دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

وذلك لأنّ الثابت في موارد التعبد أمران ، أحدهما : نفس التعبد ، وثبوته وجداني. والثاني : متعلق التعبد المعبر عنه بالمتعبد به ، فان التعبد من الأمور التعلقية ، وثبوته تعبدي ، فإذا فرضنا تقيد موضوع دليل بعدم التعبد فلا محالة يرتفع ذلك الموضوع بنفس ورود التعبد ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها عدم البيان ، وهو يرتفع بمجرد ثبوت التعبد ، لأنه بيان. وكذا وجوب دفع الضرر المحتمل عقلا ، فانه احتمال الضرر يندفع حقيقة بالتعبد ، لأنه مؤمن من الضرر. وهكذا اللاحرجية العقلية في مورد التحير ودوران الأمر بين المحذورين ، لقبح الترجيح بلا مرجح ، فانه يرتفع حقيقة بمجرد التعبد بأحد المحتملين. فلا تنافي في شيء من هذه الموارد.

وأما الحكومة ، فهي عبارة عن كون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر ، اما بمدلوله المطابقي بأن يكون شارحا بكلمة أي أو أعني ، كما في قوله عليه‌السلام «انما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع» واما بأن يكون لغوا لو لا دليل المحكوم كقوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» إذ لا مجال له لو لم يكن دليل حرمة الرّبا ، أو كونه رافعا لموضوع الدليل الآخر تعبدا. وفي الفرض الأول قد يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى عقد وضع دليل المحكوم ، كما في المثال ، فان قوله «لا ربا بين الوالد والولد» يكون نفيا للحكم بلسان نفي الموضوع ، فهو بمنزلة أن يقول ان المراد بالربا في دليل الحرمة هو غير الرّبا بين الوالد والولد ، فيكون هذا الفرد من الرّبا خارجا عن موضوع دليل الحرمة ، لكن تعبدا لا حقيقة. وقد يكون ناظرا إلى عقد الحمل ، كقوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار» (١) أو قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) فانه في قوة أن يقول ان الأحكام الواقعية ما لا ينشأ منها الضرر أو الحرج.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، ح ٣.

(٢) الحج : ٧٨.

٣٤١

وبالجملة إذا كان الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم وشارحا له بمدلوله المطابقي ، باشتماله على أداة التفسير ، أو من جهة لزوم لغويته لو لا وجود الدليل المحكوم ، فلا محالة يتقدم عليه ولو كان بينهما عموم من وجه ، لعدم التنافي بينهما ، سواء كان ناظرا إلى عقد وضع المحكوم أو إلى عقد حمله.

وكذا الحال في القسم الثاني من الحكومة ، وهي ما إذا لم يكن الدليل الحاكم ناظرا وشارحا للدليل المحكوم ، ولم يكن لغوا ولو لم يكن الدليل المحكوم ، إلّا انه كان نافيا لموضوع الدليل المحكوم تعبدا ، كما في أدلة حجية خبر الواحد في الشبهات الحكمية ، ودليل حجية البينة في الموضوعات ، بالإضافة إلى أدلة الأصول العملية الشرعية من البراءة والاستصحاب وقاعدة الفراغ ، فان المصلي إذا شك بعد الفراغ في انه أتى بالركوع أم لم يأت به ، وقامت البينة على إتيانه به لم يكن موردا لقاعدة الفراغ ، إذ بعد قيام البينة ليس بشاك في الركوع تعبدا ، لحكم الشارع بأنه عالم به بعد قيام البينة عليه ، فيكون موضوع القاعدة متيقنا تعبدا.

والسر في عدم التنافي بين الدليل الحاكم والمحكوم هو ان الدليل المحكوم يكون من قبيل القضايا الحقيقية ، غير متكفلة لإثبات موضوعه ، بل مفاده ثبوت الحكم على الموضوعات المفروضة وجودها ، فلا ينافيه انتفاء الموضوع في مورد.

وأما التخصيص ، فكذلك لا يكون الدليل المخصص منافيا للدليل المخصص.

توضيحه : ان دليلية الدليل يتوقف على أمور ثلاثة :

الأول : صدوره ممن يجب اتباعه ، كالنبي ووصيه. والمتكفل لإثباته في غير مقطوع الصدور انما هو بحث حجية الخبر.

الثاني : إرادة المتكلم به التفهم ، وكشف ما يكون ظاهرا فيه بنفسه بالوضع ، أو بمعونة القرائن المحتفة به ، بحيث أمكن اسناد قصد تفهيم المعنى إليه. والمتكفل له أصالة الحقيقة والظهور.

٣٤٢

الثالث : كون الإرادة الاستعمالية بداعي الجد دون غيره من السخرية والامتحان والتقية ونحوها. والمتكفل لها أصالة الجد.

ودليل كل من الأصلين انما هو سيرة العقلاء ، فان بناءهم على حمل كلام المتكلم على ما هو ظاهر فيه عند الشك في إرادة تفهيمه. وهكذا إذا شك في ان ما أراد تفهيمه باللفظ كان بداعي الجد أو الهزل يحملونه على الجد.

ومن الظاهر ان موضوعه كل من الأصلين ، أي أصالة الظهور وأصالة الجد ، انما هو الشك ، فإذا ورد عام ، وعلمنا باقترانه بمخصص متصل وجدانا ، فلا محالة يكون خارجا عن موضوع أصالة الظهور بالتخصص ، إذ نعلم حينئذ بعدم ظهوره في العموم ، فموضوع أصالة العموم يكون مرتفعا ، وإذا علمنا بذلك بالتعبد يكون موضوع أصالة العموم منتفيا تعبدا.

