دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ولكن في العقود التعليقية بعد ما تتحقق المعاملة بين المتعاملين ، والتزاما بمضمون العقد ، وأمضاه الشارع ، فقد جعل الشارع ذلك الأثر لكن إمضاء ، فبعد الفسخ يشك في بقاء جعل ذاك الأثر التعليقي وارتفاعه. فالفسخ نظير النسخ في الأحكام التكليفية ، من جهة كونه رافعا للجعل ، فيتحقق فيه كلا ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فيجري فيه الاستصحاب ، كما كان يجري استصحاب بقاء الجعل إذا شك فيه في الأحكام التكليفية التعليقية لاحتمال النسخ ، ولا مانع منه سوى ما أنكرناه من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

الأمر الثاني : ربما يتوهم وقوع المعارضة بين استصحاب الحكم التعليقي على تقدير جريانه وبين استصحاب بقاء الحكم المنجز الفعلي الثابت في مورده ، فانّ العصير الزبيبي قبل أن يغلي كان محكوما بالحل والطهارة الفعليتين ، ومحكوما بالحرمة والنجاسة التعليقيتين ، وبعد ما غلى نشك في بقاء حرمته ونجاسته التعليقية ، فنفرض جريان الاستصحاب فيها ، إلّا انّا نشك أيضا في بقاء حليته الفعلية وطهارته الثابتتين قبل الغليان ، فيستصحب ، فتقع المعارضة بينها ، فتتساقطان.

وقد أجيب عنه بوجهين :

أحدهما : ما ذكره الميرزا (١) من حكومة الاستصحاب في الحكم التعليقي على استصحاب الحكم التنجيزي ، لأن الشك في بقائه مسبب عن الشك فيه ، فان منشأ الشك في بقاء الحلية الفعلية وارتفاعها انما هو الشك في سببية الغليان فيه للحرمة والنجاسة وعدمها ، فإذا ثبت بالتعبد الشرعي سببية الغليان الثابت

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

١٤١

خارجا للحرمة لا يبقى شك في ارتفاع الحلية والطهارة السابقتين فيجري فيهما الاستصحاب.

وفيه : أولا : عدم ثبوت السببية رأسا ، لأنها فرع الاثنينية ، ولا تعدد للشك في المقام ، بل هو شك واحد متعلق بثبوت الحرمة الفعلية أو الحلية ، ناش من الجهل بكون الحلية والطهارة كانت مغياة بالغليان أو لم تكن بل كانت مطلقة.

وذلك لأن العصير قبل ان يغلي كان محكوما بحكمين ، أحدهما تعليقي ، والآخر تنجيزي ، ولم يكن بينهما تضاد ، لعدم فعلية أحد الحكمين. وأما بعد فعلية الغليان ، فيستحيل ثبوت كليهما ، لاستلزامه اجتماع حكمين فعليين مع تضادهما. وإثبات أحدهما مستلزم نفي الآخر عقلا ، فيعلم إجمالا بعدم ثبوت أحدهما ، ونسبة العلم الإجمالي إليهما على حد سواء فنشك في الثابت منهما ، وانه الحرمة أو الإباحة ، فأين التعدد والسببية.

وثانيا : نسلم السببية ، إلّا أنه كما عرفت ليس كل أصل جار في السبب يكون حاكما على الأصل الجاري في المسبب ، بل يعتبر فيها ان يكون ما تعلق به الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على الأصل السببي ، بحيث يكون جريانه رافعا للشك فيه تعبدا ، وليس المقام كذلك ، لأن ارتفاع الحلية الفعلية من الآثار العقلية المترتبة على بقاء الحرمة الفعلية ، من باب استحالة اجتماع الضدين ، فالحكومة ممنوعة.

فهذا الجواب لا يدع الإشكال.

ثانيهما : ما ذكره الآخوند قدس سرّه في الكفاية (١) ـ وهو الصحيح ـ من ان الحلية الفعلية لم تكن مطلقة ليشك في بقائها بعد الغليان ، بل هي مغياة بعدم الغليان ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

١٤٢

لاستحالة اجتماع الحلية المطلقة مع الحرمة المعلقة ، لاستلزامه اجتماع الضدين في فرض حصول الغاية ، فلا بد من كون الحلية مغياة بما قبل الغليان وكذا الطهارة.

