دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الغفلة ، فظاهر الحال كاشف عن تمامية العمل ، وبناء العقلاء جار على ذلك. كما ان ظاهر جملة من الأخبار أيضا ذلك ، كقوله عليه‌السلام «قد ركع» وقوله عليه‌السلام «هو حين يتوضأ أذكر منه حين ما يشك».

وبناء على كون الاستصحاب من الأصول العملية فالوجه في تقدمها عليه ظاهر ، كتقدم سائر الأمارات عليه.

وأما بناء على كونها أيضا أصلا ، أو بناء على كون الاستصحاب أيضا من الأمارات ، غايته أمارة ضعيفة في طول سائر الأمارات ، فهل يكون تقدمها عليه بالحكومة ، أو بالتخصيص؟ ظاهر الميرزا هو الأول (١) ، بدعوى : ان دليل القاعدة يكون ناظرا إلى دليل الاستصحاب ، فان ظاهرها إلغاء الشك والبناء على تحقق ما هو المعتبر في العمل واقعا ، فلا يبقى معها شك تعبدا ليجري فيه الاستصحاب.

وفيه : انه ان أراد بالحكومة كون دليل القاعدة بمدلوله اللفظي ناظرا إلى دليل الاستصحاب ، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم كان ورود الدليل الحاكم لغوا ، كما في قوله عليه‌السلام «لا شك لكثير الشك» فانه لو لم تكن أدلة الشكوك والآثار المترتبة عليها كان صدوره لغوا بلا مورد ، فثبوتها في المقام واضح الفساد ، بداهة انه لو لم يكن دليل الاستصحاب أيضا كانت قاعدة الاشتغال العقلي مقتضية لا عادة العمل المشكوك فيه لو لم تثبت قاعدة الفراغ والتجاوز ، فلا تكون لغوا بلا مورد ، فلا بد وأن يكون تقدمها عليه بالتخصيص.

وذلك لأن بعض روايات القاعدة واردة في خصوص مورد الاستصحاب ، كقوله عليه‌السلام «قد ركع» (٢) ، فانه مورد لاستصحاب عدم الإتيان بالركوع ،

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ ـ باب ١٣ من أبواب الركوع ، ح ٦.

٢٦١

فهو مخصص لدليل الاستصحاب لا محالة. وبعضها وان كانت مطلقة كقوله عليه‌السلام «ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه» (١) وقوله عليه‌السلام «هو حين يتوضأ أذكر» (٢) إلّا أنها معارضة مع الاستصحاب غالبا إلّا في موردين :

أحدهما : ما إذا لم يعين الحالة السابقة ، كموارد توارد الحالتين ، مثلما ما إذا كان المكلف محدثا في زمان ومتطهرا في زمان ، واشتبها ثم صلى ، وبعد الفراغ شك في انه حين الشروع هل كان ملتفتا وصلى مع الطهارة أو صلى محدثا؟ فانه لا مجال لشيء من استصحاب الطهارة واستصحاب الحدث. اما لمانع ثبوتي كما ذهب إليه الميرزا. أو للتعارض لإجمال الدليل ، كما اخترناه ، ففي مثله ليست القاعدة معارضة مع الاستصحاب.

الثاني : ما إذا كان الاستصحاب موافقا مع القاعدة ، كموارد الشك في تحقق المانع.

وأما في غيرهما ، فدائما تكون القاعدة معارضة مع الاستصحاب ، فلا مناص من تخصيص الاستصحاب بالقاعدة ، لأن لا تختص بالموارد النادرة. وقد بين في محله ان الدليلين وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، إلّا انّه إذا استلزم تقديم أحدهما على الآخر تخصيصه بالفرد النادر لا بد من العكس ، لأن لا يلزم المحذور. هذا مضافا إلى ما ذكرنا من ورود بعض الأخبار في مورد المخالفة مع الاستصحاب ، فانه أيضا يؤكد تقديم مطلقات قاعدة الفراغ على دليل الاستصحاب. فالوجه في التقديم على هذا هو التخصيص لا الحكومة.

__________________

(١ ، ٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٦ ـ ٧.

٢٦٢

الخامسة تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد :

وأما تقديم قاعدة اليد على الاستصحاب فالوجه فيه : هو أن اليد من الأمارات الناظرة إلى الواقع ، الّذي لم يؤخذ الشك فيها في لسان الدليل ، وقامت السيرة على كونها كاشفة عن الملك ، كما أشير إلى ذلك في قوله عليه‌السلام «لولاه لما قام للمسلمين سوق» (١).

