دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

فالصحيح جريان استصحاب الكلي في هذا القسم ، غاية الأمر إذا كان له معارض يسقط بالمعارضة ، وإلّا ترتب عليه الأثر كما ذكرنا.

ثم انه قد يورد على الاستصحاب في أمثال هذه الموارد بأنه مبني على التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وذلك لأن عنوان أدلة الاستصحاب انما هو نقض اليقين بالشك ، فيختص بما إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة مصداقا لذاك العنوان ولا يعم غيره. وفي المقام يعلم بزوال الذات المتيقن تحققها أولا. وأما العنوان المتيقن ثبوته ثانيا ، فهو وان لم يكن متيقن الارتفاع ، إلّا أنه قابل الانطباق على المتيقن الأول وعلى غيره ، فان كان منطبقا عليه كان رفع اليد عنه من نقض اليقين باليقين لا بالشك ، لأن ارتفاعه كان معلوما على الفرض ، وإن كان منطبقا على فرد آخر غيره فرفع اليد عنه من نقض اليقين بالشك ، حيث لم يحرز الثاني ، فالتمسك بأدلة الاستصحاب يكون من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهو فاسد كما بين في محله.

والجواب عنه ان العنوان الّذي تعلق به اليقين أعني وجود المتكلم في المثال إنما يحتمل انطباقه على ذات المتيقن الأول ، أي الّذي علم زواله ، لا بما أنه متيقن ليكون اليقين بالعنوان منتقضا باليقين بارتفاع الذات. كما ان المستصحب ليس بقاء نفس الذات كوجود زيد في المثال ، بل بما أنه متكلم ، وارتفاع المتيقن بهذا العنوان مشكوك بالوجدان ، فكيف يكون جريان الاستصحاب فيه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، بل تستحيل الشبهة المصداقية في الصفات النفسانيّة بأن لا يدري الإنسان أنه شاك في شيء أو عالم به. ومن هنا قلنا لا يتحقق لأدلة الأصول العملية شبهة مصداقية أصلا. فأركان الاستصحاب فيما نحن فيه تامة ، وهي اليقين بوجود المتكلم في الدار ، والشك في بقائه ، فيجري فيه الاستصحاب. غايته قد يسقط بالمعارضة كما بيناه. فأقسام استصحاب الكلي أربعة.

١٢١

التنبيه الخامس : استصحاب الزمان والأمور التدريجية.

والبحث عن جريان الاستصحاب يقع في مقامين :

المقام الأول : في نفس الزمان. وملخص الكلام فيه : انه على القول ان الزمان موجود واحد ، وحقيقته التدرج ، متقوم بالانقضاء والانصرام ، ولذا يعبر عنه بالوجود غير القار ، اتحدت القضيتان حقيقة فيما إذا تعلق اليقين بزمان ثم شك في بقائه ، لأن الوجود الواحد تعلق به اليقين والشك ، فيجري فيه الاستصحاب ولو اعتبر فيه الاتحاد الدقي.

وأما على القول بأن الزمان مركب من آنات متباينة قصيرة لا تتجزى ، كما قالوا بتركب الأجسام من اجزاء لا تتجزى في مقابل القول بتركبها من المادة والصورة ، مع استحالة الالتزام بهذا القول ، لأن بعض البراهين المذكورة لذلك في الأجسام جارية في آنات الزمان ، فالاتحاد العقلي بين القضيتين حينئذ وان لم يكن متحققا ، إلّا أن الاتحاد العرفي موجود ، وهو كاف ، لأن مورد الاستصحاب ليس قطع الزمان واجزائه ، بل يستصحب نفس الزمان ، وهو وجود واحد عرفا ، وان لم يكن كذلك بالدقة ، فينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشك عرفا ، وهو المتبع في باب الظهورات كما عرفت. فعلى التقديرين لا مانع من جريان الاستصحاب في الزمان. ثم الأثر ان كان مترتبا على عدم ضد الزمان ، كما رتب جواز الأكل والشرب على عدم طلوع الفجر بقوله سبحانه (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ)(١) ، ووجوب الصلاة على عدم انتصاف الليل بقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) أي انتصافه ، جرى استصحاب عدم

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) الإسراء : ٧٨.

١٢٢

تحققه عند الشك فيه بلا إشكال ، ورتب عليه الأثر ، سواء كان الزمان وجودا واحدا ، أو وجودات عديدة ، فانه بحث في الزمان ، وأما عدمه فهو أمر واحد مستمر.

وأما إن كان الأثر مترتبا على وجود الزمان ، فان كان شرطا أو ظرفا للحكم التكليفي أو الوضعي بنحو مفاد كان التامة فقط ، ولم يكن قيدا لموضوع الحكم ولا لمتعلقه ، جرى فيه الاستصحاب على ما تقدم ، وترتب عليه الأثر.

وأما إن كان قيدا للموضوع أو المتعلق أيضا ، كما في الصوم الواجب إيقاعه في نهار رمضان ، أو الصلاة الواجب إيجادها في الزوال ، فاستصحاب الزمان فيه لا يثبت وقوع الواجب فيه إلّا على القول بالأصل المثبت ، وبدونه لا أثر للتعبد ببقاء الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان ، بل لا معنى له.

وبالجملة ربما يورد على استصحاب الزمان بأن الأثر إنما يترتب عليه فيما إذا كان شرطا للحكم ولم يكن قيدا للموضوع ولا للمتعلق ، وإلّا فلا أثر لاستصحاب الزمان ، إذ لا يثبت به وقوع الفعل في الزمان المطلوب إلّا بنحو الأصل المثبت ، فان لازم بقاء الزمان عقلا وقوع الفعل فيه.