وعليه فما لم يحصل الغليان إذا شك في بقاء الحلية أو الطهارة المغياة يستصحب بقاؤها. واما بعد الغليان ، فلا مجال لاستصحاب بقاء تلك الطهارة أو الحلية ، لتحقق غايتها ، وهي الغليان ، والقطع بارتفاعها. فإذا ثبتت الحلية والطهارة بعد ذلك كان حكما حادثا لا بقاء للحكم السابق.

فتلخص ان استصحاب الحكم التعليقي غير جار. أما في مرحلة الجعل ، فلعدم الشك في البقاء. وأما في مرحلة المجعول ، فلعدم اليقين بالحدوث. ولكن على فرض جريانه لا يعارضه استصحاب الحكم التنجيزي ، كالحلية قبل الغليان في المثال ، إذ لا معارضة بينهما قبل الغليان ، وأما بعده ، فلا يجري استصحاب الحكم التنجيزي ، لأنه كان مغيا بعدم الغليان ، فبعده إذا ثبت كان حكما جديدا حادثا ، لا بقاء الحكم الأول. هذا كله في استصحاب الحكم.

الأمر الثالث : في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات الخارجية فيما إذا كان تحققها معلقا على أمر لم يكن متحققا.

والكلام فيه تارة : يقع في متعلقات الأحكام. وأخرى : في الموضوعات. وقد مثلوا للأول بالصلاة في اللباس المشكوك ، فانهم ذكروا في بحثه أن هذا الشرط ان كان معتبرا في اللباس لم يجر فيه الاستصحاب ، إلّا فيما إذا احتمل عروض شيء مما لا يؤكل على اللباس الّذي ليس بنفسه مما لا يؤكل لحمه ، كالخيط الّذي خيط به الثوب مثلا ، فيفصل فيه بينما إذا احتمل كون اللباس في نفسه مما لا يؤكل ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وما إذا احتمل عروضه عليه فيجري ، وان كان معتبرا في المصلى جرى الاستصحاب في الصورتين ، فانه لم يكن سابقا مستصحبا لما لا يؤكل ، فيستصحب بقاؤه على ما كان.

١٤٣

وإن كان معتبرا في الصلاة ، لم يجر فيه الاستصحاب مطلقا ، من غير فرق بين الصورتين ، إلّا إذا شرع فيها ثم احتمل عروض استصحابه لما لا يؤكل لحمه في أثناء الصلاة. فهذه الأقسام والاحتمالات ذكروها في بحث اللباس المشكوك. وليس لنا شغل به ، وتفصيله موكول إلى محله.

ومحل الكلام في المقام ما قيل من جريان الاستصحاب التعليقي في القسم الأخير ، وان لم يجر فيه الاستصحاب التنجيزي ، فان الصلاة قبل لبس المصلى للباس المشكوك على تقدير تحققها لم تكن واقعة فيما لا يؤكل لحمه ، فيستصحب ذلك. هذا في متعلق الحكم.

وأما الموضوع ، فمثاله المعروف ما إذا علم بوجود الماء في محل كالحوض سابقا ، وان الثوب على تقدير وقوعه فيه كان مغسولا بالماء ، فإذا شك في بقاء الماء فيه ، ووقع الثوب فيه ، يستصحب الغسل التعليقي.

وقد يناقش في جريان الاستصحاب في الصلاة في الفرض الأول ، ويسري في الفرض الثاني أيضا بما حاصله : انه يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ، بحيث كان ثبوت الحكم على تقدير ثبوته بقاء للحكم الأول عرفا ، وحكما حادثا ، فيعتبر فيه بقاء ما هو مقوم لموضوع المستصحب عرفا ، وان يكون التبدل في حالاته ، وإلّا فلا يجري. والمقام على عكس ذلك ، فان ما هو المقوم للموضوع لم يكن متحققا سابقا ، وما كان متحققا ليس إلّا بعض الصفات والحالات ، فكيف يحرز بقاء الموضوع ليجري الاستصحاب. مثلا الموضوع للمستصحب في المثال الأول هي الصلاة ، ولم تكن متحققة ، وما كان متحققا إنما هو صفة عدم وقوعها في ما لا يؤكل على تقدير تحققها خارجا ، وهكذا الغسل.