وعليه فهي في عرض سائر الأمارات ، ويكون تقدمها على الاستصحاب كتقدم سائر الأمارات عليه. هذا مضافا إلى أنها معارضة بالاستصحاب غالبا ، بل دائما ، فلو قدمنا دليل الاستصحاب عليها لزم تخصيصها بالموارد النادرة ، على ما عرفت في وجه تخصيص دليل الاستصحاب بدليل قاعدة الفراغ.

نعم في بعض الموارد لا تجري قاعدة اليد في نفسها ، فيرجع فيها إلى الاستصحاب ، لا من جهة تقديمه عليها. من تلك الموارد ما إذا أقر المنكر الّذي يكون المال تحت يده بأن يده مسبوق بيد المدعي ، وان المال كان ملكا له فاشتراه منه مثلا ، فان إقراره للمدعي يوجب انقلاب الدعوى ، فيكون المنكر مدعيا وبالعكس ، فلا بد للمقر من إثبات انتقاله إليه ، وليس يده حينئذ أمارة الملك. ولم تثبت السيرة على اعتبارها. كما ليس للرواية إطلاق يعمها ، إذ لا يلزم من عدم حجية مثل هذا اليد اختلال السوق ، فلا تكون معتبرة. ولذا يرجع إلى الاستصحاب ، ولولاه لكان اللازم الرجوع إلى دليل آخر.

ومن تلك الموارد ما إذا كان اليد مسبوقة بحالة سابقة ، ولم تكن مشكوكة كما إذا كان المال تحت يد شخص عدوانا أو عارية مثلا ، ثم ادعى أنه ملكها ، وان يده يد مالكي. وقد ذكر الميرزا قدس‌سره في وجه تقدم الاستصحاب على اليد في هذا الفرض

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢.

٢٦٣

ما حاصله : انّ الموضوع في قاعدة اليد مقيد ، وهو اليد المشكوكة الحال ، ولا يعم غيرها ، وبعبارة أخرى : الاستصحاب يجري في الموضوع ، وينتفي به موضوع قاعدة اليد.

وهو غير تام ، لعدم تقيد موضوع قاعدة اليد بكونها مشكوكة ليرتفع بالاستصحاب ، بل الوجه ما ذكرناه من عدم شمول دليل اليد للمقام. أما السيرة فغير ثابتة. وأما الرواية فليس لها إطلاق كما عرفت. فلعدم جريان قاعدة اليد يرجع إلى الاستصحاب ، ولولاه لكان المرجع دليلا أو أصلا آخر.

السادسة تعارض الاستصحاب مع القرعة :

وأما معارضة الاستصحاب مع القرعة ، فلا إشكال في تقدم الاستصحاب عليها. والسر في ذلك : ان موضوع أكثر اخبار القرعة عنوان المشكل والمشتبه. وفي بعضها وان أخذ عنوان المجهول ، إلّا أنه أيضا يحمل على ذلك ، بقرينة تلك الاخبار. وعنوان المشكل والمشتبه لا يصدق إلّا في فرض التحير والجهل بالشيء واقعا ، كما يظهر من موارد استعمال الفقهاء لهذا العنوان ، فانهم لا يطلقون المشكل إلّا في مثل ذلك ، وإلّا لكانت جميع الفروع مشكلة ، إلّا الموارد المقطوعة وهي قليلة.

فإذا كان المورد موردا للاستصحاب ، لم يصدق عليه عنوان المشتبه والمشكل ، إذ لا تحير حينئذ. ولما ذكرنا يتقدم أضعف الأصول على القرعة ، كأصالة الاحتياط الشرعي فيما إذا علم إجمالا بأن إحدى المرأتين أجنبية ، فانه لا يرجع في تعيينها إلى القرعة ، بل يرجع إلى أصالة الاحتياط.

وبالجملة مورد القرعة فرض التحير والجهل بالحكم الواقعي والظاهري. مثل ما إذا وكل من له زوجات ثلاثة أحدا في ان يزوج له امرأة ، فعقد الوكيل على امرأة ، وهو أيضا بنفسه عقد على امرأة أخرى ، فلم يعلم السابق منهما ، ففي مثله

٢٦٤

يرجع إلى القرعة للتحير والجهل بالحكم الواقعي والظاهري. وهكذا إذا أوصى بمال أو وقف لعمل ، وتردد بين أمرين ، فانه ليس في البين أصل يعين ذلك ، فيصدق عليه عنوان المشكل والمشتبه ، ويعين بالقرعة.

وبما ذكرناه ظهر ان ما ادعى من ورود مخصصات كثيرة على دليل القرعة ، بحيث لا يمكن العمل بها إلّا في موارد الانجبار بالعمل ، فاسد ، بل أكثر موارد عدم جريانها من جهة عدم تحقق موضوعها ، وهو عنوان المشتبه والمشكل ، فليس وجه تقدم الاستصحاب عليها ذلك كما توهم ، بل ما بيناه.

