دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ولكن عرفت عدم اعتبار الاتصال في الاستصحاب ، وإلّا لم يجر في الشبهات البدوية أيضا إذا تردد زمان اليقين بالحدوث ، كما إذا علمنا بحدوث الطهارة ، وتردد زمان تحققها بين وقتين ، واحتملنا بقاؤها ، فان زمان اليقين مردد ، ولازم ما ذكره عدم جريان استصحاب الطهارة فيه. وهو قدس‌سره لا يلتزم به. فما هو المعتبر في الاستصحاب ليس إلّا اليقين بالحدوث والشك بالبقاء. ونحن إذا راجعنا وجداننا نرى انا شاكين في بقاء كل من الحادثين ، فنجري الاستصحاب فيهما ، ويسقطان بالمعارضة ، ولا بد من الرجوع إلى أصل آخر ، وهو يختلف في الطهارة الحدثية. ففيما إذا كان الشك في التكليف ، المرجع هو البراءة كحرمة مس المصحف. وفيما إذا كان التكليف محرزا والشك في السقوط كان المرجع قاعدة الاشتغال. وأما في الطهارة الخبثية فالمرجع قاعدة الطهارة مطلقا.

ثم ان الاستصحاب الجاري في المقام قد يكون شخصيا. وقد يكون كليا من قبيل القسم الثاني. وقد يكون من قبيل القسم الرابع باختلاف الموارد. مثلا إذا كان تاريخ أحد الحادثين معلوما دون الآخر ، فالاستصحاب في معلوم التاريخ شخصي. وأما مجهول التاريخ ، فان كان موافقا مع الحالة السابقة المتيقنة قبل العلم بحدوث الحادثين ، كما إذا فرضنا ان المكلف قام من النوم فعلم بعد ذلك بأنه بال وتوضأ ، وكان تاريخ الوضوء معلوما دون البول ، فاستصحاب الحدث حينئذ يكون من قبيل القسم الرابع ، لأنه يعلم بتحقق فرد مقطوع الارتفاع ، وهو الحدث الناشئ من النوم المتيقن سابقا ، ويعلم أيضا بتحقق عنوان ، وهو الحدث البولي ، يحتمل أن لا يكون مؤثرا ، لحدوثه قبل الوضوء ، فيكون حدثا على حدث ، فلا يكون مؤثرا ، وقد ارتفع قطعا ، كما يحتمل أن يكون مؤثرا ، لصدوره بعد الوضوء ، ويكون موجبا لحدث آخر وهو باق قطعا.

وهذا نظير ما إذا علمنا بجنابة في وقت خاص ، وعلمنا بارتفاعها ، ثم رأينا

٢٠١

أثرا ، وعلمنا بجنابة بهذا العنوان نحتمل انطباقها على الفرد المتيقن ارتفاعه ، ويحتمل انطباقه على فرد آخر باق. والجامع لهذا القسم هو اليقين بفرد معلوم الارتفاع ، واليقين بعنوان محتمل الانطباق عليه وعلى ما هو محتمل البقاء.

وأما إن كان مجهول التاريخ مخالفا للحالة السابقة قبل حدوث الحادثين ، كما إذا كانت الطهارة في الفرض مجهولة التاريخ ، فان الاستصحاب فيه يكون من قبيل الكلي. القسم الثاني ، حيث يعلم بتحقق فرد مردد بين الطويل والقصير من حيث الزمان ، لأن الوضوء ان كان بعد الحدث فهو باق ، وان كان قبله فهو زائل ، وهذا كله ظاهر.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما ذكره المحقق في المعتبر من الرجوع إلى ضد الحالة السابقة في المقام ، لليقين بانتقاضه ، بداهة ان تلك الحالة بشخصها وان كانت زائلة قطعا ، إلّا أنه يحتمل بقاؤها بسبب آخر كما هو واضح ، فلا وجه للرجوع إلى ضده.

كما ظهر أيضا فساد ما نسبه الميرزا إلى الشيخ ـ وان لم يعثر عليه في كلماته ـ من المنع عن جريان استصحاب العدم في مجهول التاريخ كاستصحاب عدم تحقق الحدث المفروض مجهولية تاريخه إلى زمان الوضوء المفروض معلوميته ، لأنه مثبت لا يترتب عليه تأخر الحدث عن الوضوء ليحكم بالحدث فعلا ، فان المقام مورد لاستصحاب الوجود لا العدم ، والمفروض انه لا يترتب أثر على عدم كل منهما في زمان الآخر.

هذا تمام الكلام في استصحاب الوجود والعدم إذا علم بتحقق حادثين وشك في تقدم أحدهما على الآخر.

بقي فرع :

وهو حكم الإناءين المشتبهين ، حيث حكم الإمام عليه‌السلام بإهراقها والتيمم ، بأنّ الظاهر كونه تعبدا محضا ، لتمكن المكلف من الإتيان بصلاتين مع الطهارة المائية من

٢٠٢

الحدث والخبث ، بأن يتوضأ بأحدهما ويصلي ، ثم يطهر المواضع ويتوضأ بالثاني ويعيد الصلاة ، فإن إحداهما واقعة مع طهارة البدن والطهارة المائية.

إلّا ان صاحب الكفاية في بحث اجتماع الأمر والنهي ذهب إلى انه يمكن ان يكون ذلك من جهة استلزام الوضوء بهما لنجاسة البدن ظاهرا ، فقدم جانب النجاسة على الطهارة المائية ، وذلك لأنه حين ملاقاة بدنه مع الإناء الثاني قبل انفصال غسالته يعلم بنجاسة بدنه تفصيلا ، وبعد انفصال الغسالة يحتمل زوال النجاسة ، لاحتمال طهارة الماء الثاني ، فيستصحب بقاء النجاسة الشخصية. ولا يعارضه على مسلكه استصحاب الطهارة المتيقنة ، للجهل بتاريخها.