وفيه : ان ما تعلق به التكليف ليس هو الفرد الخارجي ، وانما يتعلق التكليف بالطبيعي ، والفرد يكون مصداقا له ، ويسقط به الأمر لكونه مصداقا

١٤٤

للمأمور به ، لا من جهة كونه بما هو فرد مأمورا به ، وإلّا لم يكن معنى للعصيان.

وبعبارة أخرى : سيأتي في محله انه ليس المراد من اتحاد الموضوع إحراز بقائه خارجا ، وإلّا لم يجر الاستصحاب في موارد الشك في وجود الشيء ، كما إذا شككنا في حياة زيد مثلا ، بل المراد ان يكون الحكم على تقدير ثبوته بقاء للحكم السابق ، لا حكما جديدا. ومن الظاهر ان الحكم التعليقي في الموردين على تقدير ثبوته ليس حكما جديدا ، بل هو بقاء للحكم السابق.

وبالجملة كون الصلاة بحيث لو وقعت في الخارج واقعة في غير ما لا يؤكل من أوصاف طبيعي الصلاة ، وهو كان متيقنا ، فيستصحب ، وهكذا الغسل. فهذا الوجه فاسد.

نعم يمنع جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات لوجهين آخرين. أحدهما : معارضته مع الاستصحاب التنجيزي ، لعدم جريان ما أجبنا به عنها في استصحاب الحكم التعليقي في المقام. وذلك لأن أمر الحكم سعة وضيقا كان بيد المولى ، فكان الحكم التنجيزي مغيا ، فلم يكن لجريان الاستصحاب فيه مجال بعد حصول الغاية. وهذا بخلاف الموضوع الخارجي الّذي هو أمر تكويني ، وليس أمر وضعه ورفعه ولا سعته وضيقه بيد الشارع ، فاستصحاب الغسل على تقدير الوقوع في الثوب يعارضه استصحاب عدم كون الثوب مغسولا بالماء ، وهكذا استصحاب عدم وقوع الصلاة في غير المأكول يعارضه استصحاب عدم كونها في المأكول.

ثانيهما : عدم ترتب الأثر عليه إلّا بنحو الأصل المثبت.

والحاصل : نحن وان أنكرنا جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، لعدم تمامية أركانه ، إلّا أنه على فرض جريانه لا يكون معارضا باستصحاب الحكم التنجيزي ، لعدم التنافي بينهما قبل حصول المعلق عليه ، وعدم جريانه في الحكم

١٤٥

التنجيزي بعده ، لأنه مغيا بعدم حصوله. ولا يكون مثبتا أيضا ، لأن نفس الحكم التعليقي المستصحب يكون حكما تنجيزيا فعليا بعد تحقق المعلق عليه ، لا انه أمر آخر لازم له ليكون إثباته باستصحاب الحكم التعليقي من الأصل المثبت.

ولكن كلا الإشكالين جار في الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، ولا يمكن الجواب عن شيء منهما. أما المعارضة فهي ثابتة ، لجريان استصحاب عدم انغسال الثوب بعد وقوعه في ذاك المحل في المثال الثاني ، وعدم اتصاف الصلاة بعد الإتيان بها بتلك الصفة في المثال الأول ، فيعارض بهما الاستصحاب التعليقي. وليس الأمر التكويني قابلا لأن يكون مغيا لأن لا يجري فيه الاستصحاب بعد حصول الغاية ، كما هو ظاهر.

وأما كونه مثبتا ، فلأنه يعتبر في الاستصحاب ان يكون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا أو مما يترتب عليه ذلك ، وفي المقام نفس المستصحب ليس أثرا شرعيا ، كما لا يترتب عليه أثرا أيضا ، فان الأثر كالطهارة انما يترتب على الموجود الحقيقي كالغسل الخارجي ، لا على الأمر الفرضي كالغسل التقديري ، فانه لا يوجب الطهارة ، وإثباته باستصحاب الأمر الفرضي بعد تحقق التقدير من الأصل المثبت.

