دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

كقوله عليه‌السلام «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» إذ كما ان اليد لو لم تكن كاشفة عن الملك ، واحتاج إثبات مالكية كل من يبيع شيئا إلى قيام البينة على ذلك ، اختلت الأسواق ، كذلك إذا لم تجر أصالة الصحة في فعل الغير ، وكلما شك في ترتب الأثر على المعاملة الصادرة من الغير جرى استصحاب عدم ترتب الأثر المرغوب منها ، اختل النظام ، ولزم جواز تزويج زوجات الناس ، وعدم جواز شراء أموال الناس واستئجارها منهم ، وهو واضح الفساد.

وهذا الوجه وإن كان تاما في الجملة إلّا أنه غير جار في جميع الموارد ، مثلا عدم جريان أصالة الصحة في غسل الثوب لا يلزم منه هرج ولا مرج.

الوجه الرابع : وهو العمدة ، وهو قيام سيرة العقلاء إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام على إجراء أصالة الصحة في فعل الغير. كما ان سيرة المتدينين أيضا قائمة على ذلك في المعاملات والعبادات ، ولم يرد عنها ردع من الأئمة عليهم‌السلام ، فتكون ممضاة ، فتكون أصالة الصحة معتبرة مطلقا.

الجهة الثالثة : هل الصحة المترتبة على أصالة الصحة في فعل الغير هي الصحة عند الفاعل ، أو الصحة الواقعية؟ الظاهر هو الثاني ، لعدم ترتب الأثر على صحة العمل بنظر الفاعل ما لم يكن صحيحا بنظر الحامل. والسيرة جارية على ترتيب الحامل آثار الصحة على فعل الغير ، فإذا فرضنا ان الفاعل يرى جواز تغسيل الميت ارتماسا ، فإجراء أصالة الصحة في تغسيله لا يوجب سقوطه عن الحامل.

ثم موارد حمل فعل الغير على الصحة على صور :

الأولى : أن يكون الحامل عالما بجهل الفاعل بالمسألة حكما أو موضوعا.

الثانية : أن يكون جاهلا بذلك.

الثالثة : أن يكون عالما بعلمه بالمسألة.

٣٢١

أما الصورة الأولى : فكما إذا علمنا بأن المتعاملين لا يعلمان حكم الرّبا ، ولكن مع ذلك احتملنا ان المتماثلين في الجنس من الموزون لم يزد أحدهما على الآخر من باب الاتفاق. والظاهر عدم تحقق السيرة على الحمل على الصحة في مثل ذلك.

ومن هذا القبيل الجهل بالموضوع ، سواء كان عذرا للفاعل أو لم يكن ، لاقترانه بالعلم الإجمالي ، كما إذا علمنا بان المشتري لا يعلم بأن أحد اللحمين ميتة ، فاشترى أحدهما ، واحتملنا كون ما اشتراه من باب الصدفة هو المذكى.

أما الصورة الثانية : فالظاهر جريان أصالة الصحة فيها ، لقيام السيرة على الحمل على الصحة في مثل ذلك. بل أغلب مواردها من هذا القبيل.

وأما الصورة الثالثة : فتارة : ينحل حكم المسألة بحسب نظر الحامل والفاعل ، بأن كان أحدهما مقلدا للآخر ، أو مقلدين لشخص واحد. وهذا هو المتيقن من مورد أصالة الصحة.

وأخرى : يختلف الحكم بالتباين بحسب نظريهما ، بمعنى ان ما يراه الحامل شرطا يراه الفاعل مانعا ، كما إذا كان الفاعل مسافرا إلى أربعة فراسخ ، ويريد الرجوع ليومه ، ويرى كونه موجبا لقصر الصلاة ، والحامل لا يراه موجبا له ، فان الركعتين الأخيرتين بنظر الفاعل شرط ، وبنظر الحامل مانع. وفي مثله لا مجال لأصالة الصحة ، فان حمل فعل الغير على الوجه الحسن المشروع ينافي حمله على ما يراه فاسدا ، ولو كان هو الصحيح بنظر الحامل.

وثالثة : لا يكون اختلاف الحكم بالتباين ، بل يرى الحامل شيئا شرطا في العمل ، ولا يراه الآخر شرطا ، كالسورة في الصلاة ، ولا مانعا. وفي مثله وان أمكن إجراء أصالة الصحة ، كما ذكره الشيخ (١) ، إذ يحتمل ان الفاعل أتى بذاك الشرط

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٢١ (ط. جامعة المدرسين).

٣٢٢

وان لم يره شرطا ، من باب كونه أفضل الأفراد ، وليس حمل فعله على ذلك منافيا لحمله على الوجه الحسن ، إلّا ان السيرة لم يثبت قيامها على الحمل على الصحة في هذه الصورة ، فلا يجوز للحامل الائتمام بصلاة الفاعل حينئذ.

