوب الصلاة والإزالة ، فانه لا مانع من جعلهما إلّا من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثالهما. ولا بد فيه من الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم من الأهمية ، وكون أحدهما ذا بدل ، وأخذ القدرة فيه شرعا ، إلى غير ذلك.

وعليه فالاستصحابان المتنافيان أيضا يجري فيهما القسمان. فان تنافيهما قد يكون لعجز المكلف عن امتثال كلا التعبدين ، كما في استصحاب وجوب الصلاة والإزالة المتزاحمين.

وتوهم : عدم جريان التزاحم ومرجحاته في الاستصحابين ، لأن دليلهما واحد ، ونسبته إليهما على حد سواء ، فلا معنى للترجيح.

مدفوع : بأن التزاحم انما هو بين الحكمين ، هو بأهمية أحد المتيقنين ، ولا عبرة باليقينين ، ولا بالدليل الواحد ، فكما ان وجوب الإزالة المتيقنة كانت أهم من وجوب الصلاة في فرض العلم به وجدانا ، فكذلك إذا ثبتا بالتعبد الاستصحابي.

وبعبارة أخرى : دليل الاستصحاب وان كان واحدا إلّا انه انحلالي ، ينحل لبا إلى أحكام عديدة ، فالأهم منهما يكون أرجح ، فالتزاحم معقول في الاستصحابين إذا لم يتمكن المكلف من امتثالهما.

٢٥٢

وأما تعارض الاستصحابين وتنافيهما في مرحلة الجعل ، فتارة : يكون أحد الشكين فيهما مسببا عن الشك في الآخر. وليس المراد السببية التكوينية ، فان مجرد كون أحد الشكين معلولا عن الآخر ومسببا عنه لا ينافي شمول الدليل لهما عرضا ، فلا تتم الحكومة ، بل المراد بها السببية الشرعية ، بأن يكون أحد المشكوكين أثرا شرعيا للآخر ، أي يكون أحدهما موضوعا والآخر حكمه ، ففي مثله مع جريان الأصل السببي لا يبقى مجال للأصل المسببي ، مثلا في القضايا الحقيقية كقوله : الخمر حرام ، إذا شك في خمرية مائع ، فلا محالة يشك في حرمته ، إلّا أن المشكوك الأول موضوع للمشكوك الثاني ، فإذا جرى استصحاب خمريته وتعبدنا الشارع بذلك لا محالة كانت الصغرى محرزة تعبدا ، فيترتب عليه حكمه ، وليس فيه شك بالتعبد الشرعي ليجري فيه الأصل. وكذا في الثوب المتنجس المغسول بماء مشكوك الطهارة ، فان المستفاد من الأدلة ان الحكم بطهارة الثوب مترتب شرعا على غسله بماء طاهر ، ولذا يكون الشك في طهارة الماء سببا للشك في طهارة الثوب المغسول به ، إلّا ان غسل الثوب بالماء محرز بالوجدان ، وكون الماء طاهر محرز بالأصل والتعبد ، فبضم الوجدان بالأصل يتم الموضوع ، ويترتب عليه حكمه ، وهو طهارة المغسول تعبدا ، فلا يشك فيه ليكون موردا للأصل.

وعليه فإذا فرضنا أن مورد أحد الاستصحابين كان هو الموضوع ، ومورد الآخر حكمه ، جرى الاستصحاب في الموضوع ، ولا مجال معه للاستصحاب في الحكم.

ثم انه ربما يتوهم ان الشك في حكم لحم الحيوان ، والشك في جواز الصلاة في اجزائه ، يكون من هذا القبيل ، فإذا جرى أصالة الحل في اللحم أو في الحيوان ترتب عليه حكمه ، وهو جواز الصلاة فيه.