ثم ذكر ان هذا مختص بما إذا لم يكن الإناء الثاني كرا ، بناء على عدم اعتبار التعدد وانفصال الغسالة فيه ، وإلّا فلا يجري استصحاب النجاسة أيضا ، للجهل بتاريخ النجاسة وان كانت متيقنة إجمالا. وهذا أيضا مبني على ما سلكه من إنكار الاستصحاب في مجهول التاريخ ، لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك فيه.

هذا ولكن على المختار من جريان الاستصحاب في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، كما يجري استصحاب النجاسة يجري استصحاب الطهارة أيضا ، غاية الأمر استصحاب النجاسة شخصي ، واستصحاب الطهارة كلي من قبيل القسم الرابع ، لتردد المتيقن من حيث الزمان ، فانه يعلم بطهارة جسده قبل استعمال كل منهما ، ويعلم بارتفاعها ، ثم يعلم بتحقق طهارة حين التوضي بالإناء الطاهر الواقعي ، المردد من حيث الزمان بين زمان التوضي بالإناء الأول أو الثاني ، وهذه الطهارة المتيقنة بهذا العنوان يحتمل انطباقه على الطهارة المتيقنة ارتفاعها ، بمعنى أن تكون طهارة على طهارة ، فلم تكن مؤثرة ، وقد ارتفعت قطعا ، كما يحتمل أن تكون طهارة حادثة ، فهي باقية فعلا ، فيستصحب بقاؤها ، فتقع المعارضة بين الاستصحابين ، وبعد سقوطهما يرجع إلى قاعدة الطهارة ، فلم يكن الحكم بإراقة

٢٠٣

الماءين على القاعدة. إلّا أن يقال : ان العلم الإجمالي الموجود في المقام إذا توضأ من الإناءين مانع عن الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، فانه حين ملاقاة بعض جسده مع الإناء الثاني يعلم إجمالا بنجاسة ذاك الموضع من بدنه ، أو الموضع الآخر الّذي لم يلاق بعد مع هذا الإناء ، من غير فرق بين ان يكون الإناء الثاني كرا أو قليلا ، فان الارتماس الدفعي بحيث يرتمس جميع الأعضاء في الماء دفعة واحدة فرض لا واقع له ، فإذا فرضنا أنه طهر وجهه مثلا بالماء الثاني ، علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة يده ، وهذا العلم يمنع الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، فالحكم بالإهراق والتيمم يكون على القاعدة.

إلّا أن يقال : انه لا أثر لهذا العلم الإجمالي مع إمكان اليقين بالإتيان بصلاة صحيحة مع طهارة البدن والوضوء ، بأن يتوضأ بالإناء الأول فيصلي ، ثم يطهر المواضع بالإناء الثاني ويتوضأ منه ، ويعيد الصلاة ، فانه يقطع بتحقق صلاة تامة الاجزاء والشرائط وان علم إجمالا بنجاسة بعض مواضع جسده ، فالحكم بالإهراق والتيمم تعبد محض.

إلّا أن يقال : انه وإن أمكن إحراز صلاة تامة مع الطهارة المائية ، إلّا أن العلم الإجمالي له أثر بالنسبة إلى صلاته الآتية ، فان لازمه ان يطهر جميع مواضع الوضوء ، بل وكل ما لاقى الإناء الثاني من جسده أو لباسه بكل من الماءين والإتيان بالصلاة بعد كل منهما ، وهذا عسر منفي في الشريعة ، وبما أن التوضي بالإناءين مستلزم لهذا العسر أمر عليه‌السلام بإهراقهما والتيمم ، فهو حكم على القاعدة.

وفيه : ان الميزان في العسر والحرج انما هو بالعسر الشخصي لا النوعيّ ، وبما ان لزوم العسر من ذلك مختص ببعض الموارد ، فلا عسر فيما إذا كان المكلف عالما بأنه يجد الماء الطاهر بعد ذلك لبقية صلواته ، فإطلاق الحكم بإهراق الإناءين لا بد وان يكون تعبدا محضا.

٢٠٤

وكيف كان الحكم مما لا إشكال فيه نصا وفتوى.

ثم ان شيخنا الأنصاري (١) نسب إلى المعروف الحكم بصحة الصلاة فيما إذا شك في مانعية شيء فيها ، تمسكا باستصحاب الصحة. وأورد عليهم بأن استصحاب الصحة غير جار ، لأن صحة الأجزاء السابقة بمعنى قابليتها لأن تنضم إليها الأجزاء الباقية محرزة وجدانا ، لأنها كانت صحيحة قبل الإتيان بما يحتمل مانعيته ، كالضحك بدون الصوت مثلا ، والشيء لا ينقلب عما وقع عليه. وأما صحة الأجزاء الباقية أي الصحة الفعلية ، فالشك في حدوثها لا في بقائها ، فأيّ صحة يستصحب.

ثم ذكر أنه لا مانع من استصحاب الصحة إذا شك في قاطعية شيء وعدمها ، وذلك لأنه كما يكون للمركبات الخارجية أجزاء تكون بمنزلة موادها ، وهيئة اتصالية بمنزلة الهيئة لها ، كذلك المركبات الاعتبارية ، لها اجزاء بمنزلة موادها ، واعتبر لها هيئة اتصالية تكون هيئة لها ، واعتبر بعض الأمور قواطع لها ، وقد عبر عنها بهذا العنوان أي عنوان القاطع أو الناقض في الاخبار كالقهقهة والتكلم ، فإذا احتملنا قاطعية شيء يستصحب بقاء الهيئة الاتصالية ، لأنها من الأمور التدريجية القابلة للاستصحاب كالزمان وغيره من التدريجيات.

