دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الحكم وهو الاستصحاب.

الخامس : ان يستفاد منها الحكم الواقعي والاستصحاب ، بأن يكون صدرها بيانا لحلية الأشياء أو طهارتها بعناوينها الأولية ، وذيلها أعني الغاية المذكورة فيها دالة على الحكم باستمرارها حتى يعلم ارتفاعها. وهذا مختار المحقق الخراسانيّ في الكفاية (١).

السادس : ان يراد بها الحكم الواقعي والحكم الظاهري معا ، بأن يراد بالصدر بيان الحكم الواقعي ، وبالغاية ثبوت الحل والطهارة في ظرف الشك في الواقع ، فكأنها قيد للموضوع وللحكم. وهذا مختار الفصول.

السابع : ان يستفاد من صدرها بيان الحكم الواقعي وأصالة الحل وقاعدة الطهارة ، أي الحكم الواقعي والظاهري معا ، ومن ذيلها الاستصحاب. وهذا مختار المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل.

ونتعرض أولا للاحتمال الأخير ، ثم لبقية الاحتمالات.

فنقول : ذكر في تقريبه : ان الشيء يعم الأشياء بعناوينها الأولية كالحجر والمدر والشجر وغيرها ، ويعم الشيء المجهول عنوانه كالمائع المردد بين الماء والبول ، وقد حكم على جميعها بالحل والطهارة ، فيكون حكما واقعيا للأشياء المعلوم عنوانها ، وظاهريا بالإضافة إلى الشيء المجهول عنوانه ، والغاية المذكورة في ذيلها بيان لاستمرار الحكم إلى أن يعلم خلافه ، فيستفاد منها الاستصحاب.

وأورد عليه المحقق النائيني بوجوه ثلاثة (٢).

أحدها : من ناحية الحكم ، وحاصله : ان الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، لأنه أخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، فهو متأخر عن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٠٠.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٤١

موضوعه بمرتبة ، وموضوعه متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبة ، فلا بد في الحكم الظاهري من فرض وجود حكم واقعي وفرض الشك فيه ثم جعله في هذا الفرض. كما أن موضوع الحكم الظاهري متأخر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين ، لأنه متأخر عن نفس الحكم الواقعي تأخر المتعلق عن متعلقه والمقيد عن قيده ، والحكم الواقعي متأخر عن موضوعه تأخر الحكم عن موضوعه ، فالحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ، فكيف يمكن جعلهما بإنشاء واحد.

وفيه : أنه إنما يتم على مسلك صاحب الكفاية من كون الأحكام منشأة بالألفاظ ، وهو فاسد. وقد بينا في محله ان الأحكام بأجمعها أمور اعتبارية ، توجد بنفس الاعتبار ، وليست الألفاظ إلّا مبرزة لها ، بل لا يعقل إيجادها باللفظ ، ولذا قلنا في بحث الخبر والإنشاء أنه لا فرق بينهما من حيث المبرز ، فالجملة الخبرية مبرزة لقصد الحكاية ، والإنشائية مبرزة للاعتبار النفسانيّ ، والفرق بينهما ان الحكاية قد تكون مطابقة للواقع فيكون الخبر صدقا ، وقد تكون مخالفة للواقع فيكون كذبا.

وعلى هذا لا مانع من ان يعتبر الحكم الواقعي للأشياء بعناوينها الأولية ، ثم يفرض الشك فيها ويعتبر الحكم الظاهري للشاك ، فيبرزهما معا بمبرز واحد ، وهو غير مستلزم لإيجاد أمرين طوليين دفعة واحدة ليكون مستحيلا.

ثانيها : من ناحية الغاية ، وحاصله : ان غاية الحكم الواقعي من ناحية الجعل منحصرة بالنسخ وانتهاء أمده ، وفي مرحلة المجعول تبدل الموضوع من غير دخل للعلم والجهل في ذلك. وأما الحكم الظاهري فارتفاعه لا يكون إلّا بتبدل موضوعه أعني الشك بالعلم. ولذا ليس مجرد العلم بالخلاف رافعا للحكم الواقعي ، فإذا اعتقد المكلف ملاقاة ثوبه مع النجس لا ترتفع طهارته ما لم تتحقق الملاقاة واقعا ، وهكذا في مرحلة الجعل ليس مجرد العلم بالنسخ رافعا له. وفي

٤٢

الحكم الظاهري الأمر بالعكس ، فالطهارة الظاهرية لا تزول بملاقاة المحل مع النجس واقعا ، وإنما ترتفع بمجرد العلم بها.

وعليه فإذا جعل قوله عليه‌السلام «حتى تعلم» غاية لكلا الحكمين أعني الظاهري والواقعي ، فالعلم بالقياس إلى الأول لا بد وأن يلحظ موضوعيا كما في آية التبين ، وبالقياس إلى الثاني لا بد وأن يلحظ طريقيا إلى النسخ أو تبدل الموضوع ، فيلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.

وفيه : أنه مندفع على التقريب الّذي ذكرناه ، وانما يرد لو جعلت الغاية قيدا للموضوع ، بل عموم (كل شيء) يشمل الأشياء بعناوينها الأولية والثانوية ، والغاية غاية لاستمرار الحكم المجعول ظاهريا كان أو واقعيا. وبعبارة أخرى : الغاية غاية الاستصحاب لا قيد الموضوع.