وهو فاسد ، وذلك لأن أصالة الحل مفادها الترخيص الظاهري ، وجواز

٢٥٣

الصلاة في اجزاء الحيوان مترتب على حليته ذاتا وبطبعه. كما ان عدم جواز الصلاة فيها أيضا مترتب على حرمة أكله ذاتا وفي طبعه ، فإذا أحلّ الحيوان المحرم لضرورة أو تقية أو مخمصة لم يجز في اجزائه الصلاة. كذلك إذا حرم المحلل بالعرض لنذر أو ضرر أو صوم ونحو ذلك.

وبالجملة فجواز الصلاة في أجزاء الحيوان حكم مترتب على حلية أكله في نفسه لا لعارض ، ولو للترخيص الظاهري المستفاد من الأصل.

نعم ربما تستفاد الحلية الذاتيّة الطبعية من الأصل المحرز أحيانا ، كما إذا احتمل الجلل في حيوان ، فان استصحاب عدم الجلل يثبت حليته ذاتا فيترتب عليه جواز الصلاة في اجزائه ، وهذا بخلاف أصالة الحل كما هو ظاهر.

وبالجملة التنافي بين الاستصحابين قد يكون من باب التعارض. وقد يكون من باب التزاحم. فانهما كما يجريان في الأحكام الواقعية يجريان في الأحكام الظاهرية أيضا. وفي مورد التعارض يرجع إلى مرجحات باب المعارضة من أقوائية أحد الدليلين. وفي مورد التزاحم لا يرجع إلى ذلك ، بل يرجع إلى مرجحات باب التزاحم من الأهمية ونحوها.

والسر في ذلك انه في فرض التعارض يكون التنافي في ثبوت الحكمين المدلولين للدليلين لموضوع واحد أو ما في حكمه ، كما إذا دل دليل على وجوب شيء ، ودليل آخر على حرمته أو عدم وجوبه ، فان ثبوتهما معا مستلزم لاجتماع الضدين أو النقيضين ، وهو مستحيل ، فالتنافي يكون بين نفس الحكمين. وأما في التزاحم فلا تنافي بين ثبوت الحكمين والدليلين أصلا ، وانما التنافي بين موضوعيهما ، فان القدرة مأخوذة في موضوع كل من الحكمين ، اما شرعا واما عقلا ، وصرف القدرة في كل منهما ينافي صرفها في الآخر ، فالتنافي يكون بين فعلية الموضوعين ، فان فعلية كل منهما يستلزم عدم فعلية الآخر ، وانتفاء حكمه حينئذ

٢٥٤

يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مجال فيه للرجوع إلى مرجحات الدليل ، كما كان في باب التعارض. وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله.

وكيف كان إذا كان التنافي بين الاستصحابين من باب التزاحم يرجع إلى مرجحاته. وإن كان من باب التعارض ، فان كان هناك بينهما سببية شرعية لا تكوينية ، فان ثبوت الحكم الظاهر بدليل واحد للعلة والمعلول في عرض واحد كالحكم الواقعي ممكن ، والمراد بالسببية الشرعية كما تقدم كون أحد المشكوكين حكما شرعيا للمشكوك الآخر ، فحينئذ يكون الأصل السببي ولو لم يكن محرزا حاكما على الأصل المسببي ، كما في الثوب المغسول بالماء المشكوك طهارته ، فان أصالة الطهارة في الماء يكون حاكما على استصحاب نجاسة الثوب وان لم تكن محرزا ناظرة إلى الواقع.

وذلك لأن التعبد بطهارة الماء ظاهرا عبارة أخرى عن التعبد بآثاره ، ومن آثاره طهارة المغسول به ، فمعه لا يبقى شك في المغسول لتستصحب نجاسته. وكذا في الأصل المحرز كالاستصحاب.

نعم لا بد في ذلك من كون المشكوك الثاني مترتبا على المشكوك الأول ، ولو بوجوده الظاهري. وأما إذا كان مترتبا على الحكم بوجوده الشأني الطبعي ، كجواز الصلاة في اجزاء ما يؤكل لحمه ، فلا يترتب على الحلية الفعلية الثابتة بأصالة الحل.

نعم قد تثبت الحلية الشأنية بالاستصحاب كما في الجلل. هذا كله في فرض تحقق السببية الشرعية بين الاستصحابين.