ونقول : ما أفاده من عدم جريان الاستصحاب عند احتمال المانعية متين جدا ، إذ لا معنى لاستصحاب الصحة الفعلية في الاجزاء اللاحقة إلّا تعليقا ، وقد عرفت عدم اعتباره ، خصوصا في الموضوعات.

وأما ما ذكره في القاطع فممنوع ، وذلك :

أولا : لأن القاطع مما لا معنى له في المركبات الاعتبارية ، فانها مركبة من

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٧٠ ـ ٦٧١ (ط. جامعة المدرسين).

٢٠٥

أمور وجودية وأمور عدمية. وأما اعتبار الهيئة الاتصالية فيها فمما لا دليل عليها ، وعليه فالقاطع عين المانع ، إذ لا معنى له إلّا ما اعتبر عدم في العمل.

نعم الموانع على قسمين ، لأن منها ما يعتبر عدمه في تمام حالات الصلاة حتى الأكوان المتخللة كالقهقهة ، ومنها ما لا يعتبر إلّا في حال الاشتغال بالعمل كالحركة ، التي اعتبر عدمها حال الاشتغال بالقراءة ونحوها كما صرح به في بعض الروايات. وقد يعبر عن ذلك باعتبار الطمأنينة ، ولا مانع من تسمية الأول أي المانع الوسيع بالقاطع ، والثاني بالمانع ، إلّا انه مجرد اصطلاح وتسمية.

وثانيا : ان القاطع لا محالة يكون عدمه من اجزاء الصلاة ، فكل قاطع مانع أيضا ، وهو ذو وجهين ، فنفرض جريان الاستصحاب عند الشك فيه من حيث القاطعية ، إلّا أنه لا يجري فيه الاستصحاب من حيث المانعية.

وثالثا : عين ما ذكره في المنع عن الاستصحاب عند احتمال المانعية يجري في الاستصحاب عند احتمال القاطعية ، فان الهيئة الاتصالية في الأجزاء السابقة مقطوع التحقق ، وفي الأجزاء اللاحقة مشكوك الحدوث.

وبعبارة أخرى : الاستصحاب في الأمور التدريجية وان كان جاريا على ما تقدم ، ولذا يجري الاستصحاب إذا شككنا في فراغ المصلى عن الصلاة وعدمه ، إلّا ان في المقام خصوصية لمنع جريان الاستصحاب ، وهي ان بقاء الهيئة الاتصالية بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت انضمام الاجزاء اللاحقة إليها ، وبدونه لا فائدة في الاستصحاب. وان شئت قلت : الشك هنا في صحة الأجزاء السابقة ، وهي لا تثبت باستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية.

وهذا ظاهر ، فلا مجرى للاستصحاب في شيء من الموردين فيما إذا كانت الشبهة حكمية. وأما في الشبهة الموضوعية ، كما إذا شك في انه هل قام في الأثناء أم لا؟ جرى استصحاب عدمه ، ويتم تحقق تمام اجزاء العمل ، أعني الوجودية

٢٠٦

والعدمية ، بضم الوجدان إلى الأصل. وقد ذكرنا فيما سبق أنه يمكن إحراز الشرط والمشروط كالطهارة ، وما هو مشروط بهما ، بضم الوجدان إلى الأصل ، فضلا عن إحراز بعض اجزاء المركب بالوجدان ، وبعضها الآخر بالتعبد. وفي المقام نحرز الجزء العدمي بالاستصحاب ، والأجزاء الوجودية بالوجدان ، كما هو المفروض.

التنبيه الثاني عشر :

يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فانهما مأخوذان في دليله ، وترتب الأثر عليه ، وإلّا كان جريانه لغوا ، وقيام دليل عليه ، فانه ليس مما استقل به العقل ، بل لا بد من قيام دليل شرعي عليه ، إلّا أنه لا يعتبر في الأثر ان يكون حكما متعلقا بالافعال الخارجية ، بأن يكون الأثر المترتب عليه منطبقا بالافعال الجوارحية ، بل يكفي ان يكون الأثر من الأفعال الجوانحية ، كالبناء والاعتقاد على شيء. والتعبير عنها بالأصول العملية انّما هو في قبال الأمارات الناظرة إلى الواقع ، فان الأصول وظائف عملية للشاك ، لا من جهة تعلقها بالعمل الخارجي.

وعليه فلا مانع من الاستصحاب فيما يرجع إلى الأمور الاعتقادية ، كما إذا شك في بقاء امام يجب الاعتقاد بإمامته ، فانه يستصحب بقاؤه ، ويرتب عليه وجوب الإذعان بإمامته. وما ذكرناه مقدمة لبيان ما ورد في خبر الاحتجاج من استدلال الكتابي على حقيقة دينه بالاستصحاب ، وجواب الإمام عليه‌السلام عنه ، بأنّا انّما نعترف بالنبي الّذي اعترف بنبوة نبينا وبشّر به (١) ، فان الشيخ قدس‌سره أورد عليه بأن موسى أو عيسى لم يكن كليا ليصح القول بأنا نعترف ببعض حصصه دون بعض ، بل هما شخصان خارجيان ، والمفروض اعترافنا بنبوتهما (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ١٢٨.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٧٣ (ط. جامعة المدرسين).