نعم إذا فرضنا ان ما يراه الحامل شرطا لم يكن من الأركان ، ولم يكن الإخلال به عن غير عمد موجبا للبطلان ، كالتسبيحات الأربع ، حيث ان الإخلال بها لا يوجب الإعادة ، لحديث لا تعاد ، ولو تبدل رأي المصلي بعد الفراغ عن الصلاة ، كانت صلاته صحيحة واقعا ، ولو علم المأموم بأنه تركه ، فضلا عما إذا احتمل الترك فيجوز الائتمام.

لكن لا يجري هذا في السورة ، لأن المأموم مكلف بالقراءة ، والإمام يتحملها عنه ، فإذا فرض انه لم يقرأ السورة ، لأنه لا يراه واجبا ، لم يسقط عن المأموم ، فلا يجوز له الائتمام إلّا بعد ركوع الإمام وسقوط القراءة.

الجهة الرابعة : قد يكون العمل الواقع خارجا من عقد أو إيقاع أو غير ذلك مما أحرز صحته التأهلية ، بمعنى قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه ، وقابلية المورد لوقوعه عليه شرعا وعقلا ، ويشك في صحته الفعلية من بقية الجهات ، كاحتمال فقدانه لشرط ونحوه مما اعتبر فيه. وهذا هو القدر المتيقن من مورد جريان أصالة الصحة.

وقد يكون الشك فيه من جهة الشك في قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه ، أو المورد لوقوعه عليه. وهذا هو مورد الخلاف بين العلامة والمحقق الثاني وبين شيخنا الأنصاري.

ثم القابلية المشكوكة قد تكون مما اعتبرها العقلاء في الفاعل ، كما إذا شككنا في صحة البيع الصادر من أحد لاحتمال ان لا يكون مميزا ، فان عقد الصبي غير المميز ليس صحيحا عند العقلاء ، أو في المورد ، كما إذا شككنا في صحة بيع لاحتمال

٣٢٣

أن لا يكون المبيع مالا أو خنفساء مثلا ، بناء على اعتبار المالية فيه عقلا. ويحتمل أن يكون هذا هو مورد الخلاف بين المحقق والعلامة وبين الشيخ.

وقد تكون مما اعتبرها الشارع فقط في الفاعل ، كما إذا شك في صحة عقد لاحتمال عدم كون العاقد بالغا ، فان اعتبار البلوغ انما هو بدليل شرعي لقوله عليه‌السلام «حتى يحتلم» (١) وليس معتبرا عند العقلاء ، أو في المورد ، كما إذا شككنا في صحة البيع لاحتمال كون المبيع خمرا أو خنزيرا ، فان كلا منهما مال عرفا إلّا ان الشارع منع عن بيعه.

والظاهر ان الخلاف المذكور جار حتى في ما إذا كان الشك في ما اعتبر في قابلية الفاعل أو المورد شرعا ، وان احتمل اختصاصه بما اعتبر في ذلك عقلا. ويشهد للعموم تمثيلهم لمورد الشك في القابلية بما إذا شك في بلوغ العاقد ، وانه لا يكون موردا لأصالة الصحة.

وبالجملة ذهب المحقق والعلّامة (٢) إلى اختصاص أصالة الصحة بما إذا كانت الصحة التأهلية محرزة ، وكان الشك في الصحة الفعلية ، وأنها لا تجري فيما إذا كان الشك في الأركان أعني القابلية. وذهب الشيخ إلى التعميم ، وانها جارية.

والصحيح : ما ذهب إليه المحقق والعلّامة.

ويظهر ذلك بالرجوع إلى بناء العقلاء وسيرتهم ، فانا نرى بالوجدان ان أحدا إذا باع مالا لم يكن تحت يده ، واحتملنا كونه مالكا أو وكيلا أو أجنبيا ، ليس بناء العقلاء على حمل فعله على الصحة ، والحكم بكونه مالكا للبيع ، وترتيب آثار الصحة على بيعه. وكذا إذا طلق أحد زوجة غيره ، واحتملنا كونه وكيلا عن الزوج أو كونه أجنبيا ، ليس بناء العقلاء على مباينة الزوجة عن زوجها بمجرد ذلك ، ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ١١.

(٢) القواعد : ١٧٧. والتذكرة : ١ ـ ٨٧.

٣٢٤

يخطبونها ولا يتزوجون بها بمجرد حمل فعل المطلّق على الصحة. هذا من حيث الشك في قابلية الفاعل.

وهكذا إذا شك في قابلية المورد ، كما إذا شككنا في صحة صلاة من يصلي على الميت ، لاحتمال ان لا يكون المصلّى عليه ميتا ، لم يثبت من العقلاء بناء على الاكتفاء بصلاته.

هذا ولو شككنا في ثبوت السيرة وعدمها ، كان مجرد الشك كافيا في عدم جريان أصالة الصحة ، كما هو واضح. فما أفاده الشيخ من العموم غير تام.