ومن هنا عدل الشيخ وتبعه المحقق النائيني (١) عن استصحاب الزمان إلى استصحاب الحكم المتعلق بالفعل المقيد بالزمان ، بتخيل ان موضوعه نفس المكلف ، وهو محرز البقاء. فيقال : وجوب الصوم في النهار على المكلف كان متيقنا يشك في بقائه ، فيستصحب ، ويكفي هذا في إثبات وقوع الفعل في الزمان الخاصّ.

وفيه : أنه ليس أثرا شرعيا لبقاء الحكم كذلك ، وإنما هو من لوازمه العقلية ، إذ بدونه يلزم التكليف بما لا يطاق ، فإذا أثبت استصحاب الحكم وقوع الفعل في

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٥ (ط. جامعة المدرسين). أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٠٢.

١٢٣

الزمان الخاصّ فاستصحاب الزمان يثبته أيضا ، لأنه لازم عقلي لكلا الأمرين ، فلا يبقى حينئذ مجال للاستصحاب.

والحاصل : مثبتات الاستصحاب ان كانت حجة ترتب الأثر على استصحاب الزمان وهو الأصل السببي ، فلا يجري الاستصحاب في الحكم ، وإلّا فلا أثر لاستصحاب المسبب أيضا.

ولعل صاحب الكفاية (١) لهذه الجهة ذهب في دفع الشبهة إلى وجه آخر ، وهو العدول إلى إجراء الاستصحاب في الاتصاف ، لا في الحكم ولا في الزمان ، فذكر ان الفعل كالإمساك كان متصفا بكونه في النهار مثلا فيستصحب اتصافه به.

وفيه : أنه إنما يتم فيما مثل به ، أي فيما إذا كان الفعل أمرا واحدا مستمرا ، قد شرع المكلف به حينما كان متيقنا بالوقت ، وشك في بقائه في الأثناء ، فيصح حينئذ ان يقال أنه كان نهاريا فيستصحب. وأما إذا أراد الشروع في الفعل بعد الشك في الزمان ، كما إذا كان المكلف عاصيا فتاب ، وأراد الإمساك وهو شاك في بقاء النهار ، فان إمساكه في هذا الفرض لم يكن نهاريا ليستصحب اتصافه به إلّا بنحو الاستصحاب التعليقي ، الّذي لا نقول به ، وعلى تقدير القول به يختص جريانه بالأحكام دون الموضوعات.

فهذا الوجه يختص بما ذكره من المثال ونظائره ، فلا بد من التماس وجه آخر لدفع الشبهة.

فالصحيح أن يقال : تارة : لا يستفاد من الدليل إلّا تقيد الوجوب بالزمان دون الواجب ، كما ورد في الحديث (إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، الظهر والعصر ، إلّا أن هذه قبل هذه ، ثم أنت في وقت منهما حتى تغيب الشمس) (٢)

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ ـ ٢٦ ، باب ٤ من أوقات الصلاة ، ح ٢٤.

١٢٤

ونظيره ورد في تحديد وجوب العشاءين بانتصاف الليل وكونه مغيا به ، فإذا شك في تحقق الغاية يستصحب عدمها ، وترتب عليه الأثر ، وهو وجوب الإتيان بالفعل المفروض عدم تقيده بالزمان الخاصّ ، فيمكن إحراز امتثاله. فهذا الفرض خارج عن مورد الإشكال.

وأخرى : يستفاد من الدليل تقيد الواجب بالزمان الخاصّ ، كتقيد الوجوب به ، وهو مورد الشبهة.

والتحقيق في دفعها : انّا بينا في بحث العام والخاصّ أن المركب قد يكون مركبا من العرض وموضوعه ، وقد لا يكون كذلك. أما ان كان مركبا من العرض ومعروضه ، فالظاهر كون المأخوذ فيه عنوان الاتصاف ، فان كان له حالة سابقة يستصحب عند الشك ، وإلّا فاستصحاب الوصف بنحو مفاد كان التامة لا يثبت الاتصاف.

وأما إذا لم يكن مركبا من العرض وموضوعه ، بل كان مركبا من أمرين لا ارتباط بينهما ، سواء كان مركبا من جوهرين كوجود زيد وعمرو ، أو من عرضين في محل واحد كعلم زيد وعدالته ، أو في محلين كعلم زيد وفسق عمرو ، أو جوهر وعرض في محل آخر ، يستحيل في جميعها أن يكون المأخوذ عنوان الاتصاف ، إذ لا معنى لاتصاف عرض أو جوهر بمثله ، ولا جوهر بعرض في محل آخر ، بل مقتضى طبع المطلب ان يكون المأخوذ فيها مجرد اجتماع الأمرين أو الجمع بينهما ، فيمكن إحراز كلا الأمرين بالوجدان أو بالتعبد الاستصحابي بنحو مفاد كان التامة ، كما يمكن إحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالاستصحاب ، كما في الصلاة والطهارة ، فانهما عرضان للمكلف ، ولا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر ، فمعنى تركب المأمور به منهما لزوم الجمع بينهما في الوجود في زمان واحد ، فيمكن إحرازهما بضم الوجدان إلى الأصل ، ولم يستشكل أحد في حصول الامتثال إذا

١٢٥

صلى المكلف بالطهارة المستصحبة ، فكانت الصلاة محرزة بالوجدان والطهارة بالاستصحاب.