ثالثها : من ناحية الموضوع ، وحاصله : ان العموم كالإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها ، بأن لا يكون لشيء منها دخل في الحكم ، فمعنى إطلاق قولك : الخمر حرام إلغاء خصوصياته من كونه أحمر أو حلوا أو غير ذلك.

وعليه فقوله عليه‌السلام «كل شيء حلال أو نظيف» وان كان يعم الشيء المجهول عنوانه أو حكمه ، إلّا أنه يعمه بما أنه شيء ، لا بما انه مجهول الحكم أو العنوان ، فيثبت له الحكم بعنوانه الأولي ، وليس هذا حكما ظاهريا ، لأن الحكم الظاهري ما ثبت للشيء بعنوان الشك في حكمه الواقعي. وحينئذ إذا شك في طهارة أو حليته من جهة الشك في عنوانه لا يمكن التمسك بشيء من هذه العمومات. لا بما انه شيء ، لورود مخصصات عديدة عليها ، ويحتمل دخول المشكوك فيها ، فالتمسك بالعمومات من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. ولا بما انه مشكوك الحكم أو العنوان ، لما فرضنا من ان عنوان الشيء لا يعم المجهول بما هو مجهول.

٤٣

وهذا الإيراد لا دافع له ، ولأجله يسقط هذا الاحتمال ، أعني دلالتها على الحكم الواقعي والظاهري والاستصحاب معا.

وبهذا ظهر الجواب عن الاحتمال السادس وهو ان يراد منها الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة والحل ، فان «كل شيء» إنما يعم المردد بما هو شيء ، لا بما أنه مجهول ، فكيف يمكن استفادة الحكم الظاهري منه.

وأما الاحتمال الخامس وهو ما اختاره في الكفاية (١) بعد عدوله عما ذكره في حاشية الرسائل ، لما ذكرناه ، أو لوجه آخر من دلالة الروايات على الحكم الواقعي والاستصحاب ، بزعم دلالة صدرها على الحكم الواقعي ، وذيلها على استمراره ما لم يعلم بخلافه. وأيده بقوله عليه‌السلام في ذيل بعضها «فإذا علمت أنه قذر فقد قذر» فانه تصريح بما كان يستفاد من مفهوم الغاية ، أعني ارتفاع الحالة السابقة المتيقنة بالعلم بالخلاف دون غيره.

ففيه : ان القيد المذكور في الكلام لا بد وأن يرجع إلى الموضوع ، كما في قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٢) فان اليد تطلق على ما دون المنكب ، فقيدت في الآية الشريفة بخصوص المرفق ، فمفادها وجوب غسل اليد إلى المرافق ، أو يرجع إلى الحكم ، كما في قوله تعالى (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بناء على كون الليل قيدا لوجوب الإتمام لا الصيام.

وفيما نحن فيه ان رجع القيد وهي الغاية أعني (حتى تعلم) إلى الموضوع كان المعنى كل شيء مجهول النجاسة طاهر ، وكل شيء مشكوك الحرمة حلال ، فتنطبق على القاعدتين ، أعني الحكم الظاهري فقط. وان رجع إلى الحكم فالمعنى كل شيء محكوم بالطهارة في ظرف الجهل بالنجاسة ، ومحكوم بالحلية في ظرف الشك في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٠٠.

(٢) المائدة : ٦.

٤٤

الحرمة ، وهذا أيضا حكم ظاهري ، لأنّ رجوع القيد إلى الحكم بالملازمة دال على تقييد الموضوع ، فأين الحكم الواقعي والاستصحاب.

نعم لو جعلت الغاية غاية للاستمرار لتم ما ذكره ، لأن المعنى حينئذ كل شيء حلال واقعا وطاهر كذلك ، وهذه الحلية أو الطهارة مستمرة ما لم يعلم بالخلاف. ولكنه خلاف الظاهر ، لأن القيد ظاهره الرجوع إلى ما ذكر في الكلام ، لا الرجوع إلى ما لم يذكر فيه كالاستمرار في المقام.

وبهذا ظهر الجواب عن الاحتمال الرابع وهو ما احتمله في الفصول من استفادة القاعدة والاستصحاب منها ، بزعم ان مفادها ثبوت الحلية لما شك في حرمته ، والطهارة لما شك في نجاسته مستمرا ما لم يعلم الحرمة أو النجاسة ، وذلك لأن جعل الحكم المستمر باستمرار موضوعه أجنبي عن الاستصحاب ، وإنما الاستصحاب هو الحكم بالاستمرار.

وأمّا الاحتمال الثالث ، وهو ما احتمله الشيخ (١) في خصوص قوله عليه‌السلام «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس» من كون مفاده الاستصحاب فقط ، بدعوى : ان الماء طاهر بطبعه ، فطهارته مفروضة الوجود ، فحكم باستمرارها في ظرف الشك ما لم يعلم بارتفاعها.