وبالجملة ربما يقال : بجريان أصالة الصحة في المعاملات من العقود والإيقاعات بمجرد تحقق الالتزام في الخارج ، ولو لم يحرز صدق عنوان العقد أو الإيقاع عليه عرفا ، كما إذا تحقق بيع في الخارج ، وشككنا في كونه من البيع الصحيح عند العقلاء ، لاحتمال كون البائع صبيا غير مميز ، فتجري فيه أصالة الصحة ، ويبنى على صحته.

ونسب هذا إلى الشيخ قدس‌سره ، حيث ادعى ان العقلاء من المتدينين وغيرهم يدخلون السوق ويشترون الأموال من أهل السوق ، مع أنهم يحتملون انتقالها إليهم من الصبي أو السارق أو الغاصب. كما انهم يبنون على مالكية أنفسهم لما في أيديهم إذا احتملوا أنهم شروها من الصبي أو السارق ونحوهم ممن ليس أهل للمعاملة حتى عند العقلاء.

وقد يقال : بعدم جريان أصالة الصحة إلّا بعد إحراز صحة المعاملة عرفا فيما إذا شك في صحتها شرعا ، لاحتمال فقدانها لما اعتبره الشارع فيها ، كما إذا شككنا في صحة بيع الصبي المميز ، أو في كون البائع صبيا ، أو احتملنا كون المبيع خمرا أو ميتة. وأما إذا كان الشك في صحة المعاملة عرفا ، فلا يمكن إثباتها بأصالة الصحة.

٣٢٥

وربما لا يقنع بهذا ، ويقال : باعتبار إحراز قابلية الفاعل والمورد للمعاملة شرعا أيضا ، وإلّا فلا مجال لأصالة الصحة فيما إذا شك في أهلية الفاعل أو المورد للمعاملة شرعا. وذهب إلى هذا المحقق الثاني والعلّامة. وهو الصحيح ، لعدم ثبوت سيرة العقلاء والمتدينين على أصالة الصحة في غير الفرض الأخير.

وبما ذكرناه ظهر الفرق بين ما إذا شك في بلوغ العاقد بناء على اعتباره ، وما إذا كان الشك في الصحة من جهة احتمال عدم بلوغ البائع الحقيقي الّذي يستند إليه البيع حقيقة ، أعني المالك ومن بحكمه. فان أصالة الصحة تجري في الأول ، لتمامية أركان البيع ، وإحراز أهلية البائع ، وكون الشك في ما اعتبره الشارع في منشئ الصيغة وهو العاقد. ولا تجري في الثاني ، لكون الشك في أهلية البائع للبيع. ويشهد لما اخترناه أنه في مورد المرافعة يكون مدعي الوكالة على الطلاق أو للبيع مثلا ، وجامعه مدعي الصحة ، هو المدعي ، وعليه الإثبات ، والزوج أو المالك المدعي للفساد هو المنكر ، لموافقة قوله للأصل. ولو كانت أصالة الصحة جارية انعكس الأمر ، لموافقة قول مدعي الصحة لأصالة الصحة ، وهذا واضح.

ثم انّ ما ذكره الشيخ من الحمل على الصحة في الموارد المذكورة انما هو من جهة اليد لما في يد غيره أو في يد نفسه ، فان اليد أمارة الملك مطلقا ، فهو خارج عن محل الكلام ، لأن مورد البحث انما هو الاعتماد على مجرد أصالة الصحة ، وموارد الاطمئنان أو ثبوت أمارة على الملك خارجة عنه.

ثم ان شيخنا الأنصاري ذكر ما حاصله : انه على فرض التنزل عما اختاره من جريان أصالة الصحة ، ولو كان الشك من جهة قابلية الفاعل أو المورد ، والبناء على لزوم إحراز ذلك في جريانها ، انما لا تجري أصالة الصحة في الإيقاعات وفي العقود إذا شك في قابلية كلا الطرفين. وأما إذا أحرز القابلية في أحد الطرفين دون الآخر ، فتجري أصالة الصحة في فعله ، ويترتب عليه آثار العقد الصحيح التام من

٣٢٦

حصول الملكية والنقل والانتقال (١) مثلا.

وفيه : ما لا يخفى ، فانه لا يترتب على أصالة الصحة إلّا صحة العمل من الجهة المشكوك فيها ، وترتب الأثر من تلك الناحية ، لا من بقية الجهات.

وبعبارة أخرى : إذا كان الأثر مترتبا على أمرين ، كل منهما جزء من السبب ، فجريان أصالة الصحة في أحد الجزءين لا يقتضي تحقق الجزء الآخر ، ولا ترتب أثر مجموع الجزءين. وانما يترتب عليها أثر نفس ذاك الجزء. وإن شئت عبر عنه بالصحّة التأهلية ، بمعنى كونه قابلا لأن يكون جزء من السبب الفعلي إذا انضم إليه الجزء الآخر.

وبهذا ظهر الحال في إجراء أصالة الصحة في عقد الفضول ، فانه لا يستدعي إلّا صحة العقد بما هو عقد ، لا بما انه مستند إلى اذن المالك أو إجازته ، فلا يترتب عليها النقل والانتقال المترتب على أمرين ، تحقق العقد الصحيح واستناده إلى المالك. وهكذا في بيع الصرف والسلم وفي الهبة ونحوها ، مما اعتبر فيه القبض ، حيث ان صحة العقد لا يترتب عليها تحقق القبض ، ولا يترتب على أصالة الصحة فيه ترتب أثر المجموع كما هو واضح.