وبالجملة لا ريب في العمل بالقرعة في كل مورد ورد النص بها بالخصوص ، سواء كان هناك أصل عملي يوافقها ، أو لم يكن. وأما في غير الموارد المنصوصة التي يرجع فيه إلى القرعة بمقتضى عمومات الأدلة ، فلا بد وان لا يكون موردا لشيء من الأصول العملية من الاستصحاب والبراءة والاحتياط. وأما التخيير فقد أرجعناه إلى البراءة عن التقيد بكل من الخصوصيّتين ، بأن لا يكون الشك في التكليف ، فانه ان كان مسبوقا بالحالة السابقة كان موردا للاستصحاب ، وإلّا كان موردا للبراءة. ولا يكون الشك في المكلف به الّذي هو مورد للاشتغال ، ولا من قبيل دوران الأمر بين المحذورين. وذلك لعدم تحقق موضوعها ، وهو المشتبه والمجهول والمشكل إلّا بذلك. فينحصر موردها بموارد الترافع ، كما إذا كان مال تحت يد شخص ، وادعاه شخصان آخران ، واعترف من بيده المال بعدم كونه له ، ولكنه لا يدري لأي منهما هو ، فانه لا يعرف مالكه حينئذ لا واقعا ولا ظاهرا ، فيعين بالقرعة. وما إذا تردد أمر المال الموصى به أو الوقف بين مصرفين ، فانه ليس هناك أصل يعين به ذلك ، فيصدق عليه المشكل والمشتبه ، ويرجع فيه إلى القرعة.

فظهر بما ذكرنا سر تقدم الاستصحاب ، وكذا بقية الأصول العملية على القرعة.

٢٦٥

بقي شيء ، وهو أنه ورد في بعض الاخبار ان القرعة سهم من سهام الله ، وظاهره أنه يعين الواقع المعين المجهول ، فينحصر موردها بما إذا كان هناك واقع معين وكان مجهولا. وأما إذا لم يكن هناك تعين أصلا حتى في الواقع ، كما إذا طلق الرّجل إحدى زوجتيه بهذا العنوان ، وبنينا على صحته ، فانه ليس للمطلقة واقعا تعين أصلا ليعرف بالقرعة ، إلّا إذا كان الرجوع إلى القرعة فيه منصوصا.

٢٦٦

قاعدة الفراغ والتجاوز

هل هي قاعدة فقهية أو مسألة أصولية؟

التعدي من الصلاة والطهور إلى سائر المركبات

هل هما قاعدتان أو قاعدة واحدة

الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز

٢٦٧
٢٦٨

قاعدة التجاوز والفراغ

والكلام فيها يقع في جهات :

الجهة الأولى : في كونها من المسائل الأصولية أو القواعد الفرعية. الميزان في كون المسألة أصولية ان تكون نتيجتها كبرى كلية ، لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما كليا فرعيا إلهيا. والمسألة الفرعية التي هي نتيجة المسألة الأصولية بعد ضم صغراها إليها ، كبرى كلية لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما جزئيا.

هذا هو الفرق بين المسألة الأصولية والفرعية من الناحية الأولى. وهناك فرق بينهما من ناحية ثانية ، وهي ان المسألة الأصولية غير قابلة للإلقاء إلى المقلد ، بل تطبيقها على صغرياتها يكون من وظائف المجتهد ، بخلاف المسألة الفرعية ، حيث ان تطبيقها على صغرياتها يكون بيد المقلد ، وتطبيق المجتهد لا أثر له ، إلّا من باب حجية قوله ، بناء على حجية الخبر الواحد في الموضوعات.

إذا عرفت ذلك وضح لك ان قاعدة الفراغ تكون من المسائل الفرعية من كلتا الناحيتين. أما من الناحية الأولى ، فلأنها حكم كلي إلهي ، مستفاد من نتيجة المسألة الأصولية ، كحجية الخبر والظواهر وغيرها ، بعد ضم صغراها إليها ، وهو عدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ من العمل ، لو انضم إليه صغراه انتج حكما جزئيا ، وهو عدم اعتناء الشخص الخاصّ بشكه الجزئي الخارجي الّذي حدث بعد الفراغ.

وأما من الناحية الثانية ، فلأن تطبيق هذه القاعدة ، أعني عدم الاعتناء

٢٦٩

بالشك الحادث بعد الفراغ ، يكون بيد المقلد دون المجتهد كما هو ظاهر.