٢٠٧

ونقول في توضيح ذلك : ان تمسك الكتابي بالاستصحاب قد يكون إقناعيا ، أي في مقام بيان عذره في تهوده أو تنصره. وقد يكون إلزاميا في مقام بيان وجوب التهود أو التنصر على المسلمين. فالكلام في مقامين :

أما المقام الأول :

فتارة : يتمسك الكتابي بالاستصحاب في نفس نبوة النبي السابق ، فنسأل منه أولا من أين حصل لك اليقين بنبوته حدوثا ، وعلى فرض تحققه ولو من جهة السماع من أبويه. فنقول له : هل أنت متيقن ببقائه فعلا؟ وعليه فلا مجال للاستصحاب. أو أنت شاك فيهما ، فحينئذ لا بد لك في الفحص ، إذ بدونه لا يرجع إلى الأصل العملي في غير الشبهات الموضوعية ، وبالفحص يتبين الحق ، كما هو ظاهر قوله سبحانه (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) وعلى فرض عدم وضوح الحق له ولو محالا ، فليس له الرجوع إلى الاستصحاب ، لأن الأثر المرغوب هنا هو المعرفة واليقين ، وهو ينافي الشك ، ولا يترتب على الاستصحاب.

وان قال الكتابي : ان الاستصحاب يفيد الظن ، وهو حجة في فرض العجز عن اليقين. قيل له : لا بد لك من إثبات أمرين : أحدهما : ان الاستصحاب مفيد للظن ، والثاني : كونه حجة ، فان العقل مستقل بعدم حجيته ، مع ان المفروض إمكان الاحتياط بالاعتقاد بنبوة من هو نبي بعده واقعا.

واما استصحاب أحكام الشريعة السابقة ، فانما يصح الرجوع إليه فيما إذا كان حجة في كلتا الشريعتين ، أي السابقة واللاحقة ، فحينئذ تكون حجية الاستصحاب متيقنة على التقديرين. وأما إذا كان حجة في خصوص السابقة ، فلا يجري ، لأن حجيته كبقية أحكام تلك الشريعة يحتمل ان تكون منسوخة ، فحجيته

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

٢٠٨

دوري ، فان حجيته حينئذ مبنية على عدم منسوخية الأحكام السابقة ، والمفروض انّا نريد إثبات ذلك بالاستصحاب. كما انه إذا كان حجة في خصوص الشريعة اللاحقة لزم من وجوده عدمه ، فان الشريعة اللاحقة لو لم تكن حقا فحجية الاستصحاب أول الكلام ، وإلّا فارتفاع أحكام الشرائع السابقة متيقنة ، فأي شيء يستصحب.

وأما إذا كان الاستصحاب حجة في كلتا الشريعتين فهو يعتقد بأن وظيفته العمل على طبقه على أي تقدير ، فيمكن التمسك به.

هذا كله في التمسك بالاستصحاب إقناعا.

وأما المقام الثاني :

أعني الشك به إلزاما ، فان تمسك به لإثبات أصل النبوة ، فللمسلم عنه أجوبة :

الأول : إنكار اليقين بنبوة النبي السابق رأسا ، فان ثبوت نبوته بالتواتر في جميع الطبقات أول الكلام ، بل قيل : ان من آمن بعيسى عليه‌السلام حين ارتفاعه لم يكونوا إلّا أحد عشر رجلا ، خصوصا مع هذه الكتب المحرفة التي بأيديهم ، المقطوع عدم كونها من الله تعالى ، فانما نعرف نبوتهم حيث أخبر نبينا بذلك ، ولذا نحن نقطع بتحريف الكتب التي بأيديهم.

وعليه فإذا كانت هذه الشريعة ثابتة فنبوة النبي السابق منسوخة ، وإلّا فلا يقين بثبوته ليستصحب. وإلى هذا أشار الإمام عليه‌السلام في رواية الاحتجاج ، حيث قال : نحن نعرف بنبوة موسى وعيسى الّذي بشر بنبوة نبينا ، فلا إشكال.

الثاني : ان المسلم لا يحتمل بقاء نبوة النبي السابق ، بل يقطع بمنسوخية نبوته ، إذ المفروض انه مسلم فلا يقين بالحدوث إلّا من طريق هذه الشريعة ، كما لا شك له في البقاء ليستصحب. وأما تمسكه بالاستصحاب في أحكام الشريعة

٢٠٩

السابقة إلزاما ، فهو تام ان احتمل المسلم بقاء حكم من الشريعة السابقة ، وعدم نسخه ، مع قطع النّظر عما تقدم من الإشكال في استصحاب عدم النسخ ، وما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

التنبيه الثالث عشر : عموم العام أو استصحاب عدم المخصص.

إذا ورد عام وكان له عموم أزماني ، وورد عليه مخصص ، ثم شك في بقاء حكم المخصص في الزمان الثاني ، فهل يرجع في ذلك إلى عموم العام ، أو يرجع إلى استصحاب حكم المخصص؟ بعد وضوح ان الاستصحاب لا يقاوم الدليل اللفظي من العموم أو الإطلاق. فالبحث انما يكون في تعيين الموارد ، أي شمول الدليل اللفظي للمورد وعدمه. ومن تلك الموارد عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فان مقتضاه لزوم كل عقد مستمرا ، وقد خصص البيع الغبني ، فإذا شك في كونه مبنيا على الفور أي اختصاص الخروج بحين العلم بالغبن وعدمه ، فيقع البحث في انه هل يرجع في ذلك إلى العموم أو إلى استصحاب الخيار. ومن الموارد أيضا ما ذكرناه.