وبما ذكرناه ظهر الحال في بيع العين المرهونة فيما إذا اذن المرتهن في البيع وتحقق بعده أمران ، بيع العين من المالك والرجوع من المرتهن ، واختلفا في سبق البيع على الرجوع والعكس. وذهب فيه جمع إلى فساد البيع ، تمسكا بأصالة الصحة في الرجوع ، فان صحته تستدعي عدم ترتب الأثر على البيع. وبعض ذهب إلى صحته ، لأصالة الصحة في اذن المرتهن ، فان صحة اذنه تستدعي صحة البيع.

والظاهر عدم إمكان إثبات شيء من صحة البيع وفساده بأصالة الصحة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٢٥ (ط. جامعة المدرسين).

٣٢٧

أصلا ، لما عرفت من ان صحة الاذن لا يستلزم صحة البيع ، بل قد يتحقق الاذن في الخارج صحيحا ولا يتحقق البيع أصلا ، واذن المرتهن انما هو جزء السبب بالنسبة إلى حصول المبادلة ، فانها مترتبة على البيع مع اذن المرتهن. وقد عرفت ان إجراء أصالة الصحة في أحد الجزءين لا يقتضي صحة الجزء الآخر. كما ان صحة الرجوع أيضا لا تستدعي فساد البيع ، لأنه من آثار تأخر البيع عن الرجوع وكونه بدون اذن المرتهن ، وليس أثر صحة الرجوع بما هو.

وأما أصالة الصحة في نفس البيع ، فانه فعل يشك في صحته وفساده ، فهي غير جارية ، لما ذكرنا من عدم جريانها فيما إذا كان منشأ الشك في الصحة احتمال عدم قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه ، والمقام من هذا القبيل ، فلا يمكن التمسك بأصالة الصحة رأسا ، لا في البيع ولا في الاذن ولا في الرجوع ، فتصل النوبة إلى بقية الأصول. واستصحاب بقاء الاذن إلى زمان البيع معارض باستصحاب عدم تحقق البيع إلى زمان ارتفاع الاذن وتحقق الرجوع ، فلا يمكن في المقام إثبات تقارن الجزءين وتحققها معا في زمان واحد بالأصل ، كما أمكن ذلك في مثل الصلاة المأتي بها مع استصحاب الطهارة السابقة ، حيث لم يقطع بارتفاعها ، لعدم كون المقام من هذا القبيل ، إذ المفروض اليقين بحدوث أحد الجزءين وارتفاعه ، فلا محالة يكون استصحاب بقائه إلى زمان وجود الجزء الآخر معارضا باستصحاب عدم تحققه إلى زمان ارتفاعه ، فيسقطان معا ، ولا يثبت تقارنهما في التحقق ، فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر ، وهو استصحاب عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال ، وبقاء المال على ملك مالكه السابق.

ثم انه ظهر بما ذكرناه انه يعتبر في جريان أصالة الصحة ان يكون تحقق أصل الفعل الجامع بين الصحيح والفاسد محرزا ، ويكون الشك في صحته وفساده لاحتمال كونه فاقدا لشرط أو مقرونا بمانع. وأما إذا شك في صدور أصل الفعل

٣٢٨

فلا يمكن إحرازه بأصالة الصحة.

وعليه ففي العناوين القصدية لا مجال لجريانها فيما إذا شك في ان الفاعل قصد ذاك العنوان أو لم يقصده. مثلا إذا شك في ان المصلي قصد بفعله عنوان صلاة الظهر أو لم يقصده ، لا يمكن الحكم بذلك بأصالة الصحة ، لأن الشك في صدور أصل الفعل خارجا وعدمه. بل الحال كذلك في غير العناوين القصدية أيضا ، كالغسل الشرعي المزيل للنجاسة ، الّذي لا يعتبر في تحققه قصد الغسل ، فلا يكفي تحقق ذاته في جريان أصالة الصحة فيه عند الشك ، فإذا رأينا أحدا يغسل ثوبه ، ولم نعرف أنه في مقام الغسل الشرعي ، أي تطهير الثوب من النجاسة ، أو في مقام الغسل العرفي وإزالة الوسخ عنه ، لا يمكن إثبات الغسل الشرعي والحكم بطهارة الثوب بأصالة الصحة. بل انما تجري فيما إذا أحرزنا أنه في مقام التطهير ، وشككنا في أنه غسله بماء مطلق أو مضاف ، فيجري أصالة الصحة ، ويحكم بطهارة الثوب.

وبالجملة لا بد في جريانها من تحقق الفعل خارجا وإحراز قصد الفاعل لعنوان الفعل في العناوين القصدية ، بل في غيرها أيضا ، غايته اعتبار ذلك في العناوين القصدية أوضح.