ولهذين الوجهين لا يجري الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، فهو فرض في فرض.

التنبيه السابع : في جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة وعدمه.

وقد ذكر في وجه المنع عن ذلك وجوه ، بعضها مشترك في المانعية بين استصحاب حكم الشريعة السابقة واستصحاب عدم النسخ عند احتمال نسخ حكم من هذه الشريعة المقدسة.

١٤٦

منها انه يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضيتين ، بأن يرد كل من اليقين والشك على قضية واحدة ، وإلّا فلا يصدق عنوان نقض اليقين بالشك ، وهذا مفقود في المقام ، فان المتيقن انما هو ثبوت الحكم لأهل تلك الشريعة في حكم الشريعة السابقة ، أو ثبوت الحكم لأهل الزمان السابق ، والمشكوك فيه ثبوته لأهل هذا العصر المعدومين في ذلك الزمان ، فالقضيتان غير متحدتين ، فلا يجري الاستصحاب.

وقد أجاب عنه الشيخ بوجهين (١) :

أحدهما : ان من أدرك الشريعتين أو الزمانين يكون متيقنا بالحكم الثابت في حقه ، فيستصحبه ، فيثبت له ذلك ، وبقاعدة الاشتراك في التكليف يثبت ذلك الحكم المستصحب لغيره ممن لم يدرك الزمانين.

وأورد عليه بأن قاعدة الاشتراك إنما تكون في الأحكام الواقعية الثابتة لعنوان المكلف من دون قيد ، فإذا سئل الراوي الإمام عليه‌السلام عن حكم عمل راجع إلى نفسه ، فأجابه الإمام عليه‌السلام يثبت لغيره بقاعدة الاشتراك في التكليف ، إلّا انه مختص بما إذا كان الحكم واقعيا وكان مدلول أمارة ناظرة إلى الواقع. وأما الأحكام الظاهرية الثابتة للشاك ، الشرعية أو الاستصحاب ، فهي وإن كانت مشتركة أيضا ، إلّا أنها مشتركة بين أفراد موضوعاتها ، أي الشاك في التكليف في البراءة ، ومن كان على يقين فشك في الاستصحاب ، ولا يعم من ليس داخلا في الموضوع ولم يثبت له يقين ولا شك ، كما لا يعم الحكم الثابت للحاضر المسافر بقاعدة الاشتراك ، وكذا العكس.

وعليه فلا معنى لإسراء الحكم الثابت لمدرك الشريعتين أو الزمانين الّذي تحقق له اليقين والشك إلى غيره ممن لم يتحقق له ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٥٥ ـ ٦٥٦ (ط. جامعة المدرسين).

١٤٧

ثانيهما : ان الأحكام المجعولة سواء كانت في هذه الشريعة أو الشرائع السابقة ليست مجعولة بنحو القضايا الخارجية ، وانما هي مجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، فتعم جميع الناس في جميع الأزمان ما لم ينسخ ، غايته فعليتها بفعلية الموضوع ، والشك فيها ليس إلّا من جهة النسخ ، فالمتيقن ثبوت الحكم بنحو القضية الحقيقية والمشكوك فيه نسخه ، فمورد اليقين والشك قضية واحدة ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ حتى في الحكم الثابت في الشريعة السابقة ، لأنه أيضا مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فيعمنا مع قطع النّظر عن النسخ ، فكنا مشمولين له قطعا لو فرض تأخر بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا الوجه قد ارتضاه جملة من المتأخرين ، وعليه بنوا جريان استصحاب عدم النسخ.

ولكن نحن في الدورة السابقة ناقشنا فيه بما حاصله : ان الحكم من الأمور الاعتبارية ، والاعتبار كالتصور مما لا بقاء له بل ينعدم بالغفلة ونحوها ، فما له بقاء اعتباري ممكن أن يشك فيه هو المعتبر ، وهو بالقياس إلى افراد المكلف لا بد وان يكون مطلقا أو مقيدا بعد استحالة الإهمال في مقام الثبوت. وقد ذكرنا انّ النسخ من الشارع دفع لا رفع حقيقة ، لأنه كاشف عن مقدار سعة الجعل وضيقه من الأول. وعليه فإذا ثبت إطلاق الحكم الثابت في هذه الشريعة أو الشرائع السابقة فنفس ما دل على إطلاقه كاف في دفع احتمال النسخ ، سواء كان دليلا خارجيا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة) (١) وان ناقش فيه الشيخ ، أو كان إطلاق دليل نفس ذلك الحكم كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) ولا معنى حينئذ لاحتمال النسخ ، لأنه دفع لا رفع ، وإلّا لزم البداء

__________________

(١) الكافي : ١ ـ ٥٨.