وإذا علمنا بورود مخصص منفصل عليه ، وان العموم لم يكن مرادا جديا للمتكلم ، وانما أتى بالعامّ ولم يأت بمخصصه لداعي آخر من الدواعي ، كان خارجا عن موضوع أصالة الجد بالتخصيص ان كان العلم وجدانيا ، وبالحكومة ان كان تعبديا ، كما في قوله عليه‌السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» فانه يرفع موضوع أصالة العموم في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بالتعبد. فالدليل المخصص وان لم يكن رافعا للموضوع بالإضافة إلى نفس الدليل العام ، إلّا أنه رافع لموضوع دليل اعتباره ، اما بالحكومة ، واما بالتخصيص. وهذا معنى رجوع التخصيص إلى الحكومة ، كما انّ الحكومة أيضا ترجع إلى التخصيص ، فان قوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» حقيقة يرفع الحرمة وان كان بلسان نفي الموضوع ، فالحكومة ترجع إلى التخصيص ، كما ان التخصيص يرجع إلى الحكومة.

وبما ذكرناه ظهر ان التعارض لا يتحقق في الموارد المذكورة حتى في مورد

٣٤٣

التخصيص ، سواء فسرناه بما في الكفاية (١) من انه تناف الدليلين في مقام الدلالة والإثبات ، أو بما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنه تنافي مدلولي الدليلين (٢).

أما على تعريف الكفاية فظاهر ، إذ لا منافاة بين الدليلين في تلك الموارد من حيث الإثبات والدلالة. وأما على ما أفاده الشيخ ، فلأن دليلية الدليل لا تكون إلّا بعد تمامية المقدمات الثلاثة المتقدمة ، وقد عرفت ان ورود المخصص يرفع موضوع أصالة الظهور أو أصالة الجد ، فلا تتم الدلالة للعام في العموم ليكون معارضا مع الخاصّ. وعدم المنافاة بين مدلولي الدليلين في الحكومة والورود ظاهر.

وبالجملة لا تنافي بين العام والمخصص ، إذ به يستكشف ان العموم لم يكن مرادا بالإرادة الاستعمالية في المخصص المتصل ، أو بالإرادة الجدية في المخصص المنفصل ، فإذا أحرز المخصص وجدانا كان واردا على دليل حجية العام ، إذ به ينتفي موضوع أصالة العموم ، حيث يعلم به ان المتكلم لم يرد استعمال العام في معناه الظاهر فيه عرفا بمقتضى الوضع أو غيره ، أو أراد العموم بالإرادة الاستعمالية ولكنه لم يرده بداعي الجد. وإذا أحرز المخصص تعبدا كان حاكما على دليل اعتبار العام وحجيته بأحد النحوين المتقدمين ، فلا يكون بناء من العقلاء على التمسك بأصالة العموم أو أصالة الجد في ذلك ، فلا يكون العام حينئذ حجة في العموم ، لعدم تمامية مقدمات دليليته ، فمعارضته مع الخاصّ من قبيل معارضة الحجة واللاحجة ، ولو كان عدم حجية العام من جهة الخاصّ.

وما ذكرناه جار في معارضة كل ظاهر وأظهر ، وان احتمل ان الأظهر لم يرد به معناه الظاهر فيه. وهكذا كل قرينة عرفية مع ذيها ، فلا تنافي في شيء من ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٧٦.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٥٠ (ط. جامعة المدرسين).

٣٤٤

وبما بيناه ظهر فساد ما ذهب إليه في الحدائق ، وتبعه فيه صاحب الكفاية (١) ، من الرجوع إلى المرجحات أو التخيير في العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، لثبوت التنافي بين مدلوليهما ، وان لم يكن بينهما تناف في مقام الدلالة والإثبات.

وذلك لما عرفت من عدم تمامية دلالة العام في العموم ، فليس العموم مدلولا له لينافي مدلول الخاصّ.

هذا كله في بيان معنى التعارض.

وأما التزاحم ، فتارة : يكون في ملاكات الأحكام ، كما إذا ثبت في مورد ملاك الوجوب وهي المصلحة وملاك الحرمة وهي المفسدة أو ملاك الإباحة ، فان الإباحة بالمعنى الأعم أي عدم الإلزام ، قد تكون ناشئة من مصلحة ، كما يظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك» (٢) كما قد تكون ناشئة من عدم المقتضي للإلزام ، أي من عدم وجود المصلحة والمفسدة ، كما في الإباحة المصطلحة.

وكيف كان قد يكون التزاحم في الملاكات ، ويكون الترجيح وعدمه بيد المولى ، فان رأى رجحان المصلحة على المفسدة رجحها ، وإذا انعكس انعكس ، وإلّا حكم بالإباحة. والتزاحم بهذا المعنى لا ربط له بالتعارض أصلا. وهو خارج عن محل الكلام ، حيث لا ربط له بالمكلف رأسا ، إذ ليس البحث عن ملاكات الأحكام من وظائف العبد ، وانما وظيفته امتثال أوامر المولى ، ولذا ليس له مخالفة الأمر متعذرا بأنّه لم ير مصلحة في المأمور به ، أو تخيل المفسدة فيه. ويشهد لهذا مراجعة الموالي والعبيد العرفية ، والقوانين الدولية.

وربما يكون التزاحم في مرحلة الامتثال ، لعجز المكلف عن امتثال كلا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٨١.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٣ من أبواب السواك ، ح ٤.

٣٤٥

الحكمين. وهذا التزاحم قد يكون بين وجوب وحرمة ، كما إذا توقف إنقاذ الغريق على الغصب ، وقد يكون بين وجوبين ، كما في إنقاذ غريقين لا يمكن المكلف من إنقاذهما. وهذا التزاحم أجنبي عن التزاحم بالمعنى الأول ، ولذا يتحقق على مسلك الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للملاكات ، وعلى مسلك من يرى الملاك في نفس الحكم لا في متعلقه.