وأما إذا لم يكن بينهما سببية ، فان كان هناك حكم إلزاميّ معلوم بالإجمال كان جريان كلا الاستصحابين منافيا معه ، كما إذا علمنا بطرو النجاسة على أحد الإناءين المعلوم طهارتهما ، فان استصحاب الطهارة في كليهما مخالف للإلزام المعلوم

٢٥٥

في البين إجمالا أي نجاسة أحدهما ، وفي هذا الفرض يسقطان معا ، لما تقدم من ان جريانهما معا مستلزم للمخالفة القطعية ، وفي أحد الطرفين معينا ترجيح بلا مرجح ، وفي أحدهما لا بعينه مخيرا وان كان ممكنا إلّا انه يحتاج إلى دليل آخر وهو مفقود ، فيسقطان معا.

وأما إذا لم يكن إلزام معلوم بالإجمال ليخالفه جريان الاستصحابين ، كما إذا علم إجمالا بطروء الطهارة على أحد الإناءين المعلوم نجاستهما ، فانه ليس هناك حكم إلزاميّ معلوم بالإجمال يكون استصحاب النجاسة في كليهما منافيا له ، فليس في البين إلّا مخالفة التزامية ، والعلم بمخالفة أحد الأصلين للواقع.

وفي هذا الفرض لو كان الأصلان غير محرزين لا مانع من جريانهما. وأما ان كانا محرزين ففي جريانهما وعدمه خلاف. ظاهر الكفاية (١) هو الجريان ، ومنع الميرزا (٢) تبعا للشيخ (٣) عن ذلك.

وتظهر الثمرة ، بعد وجوب الاجتناب عن الطرفين على كلا المسلكين للعلم الإجمالي ، في ملاقي أحد الطرفين ، فانه على مسلك الشيخ لا يجب الاجتناب عنه ، لأنه ملاقي بعض أطراف الشبهة. وعلى المسلك الآخر يجب ، لأنه ملاقي لما حكم بنجاسته تعبدا. فلا بد من البحث في ان دليل الاستصحاب هل يعم كلا الطرفين أو لا؟

وبالجملة مجرد العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع يمنع عن جريانهما أم لا؟ وقع الخلاف في ذلك بين الاعلام. فذهب الشيخ وتبعه الميرزا إلى الأول ، والآخوند إلى الثاني.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٥٦.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٩٩.

(٣) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٤٣ (ط. جامعة المدرسين).

٢٥٦

واستدل عليه الشيخ بإجمال الدليل ، فانه ان لاحظنا كلا من الطرفين بخصوصه ، كالإناء الشرقي مثلا أو الإناء الغربي ، يكون مشكوك النجاسة بعد اليقين بنجاسته سابقا ، ومقتضى إطلاق صدر الأدلة أي قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» جريان الاستصحاب. وان لاحظنا العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في الجملة وطهارة أحدهما ، لا بد من رفع اليد عن الحالة السابقة ، وعدم جريان الاستصحاب في واحد منهما ، لإطلاق ذيلها ، وهو قوله عليه‌السلام «ولكن تنقضه بيقين مثله» فانه يعم اليقين الإجمالي. ولا يمكن الجمع بين الأمرين ، لأن السالبة الجزئية تناقض الموجبة الكلية ، أي جريان الاستصحاب في كلا الطرفين يناقضه عدم جريانه في واحد منهما ، فيدور الأمر بينهما ، وبما أنه لا مرجح لأحد الإطلاقين ، يكون الدليل مجملا ، لا يمكن الأخذ بشيء منهما (١).

وفيه : أولا : انه لا إجمال في الدليل ، لظهور اليقين في ذيل الحديث في اليقين التفصيليّ ، وذلك لأن الناقض لكل يقين لا بد وان يكون اليقين المتعلق بما تعلق به اليقين السابق ، لا المتعلق بغيره ، فظاهر قوله (انقضه بيقين مثله) هو اليقين المتعلق بعين ما تعلق به اليقين الأول.