(٢) آل عمران : ٩٧.

١٤٨

المستحيل في حقه سبحانه. وإذا لم يثبت له إطلاق وشك في سعة المجعول وضيقه ، فليس ثبوت ذاك الحكم لغير الموجودين في ذلك العصر متيقنا ليشك فيه ويستصحب ، بل إسراؤه إليهم يكون قياسا وإسراء للحكم عن موضوع إلى موضوع آخر. ومجرد كون الخطاب على نحو القضايا الحقيقية لا يستلزم ذلك بعد إمكان تقييد موضوعه بقيد أو زمان خاص ، وتقييده بأشخاص خاصة. ونظيره في الافراد العرضية ما إذا حرم الخمر المزيل للعقل ، وشككنا في المتخذ من التمر انه مزيل للعقل وحرام أم ليس كذلك ، فلا يمكن التمسك بعموم الدليل لإثبات حرمته ، للشك في سعته.

فاستصحاب عدم النسخ في نفسه لا أساس له ، ولو بنينا على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. وما ادعاه الأسترآبادي من الضرورة على جريانه فاسد إذا أراد به الاستصحاب المصطلح ، اللهم إلّا أن يكون المراد ما هو نتيجة استصحاب عدم النسخ من البناء على بقاء الحكم السابق ، ولو لم يكن لحديث لا تنقض اليقين بالشك ، بل كان من جهة الإطلاق ، أو الدليل الخارجي.

وبالجملة الشك في النسخ مرجعه إلى الشك في سعة الجعل وحدوثه ، والأصل عدمه ، فلا مجال لأصالة عدم النسخ إلّا الاستصحاب التعليقي ، بأن يقال : لو كنا موجودين في ذاك الزمان لكان الحكم مجعولا لنا يقينا ، فنستصحبه.

هذا كله في الإشكال المشترك بين أحكام هذه الشريعة والشرائع السابقة.

وأما المختص بالشرائع السابقة ، فقد ذكر الميرزا (١) ما حاصله : ان نسخ الشريعة ان كان بارتفاع جميع أحكامها بنحو العام الاستغراقي ، وجعل أحكام جديدة في الشريعة اللاحقة ، اما مماثلة لتلك الأحكام ، واما مضادة لها ، فلا مجال

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤١٥.

١٤٩

لاستصحاب شيء منها ، للقطع بارتفاعها. وان كان بمعنى ارتفاع ما جعل ضدها في الشريعة اللاحقة ، وإمضاء غيرها ، فاحتمال بقاء بعض أحكامها في هذه الشريعة وان كان متحققا ، إلّا ان إثبات الإمضاء باستصحاب بقائها وعدم نسخها يكون من الأصل المثبت. فعلى التقديرين لا مجال للاستصحاب.

ونقول : أما على الأول ، فالاستصحاب وان لم يكن جاريا ، إلّا ان المبنى غير تام ، فان نسخ الشريعة لا يستلزم ارتفاع جميع أحكامها وتجديد جعل جميع الأحكام ، فان جاعل الأحكام مطلقا أو في الجملة هو الحق سبحانه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغ لها ، فيجعل بعضها مستمرا إلى الأبد من غير اختصاصها بشريعة دون أخرى ، كما يجعل بعضها ممدودة إلى أمد معين ، أو في شريعة خاصة ، مثلا طهارة الماء وحليته ثابتة بجعل واحد في جميع الشرائع ، ولا يتوهم تعلق جعل جديد بهما في كل شريعة مستقلا ، إذ لا معنى لتعدد الجعل ، لعدم ترتب فائدة على ذلك ، ولا بد من جعل واحد مستمر.