والمركب من الفعل والزمان من هذا القبيل ، فإذا ثبت الزمان بالتعبد ، والإتيان بالفعل بالوجدان ، فقد أحرز المركب بضم الوجدان إلى الأصل.

نعم للشارع ان يأخذ في حكمه عنوانا بسيطا منتزعا من أمرين متغايرين لا ارتباط بينهما ، كعنوان التقارن أو السبق أو اللحوق ، فلا يثبت باستصحاب الزمان ، إلّا أنه غير مختص بالزمان ، لجريانه في المركب من غيره أيضا ، وهو خارج عن محل البحث ، فان محل الكلام التقيد بالزمان لا العنوان الانتزاعي.

فالحق جريان الاستصحاب في الزمان مطلقا.

المقام الثاني : والكلام فيه يقع في موردين. فانه تارة : يتكلم في غير الزمان من الأمور التدريجية المتقومة بالتصرم والانقضاء ، بحيث يوجد جزء منه فينعدم ثم يوجد الجزء الآخر وهكذا ، ويستحيل اجتماع جزءين منه في زمان أو مكان واحد ، كالحركة والجريان والتكلم. وأخرى : في الأمر القار في نفسه المقيد بأمر غير قار.

أما المورد الأول : فينقسم إلى قسمين. فانّ من الأمر التدريجي ما يكون له اتصال حافظ لوحدته ، نظير نفس الزمان كالحركة والجريان ، فيكون له وحدة حقيقية. ومنه ما ليس بين أجزائها اتصال كالتكلم.

أمّا القسم الأول ، فقد ظهر فيه الحال مما بيناه في استصحاب الزمان ، فان الحركة مثلا وهي كون الشيء في زمان أو مكان بعد كونه في الزمان أو المكان الآخر موجود واحد مستمر حقيقة ما لم يتخلل سكون بين تلك الأكوان ، لأن الاتصال مساوق للوحدة. وعليه فتتحد القضية المتيقنة والمشكوكة حقيقة بالدقة ، فيجري فيها الاستصحاب. ومع التنزل بالبناء على كونها مركبة من أكوان متباينة ، كتركب الزمان من آنات كذلك وعدم كون الاتصال مساوقا للوحدة ، لا ريب في أنه

١٢٦

يوجب الوحدة عرفا ، وهي كافية في جريان الاستصحاب.

ثم انه بناء على ما ذكرناه من شمول أدلة الاستصحاب لموارد الشك في المقتضي ، كشموله لموارد الشك في الرافع ، يجري الاستصحاب إذا شك في بقاء الحركة ، سواء كان منشؤه الشك في وجود الرافع ، أو في المقتضي ، أو في حدوث مقتضى البقاء بعد العلم بارتفاع مقتضى الحركة حدوثا ، ففي جميعها يجري الاستصحاب.

وكل هذه الفروض متصورة في الحركة ، فانه تارة : يكون مقتضى الحركة بقاء محرزة ويشك فيها لاحتمال طرو الرافع ، كما إذا علم بخروج زيد من منزله قاصدا مكانا يقتضي بقاؤه في السير إلّا انه يحتمل انقطاعه لوجود مانع في البين ، فيجري استصحاب الحركة. وأخرى : يشك في ثبوت مقتضى البقاء ، كما إذا علم بخروج زيد من داره ، ولم يعلم أنه خرج بداعي زيارة كربلاء ليكون مسيره مستمرا ، أو الكوفة مثلا ليكون منقضيا ، فالشك يكون في مقتضي الحركة ، فيستصحب بقاؤها. وثالثة : يعلم بأن ما دعاه إلى السير كان قصيرا لم يبق إلى الآن ، ولكن يحتمل استمرار الحركة لاحتمال انقداح داع آخر له على السير ، ويجري فيه الاستصحاب أيضا.

إلّا أن المحقق النائيني منع عنه في القسم الأخير ، حتى بناء على جريانه عند الشك في المقتضي ، بدعوى : ان حافظ الوحدة في الحركة انما هو الداعي ووحدته ، فإذا فرض بقاء الحركة بداعي آخر ، فهي حركة أخرى حادثة مباينة للحركة الأولى لا بقاؤها ، فكيف يستصحب (١).

وبما ذكرنا ظهر الجواب عنه ، فان حافظ وحدتها هو الاتصال لا الداعي.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٤٤١.

١٢٧

ولو كان تعدد الداعي مخلا بالوحدة لزم بطلان الصلاة إذا سجد المصلي لوجه الله وأطال سجوده بداعي آخر ، فانه عليه يكون التطويل سجدة أخرى ، وهي زيادة عمدية توجب البطلان.

وقد أورد على جريان الاستصحاب في هذا الفرض أيضا بأنه محكوم لاستصحاب عدم حدوث مقتضى البقاء ، أي الحركة الزائدة ، فان الشك فيه مسبب عن الشك فيه.

وفيه : ان السببية وان كانت ثابتة إلّا انه لا يترتب أثر على استصحاب عدم حدوث مقتضى البقاء ، وإثبات عدم تحقق المقتضي والمعلول به مثبت ، فلا يجري. فلا مانع من جريان استصحاب الحركة في شيء من الفروض الثلاثة. وما ذكرناه فيها جار في الجريان أيضا ، فانه وجود واحد مستمر ، وحافظ وحدته الاتصال ، والشك في بقائه تارة : يكون من الشك في الرافع ، وأخرى : الشك في المقتضي ، وثالثة : الشك في حدوث مقتضى البقاء ، على التفصيل المتقدم ، ويجري فيه الاستصحاب على جميع التقادير.