والسر في ذلك ان دليل أصالة الصحة منحصر بالسيرة ، ولم يثبت بناء من العقلاء على الحكم بصحة وترتيب آثار العمل الصحيح فيما إذا شك في وجود العمل أو في قصد الفاعل لعنوانه القصدي أو غير القصدي.

ومن هنا ظهر الحال في النيابة فيما إذا أتى النائب بالعمل وشككنا في أنه قصد به وقوعه عن المنوب عنه أو لم يقصد ذلك ، فانه لا يمكن الحكم بفراغ ذمة المنوب عنه واستحقاق الأجير للأجرة وإحراز قصد النيابة بأصالة الصحة ، لأن الشك انما هو في أصل تحقق الفعل عن المنوب عنه خارجا ، وقد عرفت عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في وجود العمل.

٣٢٩

ولشيخنا الأنصاري في المقام كلام حاصله : التفصيل بين استحقاق النائب للأجرة وفراغ ذمة المنوب عنه ، بتقريب : ان الفعل الصادر نيابة عن الغير فيه حيثيتان. حيثية صدوره عن الفاعل ، ولذا يكون تابعا لما هو وظيفة الفاعل من بعض الجهات ، كالتستر في الصلاة ، فان النائب إذا كان رجلا لا يجب عليه إلّا ستر عورتيه وان كان المنوب عنه امرأة ، وكذا العكس ، وهكذا الجهر والإخفات ، فان الصلاة فيهما تابعة لما هو وظيفة الفاعل دون المنوب عنه. وحيثية كونه عن المنوب عنه ، ولهذا يتبع في بعض الأحكام وظيفة المنوب عنه ، كالقصر والتمام والترتيب ونحو ذلك.

وعليه تجري أصالة الصحة في العمل من الحيثية الأولى ، فيحكم بصحة فعل النائب بما هو فعله ، ويترتب عليه استحقاق الأجرة ، وان لم يترتب عليه فراغ ذمة المنوب عنه (١) ، انتهى.

ولا بد من عده من غرائب كلام الشيخ ، وذلك لأن مورد الإجارة لم يكن الفعل الصحيح مطلقا ، ولو لم يقصد به النيابة أصلا أو قصد به النيابة عن غير المنوب عنه. وانما مورد الإجارة هو الفعل الصادر بعنوان النيابة عن المنوب عنه بخصوصه ، فإذا فرضنا ان أصالة الصحة لا تثبت ذلك فبما ذا يستحق الأجرة. وان فرضنا انه يثبته ويكون الفعل صادرا عن المنوب عنه بحكم أصالة الصحة فلما ذا لا تفرغ ذمة المنوب عنه ، فان فراغ ذمته لا يتوقف على أكثر من ذلك.

والصحيح : كما عرفت ان أصالة الصحة غير جارية ، فلا يثبت استحقاق الأجرة للأجير ، ولا فراغ الذّمّة للمنوب عنه.

نعم إذا أحرز انه قصد النيابة وشك في صحة العمل من بقية الجهات جرى فيه أصالة الصحة ، وحكم بصحة العمل ، ويترتب عليها استحقاق الأجرة وفراغ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٢٧ ـ ٧٢٨ (ط. جامعة المدرسين).

٣٣٠

ذمة المنوب عنه.

بقي الكلام في كيفية إحراز قصد النيابة. فهل يعتبر إحرازه بالعلم الوجداني ، أو بقيام البينة؟ الظاهر عدمه ، لاستحالة إحراز القصد الّذي هو من الأمور النفسانيّة بذلك عادة. فهل يكتفي فيه بمجرد اخباره مطلقا ، أو إذا كان عادلا ، ولذا اعتبر بعضهم العدالة في النائب ، أو فيما إذا كان موثقا؟ الظاهر هو الأخير ، وفساد الأولين.

أما اعتبار اخباره بذلك مطلقا لكون المخبر مما لا يعلم إلّا من قبله ، فمما لم يقم عليه الدليل إلّا في موارد خاصة ، ليس المقام منها. وأما اعتبار العدالة فقط ، فلا شاهد عليه إلّا في البينة ونحوها. فيبقى اعتبار الوثوق والتحرز عن الكذب وان لم يكن متحرزا عن سائر المعاصي ، وهي مما دل على اعتباره في الاخبار وسيرة العقلاء ، على ما تقدم تفصيله في بحث حجية الخبر ، فلا بد وان يكون النائب موثقا ليكون اخباره بالفعل وقصد النيابة حجة.

الجهة الخامسة : ذكرنا سابقا ان حجية المثبتات لا بد من قيام دليل عليها ، من غير فرق بين الأمارات والأصول العملية ، ففي كل مورد قام الدليل على ترتيب آثار اللوازم العقلية أو العادية أو الملزومات أو الملازمات ثبت ذلك ، وإلّا فلا. ومن هنا قلنا : بعدم حجية مثبتات بعض الأمارات ، كالظن في القبلة ، فانه حجة من باب الكاشفية ، وإذا استلزم ثبوت الزوال مثلا لا يمكن ترتيب آثاره.