ففيه : أنه ليس في الرواية قرينة على ان العناية في الحكم بطهارة الماء في فرض الجهل بنجاسته هي لحاظ الحالة السابقة ، وهذه الجهة معتبرة في الاستصحاب ، بل الظاهر ان العناية في الحكم بالطهارة عند الشك إنما هي نفس الشك في الطهارة ، وهذه هي قاعدة الطهارة ، غايته في خصوص الماء لا مطلقا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٧٤ (ط. جامعة المدرسين).

٤٥

نعم ما ورد في رواية عبد الله بن سنان (١) في الثوب المعار عند الذمي من الحكم بالطهارة ، معللا بقوله «فانك أعرته إياه وهو طاهر» ظاهر في ان العناية إنما هي بلحاظ الطهارة السابقة المتيقنة ، فيكون دليلا على الاستصحاب ، إلّا أنه مختص بموارد الشك في النجاسة ، والتعدي يحتاج إلى إثبات عدم القول بالفصل ، وهو مشكل جدا. إلّا ان فيما تقدم من صحاح زرارة غنى وكفاية.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ ـ ٣٦١.

٤٦

الأقوال في :

حجية الاستصحاب

لقد أطال شيخنا الأنصاري قدس‌سره الكلام في التفاصيل ، وتعرض لكل منها مفصلا. ونحن نتعرض للمهم من هذه التفاصيل ، ثم بعد ذلك نبين ما هو المختار عندنا ، وهو التفصيل بين الأحكام الكلية وغيرها.

١ ـ التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

وقبل الشروع في تحقيقه لا بدّ من بيان المراد منه ، فنقول : المحتمل أمور :

الأوّل : أن يراد من المقتضي والمانع التكوينيان ، وهما من اجزاء العلة التامة ، فانها مركبة من ثلاثة اجزاء : المقتضي وهو ما يترشح منه الأثر ، كالنار في الإحراق. والشرط وهو ما يتوقف عليه فعلية الأثر ، اما من ناحية الفاعل كقرب النار إلى المحل ، واما من ناحية القابل كيبوسة المحل ، والجامع ما ذكرناه. وعدم المانع والمراد بالمانع ما يزاحم المقتضي في تأثيره ، كما إذا اقتضت إحدى القوتين جر الشيء إلى طرف المغرب والأخرى جره إلى طرف المشرق ، فكل منهما مانع الآخر بالإضافة إلى كونه مقتضي.

وعليه فمرجع التفصيل إلى أنه إذا أحرز المقتضي للبقاء وشك فيه من جهة وجود المانع جرى الاستصحاب ، وإلّا فلا يجري.

٤٧

وفيه : أولا : ان لازمه تخصيص الاستصحاب بالوجوديات دون الأمور العدمية ، لأن العدم ليس له مقتضى ولا شرط.

ثانيا : يلزم عدم جريان التفصيل في الأحكام الشرعية مطلقا ، لأنها أفعال اختيارية للشارع ، فهي معلولة لجعله واعتباره ، ولا دخل لشيء من الأمور الخارجية فيها ، كما هو شأن الأفعال الاختيارية أجمع.

الثاني : أن يراد بالمقتضي موضوع الحكم ، لعدم انفكاكه عنه ، فكأنه مقتضى له ، ويراد بالشرط الأمر الوجوديّ المأخوذ فيه ، وبالمانع الأمر العدمي المأخوذ فيه ، فالمقتضي لوجوب الصلاة هو المكلف ، وشرطه دخول الوقت ، والمانع عنه الحيض. وقد عبر الفقهاء بالشرط عن الأمر الوجوديّ إذا أخذ في موضوع الحكم التكليفي ، وبالسبب إذا أخذ في موضوع الحكم الوضعي ، فقالوا الملاقاة سبب لحصول النجاسة ، وموت المورث سبب للملك ، ولم نعرف وجه ذلك.

وكيف كان مرجع هذا التفصيل إلى انه إذا أحرز بقاء الموضوع ، وكان الشك في بقاء الحكم من جهة احتمال المانع جرى الاستصحاب ، وان كان الشك في الموضوع لم يجري.

وفيه : أن ذلك وان كان صحيحا إلّا انه ليس تفصيلا في الاستصحاب ، إذ لم يتوهم أحد جريانه مع الشك في بقاء الموضوع ، لعدم صدق عنوان نقض اليقين بالشك إلّا مع اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة وبقاء الموضوع ، فإذا أحرز ذلك فهو ، وإلّا كان التمسك بالحديث من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، كما انه مع تبدل الموضوع يكون إبقاء الحكم من القياس ، وإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الثالث أن يراد بالمقتضي الملاك ، فانه وان كان بحسب التحقق الخارجي متأخرا عن الحكم ، إلّا انه بوجوده الذهني سابق عليه ، إذ هو الداعي للمولى على

٤٨

البعث نحو الشيء ، فكأنه مقتضى له.

وعليه فالتفصيل انما هو بينما إذا أحرز الملاك للبقاء وشك فيه لاحتمال المانع فيجري الاستصحاب ، وبينما إذا لم يحرز ذلك فلا يجري.

وفيه : أولا : ان لازمه اختصاص الاستصحاب بالأحكام التكليفية إذا بنينا على تبعيتها لمصالح أو مفاسد في متعلقاتها ، وعدم جريانه فيها على القول بتبعيتها لمصالح في نفس الجعل ، كما لا مجال لجريانه في الأحكام الوضعيّة مطلقا ، ولا في الموضوعات الخارجية كالعدالة ونحوها.