وكيف كان التزاحم بين حكمين يكون ناشئا من عجز المكلف عن إتيان كلا الأمرين ، وتعلق قدرته بالجامع بينهما المعبر عنه بأحدهما ، فلا يوجب تنافيا بين دليلي الحكمين ، لأن كلا منهما مشروط بالقدرة ، اما بحكم العقل ، أو بإصفاء نفس الخطاب ، على الخلاف بيننا وبين الميرزا قدس‌سره ، فليس شيء منهما متكفلا لإثبات القدرة في مورد ونفيها ، فثبوت كلا الحكمين مشروطا بالقدرة لا ينافي عجز المكلف عن امتثال أحدهما. فالتزاحم لا يوجب التنافي بين الدليلين والحكمين في مرحلة الجعل. بخلاف التعارض ، فان التنافي فيه بين الدليلين في مرحلة الجعل. كما ان تقديم أحد المتزاحمين بصرف المكلف قدرته فيه انما يوجب انتفاء موضوع الآخر ، وهو القدرة ، فلا يكون فعليا ، بخلاف المتعارضين ، فان تقديم كل منهما على الآخر يقتضي انتفاء حكمه رأسا. وتفصيل الكلام في مرجحات التزاحم تقدم في بحث الترتب.

وبما ذكر ظهر أن تأسيس الأصل عند الشك في ان التنافي من قبيل التعارض أو التزاحم مما لا وجه له ، إذ لا جامع بينهما ليشك في ذلك. وكأنّ الميرزا قدس‌سره يقول (١) هذا الترديد وتأسيس الأصل ، نظير أن يقال : ما هو مقتضى الأصل إذا شك في إباحة الماء وصحة الفضولي.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥٠٥.

٣٤٦

وبالجملة الفرق بين التعارض والتزاحم ظاهر ، حيث ان التعارض هو تنافي الحكمين في مرحلة الجعل والتشريع ، بخلاف التزاحم ، فانه تنافي الحكمين في مرحلة الامتثال الناشئ من عجز المكلف ، فلا يوجب ذلك تنافي دليليهما المتكفل لجعل الحكمين المشروطين بالقدرة ، ولذلك ترى اختلاف التزاحم باختلاف المكلفين ، فقد يكون حكمان متزاحمين بالقياس إلى أحد ، وغير متزاحمين بالقياس إلى الآخر ، كوجوب إنقاذ الغريقين مثلا إذا تمكن أحد من إنقاذهما معا ، أو تمكن أحد من إنقاذ الغريق من دون أن يغصب دون غيره ، وهذا واضح.

ولكن المحقق النائيني ذكر إمكان وقوع التزاحم بين حكمين في مقام الجعل من دون ان يكون التنافي ناشئا من عدم قدرة المكلف على امتثالهما (١). ومثل له بما إذا ملك أحد خمسا وعشرين من الإبل ، فلما مضى عليها ستة أشهر ملك إبلا آخرا ، فصاروا ستا وعشرين ، فإذا مضى من أول الحول سنة كاملة تحقق موضوع النصاب الخامس ، وفيه خمس شياة ، فإذا مضى بعد ذلك ستة أشهر ، أي ثمانية عشر شهرا من أول الحول ، تحقق النصاب السادس ، وهو مضي الحول على ست وعشرين ، وفيه بنت مخاض. ومن الظاهر ان ما كان من الإبل متمما لأحد النصابين لا يكون متمما للنصاب الآخر ، فيقع التزاحم بين وجوب أداء خمس شياة في آخر الحول ووجوب دفع بنت مخاض في نهاية حول النصاب السادس.

وبعبارة أخرى : لا بد من رفع اليد عن الإبل الواحد الّذي ملكه في أثناء الحول وفرضه كأن لم يكن ، أو رفع اليد عما ملكه قبل ذلك.

ومن الظاهر ان التنافي في المثال ليس ناشئا من عجز المكلف ، لتمكنه من دفع خمس شياة وأداء بنت مخاض أيضا ، بل التنافي يكون في مرحلة الجعل ، للعلم بعدم جعل أحد الحكمين.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٥٠٤.

٣٤٧

ونقول : ما أفاده من عدم وجوب دفع كلا الأمرين وإن كان صحيحا ، إلّا ان جعل المثال من باب التزاحم ممنوع ، بعد ما بيناه من ان التزاحم إنّما يكون فيما إذا كان التنافي من جهة عجز المكلف ، بل هو من باب التعارض بالعرض ، لأن كلا من دليلي الحكمين وان لم يكن منافيا للآخر في نفسه إلّا انّه ضاف له ، للعلم الإجمالي الخارجي بكذب أحدهما ، فكل منهما بالالتزام ينفي ما أثبته الآخر ، كما في معارضة دليل وجوب الظهر ودليل وجوب الجمعة في يومها.

المقام الثاني : في حكم التعارض ، وان مقتضى القاعدة فيه هو التساقط أو الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا؟

لا يخفى عدم ترتب الأثر على البحث عما تقتضيه القاعدة في تعارض الخبرين ، لأنه منصوص ، ورد الدليل على الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا.

وانما يترتب عليه الأثر في تعارض الأمارتين غير الخبرين ، كما إذا وقع التعارض بين ظاهري الكتاب بالعموم من وجه ، أو بينه وبين الخبر المتواتر المقطوع الصدور كذلك ، أو بين خبرين مقطوعي الصدور ، أو بين الأمارات الجارية في الموضوعات ، كالبينتين أو اليد إذا ثبتت لشخصين على مال واحد إلى غير ذلك.

والظاهر ان القاعدة عند تعارض الأمارتين تقتضي التساقط. أما فيما كان دليل اعتباره منحصرا بالسيرة فواضح ، لعدم ثبوت بناء من العقلاء على العمل بالأمارة إذا كانت متعارضة.