وعليه نقول : مثبتات أصالة الصحة ولوازمها العقلية لا تترتب عليها ، سواء قلنا بأنها من الأمارات أو بنينا على كونها أصلا عمليا ، لقصور دليلها عن إثبات ذلك ، فان دليلها السيرة ، ولم يثبت بناء العقلاء والمتدينين إلّا على ترتيب آثار نفس الصحة ، دون لوازمها العقلية والعادية. هذا مضافا إلى ان الظاهر انها من الأصول ، وليس اعتبارها من جهة كاشفيتها ، ولذا لا يستكشف بها الصحة

٣٣١

الواقعية ، بل ظاهر حال المسلم إذا صار في مقام الإتيان بعمل أنه يأتي به على النحو الصحيح عنده وقد أمضاه الشارع.

وكيف كان فانّ عدم اعتبار مثبتات أصالة الصحة أمر واضح ، غير محتاج إلى الاستشهاد. إلّا ان شيخنا الأنصاري أوضح ذلك بأمثلة ثلاثة ، حكى اثنين منها عن العلّامة ، وأضاف هو قدس‌سره إليها فرعا ثالثا. وهو ما إذا علمنا بأن زيدا باع داره من شخص ، وشككنا في ان ثمنه كان خمرا أو خنزيرا أو ميتة أو نحوها مما لا يجوز المعاوضة عليه شرعا أو جعل ثمنه مائة دينار شخصي مثلا من مال المشتري ، فلا محالة يشك في صحة البيع وفساده ، إلّا أنه لا يمكن الحكم بخروج مائة دينار عن ملك المشتري وعدم كونه من تركته بعد موته بإجراء أصالة الصحة في البيع ، لأنه من لوازم صحة البيع عقلا (١).

وما أفاده وان كان متينا ، إلّا أن كلامه غير خال عن المسامحة ، فان ظاهره جريان أصالة الصحة في البيع وعدم ترتب لازمه العقلي.

ولكن الصحيح ان أصالة الصحة غير جارية في ذلك أصلا ، لأن إجرائها في البيع في الجملة لا يترتب عليها أثر. ووقوعه على مائة دينار مشكوك رأسا. وعلى الخمر أو الخنزير غير صحيح قطعا ، فلا مجال لأصالة الصحة.

وبعبارة أخرى : الشك في البيع في الفرض ناشئ من الشك في قابلية المورد لوقوع العقد عليه ، وقد عرفت عدم جريانها في ذلك.

وأما ما حكاهما عن العلّامة ، فأحدهما : انه إذا وقع الخلاف بين الموجر والمستأجر ، فقال الموجر : آجرتك الدار مثلا كل شهر بدرهم ، وقال المستأجر : آجرتني سنة بدينار. فانه قدس‌سره أي العلّامة بنى على ان الموجر يدعي البطلان ، لبنائه على ان الإجارة كل شهر بدينار فاسدة ، لعدم انضباط مدة الإجارة ، ومع ذلك

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٢٨ (ط. جامعة المدرسين).

٣٣٢

لا بد للمستأجر من إقامة البينة على الصحة ، لعدم جريان أصالة الصحة ، حيث لا أثر لها في الفرض إلّا ثبوت الإجارة سنة كاملة بدينار ، وهو من اللوازم العقلية لصحة الإجارة ، وقد ذكرنا عدم ثبوتها.

ثم بعد ذلك ذكر في القواعد ـ على ما حكاه عنه في جامع المقاصد ـ فان قدمنا قول المالك ، فالأقوى صحة العقد في الشهر الأول هنا. ولفظ هنا ساقط في ما ينقله الشيخ ، لكنه ثابت في جامع المقاصد ، واستظهر منه ثبوت خصوصية في المقام تقتضي صحة الإجارة في الشهر الأول.

ولا بد من التكلم في مقامين :

المقام الأول : في حكم المسألة ، أعني إجارة كل شهر بدرهم. والظاهر صحتها بالنسبة إلى الشهر الأول ، لأن الإجارة كالبيع وان كانت واحدة صورة إلّا أنها تنحل إلى إجارة الشيء كل مدة بما يقابلها من الأجرة. ومن هنا قلنا بصحة البيع فيما يملك إذا انضم إلى ما لا يملك ، كبيع الشاة والخنزير ، خصوصا إذا عين ثمن كل منهما بأن قال : بعتك الشاة بدرهم ، والخنزير بدرهم.

وعليه فإذا آجر داره كل شهر بدرهم ينحل ذلك إلى إجارة هذا الشهر بدرهم ، وبقية الشهور كل شهر منها بدرهم ، فإذا فرضنا بطلان الإجارة في الضميمة لعدم انضباط المدة فيها ، لا يوجب ذلك فساد المنضم إليه وهو الشهر الأول مع أنها منضبطة. وهكذا الحال في البيع ، فإذا بيع من مشاهد بدرهم ، وغيره من جنسه مما لم يشاهد كل منّ بدرهم ، وقلنا بفساده في ما لم يشاهد من جهة الغرر ، لا يوجب ذلك فساد بيع المنّ المشاهد. فالتقييد بلفظ هنا في المقام بلا موجب.