وثانيا : أنه إنكار للاستصحاب في الحقيقة ، إذ بأي طريق يحرز الملاك للبقاء في مورد وعدم الملاك في مورد آخر ، حتى أنكر الشيخ قدس‌سره جريانه إذا احتمل كون الخيار مبنيا على الفور ، مدعيا انه من الشك في المقتضي ، وأجراه إذا شك في لزوم المعاطاة عند فسخ أحد المتعاطيين ، ولذا أورد عليه السيد الطباطبائي بأنه أيضا من الشك في المقتضي. على انه مع العلم بالملاك أي حاجة إلى الاستصحاب. فهذه الاحتمالات كلها فاسدة.

والظاهر ان منشأ توهمها هو حمل اليقين في الصحيحة على المتيقن ، فتخيل ان المراد بالمقتضي في التفصيل هو مقتضي المتيقن بأحد الوجوه المزبورة.

ولكن الظاهر ان المراد باليقين والشك نفس الصفتين ، وعليه لا بد من حمل مراد الشيخ من المقتضي على مقتضي الاستصحاب ، والجري العملي على طبق اليقين السابق ، وان لم يكن ملائما لظاهر كلامه قدس‌سره ، فإذا كان المقتضي له موجودا جرى الاستصحاب ، وإلّا لم يجر.

توضيح ذلك : ان ما تعلق به اليقين من الأحكام والموضوعات تارة : يكون في نفسه أمرا مستمرا في عمود الزمان بحيث يبقى ما لم يرفعه رافع خارجي ، كالطهارة والنجاسة والملكية والزوجية الدائمية. وأخرى : يكون محدودا ، بحيث

٤٩

ينعدم بنفس مرور الزمان ، حتى مع فرض عدم تحقق معدوم أو انعدام موجود في العالم ، كالزوجية الانقطاعية ، فانها غير مستمرة ، ترتفع بمجرد مرور الزمان. وثالثة : يشك في كونه من أحد القسمين ، من دون أن يكون في البين دليل يعين الثاني ، ولا إطلاق يعين الأوّل ، وهذا يكون في الشبهة الحكمية تارة كما إذا شك في فورية خيار واستمراره ، وفي الشبهة الموضوعية أخرى ، كما إذا شك في ما وقع في الخارج انه عقد دوام أو انقطاع.

ففي الفرض الأوّل ، إذا شك في البقاء ، حيث ان مقتضى الاستمرار والجري العملي على طبق اليقين السابق محرز ، والشك في الرافع ، فيجري الاستصحاب. كما ان الشك في الفرض الثالث يكون من الشك في المقتضي ، لعدم إحراز ذلك. وهذا هو الّذي منع الشيخ قدس‌سره جريان الاستصحاب فيه ، فالشك في بقاء الخيار إذا احتمل كونه مبنيا على الفور من هذا القبيل.

وفي الفرض الثاني ، إن كان الشك في البقاء قبل حصول الغاية كان من الشك في الرافع ، لأن استمرار المتيقن إلى حصول الغاية في نفسه كان محرزا ، فيجري فيه الاستصحاب. وإن كان من جهة الشك في حصول الغاية ، فهو ينقسم إلى أقسام ثلاثة ، لأنه تارة : يكون لشبهة حكمية مفهومية ، وأخرى : لشبهة حكمية محضة ، وثالثة : موضوعية.

أمّا في الشبهة المفهومية ، فلا يجري الاستصحاب على مسلك الشيخ قدس‌سره ، لأن الشك حينئذ من الشك في المقتضي ، كما إذا شك في بقاء وجوب الظهرين ، لأجل الشك في حصول غايتهما من جهة الشبهة المفهومية ، وان عنوان الغروب يتحقق باستتار القرص أو لا يتحقق إلّا بزوال الحمرة ، فانه لم يحرز فيه استعداد الوجوب وقابليته للبقاء إلى هذا الحد.

وهكذا في الشبهة الحكمية المحضة ، كما إذا شك في انّ آخر وقت العشاء هو

٥٠

انتصاف الليل ، حتى إذا لم يكن التأخر عن عمد ، بل كان لنوم أو نسيان ، أو ان وجوب الإتيان بها قبله تكليفي محض لفقدان العامل أو إهماله ، فان الشك حينئذ من الشك في المقتضي ، لعدم إحراز استعداد المتيقن للبقاء بعد ذلك ، لاحتمال كون وجوبها مغيا بما قبل انتصاف الليل ، فلا يجري الاستصحاب.

وأما في الشبهة الموضوعية ، كما إذا علم بأن الغاية للظهرين استتار القرص ، وشك في تحققه لغيم ونحوه ، فيجري الاستصحاب بناء على جريانه في التدريجيات.

هذا وقد ظهر ان المراد من المقتضي مقتضي الجري العملي على طبق اليقين السابق ، فإذا أحرز قابلية المتيقن للاستمرار والبقاء من حيث الزمان بحيث لا يشك في ارتفاعه إلّا من جهة طرو أمر يحتمل رافعيته كان الشك فيه شكا في الرافع ، كالشك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره بنفسه ، أو الماء المتنجس المتمم كرا ، أو زوال العلقة الزوجية بقول الزوج أنت خلية أو برية.