الجهة الثانية : ان بعض أخبار القاعدة وإن كان واردا في خصوص الصلاة والطهور ، إلّا أنه يتعدى منهما إلى سائر المركبات لوجهين :

أحدهما : عموم العلة في قوله عليه‌السلام «هو حين يتوضأ أذكر» (١) وهي إشارة إلى أمر ارتكازي من ان من اشتغل بعمل مركب يكون حين الاشتغال أشد تحفظا على خصوصياته مما بعد الفراغ ، فانه شيء للإنسان غالبا.

ثانيهما : إطلاق بعض الأخبار ، كقوله عليه‌السلام «إذا شككت في شيء ، ودخلت في غيره ، فليس شكك بشيء» (٢) وقوله عليه‌السلام «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٣) فتجري قاعدة الفراغ في جميع المركبات ، ولا تختص بالبابين المذكورين.

والحاصل : ان قاعدتي التجاوز والفراغ تكونان من القواعد الفرعية ، وليستا من المسائل الأصولية.

ثم هل هما من الأصول العملية ، أي وظائف مقررة للشاك في مقام العمل ، أو أنهما من الأمارات الناظرة إلى الواقع؟ ظاهر بعض الأخبار كقوله عليه‌السلام «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» وان كان هو الأول ، إلّا ان ظاهر جلّها هو الثاني ، كقوله عليه‌السلام «لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك» فالأظهر أنهما من الأمارات ، فان الملتفت إذا شرع في عمل مركب ، فانّ إخلاله بما اعتبر فيه لا بد وأن يكون لأحد وجهين ، إما الترك العمدي ، وهو خلف ، وإما الترك عن غفلة ، وهو خلاف الأصل ، فان ظاهر حال من هو مشغول بالعمل الالتفات إلى خصوصياته ، وبعد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٢.

٢٧٠

العمل نسي ، فنفس هذا المعنى كاشف عن عدم الإخلال وتمامية العمل.

إلّا انه لا يترتب أثر عملي على هذا البحث أصلا ، فان القاعدة مقدمة على الاستصحاب والاشتغال قطعا ، سواء كانت أمارة أو أصلا ، على ما تقدم تفصيله. وجميع الأمارات تتقدم عليها ، سواء كانت أصلا أو أمارة أيضا.

وربما يقال : بظهور الثمرة في ترتيب آثار لوازمها العقلية وعدمه. فعلى القول بكونها أمارة إذا جرت في الصلاة المشكوك وقوعها مع الطهارة ، وحكم باقترانها مع الطهارة ، كان لازمها عقلا ثبوت الطهارة حتى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة ، فيجوز الشروع معها في صلاة أخرى. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنها أصل عملي ، فان مثبتاتها حينئذ لا تكون حجة.

وفيه : ما بيناه في محله من أن حجية المثبتات لا تدور مدار الأمارية والأصلية ، فكثير من الأمارات لا تكون لوازمها حجة ، كاليد والظن في باب القبلة ونحو ذلك ، بل تدور حجية المثبتات مدار دليل الحجية ، فان كان دليل الحجية دالا على ترتيب آثار اللوازم أيضا رتب ، وإلّا فلا.

والظاهر ان حجية المثبتات منحصرة بباب الإخبارات والحكايات ، لا لما ذكره الآخوند من ان الاخبار عن الملزوم اخبار عن لازمه ، فيعمه دليل حجية الخبر ، فانه غير تام على إطلاقه ، لأنه يتوقف على العلم بالملازمة ، ولذا لا يكون المنكر لما علم اخبار الإمام به مكذبا للإمام عليه‌السلام إذا لم يكن ملتفتا إلى الملازمة ، وهو واضح ، بل لقيام السيرة الممضاة شرعا على ترتيب آثار لوازم الاخبار في باب الإقرار وغيره. ومن الواضح عدم قيام الدليل على ترتيب آثار لوازم القاعدة ، أصلا كانت أو أمارة ، لأن مفاد الأخبار عدم الاعتناء بالشك فيما مضى ، لا فيما لم يأت. فلا ثمرة لهذا البحث.

إذا عرفت المقدمة نشرع في المقصود فنقول : لم يستشكل أحد في أن قاعدة

٢٧١

الفراغ عامة تجري في جميع أبواب العبادات من الصلاة والطهارات والحج ، بل في المعاملات بالمعنى الأخص من العقود والإيقاعات ، بل في المعاملات بالمعنى الأعم كالتطهير ونحوه ، كما هو الحال في أصالة الصحة في فعل الغير. كما لم يستشكل ظاهرا أحد في عدم جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث ، اما تخصيصا أو تخصصا.

وانما الكلام في انّ قاعدة التجاوز عامة تعم جميع أبواب الفقه ، وقد خرج عن عمومها باب الوضوء بالنص الصريح الدال على الاعتناء بالشك في الأثناء ، وألحق به الغسل والتيمم بالإجماع أو للمناط. أو انها مختصة بباب الصلاة ، وخروج الطهارات الثلاث يكون بالتخصص لا بالتخصيص؟ ظاهر كلام الشيخ هو الأول.