وقد ذهب صاحب الكفاية (١) إلى جريان الاستصحاب في الحركة ونظائرها من الجريان والسيلان ، ولو تخلل بين اجزائها سكون ما ، بدعوى : ان العرف لا يراه مخلا بالوحدة إذا كان يسيرا ، وإن كان مخلا بها بالدقة العقلية ، فتكون الحركة الحادثة بعد السكون مغايرة مع السابقة عليه عقلا لا بقاء لها ، وكذا حال الجريان والسيلان.

وفيه : أن نظر العرف وان كان أوسع من النّظر الدقي ، إلّا أنه لا ريب في اتفاق العقل والعرف على مضادة السكون مع الحركة ، كاتفاقهما على استحالة اجتماع

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٦.

١٢٨

الضدين ، فإذا تفطن العرف إلى تخلل السكون بين الحركتين ولو يسيرا حكم بانقطاع الحركة الأولى وحدوث حركة أخرى.

نعم بعض العناوين لا تكون متقومة باستمرار الحركة وعدم تخلل السكون ، كعنوان السفر ، فانه لا ينافيه المكث في أثناء الطريق ، فإذا شك في بقائه يستصحب ولو علم بتخلل السكون في البين.

هذا كله في القسم الأول.

وأما القسم الثاني : كالتكلم ، فلا بد وأن تكون وحدته اعتبارية ، لعدم الاتصال ، بداهة عدم وجود الاتصال فيما هو المتعارف من الكلام ، بل يتخلل السكوت في البين ، فمن هذه الجهة يفرق بين الكلام وبين الزمان والحركة ونحوها ، فانها مضافا إلى اتصافها بالوحدة العرفية متصفة بالوحدة الحقيقية ، لاتصال بعض أجزائها ببعض ، بخلاف التكلم ، حيث ان وحدتها اعتبارية محضة ، بمعنى ان المتكلم يعتبر جملة من الكلمات شيئا واحدا ، كالقصيدة أو الخطابة ونحوها ، فيكون الميزان جريان الاستصحاب فيه بتحقق الوحدة الاعتبارية. ويتصور فيه الشقوق الثلاثة ، من كون الشك في البقاء من الشك في الرافع ، أو في المقتضي ، أو في حدوث مقتضى البقاء بعد اليقين بارتفاع مقتضى الحدوث.

والتكلم بالسور القرآنية ونقل الحكايات والمكاتيب كلها من هذا القبيل. ومثل التكلم الصلاة من حيث كون وحدة اجزائها اعتبارية ، فانها مركبة من مقولات متباينة ، وهي واحدة باعتبار الشارع ، فإذا شك في بقاء المصلى فيها لأحد الوجود المتقدمة ، أو بقائه في السورة مثلا ، جرى فيه الاستصحاب ، لكفاية الوحدة الاعتبارية فيه.

وأما المورد الثاني : أعني ما إذا لم يكن الشيء في نفسه تدريجيا ، لكنه قيد بأمر تدريجي ، فصار تدريجيا بلحاظ قيده ، كالصوم في النهار ، فالشك في بقاء

١٢٩

الحكم المتعلق به يتصور على ثلاثة أوجه.

الأول : أن يشك فيه لشبهة موضوعية ، كما إذا علم بأن غاية وجوب الإمساك سقوط القرص ، ثم شك فيه لغيم ونحوه. ويجري فيه الاستصحاب الموضوعي ، أي بقاء الزمان ، أو عدم تحقق الاستتار ، ويترتب عليه الحكم ، وهو وجوب الإمساك النهاري.

الثاني : ما إذا شك في بقاء القيد لشبهة حكمية وتردده بين الأقل والأكثر ، أي بينما هو مقطوع التحقق وما هو متيقن الزوال. إما لإجمال الدليل أي لشبهة مفهومية ، كتردد المغرب بين استتار القرص وذهاب أمر آخر معرفه ذهاب الحمرة ، وتردد غسق الليل بين نصف ما بين غروب الشمس وطلوعها وما بين انتصاف غروب الشمس وطلوع الفجر ، واما لغير ذلك من عدم الدليل أو تعارض الأدلة.

وقد فصل فيه الشيخ (١) بينما إذا كان الزمان المأخوذ قيدا فلا يجري الاستصحاب ، وما إذا كان ظرفا فيجري. وتبعه في ذلك جمع ممن تأخر عنه ، منهم صاحب الكفاية (٢).

وأنكر المحقق النائيني (٣) جريانه ولو كان الزمان ظرفا ، وجعل إنكاره مبنيا على المنع عن الاستصحاب عند الشك في المقتضي ، بعد أن فسّره بما إذا كان الشك في البقاء ناشئا من مجرد مرور الزمان ، فان المقام يشك فيه في بقاء الحكم بنفس مرور الزمان ولو لم يوجد في العالم غيره.

ونقول : بناء على عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي وتفسيره بذلك ، ما أفاده تام ، إلّا أنك عرفت شمول أدلة الاستصحاب لموارد الشك في

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٨ ـ ٦٤٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٧.

(٣) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٠٤.

١٣٠

المقتضي. وعليه لا يتم ذلك. ولكنا نمنع جريان الاستصحاب في الفرض مطلقا لوجه آخر.