ومن هذا القبيل إذا شك في زوال طهارة المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ، فان وجدانه له قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه ، كما انه إذا كان بعد الفراغ لم تبطل بالإضافة إلى ما أتى به معه من الصلاة. وأما إذا وجد الماء في الأثناء ففي ارتفاع طهارته وجهان ، ويمكن التمسك فيها بالاستصحاب. وربما يشكل عليه بأنه من الشك في المقتضي. وبما ذكرناه ظهر انه ليس كذلك ، لأن الطهارة في نفسها قابلة للاستمرار ، فالشك فيها من الشك في الرافع.

وأمّا إذا لم يكن لما تعلق به اليقين استمرار في نفسه ، أو لم يحرز ذلك بحيث احتمل ارتفاعه بنفس مرور الزمان ولو لم يحدث بشيء في العالم غيره ، كالخيار المحتمل فوريته ، كان الشك في مقتضي الجري العملي ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

٥١

وبهذا البيان يندفع ما أورده السيد على الشيخ في عدة موارد تمسك فيها بالاستصحاب ، من أنه من الشك في المقتضي ، منها : مسألة المعاطاة إذا شك في بقاء الملكية بعد فسخ أحد المتعاطيين ، فان الملكية وان كانت جائزة إلّا انها لا تزول إلّا برافع.

إذا عرفت المراد من المقتضي يقع الكلام في وجه التفصيل ، وأنه ما الفرق بين الزمان وغيره من الغايات ، حتى اعتبر في الاستصحاب إحراز استمرار المتيقن في عمود الزمان دونها؟

قد يتوهم ابتناء ما ذهب إليه من التفصيل على إرادة المتيقن من اليقين المأخوذ في الصحيحة ، كما استظهره في الكفاية (١) ، فيقال : ان النقض لا يسند إلّا إلى الأمر المبرم كالعهد والغزل والبيعة ونحوها ، فإذا كان للمتيقن استمرار وإبرام من حيث البقاء صلح اسناده إليه ، وإلّا فلا.

ولكن يرد عليه حينئذ ما أورده في الكفاية ، مضافا إلى ان إرادة المتيقن من اليقين في نفسه خلاف الظاهر لو لم يكن غلطا.

ولكن يمكن توجيه التفصيل المزبور بوجه آخر غير مبني على ذلك بأن يقال : انّ «لا تنقض اليقين بالشك» لا يعم موارد الشك في المقتضي ، ولو أريد من اليقين نفس الصفة. توضيحه : ان اليقين في الصحيحة أريد به الصفة طريقيا ، وأسند إليها النقض لما فيها من الإبرام والاستحكام في مقابل الشك ، فان اليقين من يقن بمعنى ثبت ، فهذا العنوان يطلق على تلك الصفة باعتبار ثبوتها وتحققها وإبرامها ، كما يطلق عليها القطع باعتبار كونها قاطعة للتحير والترديد ، ويطلق عليها العلم باعتبار كونها انكشافا. ولعل هذا هو السر في إطلاق العالم عليه تعالى دون القاطع

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٨٥.

٥٢

والمتيقن ، فان علمه غير مسبوق بالتحير ولا بالفلول. كما ان هذا هو سرّ عدم صحة اسناد النقض إلى العلم والقطع ، فلا يقال : لا تنقض العلم بالجهل.

فالنقض في الصحيحة مسند إلى نفس اليقين لا المتيقن. إلّا ان المنع عن نقضه ليس بلحاظ آثاره ، إذ لا أثر لليقين السابق. كما انه لا ينطبق حينئذ على مورد الصحيحة ، مضافا إلى أنه لا معنى للنهي عن نقض اليقين تكوينا ، فانه منتقض على تقدير ، وباق على تقدير آخر ، فمع قطع النّظر عن الزمان وتقييد المتيقن بالحدوث اليقين باق ، وان قيد به فاليقين منتقض لا محالة ، فلا مناص من كون النهي عن نقض اليقين باعتبار الجري العملي على طبقه ، فان طريقيته ذاتية ، ولذا إذا علم الإنسان بالنفع في شيء يطلبه بطبعه ، كما إذا علم بالضرر يجتنبه ، فالمراد ترتيب هذا الأثر ، وفرض الشك كأن لم يكن.

وعليه فان كان اليقين مقتضيا للجري العملي على طبقه بقاء بحيث تعلق بأمر مستمر في عمود الزمان صح النهي عن نقضه بالشك. وأما إذا لم يكن في اليقين اقتضاء ذلك أصلا ، لقصوره ذاتا عن الجري العملي على طبقه حتى مع فرض عدم الشك من ناحية احتمال الرافع ، فليس رفع اليد عنه من نقض اليقين بالشك ليعمه النهي.

والحاصل نقض اليقين بالشك عبارة أخرى عن عدم الجري العملي على طبق اليقين السابق ، والنهي عنه لا يصح إلّا فيما إذا كان اليقين في نفسه مقتضيا للجري.