ولكن الميرزا أصرّ على اختصاصها بباب الصلاة دون غيرها (١) ، فلا حاجة في إثبات عدم جريانها في الوضوء بالتمسك بالنص ، ولا في إلحاق الغسل والتيمم به إلى الإجماع والعلم بالملاك.

وتحقيق الكلام في ذلك مبني على بيان ان قاعدة التجاوز والفراغ قاعدتان ، أو أنهما قاعدة واحدة ، يعبر عنها تارة بقاعدة الفراغ ، وأخرى بقاعدة التجاوز.

الجهة الثالثة : في أنهما قاعدتان أو قاعدة واحدة.

قد يقال : بأنهما قاعدتان. ويستدل على ذلك بوجوه :

الوجه الأول : ان المجعول في كل منهما مغاير للمجعول في الآخر ، فان التعبد في مورد قاعدة التجاوز انما هو بأصل وجود المشكوك بنحو مفاد كان التامة ، وفي مورد قاعدة الفراغ يكون الوجود مفروغا عنه ، والتعبد بصحته بنحو مفاد كان الناقصة ، أي بالملزوم دون اللازم فلا يمكن الجمع بينهما بدليل واحد.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٦٨.

٢٧٢

وبعبارة أخرى : التعبد في مورد قاعدة الفراغ انما هو بالصحّة ، ويكون وجود أصل المشكوك مفروض الوجود ، وبعد فرض وجوده يعبدنا الشارع بصحته. والمشكوك في مورد قاعدة التجاوز مفروض العدم ، ولذا يكون التعبد بأصل وجوده. ومن الظاهر ان فرض الوجود وفرض العدم متنافيان ، لا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد.

وأجاب (١) عنه الشيخ قدس‌سره بأن المشكوك في كلا الموردين هو الوجود بنحو مفاد كان التامة ، غايته انه في قاعدة التجاوز هو وجود الجزء ، وفي قاعدة الفراغ وجود المجموع المركب من حيث المجموع. كما أن التعبد أيضا في كلا الموردين متعلق بأصل الوجود بنحو مفاد كان التامة ، غايته في قاعدة الفراغ بوجود العمل الصحيح. فالمشكوك فيه والمجعول في كلتا القاعدتين شيء واحد.

وأورد عليه الميرزا (٢) بوجهين :

أحدهما : ان إرجاع قاعدة الفراغ إلى الشك في وجود المركب من حيث المجموع ، وكون التعبد فيها بوجود العمل الصحيح أي الجامع للشرائط ، خلاف ظاهر دليلها ، كقوله عليه‌السلام «ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه» (٣) فان ظاهره كون أصل العمل مفروغا عنه ، والتعبد انما هو بصحته. بخلاف دليل قاعدة التجاوز ، كقوله عليه‌السلام «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» فانه ظاهر في الشك في أصل وجود الشيء ، وان التعبد يتعلق بأصل وجوده وتحققه ، فإرجاع الأول إلى الثاني يكون من قبيل الأكل من القفا.

ثانيهما : أنه في باب العبادات يترتب الأثر على التعبد بوجود طبيعي العمل

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٠٩ ـ ٧١٠.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٦٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٦.

٢٧٣

المأمور به في الخارج ، لأن هم العقل فيها هو تحصيل المؤمن من العقاب فرارا من الاشتغال اليقيني ، وهو يحصل بذلك ، إلّا ان الأثر في باب المعاملات لا يترتب على ذلك ، أي على وجود طبيعي المعاملة خارجا ، بل هو مترتب على صحة المعاملة الشخصية الخاصة ، فلا يكفي فيها التعبد بوجودها خارجا. فعلى ما ذكره الشيخ لا يترتب الأثر على قاعدة الفراغ إلّا في باب العبادات دون المعاملات.

ونقول : أما ما أفاده من أن إرجاع قاعدة الفراغ إلى التعبد بوجود العمل الصحيح خلاف ظاهر الدليل ، متين جدا كما عرفت.

وأما ما ذكره ثانيا ، ففيه : انه ليس مراد الشيخ من كون مفاد قاعدة الفراغ هو التعبد بتحقق العمل الصحيح وجود طبيعي العمل خارجا من أي فاعل ، وإلّا لما نفع جريانها في العبادات أيضا ، بداهة ان وجود طبيعي المأمور به خارجا ولو من غير المكلف لا يوجب أمنه عن العقاب ، ولا فراغ ذمته ، بل المراد وجود العمل الصحيح من شخص المكلف الشاك.