وحاصله : ان الحكم وكذا متعلقه يستحيل ان يكون مهملا بالقياس إلى الزمان الملحوظ معه ، بل اما يكون مطلقا بالإضافة إليه ، أو مقيدا به ، ولا واسطة بين الأمرين نعبر عنها بالظرفية ، فان الزمان بطبعه ظرف ، أخذ قيدا أو لم يؤخذ ، فلا معنى لأخذ الزمان في الحكم أو المتعلق إلّا تقييده به ، فإذا شك في بقائه لم يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي ، لعدم إحراز اتحاد القضيتين ، فالتمسك بعموم الأدلة يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، إذ على تقدير ارتفاع القيد يكون الحكم حكما حادثا ، لا بقاء الحكم الأول المقيد بالزمان السابق أو المتعلق بما هو كذلك ، فلم يحرز كون رفع اليد عنه مصداقا لنقض اليقين بالشك. ولا بالاستصحاب الموضوعي ، بداهة عدم تعلق الشك ببقاء ما تعلق اليقين بحدوثه ، بل هناك أمر متيقن التحقق وهو الاستتار مثلا ، وأمر مقطوع الانتفاء وهو ذهاب الحمرة ، فأي شيء يستصحب. وهذا هو الشأن في جميع موارد الشبهة المفهومية ، كما إذا أوجب المولى إكرام العادل ، وتردد بين خصوص من اجتنب الصغائر والكبائر والأعم منه وممن اجتنب الكبائر فقط ، وكان زيد مجتنبا لجميعها ، ثم ارتكب بعض الصغائر ، فان استصحاب الحكم غير جار ، لعدم إحراز الاتحاد ، واستصحاب الموضوع أعني العدالة لا يجري ، لعدم تحقق متيقن يشك في بقائه. وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأنصاري في كتاب الطهارة.

نعم الشك في تحقق ما جعله الشارع غاية بهذا العنوان موجود ، إلّا ان استصحابه يرجع إلى استصحاب الحكم. وليس من استصحاب الموضوع ، فان مورده ما إذا كان هناك يقين وشك مع قطع النّظر عن ثبوت الحكم ، وإلّا فالاستصحاب يكون حكميا.

١٣١

وقد عرفت المنع عنه لكونه من التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

وبما ذكر ظهر الحال فيما إذا شك في الحكم بعد العلم بالغاية والعلم بتحققها ، كما إذا علم بأن غاية وجوب الصوم هي الاستتار ، وعلم بتحققه ، ومع ذلك شك في وجوب الإمساك ، فانه لا مجال فيه للاستصحاب ، لكون الشك فيه من الشك في الحدوث لا في البقاء.

فتحصل : أن الحق عدم جريان الاستصحاب فيما إذا شك في بقاء الحكم المقيد بالزمان أو المتعلق بأمر مقيد به ، بحيث كان ثبوت الحكم بعد انقضائه حكما حادثا عرفا ، لا بقاء الحكم الأول لأجل الشك في بقاء الزمان لشبهة حكمية.

ثم انّ ظاهر كلام الشيخ جريان استصحاب عدم الحكم في الفرض (١). إلّا أن المحقق النائيني منع عنه أيضا ، واختار الرجوع إلى أصل آخر من البراءة والاشتغال. وذكر في وجهه ما حاصله (٢) : ان استصحاب العدم لا يجري في المجعول أي الحكم الفعلي ، ولا في الجعل. أما الأول ، فلأن المتيقن انما هو عدم الحكم المقيد بهذا الزمان ، أو المتعلق بما هو مقيد به من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا المحمول ، إذ لم يكن الزمان موجودا ليكون الحكم المقيد به ثابتا ، فعدم ثبوته كان من باب عدم تحقق موضوعه ، ولا يجري الاستصحاب في السالبة بانتفاء الموضوع.

وفيه : انا بينا في محله من بحث العام والخاصّ عدم الفرق في جريان الاستصحاب في الأعدام بين ما هي من قبيل السالبة بانتفاء المحمول أو الموضوع ، فما ذكره إنما يتم على مبناه ، لا على المبنى المختار.

وأما الثاني ، فلأنه لا يثبت باستصحاب عدم الجعل عدم المجعول ، الّذي يترتب عليه الأثر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

١٣٢

وفيه : ما تقدم من ان المجعول عين الجعل ، وليس هناك أمران متلازمان ليكون إثبات أحدهما بالآخر مثبتا.

فالصحيح : جريان استصحاب عدم الحكم في كلتا المرحلتين ، أي مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، ومعه لا تصل النوبة إلى الرجوع إلى أصل آخر.

الثالث : ما إذا شك في بقاء الحكم السابق المتيقن ، لا في حدوث حكم آخر ، بعد العلم بالغاية وتحققها موضوعا وحكما ، لأجل الشك في كون الحكم المقيد من قبيل تعدد المطلوب ووحدته. وعلى الأول فأصل وجوب الفعل باق وان سقط لزوم الإتيان به في الوقت ، لانقضائه وعدم الإتيان بالواجب في وقته عصيانا أو لعذر. وعلى الثاني فهو مرتفع قطعا ، إذ لم يكن في البين إلّا وجوب واحد مقيد ، وقد زال بزوال قيده ، فيستصحب بقاء الحكم ، بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. وهو من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لدوران الحكم المتيقن بينما هو متيقن الارتفاع وما هو متيقن البقاء.

وعلى هذا ففي موارد الشك في تبعية القضاء للأداء يجري استصحاب بقاء الوجوب السابق من غير حاجة إلى أمر جديد ، فيكون القضاء بالأمر الأول.