وقد فصل الشيخ فيه بينما إذا كان الزمان قيدا للعام بان كان مفردا للموضوع ، وكانت الأفراد الطولية كالعرضية ، لكل منها حكم مستقل ، وكان عموم العام بالقياس إليها استغراقيا ، وما إذا كان الزمان ظرفا ، وكان لكل فرد عرضي حكم واحد مستمر في عمود الزمان ، وكان شموله بالإضافة إلى الأفراد الطولية مجموعيا ، نظير الصوم كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، فان الوفاء بكل عقد حكم واحد مستمر. فذهب في الأول إلى التمسك بالعامّ ، لأن خروج فرد من العام لا يستلزم خروج الفرد الآخر ، وفي الثاني إلى الاستصحاب، حيث ان الفرد الخارج خرج عن العام ، وقد انقطع عنه حكمه ، وعوده يحتاج إلى دليل (٢).

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٨٠ ـ ٦٨١ (ط. جامعة المدرسين).

٢١٠

وقد أورد عليه الآخوند (١) بأن في إطلاق كلا الشقين نظر ، إذ لا يكفي لحاظ حال العام فقط ، بل لا بد من ملاحظة حال المخصص أيضا ، فانه تارة : يكون الزمان قيدا للفرد الخارج من العام ، وأخرى : يكون ظرفا على ما هو مقتضى طبع الزمان والمكان إذا أخذ قيدا في موضوع الحكم أو متعلقه.

فعلى الأول لا مجال لاستصحاب حكم المخصص أصلا ، ولو سقط العام بالمعارضة ، لأنه قياس وإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وليس من الاستصحاب في شيء. فان كان عموم العام للأفراد الطولية استغراقيا ، وكان الزمان قيدا مفردا فيه ، يرجع إليه ، لأن خروج فرد لا يستلزم خروج فرد آخر ، وإلّا لا بد من الرجوع إلى دليل آخر من أصل عملي أو غيره ، ولا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب ، ولا إلى العام.

واما على الثاني أي لو كان الزمان ظرفا في المخصص ، فلا مانع من استصحاب حكم المخصص فيه في نفسه. فان كان الزمان قيدا في العام ، لا بد من الرجوع إلى عمومه ، لا لنقصان في جريان الاستصحاب ، بل لأنّ خروج فرد من العام لا يوجب خروج الفرد الآخر ، والأصل العملي لا يعارض به الدليل اللفظي ، ولذا لو فرض سقوطه بالمعارضة جرى استصحاب حكم المخصص.

وأما ان كان الزمان ظرفا في العام أيضا ، فالرجوع إلى عمومه غير ممكن ، إذ المفروض أن مفاده كان حكما واحدا مستمرا ، وقد انقطع عن ذاك الفرد ، وعوده يحتاج إلى دليل ، فيرجع إلى استصحاب حكم المخصص لا محالة.

فالأقسام على ما بنى عليه أربعة ، ففي بعضها يرجع إلى العموم ، وفي بعضها إلى الاستصحاب ، وفي بعضها لا يمكن الرجوع إلى شيء منهما.

ثم انه قدس‌سره فصل في مورد الرجوع إلى الاستصحاب ، أعني القسم الرابع ، وهو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٢١١

ما أخذ الزمان ظرفا في المخصص وفي العام ، بين ما إذا كان التخصيص وخروج الفرد عن العام من الأول ، وما إذا كان التخصيص في الأثناء بعد كون الفرد مشمولا للعام ابتداء ، ففي الأول لا بد من الرجوع إلى العام ، وفي الثاني يستصحب حكم المخصص.

مثال الأول مورد خيار المجلس ، فان العقد الّذي ثبت فيه خيار المجلس يكون خارجا عن عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) من أول الأمر ، فإذا فرض الشك في فوريته وبقائه لا يمكن استصحاب الخيار ، بل لا بد من الرجوع إلى العموم. مثال الثاني خيار الغبن ، فان مورد ثبوته خارج عن عموم دليل الوفاء بالعقد في الأثناء ، فإذا شك في فوريته استصحب بقائه.

والوجه في هذا التفصيل هو ان استصحاب حكم المخصص في الفرض الثاني لا يستلزم التخصيص الأفرادي في العام ، فلا مانع منه بعد كون مفاد العام حكما واحدا مستمرا قد انقطع ، وعوده يحتاج إلى دليل. بخلاف الفرض الأول ، فان المفروض فيه ان الفرد لم يكن مشمولا للعام ابتداء ، فإذا جرى فيه الاستصحاب خرج عنه استدامة ، ولازمه خروجه عن العموم رأسا ، وهذا معنى التخصيص الأفرادي.

ونقول : ما أفاده في الأقسام الأربعة كلها صحيح ، بناء على مسلكه من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

ولكن ما ذكره من التفصيل في القسم الرابع لا يتم بإطلاقه ، فانه انما يتم في ما إذا كان هناك دليلان ، أحدهما : دال على أصل الحكم ، والثاني : على استمراره ، فان التفصيل حينئذ يكون على القاعدة ، لأن المخصص لو كان دالا على خروج الفرد عن العام من أول الأمر ، واستصحبنا بقاء الحكم الخاصّ لزم منه تخصيص كلا الدليلين ، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الأثناء ، فانه لا يلزم إلّا

٢١٢

تخصيص دليل الاستمرار بمقتضى المخصص ، ولا يلزم من استصحاب بقاء حكمه تخصيص زائد أصلا.

وأما إذا كان دليل الحكم واستمراره واحدا ، بأن دل الدليل الواحد على حكم مستمر من حين حدوث العقد مستمرا إلى الأبد ، فخروج فرد يستلزم تخصيص العام افراديا ، سواء كان خروجه في آن واحد أو مستمرا من الأول ، فان الحكم الواحد المستمر غير ثابت إذا لم يثبت الحكم لفرد ولو في آن واحد ، وثبوته بعد ذلك يحتاج إلى دليل ، ولا يكون العام متكفلا له كما هو واضح. فالتفصيل على إطلاقه غير تام.