وعليه يترتب الأثر على جريانها في المعاملات أيضا ، وذلك لأن الأثر في لسان الأدلة وان رتب على المعاملة الموجودة في الخارج بنحو القضية الحقيقية ، إلّا أنه إذا جرت القاعدة في معاملة في صحتها شك بعد الفراغ عنها ، فمعناها التعبد بصدور المعاملة الواقعة على المورد الخاصّ من الشخص المعين وهو الشاك ، ولم يؤخذ في موضوع الأثر أكثر من ذلك ، فالإرجاع المزبور لا يوجب اختصاص القاعدة بالعبادات.

ولكن الإشكال في نفسه غير وارد ، وذلك لأن الإطلاق كما بين في محله عبارة عن رفض القيود لا أخذها ، فمعنى إطلاق قوله : الخمر حرام عدم دخل خصوصية من خصوصياته في موضوع الحكم ، بحيث لو أمكن وجود خمر في الخارج عار عن جميعها لشمله الحكم.

٢٧٤

وعليه ففي الأخبار الواردة في المقام أن الشك في الشيء بعد التجاوز عنه لا يعتنى به مطلقا ، سواء كان في الوجود أو في الصحة. ولا يستلزم إطلاقه فرض وجود المشكوك وفرض عدمه في دليل واحد ، بل يكون ذلك من قبيل اختلاف الموارد في بقية الإطلاقات.

وبالجملة كما يعم دليل حجية البينة مثلا أو غيرها من الحجج موارد قيامها على وجود المشكوك وموارد قيامها على صحته ، من دون لزوم الجمع بين متنافيين ، كذلك في المقام. فثبوتا لا مانع من شمول دليل واحد وتكفل جعل فارد لكلتا القاعدتين.

إلّا انه ربما يمنع عن ذلك إثباتا ، بدعوى : ان صدق عنوان التجاوز والمضي والدخول في الغير فيما إذا كان الشك في أصل الوجود ، أي في مورد قاعدة التجاوز حقيقي ، بداهة ان المضي والتجاوز عن ذات المشكوك مع فرض الشك في وجوده لا معنى له ، فلا بد وأن يراد به تجاوز محله ، وهذا متحقق فيه حقيقة وبلا عناية. بخلاف موارد الشك في الصحة ، فانه لا معنى لتجاوز محلها إلّا بعناية ومسامحة ، بأن يراد بها وجود العمل الصحيح ، فلا يعمها هذه العناوين المأخوذة في الأدلة ، فالمانع إثباتي.

وفيه : ان الشك في الصحة لا بد وان يرجع إلى الشك في الوجود ، لا لما ذكره الشيخ ، المحتاج إلى عناية ومسامحة ، بل لأن الصحة أمر انتزاعي ، فالشك فيها يرجع إلى الشك في منشأ انتزاعها ، وهو شرط الجزء أو جزء الجزء ، مثلا الشك في صحة تكبيرة الإحرام لا بد وان يكون من جهة الشك في الإتيان بجزئها كالهمزة مثلا ، أو شرطها كوقوعها في حال القيام الّذي هو شرط للنص الصريح ، فيصدق عليه عنوان التجاوز حقيقة بلا عناية ، ويكون التعبد في كلا الموردين بأصل الوجود.

٢٧٥

ثم انه قد يتوهم عدم تمامية ذلك في شرط الجزء ، فانه إذا شككنا بعد الفراغ عن الصلاة في صحتها من حيث اقترانها مع الطهارة وعدمه ، فان قلنا : بأن قاعدة الفراغ مفادها التعبد بصحة المأتي به ، فلا يلزم من جريانها محذور ، بل لا يترتب عليه سوى صحة ما مضى منها لا ما يأتي كما هو ظاهر الدليل. وأما ان قلنا : بان مفادها التعبد بتحقق الشرط كالطهارة في المثال ، فلازمه عدم الاحتياج إلى التطهير بالإضافة إلى العبادات المشروطة بها فيما بعد أيضا ، لأن الطهارة حاصلة بالتعبد ، ولم يتحقق لها ناقض بالوجدان ، مع أنه لم يقل به أحد.

وبالجملة الشك في الصحة غير معقول إلّا إذا رجع إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط ، فيصدق تجاوز المكلف عن المشكوك فيه ودخوله في غيره بلا عناية حتى في مورد قاعدة الفراغ.