وهذا نقض على المشهور ، حيث ذهبوا إلى جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وفي الكلي القسم الثاني ، ولازم ذلك الالتزام بتبعية القضاء للأداء ، مع أنهم جعلوه بالأمر الجديد.

هذا تمام الكلام في استصحاب الزمان ، وما يلحق به من الأمور التدريجية أو المقيد بها.

التنبيه السادس : الاستصحاب التعليقي.

لا مجال لهذا البحث لو أنكرنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التنجيزية ، إذ عليه عدم جريانه في الحكم التعليقي بكون بطريق أولى. فمع التنزل

١٣٣

عما ذكرناه ، والبناء على جريانه في الأحكام الكلية ، نبحث عن جريانه في الحكم التعليقي. وقد مثلوا له بماء الزبيب إذا غلى ، فان عصير العنب يحرم بالاتفاق إذا غلى ، وينجس أيضا على المشهور ، فإذا جف وصار زبيبا ، يشك في حرمته إذا غلى.

وقبل تحقيق ذلك لا بد من بيان مقدمة : وهي ان العناوين المأخوذة في موضوع الحكم لا تخلو عن أحد أنحاء ثلاثة :

الأول : أن يكون العنوان معرفا محضا لذات المعنون عرفا ، كما إذا حكم بطهارة الحنطة أو حليتها ، فان العرف لا يشك في انه معرف للجسم ، وليس مقوما للموضوع ، فإذا دق وعجن وطبخ بحيث لا يسمى عرفا بالحنطة ، بل يقال له خبز الحنطة ، كان نفس الحكم الأول ثابتا ، ونفس الدليل الأول كافيا في إثباته بعد تبدل العنوان. ومن هذا القبيل حلية العنب وطهارته ، فانها ثابتة له إذا صار زبيبا ، وليس الحكم بحليته أو طهارته حكما حادثا.

الثاني : أن يكون العنوان مقوما للموضوع عرفا ، حدوثا وبقاء ، ومن قبيل الواسطة في العروض ، بحيث كان تبدله موجبا لتبدل الموضوع ، والحكم الثابت له بعد ذلك يكون حكما مغايرا مع الحكم الأول ، وإن كان مطابقا له ، ومن هذا القبيل جميع موارد الاستحالة ، كعنوان الكلبية الكلب للنجاسة ، فانه إذا تبدل العنوان كما إذا وقع الكلب في المملحة فصار ملحا لا يشك العرف في ارتفاع الحكم الأول ، لتبدل الموضوع ، وان هذا الملح صورة كلب ، كما إذا صنع صورة كلب من الملح ، فإذا ثبتت له النجاسة يرونها حكما حادثا.

وفي هذين الموردين لا مجال للاستصحاب كما هو ظاهر.

الثالث : أن لا يكون العنوان المأخوذ في الموضوع من قبيل الأول ليكون معرفا محضا ، ولا من قبيل الثاني ليكون واسطة في العروض ، بل كان وسطا بينهما

١٣٤

عرفا ، كالتغير في نجاسة الماء المتغير ، ولذا يشك في بقائها بعد زواله. وهذا هو مورد استصحاب الحكم تنجيزيا كان أو تعليقيا دون الصورتين الأوليين ، لعدم الشك في البقاء فيهما.

وبما ذكرناه ظهر ان المثال الّذي ذكروه للاستصحاب التعليقي ليس على ما ينبغي ، فان الحرمة اتفاقا ، والنجاسة على المعروف ، لم تترتب على العنب ، وإنما تترتب على عنوان العصير العنبي ، الّذي هو ظاهر في ماء نفس العنب الّذي عصر منه. وأما إذا جف العنب وذهب مائه لحرارة الهواء أو لغيره ثم طبخ بماء خارجي مثلا فعصر لا يكون عصيرة عصير العنب عرفا ، بل هو ماء الشرب ، فهو من قبيل الفرض الثاني ، الّذي لم يكن موردا للاستصحاب قطعا. كما ان حلية العنب وطهارته ثابتة للزبيب قطعا بنفس دليلها ، لأنها من قبيل الفرض الأول. فالمثال غير صحيح.

والحاصل : يعتبر في الاستصحاب اتحاد الموضوع وبقاؤه عرفا ، وإلّا فلا مجال لاستصحاب الحكم ، من غير فرق بين التعليقي والتنجيزي ، ولذا ناقشنا فيما مثلوا به للاستصحاب التعليقي من عصير الزبيب ، فان موضوع الحرمة بلحاظ النجاسة ليس هو العنب ، وإلّا لكان ثابتا للزبيب أيضا من غير حاجة إلى الاستصحاب ، كما ثبتت له الحلية والطهارة ، بل الموضوع لها عنوان عصير العنب ، وهو مغاير عرفا للماء الخارجي الّذي جعل فيه الزبيب فعصر. فلا مجال فيه للاستصحاب ، لتغاير الموضوعين حتى عرفا.

ثم هل يجري الاستصحاب في الحكم التعليقي أو لا يجري؟ في تحقيق ذلك نقول : الشك في بقاء الحكم الّذي هو مورد الاستصحاب يكون على أنحاء ثلاثة ، مع قطع النّظر عما ذكرناه من عدم جريانه في الأحكام الكلية :

أحدها : أن يشك في بقاء الجعل ، لاحتمال النسخ ، إذ ينحصر رافعه به. وهذا

١٣٥

مورد للاستصحاب مع بقاء الموضوع وعدمه ، فان الجعل غير متوقف على فعلية الموضوع ، لا حدوثا ولا بقاء ، فليس للشك في بقاء الجعل ارتباط بالموضوع أصلا.