نعم ثبوت حكم الشريعة السابقة في الشريعة اللاحقة يحتاج إلى الإمضاء ، وتبليغ النبي اللاحق ، إلّا ان الاستصحاب على تقدير جريانه والتعبد ببقاء الحكم السابق كاف في إمضائه.

وبعبارة أخرى : كما ان قيام الدليل الخاصّ على بقاء حكم الشرع السابق يكون إمضاء له ، كذلك قيام الاستصحاب عليه يكفي في إمضائه ، لعدم الفرق بين الدليل المختص ببقاء حكم الشرع السابق والعام الشامل له ولغيره.

وأما ما قيل : من ان العلم الإجمالي بزوال جملة من أحكام الشرائع السابقة مانع عن الرجوع إلى أصالة عدم النسخ ، فهو إشكال أورد به في جملة من الموارد.

منها : الرجوع إلى أصالة العموم إذا شك في عموم آية أو رواية ، لورود المخصص على جملة من عمومات الكتاب والسنة.

١٥٠

ومنها : الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكمية ، فان جملة من المنكرين لها تمسكوا للمنع عنها بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في موارد الشبهات.

ومنها : الشك في النسخ والرجوع إلى أصالة عدمه.

والجواب عن الجميع واحد ، فان العلم الإجمالي إنما يكون مؤثرا في ذلك ما دام باقيا ، وأما بعد الانحلال فلا يبقى علم إجمالي ليمنع عن ذلك. فعمدة المانع عن جريان أصالة عدم النسخ ما ذكرناه. ولا فرق فيه بين أحكام هذه الشريعة والشرائع السابقة.

التنبيه الثامن : الكلام في الأصل المثبت.

إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي ، ولم يكن لنفس اللازم حالة سابقة ليجري فيه الاستصحاب ، فهل تترتب آثاره على جريان الاستصحاب في الملزوم إثباتا أو لا؟ امّا ثبوتا لا مانع من ترتب آثار اللازم على استصحاب الملزوم إذا قام عليه الدليل في مقام الإثبات.

وقد مثل له الشيخ بأمثلة. منها : ما إذا احتمل المكلف في مقام الغسل والوضوء وجود الحاجب ، فاستصحاب عدمه لا يثبت لازمه ، وهو وصول الماء إلى البشرة وتحقق الغسل خارجا.

والمعروف هو التفصيل في حجية المثبتات بين الأصول العملية والأمارة. فلا بد أولا من بيان الفرق بينهما.

أما ما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من ان المجعول في الاستصحاب هو المماثل للمستصحب ان كان حكما ، ولحكمه ان كان موضوعا ، بخلاف الأمارات ، فان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

١٥١

المجعول فيها هي الطريقية. وما ذكره الميرزا (١) من ان المجعول في الاستصحاب هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، فيردهما : كونهما مخالفا لظاهر دليل الاستصحاب ، بل الجري العملي من آثار المجعول في باب الاستصحاب ، لأنه بنفسه مجعولا فيه ، فالمجعول في الاستصحاب على ما يساعده الأدلة هو التعبد ببقاء اليقين السابق ، ومن آثاره الجري العملي على طبقه.

وربما يفرق بين الأصول العملية والأمارات ، بأن الأصول العملية قد أخذ في موضوعها الشك والجهل بالواقع ، على ما هو ظاهر أدلته ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع ما لا يعلمون» (٢) و «لا تنقض اليقين بالشك» بخلاف الأمارات ، حيث ان موضوعها لم يقيد بذلك ، بل هو ذات المكلف ، كما يظهر من آية النبأ (٣) وقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» فان موضوعه عنوان الأحد ، ومن ثم تتقدم عليها بالحكومة.