وقد يقال : ان هذا لا يتم بالإضافة إلى الشرط ، وان تم بالقياس إلى الجزء ، فان التعبد بوجود الجزء لا يترتب عليه سوى صحة العمل الماضي ، ولا ربط له بالعمل الّذي لم يأت بعد ، وهذا بخلاف التعبد بوجود الشرط ـ كالطهارة ـ حين الاشتغال بالعمل الّذي فرغ عنه ، والمفروض عدم تحقق ناقض له بعد ذلك ، فهو متطهر وواجد للشرط بحكم الشارع ، فيجوز له الإتيان بما يعتبر فيه الطهارة بعد ذلك أيضا. ولم يقل به أحد ، فان الأدلة كلها ناظرة إلى الأعمال التي تجاوز عنها المكلف ومضت ، دون ما لم يأت ، فلا يتم إرجاع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الشرط أو الجزء.

والجواب عنه : مبني على بيان الفرق بين الجزء والشرط ، وان تقدم الكلام فيه مفصلا ، فنقول : الجزء عبارة عما تعلق به الأمر الضمني الانحلالي من الأمر بالمركب. بخلاف الشرط ، فان ذات الشرط لا يتعلق بها الأمر من المركب أصلا ، بل ربما لا يكون مقدورا كالوقت ، وانما يتعلق الأمر بالتقيد به ، أي باقتران الواجب

٢٧٦

معه ووجودها معا في زمان واحد في الزمانيات دون نفس الزمان ، فهذا التعبير أيضا لا يخلو عن مسامحة ، فنعبر عنه بالعند ، ونقول : الوجوب تعلق بوجود الواجب عند تحققه.

وعليه فالشك في وجود الشرط معناه الشك في وجود التقيد والتقارن الواجب. والتعبد بوجوده عبارة عن التعبد بوجود ذاك التقارن ، لا بتحقق أصل الشرط. نعم هو لازم وجود التقيد عقلا ، إلّا انك عرفت عدم حجية مثبتات قاعدة الفراغ. فإذا لا محذور في إرجاع الشك في الصحة والتعبد بها إلى الشك في وجود الشرط أو الجزء.

فتلخص : ان المجعول في كلتا القاعدتين هو التعبد بوجود المشكوك فيه ، لا أن المجعول في كل منهما مغاير لما هو المجعول في الآخر ، فلا مانع من التعبد بهما بجعل واحد ثبوتا. كما لا مانع من شمول الدليل الواحد لهما ، لصدق عنوان التجاوز والمضي عن محل المشكوك في كلا الموردين ، فقوله عليه‌السلام «إذا شككت في شيء ودخلت في غيره» يعمها.

الوجه الثاني : الّذي استدل به لتغاير القاعدتين ما ذكره الميرزا قدس‌سره (١) وحاصله : ان لحاظ الجزء بما هو لحاظ استقلالي ، وبما أنه جزء للمركب ملحوظ بلحاظ تبعي ، كما يتضح ذلك بلحاظ الدار مجموعا ، ولحاظ كل من اجزائه مستقلا. وعليه فإذا فرضنا ان القاعدتين مجعولتان بجعل واحد ودليل فارد ، لزم كون لحاظ الاجزاء الّذي هو لحاظ واحد تبعيا واستقلاليا ، وهو محال ، وذلك لأن التعبد في قاعدة الفراغ انما هو بتحقق المركب من حيث المجموع ، وفي قاعدة التجاوز بتحقق الجزء بما هو ، فيلزم من الجمع بينهما بدليل واحد اجتماع اللحاظين.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٦٥.

٢٧٧

والجواب عنه بوجوه :

الأول : النقض ، فانه على هذا يلزم استحالة جعل قاعدة الفراغ في نفسها ، فانها تجري عند الشك في صحة الاجزاء أيضا ، كما تجري إذا شك في صحة مجموع العمل من حيث المجموع ، فيلزم من ذلك المحذور المذكور ، إذ يلزم حينئذ كون لحاظ الأجزاء الّذي لحاظه واحد تبعيا واستقلاليا.

الثاني : ما ذكرنا من ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا أخذها ، فموضوع الحكم المطلق هو الكلي الملغى عنه جميع الخصوصيات الفردية ، وهي من اختلاف الموارد ، فلم تلحظ في المقام خصوصية المركب ، ولا خصوصية الجزء بما هو ، بل كل ذلك ملغى ، وموضوع الحكم ما شك فيه بعد التجاوز عنه ، سواء كان جزء أو كلا.

ومن هنا لو حكمنا بأن كل ممكن محتاج إلى المؤثر ، وجعل موضوعه عنوان الممكن ، شمل الحكم للمختلفين في المرتبة كالعلة والمعلول ومثاله النار والحرارة ، والجزء والكل ومثاله الباب والدار ، لصدق عنوان الممكن على جميعها ، وفي المقام أيضا.

الثالث : ما ذكرناه من رجوع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط بالمعنى الّذي ذكرناه ، فلا يلزم من تكفل الدليل الواحد لهما الجمع بين اللحاظين ، بل المجعول هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ، سواء كان في الوجود أو في الصحة في الأثناء أو بعد العمل.