وفي محل الكلام اليقين الإجمالي لم يتعلق بما تعلق به اليقين التفصيليّ ، فان اليقين التفصيليّ كان متعلقا بنجاسة كل من الإناءين بخصوصه ، ولم يتعلق به يقين على خلاف تلك الحالة ، وما تعلق به اليقين الإجمالي هو طهارة أحدهما ، فمتعلقه ليس إناء خاص ، ولو كان الطاهر الواقعي أحدهما المعين عند الله تعالى ، فان العلم حقيقته الانكشاف ، ولم ينكشف سوى طهارة أحد الإناءين ، فضلا عما لم يكن كذلك ، بان كانا معا طاهرين ، فلا يمكن ان يكون اليقين الإجمالي بالطهارة ناقضا لليقين التفصيليّ بنجاسة كل منهما ، فيعمه صدر الأدلة دون ذيلها.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٤٤ ـ ٧٤٥ (ط. جامعة المدرسين).

٢٥٧

وثانيا : لو تنزلنا عن ذلك ، وبنينا على ان إطلاق اليقين يعم الإجمالي ، يرد عليه ما في الكفاية من ان دليل الاستصحاب غير منحصر بما هو مشتمل على هذا الدليل ، بل بعضها غير مشتمل عليه ، فيتمسك بإطلاقها. وإجمال ما هو مقيد بالذيل لا يوجب رفع اليد عن إطلاق المطلق منهما ، لأن الإجمال معناه عدم الدلالة على الإطلاق ، لا الدلالة على عدمه ، كما هو واضح. فالمانع الإثباتي مفقود في المقام.

ولذا جعل الميرزا قدس‌سره المانع ثبوتيا ، وحاصل ما ذكره : ان الأصول التي يعلم بمخالفة بعضها للواقع ان كانت غير محرزة ، بأن لم تكن ناظرة إلى الواقع ، بل كانت وظائف عملية للشاك ، كالاحتياط الشرعي في الأعراض والأموال مثلا ، لا مانع من جريانها ، فإذا علم إجمالا بأن إحدى المرأتين محرم له ، ويجوز له النّظر إليها ، والأخرى أجنبية ، لا مانع من جريان أصالة الاحتياط فيهما معا ، إذ لا مانع من ان يلزم الشارع ظاهرا بترك مباح واقعي تحفظا على عدم وقوع المكلف في الحرام الواقعي. وأما ان كانت من الأصول المحرزة الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب ، فيستحيل جريانها مع العلم بمخالفة بعضها للواقع ، فكيف يعبد الشارع من يعلم وجدانا طهارة أحد الإناءين بأنه عالم بنجاستهما تعبدا. ونظيره ما إذا قامت أمارة كالبينة على طهارة أحدهما ، فانه حينئذ لا يمكن جريان استصحاب النجاسة في كليهما ، إذ لازمه ان يعتبره الشارع عالما بالنجاسة وبالطهارة ، وهو كما ترى.

ويرد عليه : أولا : النقض بما إذا كان المكلف جنبا فصلى ، ثم شك في انه اغتسل قبلها أو صلى جنبا ، فانه يجري قاعدة الفراغ في صلاته ، ويحكم بصحتها ، واستصحاب بقاء جنابته بالإضافة إلى سائر أعماله المشروطة بالطهارة ، كاللبث في المساجد ومس المصحف ونحو ذلك ، مع العلم بمخالفة أحد الأصلين المحرزين

٢٥٨

للواقع ، فانه ان كانت صلاته مع الطهارة فقد ارتفع حدثه ، وإلّا فصلاته فاسدة.