وأما فيما دل على اعتباره دليل لفظي ، فلما بيناه في بحث العلم الإجمالي من ان الدليل العام إذا كان لموضوعه فردان لم يمكن شموله لهما معا ، لا يعم شيء منهما. وذلك لدوران الأمر فيه بين أمور ثلاثة. إما أن يعمهما معا ، أو يعم أحدهما دون الآخر ، أو لا يعمهما أصلا. والثالث هو المتعين ، لأن شموله لهما معا ممتنع على الفرض ، ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

٣٤٨

وفي المقام إذا فرضنا ان دليل اعتبار البينة لا يمكن ان يعم البينتين المتعارضتين ، لاستلزامه التعبد بالضدين أو النقيضين ، وشموله لأحدهما دون الآخر بلا مرجح ، فيتعين عدم شموله لشيء منهما.

ثم هل يمكن بعد تساقطهما الرجوع إلى حكم ثالث لا يوافق شيئا منهما ، بل ينافيهما ، كالرجوع إلى الإباحة ، تمسكا بأصالة الحل بعد تساقط ما دل على وجوب الشيء وما دل على حرمته ، مع أن الإباحة مخالف لكلا الدليلين ، أو لا يمكن ذلك؟

وليعلم ان مورد البحث في ذلك ما إذا لم يعلم من الخارج انتفاء الحكم الثالث. ذهب صاحب الكفاية والميرزا قدس‌سره إلى جواز الرجوع إليه ، ولكل منهما تقريب في ذلك.

أما ما ذكره في الكفاية (١) فحاصله : ان مقتضى التعارض بين الدليلين ليس إلّا عدم إمكان الأخذ بهما معا ، للعلم بكذب أحدهما ، وعدم إمكان الأخذ بأحدهما المعين ، لكونه ترجيحا بلا مرجح. وأما أحدهما لا بعينه فلا يقتضي التعارض سقوطه عن الحجية ، ومقتضى اعتباره عدم إمكان الرجوع إلى ما ينافيهما معا ، ولو كان ثبوته محتملا ، ولم يعلم من الخارج بموافقة أحد الدليلين للواقع ، كما إذا دل دليل على وجوب الظهر ودليل آخر على وجوب الجمعة فيها ، حيث يعلم من الخارج بعدم إمكان الرجوع إلى البراءة عنهما.

وبالجملة التعارض بين دليل وجوب الشيء وحرمته انما يقتضي عدم شمول دليل الحجية لهما معا ، ولخصوص دليل الوجوب دون الحرمة أو العكس ، وأما أحدهما لا بعينه فهو مشمول لدليل الحجية ، ومقتضى ذلك عدم إمكان الرجوع إلى حكم ثالث ينافيهما كالإباحة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

٣٤٩

وفيه : ان دليل حجية الخبر مثلا كما بيناه في بحث العلم الإجمالي انما يعم ما هو خبر في الخارج ، بحيث يصدق عليه الاخبار خارجا ، وليس في الخارج ما يصدق عليه هذا العنوان إلّا دليل الوجوب معينا ، وما دل على الحرمة بخصوصه ، وقد فرض عدم شمول دليل الحجية لهما. وأما أحدهما لا بعينه فليس إلّا مفهوم انتزاعي ، لا واقع له ، فلا يعمه دليل حجية الخبر ، بل لا معنى لشمول دليل الخبر له أصلا. وكذا الحال في بقية الأمارات ، وقد تقدم تفصيله في محله.

وأما ما ذكره الميرزا قدس‌سره فحاصله (١) : ان الدلالة الالتزامية وان كانت تابعة للدلالة المطابقية على حسب تبعية المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في مقام الثبوت واقعا ، فان الحرارة مثلا تابعة للنار ثبوتا ، وتابعة لها في مقام الإثبات على ما هو مقتضى تبعية مقام الإثبات للثبوت ، إلّا انها أي الدلالة الالتزامية ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية.

وسر ذلك أنهما دلالتان وخبران كخبرين مستقلين ، فإذا أخبر أحد بقتل أحد وانفصال رأسه فقد أخبر بموته أيضا ، والعلم بكذب أحد الخبرين وسقوطه عن الحجية لا يقتضي سقوط الآخر كذلك. وعليه فكل من الخبرين المتعارضين الدالين على وجوب شيء وحرمته بمدلولهما الالتزامي ينفي إباحة ذلك الشيء ، فإذا سقطا في مدلولهما المطابقي لمكان المعارضة لم يكن وجه لسقوطهما في مدلولهما الالتزامي ، وهو انتفاء الإباحة ، فكل منهما يكون دليلا على نفي الحكم الثالث.

وهذا هو الفرق بين التقريبين ، إذ مقتضى تقريب الكفاية ان يكون انتفاء الحكم الثالث بأحد الدليلين لا بعينه ، وهذا التقريب يقتضي انتفاؤه بكل منهما.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٧٥٦ ـ ٧٥٧.

٣٥٠

وفيه : ما أوردناه عليه من النقض والحل.