وبالجملة ملخص ما يستفاد من كلام الشيخ والآخوند قدس‌سره مجموعا هو ان شمول العام للافراد الطولية ان كان استغراقيا ، وكان الزمان مأخوذا فيه بنحو القيدية ، وكان مفردا للموضوع ، بحيث كان لكل فرد في كل آن حكم مستقل ، يرجع إلى عموم العام فيما إذا شك في التخصيص الزائد ، لأن خروج فرد لا يستلزم خروج غيره ، ومعه لا معنى لاستصحاب حكم المخصص ، فإذا سقط العام لمعارضته أو نحوها فان كان الزمان ظرفا في المخصص لا قيدا ، يرجع فيه إلى استصحاب حكم المخصص ، وإلّا فلا مجال للاستصحاب أيضا.

واما إن كان شمول العام للأفراد الطولية مجموعيا ، وكان الزمان فيه ظرفا ، فلا يمكن الرجوع إلى العام إذا شك في بقاء حكم المخصص ، لأن الثابت بالعامّ كان حكما واحدا مستمرا ، وقد انقطع ، وعوده يحتاج إلى دليل ، ولا يتكفله عموم العام ، فحينئذ ان كان الزمان ظرفا في المخصص استصحب حكم المخصص ، وإلّا فلا مجال له أيضا.

وهذا غير تام ، إذ لا فرق في الرجوع إلى العام في الزائد عن المتيقن من دليل الخاصّ بين العام الاستغراقي والعام المجموعي ، فكما انه إذا ورد عام استغراقي ،

٢١٣

وخرج عنه فرد ، ثم شك في مرجع الفرد الآخر ، رجع إلى عموم العام وثبت له الحكم الاستقلالي ، كذلك في العام المجموعي ، مثلا إذا قال المولى : أكرم هؤلاء العشر ، ثم استثنى أحدهم اما متصلا أو منفصلا ـ فانه أيضا يرجع إلى الاستثناء ، غايته في الحجية لا في الظهور ـ ثم شك في خروج فرد آخر كان مقتضى العموم دخوله تحت العام ، وثبوت الحكم الضمني له ، إذ الوحدة الاعتبارية الثابتة في العام المجموعي لا تمنع الرجوع إليه ، فيثبت الحكم الضمني للفرد المشكوك. وهذا جار في الأفراد الطولية أيضا ، فان انتفاء الحكم عن فرد في زمان للمخصص لا ينافي ثبوته بعد ذلك الآن بمقتضى العموم.

وبالجملة ظهور العام في العموم حتى المجموعي حجة لا يرفع اليد عنه إلّا بحجة أقوى كالخاص ، وفي الزائد عن المتيقن منه لا بد من الرجوع إلى العام لا محالة. فما توافق عليه الشيخ والآخوند من الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص فيما إذا كان العام مجموعيا ، وكان الزمان ظرفا في المخصص ، وكان التخصيص في الأثناء ، غير تام.

ولعله لهذا حمل الميرزا (١) كلام الشيخ في الرسالة على ما استظهره من كلامه في بحث الخيارات (٢) من التفصيل بين ما إذا كان الاستمرار واردا على الحكم ، وما إذا كان الحكم واردا على الاستمرار ، فان الاستمرار قد يكون مأخوذا في نفس الحكم ، فيجعل الحكم المستمر ، فيكون الاستمرار واردا على الحكم ، كما في الحكم بلزوم العقد ، فانه مع قطع النّظر عن الإجماع وسائر الأدلة لا بد وان يكون مستمرا ، لأنّ اللزوم في آن واحد جعله لغو محض ، لأنه لا يتفق الفسخ بعد العقد من غير فصل ، فالاستمرار فيه وارد على الحكم. وقد يكون مأخوذا في متعلقه ،

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٤١.

(٢) المكاسب : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

٢١٤

فيحكم بالفعل المستمر ، كإيجاب صوم ستين يوم مستمرا ، فيكون الحكم واردا على الاستمرار.

وتوضيح ذلك : ان الأحكام تكون مركبة من أمور ثلاثة : نفس الحكم ، ومتعلقه وهو فعل المكلف ، وموضوعه وهو ما يتعلق به فعل المكلف من الأمور الخارجية. والموضوع غالبا يكون من قبيل الجواهر والأجسام الخارجية ، فلا يقيد بالزمان ، بل يكون الزمان ظرفا له على ما هو مقتضى طبعه. وأما المتعلق والحكم فيمكن تقييد كل منهما بالزمان ، فيمكن جعل الحكم المستمر ، كما يمكن جعل الحكم متعلقا بأمر مستمر. وفي الأول يكون الاستمرار واردا على الحكم. وفي الثاني يكون الحكم واردا على الاستمرار. والأول أي الحكم المستمر لا يمكن جعله بدليل واحد ، بل لا بد هناك من دليلين ، أحدهما : يتكفل إثبات أصل الحكم ، والآخر : يفيد استمراره ، لأن استمرار الشيء فرع ثبوته ، بخلاف الثاني ، أعني الحكم الوارد على المتعلق المستمر ، كوجوب صوم زمان مستمر ، فانه يمكن ان يتكفله الدليل الواحد. ثم جعل ذلك موردا للتفصيل بين الرجوع إلى عموم العام واستصحاب حكم المخصص.