وربما يقال : ان دليل الاستصحاب غير منحصر بما هو مشتمل على عنوان نقض اليقين بالشك ، فيمكن التمسك في موارد الشك في المقتضي بإطلاق غيره ، كرواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن أعار ثوبه للذمي فهل عليه أن يغسله «قال عليه‌السلام : لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر» (١) فعلّله بالطهارة السابقة المتيقنة دون

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ ـ ٣٦١.

٥٣

قاعدة الطهارة. وقوله عليه‌السلام في حديث آخر «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، لأن اليقين لا يدفع بالشك» (١) فانه غير مشتمل على عنوان النقض بالشك ، فيعم الشك في المقتضي.

وفيه : ما لا يخفى. أما الرواية الأولى فلأنّ موردها الشك في الرافع ، وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بها انا نقطع من الخارج بعدم الخصوصية للثوب ، كما نقطع أيضا بأنه لا خصوصية في الإعارة ، ولا خصوصية للذمي ، فيعم الحكم غير الثوب ، وغير الإعارة كالإجارة ، وغير الذمي كالمشرك الحربي ، فنتعدى. ولكن من المحتمل ان يكون للشك في الرافع خصوصية ، فالتعدي إلى الشك في المقتضي لا وجه له.

وأما الرواية الثانية ، فلأنها مشتملة على عنوان المضي ، وهو كعنوان النقض لا يسند إلّا إلى ما فيه اقتضاء الجري العملي على طبقه ، فإذا كان اليقين بنفسه قاصرا عن الجري على طبقه كيف يؤمر بالمضي عليه ، ويؤكد ذلك تعليله بقوله عليه‌السلام «لأن اليقين لا يدفع بالشك» أي لا ينقض به ، ولو لم يكن اليقين بنفسه مقتضيا للجري على طبقه لما احتاج رفع اليد عنه بالدفع ولا بالدافع ، فليس لهذه الأخبار أيضا إطلاق يعم الشك في المقتضي.

ولكن مع ذلك كله ليس التفصيل تاما نقضا وحلا. والصحيح عدم الفرق بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

أما النقض : فأولا : لازمه عدم جريان الاستصحاب إذا شك في بقاء الحكم ونسخه ، مع ان أصالة عدم النسخ مما تسالم عليها الفريقان ، حتى ادعى المحدث الأسترآبادي كونها من الضروريات ، فان قابلية الجعل للاستمرار والبقاء في عمود

__________________

(١) الإرشاد : ١٥٩.

٥٤

الزمان غير معلوم ، لأنّ النسخ على ما حققناه دفع لا رفع ، كما ان استعداد المجعول للبقاء إذا شك في كون الخيار على الفور غير معلوم.

وثانيا : إحراز المقتضي أعني استمرار المتيقن للبقاء في عمود الزمان إنما يمكن في الأحكام دون الموضوعات ، فان المراد بالمقتضي في الموضوعات هو المقتضي التكويني ، ومن الظاهر ان شيئا منها لا تستمر إلى الأبد ، بل مقدار استعدادها للبقاء مختلف باختلاف الأجناس والأنواع والأصناف بل الأشخاص ، فهل الميزان في ذلك باستعداد الجنس أو النوع أو الصنف أو الشخص؟ ومن أين يمكن إحراز مقدار استعداد الأشخاص للبقاء ، فيلزم من جريان هذا التفصيل في الموضوعات هرج غريب في الاستصحاب ، مع ان الشيخ قدس‌سره صرح بجريانه فيها. ولذا ذكر في تنبيهات الاستصحاب ان الشك في بقاء الكلي قد يكون من الشك في الرافع ، كما إذا شك في بقاء الحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء ، فان الحدث أمر مستمر في عمود الزمان ، ولا يرتفع إلّا برافع ، فيجري فيه الاستصحاب. وقد يكون من الشك في المقتضي ، كما إذا شك في بقاء الحيوان لتردده بين قصير العمر وطويلة ، وهذا تصريح منه بجريان التفصيل في الموضوعات ، فيرد عليه ما أورده هو قدس‌سره على المحقق القمي بعينه.

وثالثا : بناء على هذا يلزم عدم جريان الاستصحاب إذا شك في حصول الغاية لشبهة موضوعية فيما إذا كانت الغاية زمانا ، كما لو شك في وجوب صلاة الفجر أو الظهرين ، للشك في طلوع الشمس أو غروبها ، فانه ليس إلّا مرور الزمان ، فالوجوب مما لم يحرز استمراره في عمود الزمان ، فالشك في بقائه من الشك في المقتضي ، مع ان جريان الاستصحاب فيه مما قبله الشيخ ، بل هو مورد بعض الأخبار ، كقوله عليه‌السلام في مكاتبة القاساني «صم للرؤية وأفطر للرؤية» (١).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ ـ ١٥٩.