ومما أورد به عليه أن المضي والتجاوز في مورد قاعدة الفراغ ، أعني الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل المركب ، حقيقي غير محتاج إلى عناية ، وفي مورد قاعدة التجاوز بما انّ المشكوك فيه أصل وجود الجزء أو الشرط لا معنى فيه للمضي والتجاوز عنه حقيقة ، فلا بد من عناية ، اما في الإسناد بأن يكون التجاوز

٢٧٨

مسندا حقيقة إلى محل الجزء أو الشرط وأسند مسامحة إلى نفسه ، واما في اللفظ بالإضمار والتقدير. ومن الظاهر عدم إمكان إعمال العناية وعدمه في استعمال واحد ، أي الجمع بين إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا في استعمال واحد ، فلا بد وأن تكونا قاعدتين ، ويدل على كل منها دليل مستقل.

والجواب عنه يظهر مما ذكرناه من رجوع الشك في صحة المركب إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط ، وهو مهم المكلف الّذي يحصل به الامتثال. فانه عليه دائما يكون الشك في الوجود ، ويكون التجاوز باعتبار محله ، وإطلاقه بعناية ومسامحة في الجميع.

الوجه الثالث : مما استدل به على تعدد القاعدتين ما ذكره الميرزا قدس‌سره من أنهما إن كانتا قاعدتين لا يلزم محذور. وإن كانتا قاعدة واحدة لزم التدافع بين دليل قاعدة الفراغ ، وذلك لأن دليل الفراغ كقوله عليه‌السلام «كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه» (١) بمنطوقه يدل على عدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ ، وبمفهومه يدل على الاعتناء به إذا كان قبل المضي والفراغ ، فالشك في إتيان الجزء بعد التجاوز في الأثناء يكون موردا للمفهوم ، فبناء على كونهما قاعدتين يكون دليل التجاوز واردا في مورد المفهوم ، فيقدم عليه بالحكومة أو التخصيص ، فلا تدافع. وأما إذا كانتا قاعدة واحدة ، فالشك في الجزء أو الشرط في الأثناء يكون داخلا تحت المنطوق والمفهوم باعتبارين ، فمن حيث شمول الرواية للمركب يكون الشك في الجزء قبل المضي ، فلا بد من الاعتناء به بمقتضى المفهوم ، ومن حيث شمولها للشك في الجزء بعد تجاوز محله لا بد من إلغائه وعدم الاعتناء به ، فيلزم التدافع ، فلا بد وأن تكونا قاعدتين لأن لا يلزم هذا المحذور.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٦.

٢٧٩

ونقول : لو كان عند الشك في وجود الجزء أو الشرط شك واحد لكان لهذا الإشكال مجال ، وإن كان قابلا للدفع. إلّا ان الموجود هناك شكان ، أحدهما شك في حصول الامتثال وسقوط الأمر ، أي الامتثال وسقوط الأمر من حيث الجزء مشروطا بانضمام سائر الاجزاء ، وهو مسبب عن الشك في تحقق الجزء أو الشرط ، فإذا فرضنا سقوط الشك الأول بالتعبد لا يبقى مجال للشك الثاني.

وبعبارة أخرى : بعد ما أرجعنا الشك في الصحة إلى الشك في الوجود ، نرى انه لا منشأ للشك في صحة المجموع المركب قبل مضيه سوى الشك في وجود الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، إذ المفروض أنه تام من بقية الجهات ، والشك فيه انما هو من جهة احتمال الإخلال بذاك الجزء أو الشرط المتقدم ، الدخيل في صحة المجموع المركب ، حتى الاجزاء اللاحقة ، فإذا الغي بالتعبد الشرعي لا يبقى شك في صحة المركب ليكون قبل المضي وموردا للاعتناء.

فتحصل : انه لا مانع ثبوتا من كونهما قاعدة واحدة مدلولة لدليل واحد. ثم ان المحقق النائيني أرجعهما إلى قاعدة واحدة ، لكن بعكس ما صنعناه ، أي أرجع التجاوز إلى قاعدة الفراغ ، بدعوى : ان المجعول انما هو التعبد بعدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ والتجاوز عن المركب ، ثم في خصوص باب الصلاة باعمال المولوية اعتبر الشارع الجزء بمنزلة الكل ، وجعل التجاوز عن محله بمنزلة التجاوز عن المركب ، فبالتعبد أوجد صغرى تعبديا لقاعدة الفراغ ، أعني الشك بعد العمل المركب. ويمكن الاستدلال عليه بقوله عليه‌السلام في رواية ابن أبي يعفور «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء ، انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (١) فانه مشتمل على الأصل والعكس ، أي على عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٢.

٢٨٠