والحاصل : ذكر الميرزا قدس‌سره ان الاستمرار تارة : يكون واردا على الحكم ، بأن يكون الحكم حكما مستمرا في عمود الزمان ، اما بنحو العام الاستغراقي ، أو بنحو العموم المجموعي. وأخرى : يكون الحكم واردا على الاستمرار ، بأن يكون متعلق الحكم مستمرا ، اما بنحو العام المجموعي ، أو الاستغراقي. ويفرق كل من القسمين عن الآخر من وجهين :

الأول : أن الحكم الوارد على الاستمرار يمكن ان يتكفله دليل واحد ، بأن يدل على أصله وعلى استمراره ، فان الحاكم الملتفت لا بد وان يلاحظ متعلق حكمه بما له من الشئون ، ومن حالاته كونه مستمرا أو غير مستمر ، فيمكنه ان يلاحظه

٢١٥

مستمرا ويعلق به حكمه. وهذا بخلاف ما إذا كان الاستمرار واردا على الحكم ، فانه لا يمكن أن يتكفل دليل واحد لإثبات أصله واستمراره ، لأنّ نسبة الحكم إلى الاستمرار نسبة الحكم إلى موضوعه ، ولا بدّ من كونه مفروض التحقق عند تعلقه به ، بل لا بد وان يدل دليل على ثبوت أصله في الجملة ، من دون أن يكون له إطلاق ، بل يكون له صورة إطلاق ، ثم يدل دليل آخر على استمراره ، كما هو الشأن في الاستصحاب الناظر إلى الاستمرار والبقاء ظاهرا ، فانه متفرع على قيام دليل على الحدوث.

الثاني : انه في الفرض الأول إذا ورد مخصص وأخرج فرد من افراد العام عن حكمه في زمان ، ثم شك بعده في ثبوت حكم الخاصّ ، يرجع إلى العموم من غير فرق بين كونه استغراقيا أو مجموعيا ، على ما هو مقتضى أصالة عدم التخصيص ، فان خروج فرد عن العام في زمان لا يستلزم خروج الفرد الآخر ، ولا خروجه في زمان آخر. ولا مجال لأن يقال : ان الحكم الواحد قد انقطع عن الفرد ، وعوده يحتاج إلى دليل آخر ، فان نفس الدليل العام كان متكفلا للشمول ، وقد خصص في زمان ، اما بدليل متصل أو منفصل ، فيكون حجة في غيره.

وهذا بخلاف الفرض الثاني ، فانه لا يمكن فيه الرجوع إلى العموم بعد ورود المخصص والشك في بقاء حكمه. أما عدم إمكان الرجوع إلى دليل أصل الحكم ، فلأنّ المفروض عدم كونه دالا إلّا على ثبوت أصل الحكم في الجملة ، فلا يستفاد منه ثبوت الحكم بعد انقطاعه بالمخصص. وأما عدم الرجوع إلى دليل الاستمرار ، فلأنّه فرع ثبوت أصل الحكم ، وهو أول الكلام ، ولذا لو شك في حرمة شرب التتن لا يمكن التمسك بقوله عليه‌السلام «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة» (١) لإثباتها وهو واضح. وحينئذ ان كان أركان استصحاب حكم المخصص تاما ، بأن كان

__________________

(١) الكافي : ١ ـ باب البدع والرّأي والمقاييس ، ح ١٩.

٢١٦

الزمان مأخوذا فيه بنحو الظرفية ، جرى فيه الاستصحاب ، وإلّا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر. فجعل الميزان في الرجوع إلى العام أو إلى الاستصحاب بورود الحكم على الاستمرار أو الاستمرار على الحكم ، لا بكون العام استغراقيا أو مجموعيا.

ثم بعد ذلك تعرض لصورة الشك في ورود الحكم على الاستمرار وورود الاستمرار على الحكم وأطال الكلام فيها. ولكن ستعرف انه لا فرق بين القسمين ، وعليه فلا نحتاج إلى التعرض لصورة الشك أصلا فنبين فساد الفرق.

ونقول : ما ذكره من ان الاستمرار ان كان واردا على الحكم لا يمكن ان يتكفله دليل واحد ، لا يتم على إطلاقه ، وانّما يتم في مرحلة الجعل دون المجعول ، فانه قد يكون الجعل مستمرا ولا يكون المجعول كذلك ، كالنكاح المنقطع ، فان جوازه مستمر غير منسوخ ، ولكن المجعول فيه زوجية انقطاعية غير مستمرة. وقد ينعكس الأمر ، كالنكاح الدائم إذا فرض نسخه في زمان. وقد يكونان معا مستمرين. فهناك مرحلتان يمكن استمرار كل منهما وعدمه.

وعليه فالاستمرار في الجعل لا بد فيه من جعلين ودليلين ، جعل أصل الحكم ثم جعل استمراره. وأما استمرار المجعول فليس كذلك ، بل يمكن جعل الحكم المستمر بجعل واحد ، ودليل فارد ، فان أمر المجعول سعة وضيقا بيد الجاعل ، فيمكنه جعله مستمرا ، كما يمكنه جعله ضيقا ، من غير حاجة إلى تعدد الجعل أو الدليل.

ومن الظاهر ان التخصيص انما يرد على المجعول لا الجعل ، فانه لا يرتفع إلّا بالنسخ ، فمحل الكلام استمرار المجعول ، وقد عرفت انه يثبت بدليل واحد ، فإذا ورد عليه مخصص ، ثم شك في بقاء حكمه ، يرجع إلى العموم ، فلا فرق من هذه الجهة بين القسمين.

٢١٧

مضافا إلى ان التمسك بدليل أصل الحكم عند الشك وان لم يكن ممكنا ، إلّا أنه لا مانع من التمسك بعموم دليل استمراره ، فانه قبل ورود المخصص كان متكفلا لإثبات استمرار الحكم في أزمنة ثلاثة ، قبل ورود المخصص وحين التخصيص وبعده ، وقد خرجنا عن عمومه ورفعنا عنه اليد في مقدار المخصص ، وأما بعده فلا وجه للخروج عن العموم. وهذا من غير فرق بين ما إذا كان العام استغراقيا أو مجموعيا.