ثانيها : أن يشك في بقاء المجعول. وهذا يتصور على قسمين ، فانه تارة : يشك فيه من جهة الشبهة الموضوعية ، كما إذا شك في زوال نجاسة شيء لاحتمال ملاقاته المطر ، فيستصحب عدمها ، ويترتب عليه بقاء نجاسته. وأخرى : يشك من جهة الشك في سعة المجعول وضيقه ، كما إذا شك في نجاسة الماء القليل المتمم كرا ، فانه يشك في النجاسة المجعولة له ، هل هي ضيقة مختصة بما إذا كان قليلا ، أو وسيعة ثابتة بعد زوال قلته وتتميمه كرا ، فيجري فيه الاستصحاب.

وهذه الموارد الثلاثة كلها مورد للاستصحاب إذا شك في الحكم التنجيزي ، مع قطع النّظر عما أنكرناه من استصحاب الحكم الكلي ، فهل ينطبق جميعها على الشك في الحكم التعليقي ، أو يجري فيه في بعض الصور دون بعض؟ فنقول :

أما المورد الأول : أعني ما إذا شك في بقاء الحكم التعليقي في مرحلة الجعل ، فيجري فيه استصحاب بقاء الجعل ، لما عرفت من عدم احتياج الجعل إلى فعلية الموضوع ، فإذا شك في بقاء حكمه بحرمة العصير إذا غلى وارتفاعه بالنسخ ، جرى فيه استصحاب بقاء الجعل. كما يجري الاستصحاب إذا شك في ارتفاع حرمة الخمر أو نجاسته بالنسخ. وكذلك يجري فيه الاستصحاب في الفرض الثاني ، أي ما إذا شك في بقاء الحكم التعليقي لشبهة موضوعية ، فانه إذا شك في بقاء خمرية مائع يستصحب بقائها ، وكما يترتب عليه حكمه التنجيزي أعني حرمة شربه ، يترتب عليه حكمه التعليقي كوجوب الحد على شاربه.

وإنما الكلام في تصوير التعليقي في المورد الثالث ، الّذي هو وسط بين الموردين الأولين ، أعني الشك في بقاء الحكم التعليقي المجعول ، للشك في سعته وضيقه.

١٣٦

والظاهر أن جريان الاستصحاب فيه مبني على ما بيناه في بحث الواجب المشروط من رجوع القيود المأخوذة في الحكم إلى الموضوع أو إلى المتعلق. وقد ذكرنا هناك ان من ثمرات ذاك البحث جريان الاستصحاب التعليقي. فانه إن بنينا على رجوع القيود إلى الحكم دون الموضوع ، وانقسام الحكم إلى التعليقي والتنجيزي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، لأنه حكم فعلي بفعلية موضوعه ، يشك في بقائه ، فيستصحب ، كما في التنجيزي ، مثلا بناء على رجوع القيد إلى الحكم تكون الحرمة أو النجاسة المعلقة على الغليان ثابتة لذات العصير وفعليتهما بفعليتها ، كما ثبت له الحلية والطهارة منجزة ، فلا مانع فيهما من الاستصحاب إذا شك فيهما من حيث سعة المجعول وضيقه. وأما بناء على رجوع القيد إلى الموضوع ، وعدم انقسام الحكم إلى قسمين ـ كما هو المختار ـ ، ولذا قلنا بأنه لا فرق بين أن يقول المولى : المستطيع يجب عليه الحج ، أو يقول : المكلف يجب عليه الحج إن استطاع ، فان الشرط يكون عنوانا للموضوع من ناحية المنطوق. نعم بينهما فرق من ناحية ثبوت المفهوم للكلام وعدمه. ولا ينافي هذا ما ذكره الشيخ من عدم رجوع القيد إلى المتعلق كما مرّ توضيحه في محله.

وعليه لا معنى للشك في الحكم التعليقي من حيث الشك في سعة المجعول وضيقه ، إذ لم يكن هناك مجعول متيقن يشك في سعته وضيقه سوى الملازمة العقلية بين ثبوت الجزء الآخر للموضوع وفعلية الحكم ، وهي حكم عقلي غير مختص بالحكم التعليقي ، بل جار في جميع موارد تحقق أحد جزئي العلة ، فان العقل يرى الملازمة بين تحقق الجزء الآخر وتحقق المعلول ، ولا معنى لإجراء الاستصحاب فيها.

وبالجملة الشك في بقاء الحكم يكون على أنحاء ثلاثة ولا رابع :

١٣٧

أحدها : أن يشك في بقاء الجعل وعدمه لاحتمال النسخ ، فيجري فيه الاستصحاب. وهذا جار في الحكم التعليقي أيضا.

ثانيها : أن يشك في بقاء المجعول لشبهة موضوعية ، فيجري فيه استصحاب بقاء الموضوع ، ويترتب عليه حكمه ، سواء كان تنجيزيا أو تعليقيا.

ثالثها : الشك في بقاء المجعول من جهة الشك في حد الموضوع ، أي في سعته وضيقه ، كالشك في نجاسة الماء القليل المتمم كرا بعد العلم بالجعل. وإحراز الموضوع.

وجريان الاستصحاب في هذا القسم يتوقف على اتحاد الموضوع وبقائه عرفا. فان ما تبدل من خصوصيات الموضوع تارة : يكون مقوما له عرفا ، ولا مجال حينئذ للاستصحاب. وأخرى : يكون من قبيل الحالات والواسطة في الثبوت عرفا ، وفي مثله يجري الاستصحاب.