أما النقض : فبالموارد التي سقطت فيها الدلالة المطابقية ولم يلتزم أحد هناك بالدلالة الالتزامية. نظير ما إذا أخبرت البينة بوقوع دم أو بول في إناء ، فان مدلولها الالتزامي نجاسة الإناء ، فإذا علمنا بعدم ثبوت مدلولها المطابقي ، لا إشكال في انه لا يترتب عليها آثار المدلول الالتزامي ، وهو نجاسة الإناء. وكذا إذا كان هناك مال تحت يد زيد ، وأخبرت البينة بأنه لعمر ، فانها تتقدم على اليد ، واعترف عمر بأنه ليس له ، فتسقط البينة بمدلولها المطابقي ، لأن الإقرار مقدم عليها ، كما انها مقدمة على اليد ، وحينئذ لا يؤخذ بمدلولها الالتزامي ، وهو عدم كون المال لذي اليد ، بل يرجع المال إليه ، ولا يعامل معه معاملة مجهول المالك. وكذا إذا فرضنا ان مالا تحت يد أحد وادعاه شخصان ، وأقام أحدهما البينة ولم يحلف ، فانه لا يثبت حينئذ مدلولها المطابقي لاعتبار الضميمة فيها ، وهو الحلف ولم يحصل ، إلّا انه لا يؤخذ بمدلولها الالتزامي أيضا ، ولا يؤخذ المال من ذي اليد. وكذا إذا أخبر عدل واحد بملاقاة الإناء مع الدم والعدل الآخر بملاقاته مع البول ، لا يحكم بنجاسته للبينة ، حيث ان عدلين أخبرا بنجاسة الإناء ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وأما الحل : فهو ان المدلول الالتزامي ليس هو الكلي الساري على سعته ، وانما هو حصة خاصة توأمة مع المدلول المطابقي ، فإذا أخبر أحد بأن زيدا شرب السم فهو انما أخبر بموته المسبب عن شرب السم ، لا بموته على نحو الإطلاق ، فإذا علمنا بكذب شرب السم لا محالة نعلم بكذب تلك الحصة من الموت. وهكذا من يخبر عن ملاقاة الإناء مع الدم انما يخبر بالالتزام عن نجاسته بالدم لا مطلقا. وكذا البينة التي أخبرت بأن المال لزيد فهي تخبر عن نفي ملكية ذي الملازم لملكية زيد لا مطلقا ، فإذا علم بكذب ذلك لا محالة يعلم بعدم انتفاء تلك الملكية عن ذي اليد ، وهكذا.

٣٥١

وفي المقام كل من الخبرين الدال على الوجوب والدال على الحرمة انما ينفي الإباحة التوأمة مع الوجوب أو مع الحرمة لا مطلقا ، فإذا لم يثبتا فلم تثبت الإباحة التوأمة أيضا ، فلا مانع من الرجوع إليها إذا اقتضاها دليل فوقاني ، لعدم تمامية شيء من التقريبين.

فتلخص مما ذكر أنه إذا تعارض الدليلان ، بأن دل أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على حرمته ، لا يمكن الأخذ بشيء منهما ، حتى في نفي الثالث.

أما فيما كان دليل حجيته هي السيرة فواضح عدم بناء من العقلاء على الأخذ بالأمارة إلّا فيما لم يكن لها معارض ، فلا مقتضي لحجيته. وأما فيما كان هناك إطلاق لفظي فكذلك ، لما عرفت من أنه لا يمكن شموله لهما معا ، ولا لأحدهما معينا ، والواحد لا بعينه ليس إلّا عنوان انتزاعي ، لا يعمه دليل الحجية.

هذا كله على الطريقية.

وأما على السببية فذكر شيخنا الأنصاري (١) وتبعه غيره رجوع التعارض بين الأمارات إلى باب التزاحم.

وتفصيل الكلام فيه : هو انه قد يراد من السببية المصلحة السلوكية التي التزم بها الشيخ ، وجمع من العدلية ، في جواب شبهة ابن قباء ، وهي عبارة عن اشتمال سلوك الطريق وتطبيق العمل عليه على مصلحة يتدارك بها ما يفوت على المكلف من المصلحة الواقعية بسبب السلوك ، من دون ان يتبدل الواقع عما هو عليه من المصلحة أو المفسدة ، ولذا يختلف مقدارها باختلاف طول السلوك وقصره من حيث انكشاف الخلاف ، فان من قامت لديه الأمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة إذا سئل لما ذا تركتها في صلاتك؟ أجاب بقيام الأمارة على عدم وجوبها ، فهو يسلك الأمارة في تركه للسورة وإذا سئل في الوقت لما ذا لا تعيدها

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٦٠ ـ ٧٦٢ (ط. جامعة المدرسين).

٣٥٢

مع السورة؟ أجاب أيضا بقيام الأمارة على عدم وجوبها ، فهو سالك لهما في تمام الوقت. كما انه يجيب بعين الجواب إذا سئل عن عدم قضائها بعد الوقت ، فلا بد وأن تكون المصلحة السلوكية في هذا الفرض مما يتدارك بها تمام مصلحة الصلاة. وأما إذا انكشف الخلاف فلا معنى لسلوك الأمارة ، لأن اعتبارها متقوم باحتمال مصادفتها للواقع ، ولذا لو انكشف الخلاف بعد فوات وقت الفضيلة وسئل المصلي لم لا تعيد صلاتك مع السورة ليس له ان يجيب بأن الأمارة قائمة على عدم وجوبها ، فحينئذ ما فات بسبب سلوك الأمارة ليس إلّا مصلحة وقت الفضيلة ، دون مصلحة أصل الوقت ، ولا مصلحة أصل العمل ، فلا بد وأن تكون المصلحة السلوكية بمقدار فضيلة الوقت لا أكثر. وكذا إذا انكشف الخلاف بعد انقضاء الوقت ، فان السلوك انما هو بمقدار فوت الوقت ، لا أصل العمل ، والمصلحة السلوكية أيضا تكون بذاك المقدار ، وهذا ظاهر.

وذكر الشيخ ومن تبعه ان السببية بهذا المعنى لا توجب التصويب. ولكنا ناقشنا في ذلك في بحث الاجزاء ، وقلنا : انه أيضا توجب التصويب وتبدل الواقع.

وعلى كلّ ، هذه السببية عين الطريقية ، وهي لا توجب إرجاع التعارض إلى باب التزاحم ، وذلك لأن المصلحة السلوكية انما تكون فيما إذا كانت الأمارة حجة معتبرة ، فإذا فرضنا سقوط الأمارتين المتعارضتين عن الحجية فليس هناك طريق معتبر لتكون مصلحة في سلوكه ، وهذا واضح جدا.