توضيح ذلك : ان أخذ الزمان في الحكم يكون على نحوين : فان الحكم قد يكون تكليفيا ، فيكون الدوام والاستمرار مأخوذا في متعلقه ، مثلا يحكم بحرمة شرب الخمر مستمرا في كل زمان ، اما بنحو العام الاستغراقي بأن يكون في كل آن حرمة مستقلة ، أو المجموعي بأن يحكم بحرمة مستمرة. وعليه فإذا شك في ثبوت الحكم في آن يرجع فيه إلى عموم الدليل. وقد يكون الحكم وضعيا ، كالنجاسة أو الطهارة المستمرة ، فيكون الاستمرار قيدا لنفس الحكم ، أعني المجعول ، فيحكم بالزوجية الدائمية أو اللزوم المستمر بأحد النحوين. وفي هذا القسم أيضا إذا شك في ارتفاع الحكم في آن يتمسك بعموم العام ، من غير فرق بين ما إذا كان العام استغراقيا أو مجموعيا.

والسر في ذلك ما ذكرناه من ان الظهور حجة على المراد الجدي ، بمعنى أنه مما يحتج به المولى على عبده وبالعكس ، وليس له الاعتذار بأني لم أرد ظاهر الكلام جدا ، فالعام حجة في العموم ، ولا يرفع اليد عنه إلّا بحجة أقوى أعني المخصص ، وأما الزائد على ذلك فلا وجه لرفع اليد عن ظهور العام.

فالصحيح ما ذكره المحقق من الرجوع إلى العموم مطلقا. وامّا ما ذكره الميرزا فانه مضافا إلى عدم تماميته في نفسه ، وعدم كونه فارقا فيما هو محل الكلام من عدم الرجوع إلى العموم ، فانه كما عرفت لا بد من الرجوع إلى العام ولو كان الاستمرار

٢١٨

واردا على الحكم ، لا ينطبق على كلام الشيخ لا في الرسائل ولا في سائر كتبه ، فان ظاهره ما فهمه المعروف من التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي ، وقد عرفت عدم الفرق بينهما ، وعلى هذا لا مجال عن البحث بصورة الشك وإطالة الكلام فيه أصلا.

فتلخص : مما ذكر أنه عند الشك في التخصيص الزائد يرجع إلى العموم ، سواء كان العام مجموعيا أو استغراقيا ، من غير فرق بين الأفراد الطولية والأفراد العرضية.

وأما الآية أعني قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فيقع الكلام فيها من جهتين :

الأولى : ان مفاده حكم واحد مستمر ، فعمومه مجموعي لا استغراقي ، بمعنى أن يكون في كل آن لزوم مستقل ، وذلك لأن الوفاء بمعنى الإنهاء والإتمام والابطال ، ولا معنى للإتمام في كل آن ، بل هو عبارة عن عدم رفع اليد عن الشيء إلى الأبد ، فلا يتصور فيه الاستغراق.

الثانية : ان المستفاد منه ليس الحكم التكليفي ، للقطع بأن فسخ العقد وعدم إنهائه ليس من المحرمات الشرعية ، بل هو إرشاد إلى اللزوم وعدم نفوذ النسخ. فالآية بمدلولها المطابقي تدل على اللزوم ، ومهما شك في لزوم عقد بعد ثبوت الجواز له في زمان يتمسك بعمومها ، ويثبت اللزوم ، كما ذكره المحقق قدس‌سره.

التنبيه الرابع عشر : في بيان المراد من اليقين والشك.

أما المراد باليقين فقد تقدم تفصيله ، وقلنا أنه يعم اليقين الوجداني واليقين التعبدي ، اما بالورود أو الحكومة على تفصيل مرّ ، فإذا أخبرت البينة مثلا

__________________

(١) المائدة : ١.

٢١٩

بحدوث شيء ، ثم شككنا في بقائه ، جرى فيه الاستصحاب. كما أن المراد باليقين الناقض لليقين السابق أيضا أعم من الوجداني والتعبدي ، فإذا قامت أمارة معتبرة على انتقاض الحالة السابقة أخذ بها ، ورفع اليد عن اليقين السابق ، ولا مجال معها للاستصحاب.

وانما الكلام فيما إذا قام ظن غير معتبر على انتقاض الحالة السابقة ، فهل يكون بحكم الشك من حيث جريان الاستصحاب فيه أو لا؟ الظاهر الأول. لأنّ الشك لغة يطلق على ما يقابل العلم ، فيعم الظن والوهم ـ كما ان الوهم يطلق على الظن ـ وقد أطلق عليه في الآيات والروايات. واما إطلاقه على خصوص الشك المتساوي طرفاه فهو اصطلاح من المتأخرين. فإطلاق الشك في الأخبار يقتضي جريانه مع الظن بالخلاف أيضا.

وفي صحيحة زرارة قرينتان على الإطلاق :

الأولى : إطلاق قوله عليه‌السلام (لا) في جواب قوله «فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم» مع انه غالبا يوجب الظن بالنوم ، ومع ذلك لم يفصل الإمام عليه‌السلام في الجواب ، بل حكم بجريان الاستصحاب مع عدم العلم بالنوم الّذي يعم الظن أيضا.

ودعوى : ان الظن بالخلاف فرد نادر لعدم العلم ، فلا حاجة إلى التفصيل ، فاسدة في نفسها ، خصوصا مع ان مورد السؤال مما يستلزم الظن بالخلاف كما ذكرنا.

الثانية : الغاية المذكورة فيها للاستصحاب وهي قوله عليه‌السلام «حتى يستيقن أنه قد نام (١) حتى يجيء من ذلك أمر بين» فحصر عليه‌السلام الاستصحاب في اليقين

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٢٢٠