المقام الثاني : في حكم نزاع الموجر والمستأجر. أما ان قلنا : بفساد الإجارة كل شهر بدرهم حتى في الشهر الأول ، فالمستأجر لا بد له من إثبات الصحة ، لعدم

٣٣٣

جريان أصالة الصحة فيها كما عرفت ، إذ لا يترتب عليها أثر سوى لازمها العقلي ، وقد عرفت عدم إمكان ترتيبها. وأما بناء على صحة الإجارة كذلك في الشهر الأول ، فهما متفقان في صحة الإجارة في الجملة ، ويختلفان في تحققها في ضمن أي فرد ، فالمؤجر يدعي تحققها في ضمن الشهر الواحد بدرهم والمستأجر على سنة بدينار ، فيكون من باب التداعي والترافع ، والحكم فيه هو التحالف ، ثم يحكم بانفساخ العقد ، وبقاء المنفعة في ملك الموجر والأجرة في ملك المستأجر. وهذا قد يتحقق في البيع أيضا إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن أو المثمن بعد اتفاقهما على صحة طبيعي البيع ، فلفظ هنا في هذا المقام أيضا غير لازم.

الفرع الثاني : ذكر العلّامة في القواعد : ان الموجر والمستأجر إذا اختلفا في تعيين الأجرة ، أو المدة ، أو فيهما معا ، فادعى الموجر عدم تعيينهما أو أحدهما ونتيجة ذلك فساد الإجارة ، والمستأجر التعيين ، ففي تقديم قول المستأجر إشكال. ولا يبعد ذلك فيما إذا لم يستلزم دعوى زائدة.

وذكر المحقق في جامع المقاصد في شرح كلامه ما حاصله (١) : ان المستأجر المدعي لصحة الإجارة ربما يدعي كون الأجرة أقل من أجرة المثل ، وقد لا يدعي ذلك. فعلى الأول صحة الإجارة تستلزم كون الإجارة أقل من أجرة المثل ، فبما ان جريان أصالة الصحة تستلزم ذلك ، وقد عرفت عدم ترتب لوازمها العقلية عليها ، فلا مجال لها. وعلى الثاني لا تستلزم صحة الإجارة أمرا زائدا عليها ، فلا مانع من جريانها.

وأورد عليه الميرزا قدس‌سره بأنه في فرض تساوي أجرة المسمى التي يدعيها المستأجر مع أجرة المثل لا أثر لجريان أصالة الصحة أصلا ، لأن الموجر يستحق تلك الأجرة من المستأجر ، كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة ، فأي أثر يترتب

__________________

(١) جامع المقاصد : ٧ ـ ٣١٠.

٣٣٤

على إجراء أصالة الصحة (١).

ونقول : ما ذكره الميرزا قدس‌سره انما يتم فيما إذا حدث الخلاف بينهما بعد انقضاء مدة الإجارة ، فانه حينئذ لا يترتب في فرض التساوي على صحة العقد وفسادها أي أثر عملي. وأما إذا فرضنا وقوع النزاع بينهما في الأثناء ، بأن انقضى من مدة الإجارة زمان وبقي زمان فوقع الخلاف ، فان الإجارة ان كانت فاسدة يكون للمؤجر ان يؤجر العين لشخص آخر ، أو ينتفع بها بنفسه ، أو يزيد في إجارته ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الإجارة صحيحة ، فانه ليس له شيء من ذلك ، فيترتب على جريان أصالة الصحة فيها جميع هذه الأمور. فما أفاده الميرزا بإطلاقه غير تام. وما ذكره المحقق في شرح كلام العلّامة تام ، وتجري أصالة الصحة في الإجارة إذا لم تستلزم دعوى زائدة ، فانها لا تثبت بها.

الجهة السادسة : لا إشكال في تقدم أصالة الصحة على الاستصحابات الحكمية ، كاستصحاب عدم حصول الانتقال وترتب الأثر ، وإلّا لاختص جريانها بموارد نادرة. ولم يستشكل أحد فيما نعلم في تقدمها عليها.

وإنّما الكلام في تقدمها على الاستصحابات الموضوعية ، كما إذا كان شيء خمرا واحتمل انقلابه خلا فبيع ، فان الاستصحاب يقتضي بقائه خمرا ، وهو يوجب الفساد. وكذا إذا احتمل بلوغ البائع حين البيع ، فان الاستصحاب يقتضي عدم بلوغه. فهل تتقدم أصالة الصحة على الاستصحاب أو يتقدم الاستصحاب الموضوعي على أصالة الصحة ، أو يسقطان بالمعارضة؟ وجوه مبتنية على كون أصالة الصحة أمارة ، أو أصلا محرزا ، أو غير محرز ، وهكذا الاستصحاب. وقد أطال شيخنا الأنصاري الكلام في (٢) المقام.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٦٦٩.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٧٢٩ ـ ٧٣٠.