وان أريد بالسببية سببية المعتزلة ، بمعنى كون قيام الأمارة على خلاف الحكم الواقعي موجبا لتبدل الواقع بقاء. أو السببية الأشعرية أعني تبعية الواقع لقيام الأمارة حدوثا أيضا ، وهي التي أورد عليها العلّامة باستلزامها الدور ، فهل يرجع باب تعارض الأمارتين إلى باب التزاحم أو لا؟ أما ان كانت الأمارتان دلت إحداهما على وجوب أحد الضدين اللذين لهما ثالث ، ودلت الأخرى على

٣٥٣

وجوب الضد للآخر ، كما إذا قامت إحداهما على وجوب الجلوس في ساعة معينة ، والآخر على وجوب القيام في تلك الساعة مع إمكان الاضطجاع أيضا ، فالظاهر كونه خارجا عن باب التعارض ، ودخوله في باب التزاحم ، إذ لا منافاة بين ثبوت الحكمين في مرحلة الجعل بعنوان من قامت لديه الأمارة على شيء ، فحينئذ من لم تقم الأمارة عنده إلّا على وجوب أحد الأمرين لم يتحقق التزاحم بالقياس إليه ، ومن قامت لديه كلتيهما وقعت المزاحمة بين الحكمين بالإضافة إليه ، إلّا أنه يتخير بينهما ، لعدم احتمال أهمية أحدهما على الآخر ، إذ المراد بالأهمية ليست الأهمية من حيث المخبر به أعني به درجة الوجوب ، وانما المرجح أهمية الملاك ، والمفروض ان الملاك لكليهما أمر واحد ، وتفرضه أهمية العادل المخبر مثلا. كما ان الوجوب الثابت في الموردين ثابت بعنوان واحد ، وهو قيام الأمارة على الوجوب ، فالترجيح لا وجه له.

والحاصل : ان مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين على الطريقية هو التساقط.

وأما على السببية بمعنى المصلحة السلوكية فكذلك ، ولا يرجع التعارض إلى التزاحم ، لأن المصلحة السلوكية انما تكون في سلوك ما هو طريق معتبر إلى الواقع ، فإذا فرضنا سقوط الخبرين عن الطريقية إلى الواقع بسبب التعارض فسلوكها ليس سلوكا للطريق ليكون مشتملا على المصلحة ويقع التزاحم بين استيفائهما.

وأما على السببية المصطلحة ، بمعنى كون قيام الأمارة محدثا للمصلحة أو المفسدة حدوثا أو بقاء ، فربما يقال : برجوع تعارض الخبرين إلى التزاحم ، فإذا قام أحد الخبرين على وجوب شيء أوجب ثبوت مصلحة فيه ، وإذا قام الخبر الثاني على حرمته أوجب ذلك ثبوت المفسدة فيه ، وحيث ان المكلف لا يقدر على استيفاء الأولى والاحتراز عن الثانية وقعت المزاحمة بينهما لا محالة.

٣٥٤

والتحقيق : ان القائل بالسببية ، تارة : يقول بأن قيام الأمارة يوجب ثبوت المصلحة أو المفسدة في المتعلق ، وهو فعل المكلف. وأخرى : يدعي ثبوتها في فعل المولى من الأمر أو النهي. ثم انّ قيام الأمارة يختلف أنحائه ، فانها إذا قامت على وجوب شيء أوجب وجود مصلحة في فعله ، وان قامت على عدم وجوبه أوجبت إزالة المصلحة عنه ، وإذا قامت على حرمة شيء أوجبت ثبوت المفسدة فيه ، وإذا قامت على عدم حرمته أوجبت زوال المفسدة عنه كما هو ظاهر.

وعلى الأول قد يكون تعارض الأمارتين بنحو التناقض ، كما إذا أثبت إحداهما وجوب شيء أو حرمته ، والآخر نفيه ، فلا محالة يدور الأمر بين النفي والإثبات ، والوجود والعدم ، وهو معنى التناقض. وفي هذا الفرض لا يحتمل التزاحم ، لتمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين بالفعل في الأول ، فانه اما يأتي بمباح أو بواجب ، وبالترك في الثاني ، فانه اما ترك مباح أو ترك حرام ، وقد عرفت انّ التزاحم لا بدّ وأن يكون ناشئا من عجز المكلف عن الامتثال ، فلا محالة يكون التنافي في مقام الجعل وثبوت المصلحتين. فان ما دل على الوجوب يوجب ثبوت المصلحة في الفعل ، ودليل نفيه يوجب زوالها. كما ان دليل الحرمة يوجب المفسدة فيه ، وما دل على نفيها يوجب زوالها ، فما يثبته أحدهما ينفيه الآخر ، فيقع التعارض بينهما لا محالة ، فلا مجال فيه لما في الكفاية (١) من كون المقام من قبيل مزاحمة ما لا اقتضاء فيه مع ما فيه الاقتضاء ، وليس الأول قابلا للمزاحمة مع الثاني. وذلك لأن الإباحة في الفرض ليست ناشئة من عدم الاقتضاء. فالكبرى الكلية وان كانت مسلمة في محلها لكنها أجنبية عن المقام.

وقد يكون تعارض الأمارتين بالتضاد ، كما إذا دلت أمارة على وجوب شيء ، والأخرى على حرمته بعينه. وفي هذا الفرض إن قلنا : بأن النهي هو الزجر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٨٧.

٣٥٥

عن الفعل لمفسدة فيه ـ كما هو الصحيح ـ لا معنى للتزاحم أيضا ، فان قيام الأمارة على الوجوب أوجبت مصلحة فيه ، وقيام الأمارة على الحرمة أوجب المفسدة فيه ، فلا محالة يقع بينهما الكسر والانكسار ، فيثبت التخيير والإباحة لا محالة.