٥٥

وأما الحل : فهو ان الأمر في نقض اليقين بالشك لو كان مبنيا على الدقة العقلية لتم ما ذكره من المنع عن الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي ، إلّا انه عليه لا يجري الاستصحاب حتى في فرض الشك في الرافع ، إذ المفروض عدم تعلق اليقين بالمتيقن إلّا في ظرف عدم طرو ما يحتمل مانعيته ، كزوال التغير في الماء المتنجس ، وأما بعده فلم يكن متيقنا في وقت ما أصلا ليكون رفع اليد عنه بسبب الشك الطارئ من نقض اليقين بالشك ، فلازم هذا سقوط الاستصحاب رأسا. فلا بد وأن يجعل الميزان في ذلك بالنظر المسامحي العرفي ، بمعنى إسقاط خصوصية الحدوث والبقاء ، وجعل متعلق اليقين والشك نفس الطبيعي ، كما طبق عليه الإمام عليه‌السلام تلك الكبرى الكلية على ما مرّ تفصيله. وعليه ففي فرض الشك في المقتضي أيضا يصدق عنوان نقض اليقين بالشك ، لتعلق كل منهما بالطبيعي ، كما في الخيار إذا شك في فوريته ، فيجري فيه الاستصحاب.

وبالجملة لا فرق بين الشك في المقتضي والشك في الرافع في تغاير متعلقي اليقين والشك بالدقة العقلية ، كما لا فرق بينهما أيضا في اتحاد المتعلقين بالنظر العرفي.

٢ ـ التفصيل بين المستصحب الثابت بالدليل الشرعي أو بحكم العقل :

التفصيل الثاني : وهو ما أبداه الشيخ ، ولم يسبقه إليه أحد ، بخلاف التفصيل المتقدم فقد سبقه إليه المحقق في المعارج (١) ، وهو التفصيل في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية بينما إذا كان دليله الشرع من كتاب أو سنة أو إجماع لرجوعه إليها وما كان دليله حكم العقل (٢). وحاصل ما ذكره في وجهه بتوضيح : أنه يعتبر في

__________________

(١) معارج الأصول : ٢٠٦.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٥٤ ـ ٥٥٥ (ط. جامعة المدرسين).

٥٦

الاستصحاب أعني المنع عن نقض اليقين بالشك أمران ، اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ، وإلّا فليس رفع اليد عن اليقين السابق من نقض اليقين بالشك ، بل يكون من نقض اليقين بمثله ، واختلاف بعض خصوصيات الموضوع من الأمور العدمية أو الوجودية ، ليحصل به الشك ، وإلّا فاليقين باق على حاله ، ولا يزول إلّا بنحو الشك الساري الخارج عن محل الكلام ، واجتماع الأمرين مستحيل إلّا إذا كان الميزان في ذلك بنظر العرف.

وعليه إن كان دليل الحكم شرعيا ، فقد يفهم العرف من الدليل أو بمناسبة الحكم والموضوع كون الخصوصية المتبدلة مقومة للموضوع ، ومن قبيل الواسطة في العروض للحكم ، كالعدالة بالإضافة إلى وجوب قبول شهادة العادل ، أو ملكة الاجتهاد في وجوب تقليد العالم ، فانها بنظر العرف هي الموضوع لوجوب التقليد ، بحيث لو أمكن وجودها مستقلا لوجب تقليدها. كما قد يفهم العرف كون الخصوصية من الحالات ، أي الواسطة في الثبوت ، كالتغير في الماء المتنجس ، فان النجاسة كالحرارة والبرودة عارضة لذات الماء عرفا لملاقاته النجس مع التغير ، فيجري فيه الاستصحاب ، لاتحاد القضيتين عرفا ، ولا يجري في الأول ، لعدم اتحادهما. وقد يشك العرف في ذلك ، أي في كون الخصوصية الزائلة من أي القسمين ، كما في السفر بالقياس إلى التقصير إذا كان المكلف مسافرا في أول الوقت ، فصار حاضرا قبل أن يصلي ، فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا ، إذ التمسك فيه بعموم المنع عن نقض اليقين بالشك من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. هذا إذا كان دليل الحكم شرعيا.

وأمّا إذا كان مدركه حكم العقل ، فلا يجري فيه هذا البيان. وتوضيحه بمقدمتين :

الأولى : ان الحاكم الملتفت سواء كان هو الشرع أو العقل يستحيل أن يكون

٥٧

جاهلا بموضوع حكمه ، بأن يكون مهملا عنده ، بل لا بد من كونه مبينا عنده من جميع الجهات التي يتوجه إليها ، فعلى هذا كلما يأخذه في موضوع حكمه لا بد وأن يكون مقوما له ، وإلّا لم يكن وجه لأخذه.

الثانية : ان الخصوصيات التي يأخذها العقل في موضوع حكمه ان كانت على حالها فالحكم باق قطعا ، وإلّا فالحكم زائل قطعا ، بحيث لو ثبت الحكم مع زوال شيء منها كان حكما حادثا ، لا بقاء الحكم الأول ، فالحكم الشرعي المستفاد منه كذلك ، فانه تابع له بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية ، فكما تسقط عند سقوطها كذلك الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل يزول بزواله ، فلا يبقى حكم يشك في بقائه ليجري فيه الاستصحاب.