وقد عرفوا ذلك بأنه إذا ثبت الحكم للموضوع بعد تبدل تلك الخصوصية بدليل كان بقاء للحكم الأول عرفا ولم يكن حكما حادثا. فهل يجري ذلك في الحكم التعليقي أو لا؟

الصحيح هو الثاني ، فان الحكم كما عرفت ليس له إلّا مرحلتان ، ولا مجال للاستصحاب التعليقي في شيء من المرحلتين. أما مرحلة الجعل ، فلليقين ببقائه ، وعدم الشك فيه كما هو المفروض ، وإلّا فيجري فيها استصحاب بقاء الجعل.

وأما مرحلة المجعول ، فلعدم اليقين بالحدوث وإن كان الشك في البقاء متحققا ، فان نسبة الموضوع إلى حكمه نسبة العلة إلى معلولها ، فإذا كان مركبا يستحيل فعلية الحكم مع عدم تحقق أحد جزئي الموضوع ، فلم يكن الحكم التعليقي متيقن الفعلية سابقا ليكون الشك في بقائه بعد تبدل بعض خصوصيات الموضوع وحصول المعلق عليه شكا في بقاء المتيقن ليستصحب.

١٣٨

نعم بناء على رجوع القيد إلى الحكم ، وعدم كونه دخيلا في الموضوع ، كان الحكم التعليقي سابقا حكما فعليا أيضا كالحكم التنجيزي المترتب عليه ، فلا مانع من استصحابه في مرحلة المجعول. إلّا ان المبنى بمراحل عن الواقع كما بيناه في بحث الواجب المشروط ، فليس في مورد استصحاب الحكم التعليقي متيقنا فعليا يشك في بقائه سوى الملازمة والسببية ، وهي حكم عقلي ثابت في كل مورد كان موضوع العرض مركبا ولم يتحقق أحد جزئيه ، فان العقل يدرك الملازمة بين تحقق الجزء الآخر والاتصاف بذاك الأمر العرضي ، كان حكما أو غيره ، إلّا أنه حكم عقلي لا يترتب عليه أثر ليستصحب.

ولعله لما ذكرناه عدل شيخنا الأنصاري في أمثال المقام (١) من استصحاب الحكم التكليفي إلى استصحاب بقاء السببية ـ أي سببية الغليان للنجاسة والحرمة ، فان الشارع جعل السببية للغليان ـ والملازمة زعما منه انها حكم تنجيزي لا تعليقي.

وفيه : انه على مسلكه ليس شيء من الأحكام الوضعيّة مستقلة في الجعل ، بل هي منتزعة من أحكام تكليفية ، ونحن وإن أنكرنا ذلك ، وبنينا على استقلال جملة منها في الجعل ، إلّا أنا بنينا على ان السببية وكذا الشرطية منتزعة من الحكم التكليفي ، أي أخذ أمر وجودي في متعلق الحكم التكليفي أو الوضعي ، فمن الأول ينتزع الشرطية ، ومن الثاني ينتزع السببية ، ومن الظاهر ان استصحاب الأمر الانتزاعي لا معنى له سوى استصحاب منشئه ، أي بقاء التكليف أو الوضع المتعلق بما أخذ فيه ذلك الأمر الوجوديّ ، وقد عرفت إمكان إجراءه فيه. هذا بناء على كون السببية منتزعة.

وأما لو بنينا على استقلالها في الجعل ، فحالها حال نفس الحكم التكليفي من

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٤٥ (ط. جامعة المدرسين).

١٣٩

حيث ثبوت المرحلتين لها ، فيجري فيها ما تقدم. ونقول : اليقين بحدوثها في مرحلة الجعل وإن كان موجودا ، إلّا انه لا شك في بقائها. وفي مرحلة المجعول الشك في بقائها وإن كان متحققا ، إلّا أنه لم يتعلق اليقين بحدوثها ليستصحب ، فلا معنى لاستصحاب السببية على التقديرين.

بقي الكلام في بيان أمور :

أحدها : جريان الاستصحاب في جملة من الموارد التي تخيل الشيخ كونه استصحابا تعليقيا.

ثانيها : معارضة الاستصحاب التعليقي على فرض جريانه بالاستصحاب التنجيزي وعدمه.

ثالثها : جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات وعدمه.

أما الأمر الأول : فقد ذهب شيخنا الأنصاري إلى جريان الاستصحاب في العقود التنجيزية إذا شك في لزومها وجوازها ، كبيع المعاطاة بعد فسخ أحد المتعاطيين ، فيستصحب الملكية السابقة. وأنكر جريانه في العقود التعليقية إذا شك في لزومها ، كالوصية والسبق والرماية ، فان ترتب الأثر عليها ليس منجزا ، وإنما هو معلق على تحقق أمر آخر ، كموت الموصى ، وسبق أحد المتعاقدين ، أو وصول سهمه إلى الغرض في السبق والرماية ، معللا له بأنه من الاستصحاب التعليقي ، فلا يجري ، مع أنه في المقام اختار جريان الاستصحاب في السببية والملازمة.

ونقول : القاعدة تقتضي عكس ذلك ، لأن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي كما عرفت انما هو عدم تمامية أركان الاستصحاب فيه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، لأنه في مرحلة الجعل متيقن البقاء ، وفي مرحلة المجعول غير متيقن الثبوت.

١٤٠