وأما إن قلنا : بان النهي هو طلب ترك الفعل الناشئ عن المصلحة فيه ، وان قيام الأمارة على حرمة شيء يوجب المصلحة في تركه ، فلتوهم وقوع التزاحم بينهما وجه ، حيث ان هناك مصلحة في الفعل ، ومصلحة في الترك ، لا يمكن المكلف من استيفائهما معا. إلّا أنه لا يمكن الالتزام بالتزاحم فيه أيضا ، إذ نتيجة ذلك عند عدم المرجح هو ثبوت التزام تخييري بين الفعل والترك ، ولا معنى له ، لأنه لغو محض ، لعدم خلو المكلف منهما بطبعه ، ولذا لا معنى لوقوع التزاحم في الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، كالحركة والسكون ، لعدم إمكان خلو المكلف عنهما ، فلا معنى لأن يأمر المولى بأحدهما تخييرا.

فينحصر احتمال رجوع التعارض إلى التزاحم بفرض ثالث ، وهو ما إذا دلت إحدى الأمارتين على وجوب شيء كالقيام ، والأخرى على وجوب ضده الّذي له ثالث كالجلوس في ذلك الوقت ، حيث يمكن ان يكون في كل منهما مصلحة ملزمة ، ولعدم تمكن المكلف من استبقائهما يلزمه المولى تخييرا باستيفاء أحدهما ، فيكون من باب التزاحم. إلّا أنه بالدقة من باب التعارض ، وذلك للعلم بعدم وجوب كلا الضدين ، وعدم اشتمالهما معا على مصلحة إلزامية ، ولازم هذا وقوع المعارضة بالعرض بين الأمارتين ، لأن كلا من الدليلين يثبت وجود المصلحة في مؤداه وينفي بالالتزام ثبوتها في مورد الآخر.

نعم لو قلنا بلزوم الموافقة الالتزامية حتى في مؤديات الطرق أمكن القول بالتزاحم في جميع الأقسام ، حيث ان كلا منهما يوجب ثبوت المصلحة في الالتزام بمؤداه ، ولا يمكن استيفاؤهما. إلّا أنه باطل في باطل ، لأن السببية فاسدة. والموافقة

٣٥٦

الالتزامية خصوصا في مؤديات الطرق أيضا فاسدة. على انه بالدقة أيضا يرجع إلى التعارض ، لمكان العلم بعدم وجوب كلا الالتزامين ، إذ حينئذ مقتضى كل من الأمارتين هو وجوب الالتزام بمؤداه ، وبالالتزام ينفي وجوب الالتزام بمؤدى الآخر. فالصحيح عدم الفرق في ثبوت التعارض بين القول بالطريقية والسببية.

والحاصل : ان الأمارة القائمة على وجوب شيء وان أوجبت ثبوت المصلحة الإلزامية فيه ، والأمارة القائمة على حرمته تثبت وجود المفسدة فيه ، إلّا ان الأولى بالالتزام تنفي ما أثبتته الثانية من الحرمة ، فيوجب زوال المفسدة عنه. وكذا العكس ، فان دليل الحرمة بالالتزام ينفي وجوب ذلك الشيء ، فيوجب زوال مصلحته. وكذا الحال في الضدين اللذين لهما ثالث ، إلّا بناء على وجوب الموافقة الالتزامية في مؤديات الطرق. وقد عرفت انه باطل في باطل. بل على هذا أيضا لا يرجع التعارض إلى التزاحم في شيء من الفروض على ما سنبين وجهه عن قريب.

وأما على الثاني : أي لو قلنا : بأن قيام الأمارة يوجب المصلحة أو المفسدة في فعل المولى ، أي جعل الأمر أو النهي أو الإباحة ، فعند تعارض الأمارتين يقع التزاحم في حكم المولى وفعله ، الّذي تقدم الكلام فيه ، وقلنا : انه تزاحم في الملاك ، وهو خارج عن التزاحم المصطلح ، الناشئ عن عجز المكلف عن امتثال الحكمين في مرحلة الامتثال. فإذا فرضنا ان أمارة قامت على وجوب فعل ، وأمارة أخرى دلت على حرمته أو إباحته ، فيكون لكل من الوجوب والحرمة ، أو أحدهما والإباحة مصلحة ملزمة ، وحيث لا يمكن للمولى التحفظ على كليهما ، كما ليس له تفويت كليهما ، لا بد له من اختيار أحدهما ، وحيث لا مرجح في البين ، لتساويهما من حيث الأهمية ، فنعلم بثبوت أحد الحكمين ، ولا يمكننا تمييزه ، فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية. فان كان الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة كان من

٣٥٧

قبيل دوران الأمر بين المحذورين ، وحكمه التخيير. وان كان الأمر دائرا بين الوجوب والإباحة، أو الحرمة والإباحة ، كان من قبيل الشك في التكليف ، والمرجع فيه هو البراءة.

ولكن الصحيح : انه لا وجه لتوهم رجوع التعارض إلى التزاحم على شيء من التقادير ، سواء قلنا بالطريقية أو بالمصلحة السلوكية أو بالسببية المصطلحة ، وسواء كانت المصلحة في فعل المكلف أو في فعل المولى. وسواء قلنا بالموافقة الالتزامية أو لم نقل.

والوجه في ذلك : ان السببية بجميع أقسامها انما تتوهم فيما إذا كانت الأمارة معتبرة ، منجزة للواقع ، أو معذرة عنه. وأما الطريق غير المعتبر في نفسه ، الّذي ليس بمنجز ولا معذر ولو للمعارضة ، فلا يوجب حدوث المصلحة ولا المفسدة أصلا ، والقائل بالسببية أيضا لا يقول بها ظاهرا في هذا الفرض ، وعليه فموضوع رجوع التعارض إلى التزاحم ينتفي رأسا على جميع التقادير كما هو ظاهر.