وثانيا : بالحل ، وهو أن مورد التعبد ان كان مجموع الطرفين أو الأطراف ، كالتعبد بنجاسة كلا الإناءين معا من حيث المجموع ، كان ذلك مستحيلا ، لكونه مخالفا للعلم الوجداني. إلّا ان استحالته غير مختصة بما إذا كان التعبد بالأصل المحرز ، بل يستحيل ذلك ولو كان بالأصل غير المحرز ، فيستحيل التعبد بحرمة النّظر إلى مجموع المرأتين ، المعلوم كون إحداهما من المحارم ولو بأصالة الاحتياط ، وذلك للعلم التفصيليّ بمخالفتها للواقع ، فلا موضوع للأصل ، إذ لا شك في حرمة مجموع الأمرين. ولا يحتمل مطابقة الأصل الجاري فيه للواقع أصلا ، ويعتبر في جريانه احتمال مطابقته للواقع ، وإلّا فلا يتحقق موضوع الأصل وهو الشك.

وأما ان كان مورد التبعد كل من الطرفين في نفسه ، فلا مانع منه ، ولو كان بالأصل المحرز كالاستصحاب ، لتمامية أركانه في كل من الطرفين ، وهو الشك في بقاء نجاسته. والعلم الإجمالي بطهارة أحدهما لا ينافي الاستصحاب فيهما ، بل هو منشأ الشك في بقاء نجاستهما كما هو ظاهر.

فلا فرق من هذه الجهة بين الأصول المحرزة وغير المحرزة.

ومن الغريب ان الشيخ والميرزا قدس‌سرهما مع منعهما عن جريان الأصول المحرزة في مورد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في الجملة ، التزموا بجريانها في المتلازمين من حيث الحكم مع مخالفة مؤدى كل منهما مع الآخر (١) ، كما فيما لو توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، فانهما ذهبا إلى جريان استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، مع ثبوت الملازمة بين طهارة الأعضاء وارتفاع الحدث ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٤٦ (ط. جامعة المدرسين). أجود التقريرات : ٢ ـ ٥٠٠.

٢٥٩

وكذلك العكس ، وإلى الآن لم نفهم الوجه في ذلك مع ان الملازمة ثابتة في كلا المقامين ، أي مورد الملازمة كالمثال وما نحن فيه ، غاية الأمر الملازمة فيما نحن فيه تكون بالعرض ، وفي المثال بالذات.

فالإنصاف أنه ليس لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مانع إثباتي ، ولا ثبوتي ما لم يستلزم المخالفة العملية.

نعم إذا علم من الخارج ثبوت الملازمة بين الموردين حتى من حيث الحكم الظاهري ، لا مجال لجريان الأصلين ، كما في الماء المتمم كرا إذا فرضنا عدم استفادة نجاسته مع دليل تنجس الماء القليل ولا عاصميته من دليل عدم تحمل الكر خبثا ، ووصلت النوبة إلى الأصل ، لا يمكن استصحاب نجاسة المتمم ـ بالفتح ـ وطهارة المتمم ، فيحكم بنجاسة الطرف الأسفل وطهارة الطرف الأعلى مثلا ، للإجماع على ان الماء الواحد لا يكون محكوما بحكمين مختلفين حتى ظاهرا.

الرابعة تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ وأصالة الصحة :

بقي الكلام في معارضة الاستصحاب مع قاعدة الفراغ وأصالة الصحة. فان بناء العقلاء جار على البناء على الصحة فيما إذا شك بعد الفراغ عن العمل الصادر عن الملتفت في صحته وفساده. وإذا كان جاريا في فعل الغير عبر عنه بأصالة الصحة. وإن كان في فعل نفس الإنسان عبر عنه بقاعدة التجاوز أو الفراغ.

ويقع الكلام في وجه تقدمها على الاستصحاب ، وهو أنه بناء على ما هو الظاهر من كون قاعدة الفراغ من الأمارات الناظرة إلى الواقع ، الكاشفة عن تمامية العمل المأتي به واقعا ، فان الإخلال العمدي بشيء مما اعتبر به خلف ، إذ الشخص الملتفت إذا شرع في عمل مركب بانيا على إتمامه لا يخل بشيء من اجزائه وشرائطه متعمدا. والإخلال السهوي الناشئ عن الغفلة والاشتباه مدفوع بأصالة عدم

٢٦٠