وأورد المحقق النائيني على المقدمة الأولى بما حاصله (١) : ان حكم العقل قد يكون من قبيل القضية الشرطية مشتملة على انتفاء الحكم عند انتفاء بعض الخصوصيات ، فلا يشك فيه في البقاء. وقد يكون من باب الحكم على القدر المتيقن ، فيستقل بثبوت الملاك في واجد الخصوصيات من باب انه القدر المتيقن ، لا لأن الفاقد لبعضها فاقد الملاك ، فبضم هذه الصغرى إلى الكبرى المسلمة عند العدلية من تبعية الأحكام الشرعية للملاكات الثابتة في متعلقاتها يثبت الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى الإهمال من حيث إدراك العقل وان كان ممتنعا بحيث يشك العقل في أنه يدرك أو لا يدرك ، إلّا أن الإهمال من حيث الموضوع أمر ممكن ، فيشك عند انتفاء بعض الخصوصيات في اشتمال الفاقد على المصلحة وعدمه ، فيشك لا محالة في بقاء الحكم الشرعي المستكشف به ، إذ لا ملازمة بين عدم إدراك العقل

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٥٢.

٥٨

للملاك وعدم ثبوته واقعا ، فيحتمل بقاء الحكم الشرعي ، فإذا كانت الخصوصية الزائلة من الحالات عرفا جرى الاستصحاب. فلا فرق بين الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل والمستكشف من دليل شرعي.

وفيه : أن الشيخ ان أراد من الحكم العقلي إدراك ملاكات الأحكام لتم ما أورد عليه من إمكان كون حكمه بثبوت الملاك في مورد من باب القدر المتيقن ، إلّا ان الظاهر عدم كونه مرادا له ، إذ ليس مثل هذا الحكم العقلي إلّا مجرد فرض ، لا واقع له ولا تحقق في الخارج ، فانه ليس للعقل طريق يحرز به الملاك الملزم أعني المصلحة غير المزاحمة أو المفسدة كذلك ، فلا بد وان يراد بالحكم العقلي حكمه بالحسن أو القبح ، الّذي هو محل الخلاف بين الأشاعرة وغيرهم ، حيث أنكرت الأشاعرة استقلال العقل بحسن جملة من الأفعال وقبح بعضها ، وذهبت العدلية والمعتزلة إلى إثبات استقلاله بذلك ، فيستقل باستحالة صدور بعض الأفعال من الباري لقبحه ، ولزوم صدور بعضها الآخر لحسنه ، كما يستقل بحسن بعض الأفعال لكونه مصداقا للعدل ، ويستقل بقبح بعضها لكونه مصداقا للظلم ، ولا نعني من الحسن العقلي إلّا إدراك العقل استحقاق فاعله للمدح والثناء ، ومن القبح العقلي غير إدراكه استحقاق الفاعل للذم واللوم ، ولا واقع لهما سوى هذا الإدراك.

وعليه فلا معنى للإهمال في حكم العقل حتى من ناحية الموضوع. وذلك لأنه ان أدرك استحقاق المدح أو اللوم في مورد فحكمه بالحسن أو القبح ثابت قطعا ، وإلّا فهو منتف قطعا ، لما عرفت من انه لا واقع له سوى الإدراك ، فلا معنى فيه للشك والترديد إلّا لشبهة موضوعية ، أي من جهة الشك في ان المضروب مثلا كان ممن يستحق الضرب ليكون ضربه حسنا ، أو ممن لا يستحقه ليكون ظلما قبيحا ، وهذا خارج عن مورد البحث ، أعني استصحاب الحكم الكلي.

٥٩

وأورد المحقق المزبور على المقدمة الثانية تبعا لصاحب الكفاية بما حاصله (١) : بعد تسليم ان العقل لا يشك في بقاء حكمه ، لكون ما يأخذه في موضوعه مقوما له ، فان كان باقيا بأجمعه قطعا فحكمه باق قطعا ، وإلّا فمرتفع يقينا ، إلّا أنه مع ذلك يمكن الشك في بقاء الحكم الشرعي المستكشف به ، ولو بملاك آخر لم يدركه العقل ، لقصوره عن إدراكه ، بحيث كان الشك في بقاء الحكم الأوّل لا في حدوث حكم آخر مماثل له ليكون استصحابه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وذلك لأن تبعية حكم الشرع لحكم العقل إنما هي في مقام الإثبات لا الثبوت ، أي في مقام الكشف والطريقية لا الواقع ، ففي فرض تبدل بعض الخصوصيات نفرض انتفاء الحكم الشرعي بالملاك الّذي استكشفه العقل ، إلّا أنه يحتمل بقاء شخصه بملاك آخر لم يدركه العقل ، فيجري فيه الاستصحاب ، وهو استصحاب الشخص لا الكل كما عرفت.

وهذا الإشكال وارد على الشيخ ، وبه نقول بعدم الفرق بين ما كان مدركه العقل أو الكتاب والسنة.

ثم انه يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الأحكام الشرعية المستكشفة بحكم العقل إذا شك فيها لشبهة موضوعية ، بدعوى : ان حكم العقل يرتفع قطعا عند احتمال تبدل بعض خصوصيات الموضوع ، فيرتفع الحكم الشرعي أيضا لفرض التبعية ، فلا مجال لاستصحاب بقاء الموضوع.

ثم استثنى من ذلك عنوان الضرر إذا كان مأخوذا في موضوع الحكم ، كما في حكم العقل بقبح الصدق الضار ، المستلزم لحرمته شرعا ، فاختار جريان

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٥٢ ـ ٣٥٣. كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٦٠