فالصحيح : ان مقتضى القاعدة عند تعارض الأمارتين هو التساقط والرجوع إلى دليل آخر. إلّا ان في تعارض الخبرين ورد النص على الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا.

ثم لا بأس ببيان بعض مرجحات التزاحم في المقام.

المرجح الأول : لقد ذكروا من جملة موارد الترجيح مزاحمة الواجب المضيق مع الموسع ، مثل رد السلام والصلاة في أول وقتها. ومزاحمة الواجب التعييني مع التخييري ، كأداء الدين وإطعام ستين مسكين للكفارة إذا وقعت المزاحمة بينهما. والجامع مزاحمة ما ليس له بدل مع ما له البدل ، فيقدم الأول على الثاني ، ولو كان ما ليس له البدل أضعف الواجبات ، وما له البدل أقواها ، فجعلوا هذا من المرجحات.

٣٥٨

ونقول : الكبرى وان كانت مسلمة ، إلّا ان الصغرى أعني كون المقام من قبيل التزاحم والترجيح غير صحيح. وذلك لأن التزاحم على ما عرفت انما يكون فيما إذا لم يتمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين خارجا ، وليس المقام كذلك ، لتمكنه من امتثال كلا الحكمين. وذلك لأن الواجب في الموسع انما هو الطبيعي ما بين المبدأ والمنتهى ، وليس الفرد الأول متصفا بالوجوب وإن كان مصداقا للواجب. ومن الظاهر انه لا مزاحمة بين الجامع وبين الواجب المضيق أصلا ، لتمكن المكلف من الإتيان بالمضيق أولا ثم الإتيان بالجامع في ضمن الفرد الثاني أو الثالث ، وهكذا.

نعم تخيير المكلف في تطبيق الواجب على الأفراد حتى الفرد الأول ينافي وجوب الإتيان بالمضيق ، ومن الضروري ان الحكم التخييري لا يزاحم الحكم الإلزامي ، فلا يكون الفرد الأول من الموسع مصداقا للواجب أيضا ، فالتزاحم انما هو بين المضيق وما يختاره في تطبيق الموسع ان طبقه على الفرد الأول. وكذا الحال في الواجب التخييري ، فان الواجب فيه على ما عرفت هو عنوان أحد الأمرين أو الأمور ، لا ما يختاره المكلف في الواقع على ما نسب المعتزلة القول به إلى الأشاعرة وبالعكس ، وكل منهما تبرأ منه.

ومن الظاهر تمكن المكلف من الإتيان به مع الإتيان بما يزاحم بعض افراده من الواجب التعييني ، غاية الأمر تخيير المكلف في تطبيق الواجب على الفرد المزاحم للواجب التعييني مزاحم له ، ويسقط التخيير ، ويتعين الإتيان بالجامع في ضمن غيره من الافراد. فتقدم المضيق على الموسع ، والتعيين على التخيير ، وان كان امرا مسلما ، إلّا أنه ليس من باب المزاحمة والترجيح ، بل هو أجنبي عن باب المزاحمة رأسا.

المرجح الثاني : ما ذكروه من تقدم الواجب الّذي يكون اعتبار القدرة فيه

٣٥٩

عقلا على ما يكون القدرة فيه شرطا شرعا ، بمعنى تقدم ما يكون القدرة فيه دخيلا في الخطاب على ما يكون القدرة فيه دخيلا في الملاك. واصطلاحا يعبر عن الأول بما يكون القدرة فيه معتبرا عقلا ، وعن الثاني بما يكون القدرة فيه معتبرا شرعا. مثاله ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء الّذي يكون القدرة فيه شرطا شرعا لقوله سبحانه (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(١) فان التفصيل قاطع للشركة ، فله بدل طولي وهو التيمم ، وبين صرفه في حفظ النّفس المحترمة ، فيتعين الثاني ، فانه لو صرف قدرته في ما ليس له بدل طولي أي في حفظ النّفس في المثال فقد استوفى مصلحته ، وينتفي به ملاك الواجب الّذي له البدل ، لانتفاء شرطه ، وهو القدرة ، فلم يفوت ملاكا ملزما أصلا. وهذا بخلاف ما لو عكس المطلب ، فانه وان استوفى ملاك ما له البدل ، إلّا أنه فوت الملاك الملزم. وهذه الكبرى الكلية واضحة ، لا ريب فيها.

وانما الكلام في بعض صغرياتها ، فانهم جعلوا من صغرياتها ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في الطهارة الحدثية وصرفه في الطهارة الخبثية ، كتطهير البدن أو اللباس ، ولذا ذهب المعروف من المحشين للعروة وفاقا للمتن إلى تقديم التطهير عن الخبث على التطهير عن الحدث ، ثم انتقال وظيفته إلى التيمم (٢).

إلّا ان الصحيح : انه ليس من صغريات هذه الكبرى. وذلك لأن تطهير الثوب أو البدن ليس من الواجب النفسيّ قطعا ، وانما يجب للصلاة. كما ان الوضوء بل الغسل على ما هو التحقيق ليسا بواجبين نفسيين ، وانما يجبان للصلاة ، فالواجب النفسيّ انما هو العمل المركب المعبر عنه بالصلاة ، والقدرة فيها شرط شرعا ، فإذا تعذرت لتعذر الوضوء ، وجب الإتيان بها مع التيمم ، فهي بدل عن المأمور به

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) العروة الوثقى : ١ السادس من أحكام التيمم ، ص ٤٧٧ ـ ٤٧٨ (ط. المكتبة العلمية الإسلامية).

٣٦٠