٣٣٥

والتحقيق : أنّه لا مجال لشيء من ذلك ، لما عرفت من ان دليل أصالة الصحة منحصر بالسيرة ، ففي كل مورد قامت السيرة على جريانها تجري ، وتتقدم على الاستصحاب الموضوعي والحكمي ، لأن السيرة القائمة على ذلك كالمخصص لدليل الاستصحاب ، ولو قلنا بان أصالة الصحة أصل غير محرز والاستصحاب أمارة. وفي كل مورد لم يثبت قيام السيرة عليها لا تجري ، لعدم المقتضي ، لا لوجود المانع ، ولو بنينا على كونها أمارة ، فانّ الأمارة إنّما تكون حجة فيما قام الدليل عليها.

وقد بينا موارد عدم قيام السيرة أو عدم ثبوتها ، وقلنا : إذا كان منشأ الشك في الصحة قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه ، أو المورد لورود الفعل عليه ، لا تجري. وإذا كان الشك في الصحة ناشئا من احتمال اختلال الشروط الأخر تجري ، لقيام السيرة عليها.

وعلى هذا يسقط جملة من المباحث المسطورة في المقام.

٣٣٦

التعادل والتراجيح

التعارض

التزاحم ومرجحاته

أحكام التعارض

٣٣٧
٣٣٨

خاتمة

في التعادل والتراجيح

غير خفي ان مبحث التعارض من أهم المباحث الأصولية ، حيث يتفرع عليه كثير من المسائل الفقهية ، لوجود روايات متعارضة فيها. والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : في بيان معنى التعارض.

ثانيهما : في بيان حكم المتعارضين ، وانه هو التساقط أو الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا.

أما المقام الأول :

فالتعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين بالذات أو بالعرض ، بالتناقض أو التضاد الراجع إلى التناقض.

توضيحه : ان الدليلين قد لا يكون بينهما ارتباط ، لاختلاف موضوعيهما. وأخرى : يكون بينهما تناف. والتنافي قد يكون بين مدلولهما المطابقي بالتناقض ، كما ورد في دليل ان العصير العنبي نجس أو حرام ، وفي دليل آخر انه ليس بحرام أو ليس بنجس. وقد يكون بالتضاد ، كما ورد في دليل نجاسة شيء أو حرمته ، وفي آخر طهارته أو إباحته. فان المراد من المدلول المطابقي في المقام ما يعم المدلول الالتزامي العرفي ، فان طهارة شيء تستلزم عرفا عدم نجاسته ، وكذا العكس ،

٣٣٩

وحرمة شيء تستلزم عدم وجوبه ، وكذا العكس ، بناء على تضاد الأحكام. وهذا هو التعارض المعبر عنه بالتنافي بالذات.

وقد يكون التنافي بين الدليلين بالعرض ، بأن لم يكن بين مدلول الدليلين في نفسهما ـ أي في مدلولهما المطابقي ـ تعاند وتنافي أصلا ، كما إذا ورد في أحد الدليلين وجوب صلاة الجمعة ، وفي الآخر وجوب صلاة الظهر ، فانه لا تنافي بينهما في حد ذاتهما ، لإمكان صدق كليهما ، وربما لا يرى الراوي لهما التنافي بينهما أصلا ، ولكن وقع التنافي بينهما لأمر خارج ، كالعلم بعدم وجوب ست صلوات على المكلف في يوم واحد ، فانه صار منشأ للعلم بكذب أحد الدليلين ، فمن هذه الجهة يكون كل من الدليلين بمدلوله الالتزامي الناشئ من الأمر الخارج ، الثابت بالضرورة أو الإجماع أو دليل آخر ، نافيا للآخر.

فالتنافي بين الدليلين بمدلولهما الالتزامي ، إن كان في مدلولهما الالتزامي العرفي كان من قبيل الأول ، وهو التنافي بالذات بالتضاد. وإن كان في مدلولهما الالتزامي الناشئ من أمر خارجي فهو التنافي بالعرض.

والجامع بين جميع أنحاء التعارض ان يكون صدق كل من الدليلين مستلزما لكذب الآخر خبريا لا مخبريا ، بمعنى عدم مطابقة الآخر للواقع.

وبما ذكرنا ظهر عدم تحقق التعارض في موارد التخصص والورود والحكومة والتخصيص أصلا.

أما في التخصص فظاهر ، فان ما دل على حلية الماء مثلا لا ينافي ما دل على حرمة الخمر ، لأن الماء خارج عن عنوان الخمر حقيقة.

وأما الورود ، وهو عبارة عن خروج فرد عن موضوع دليل آخر وجدانا بنفس التعبد. فلا فرق بينه وبين التخصص إلّا من حيث ان خروج الفرد عن موضوع الدليل في الورود يكون ناشئا عن التعبد ، بخلاف التخصص.

٣٤٠