وفيه : أنه ليس فرقا في مرحلة الواقع والثبوت ، وإنما هو فرق من ناحية الإثبات والدليل ، إذ لا مناص من تقييد الموضوع في الأمارات بالشاك في الواقع. وذلك لما ذكرناه غير مرة من استحالة الإهمال النّفس الأمري ، بل لا بد وأن يكون الموضوع بالإضافة إلى انقساماته مطلقا أو مقيدا. وإطلاق موضوع دليل حجية الأمارات بالإضافة إلى فرض العلم بالواقع مستحيل ، لاستلزامه اجتماع الضدين ، أو التصويب الباطل ، وهكذا تقييده بخصوص العالم ، فيتعين تقييده بالجاهل. فلا معنى لما هو المعروف من ان الأمارات موردها الجهل بالواقع ولم يقيد به موضوعه ، بل أخذ الشك في الواقع في موضوع بعض أدلة اعتبار الأمارة في مقام الإثبات

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤١٦.

(٢) الخصال : ٢ ـ ٤١٧.

(٣) الحجرات : ٦.

١٥٢

أيضا ، كما في قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) أي جاهلين. فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين الأصول العملية.

بل الفرق بين الأمارات وغير الاستصحاب من الأصول ظاهر ، فانها وظائف عملية للشاك. وأما الفرق بينها وبين الاستصحاب ، والوجه في تقدمها عليه ، فبيانه موكول إلى محله من تنبيهات الاستصحاب ، فلا وجه للتعرض له فعلا.

وإنما المهم بيان سر حجية مثبتات الأمارات دون الاستصحاب. وقد ذكر في ذلك وجوه :

منها : ما في الكفاية (٢) من عدم المقتضي لحجية المثبتات في الاستصحاب ، بخلاف الأمارات ، بيانه : ان مفاد أدلة الاستصحاب انما هو إبقاء اليقين السابق تعبدا ، ومن الظاهر ان لازم المستصحب لم يتعلق به اليقين ، كما ان رفع اليد عن ترتيب آثاره الشرعية ليس نقضا لليقين بالملزوم بالشك فيه.

وبعبارة أخرى : التعبد بعدم نقض اليقين وبقاء المشكوك في الموضوعات انما هو بلحاظ الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن ، إذ لا يعقل التعبد ببقاء الموضوع إلّا بلحاظ الأثر الشرعي المترتب عليه فلا بد في ترتيبه. وأما آثار لازمه العقلي أو العادي المترتبة عليه شرعا كالقصاص المترتب على القتل فليس عدم ترتيبها من نقض اليقين بالشك ، إذ ليست هي أثرا شرعيا للمتيقن حتى بنظر العرف ليكون التعبد ببقائه مقتضيا لترتيبه.

ودعوى : ان أثر الأثر أثر بقياس المساواة ، انما يتم فيما إذا كان جميعها من سنخ واحد ، أي كان جميع الآثار تكوينيا أو شرعيا ، مثلا إذا كان شيء علة لمعلول

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٢٧.

١٥٣

تكوينا ، وكان المعلول علة لأمر آخر ، صح أن يقال : ان المعلول الثاني أثر للأولى. وهكذا في الآثار الشرعية ، كما إذا ترتب على نجاسة البول نجاسة الماء ، وترتب على نجاسته نجاسة الثوب ، صح أن يقال : ان نجاسة الثوب أثر لنجاسة البول. وأما في فرض الاختلاف ، فالقياس غير تام ، فليس الأثر المترتب شرعا على لازم الشيء عقلا أثرا له ، لا عرفا ولا بالدقة ، فلا مقتضى لحجية مثبتات الاستصحاب.

وأما الأمارة فبما انها تخبر عن الواقع ، فإذا كان لما أخبر به لازم ، فلا محالة يكون الاخبار به اخبارا عن لازمه بالالتزام. ولم يقيد دليل حجية غيرها بما إذا كان بالدلالة المطابقية ، بل يعم الاخبار بالدلالة الالتزامية أيضا.

ونقول : ما أفاده من قصور المقتضي لحجية مثبتات الاستصحاب وان كان تاما ، إلّا ان ما ذكره لحجية مثبتات الأمارة لا يتم في جميع الموارد. وذلك لأن اللزوم ان كان بينا بالمعنى الأخص ، بحيث يلزم تصور اللازم من تصور الملزوم ، كالزوجية والأربعة ، وطلوع الشمس ووجود النهار ، فالاخبار عن الملزوم كان اخبارا عن اللازم بالالتزام ، كما إذا أخبر أمس بطلوع الشمس ، فانه اخبار بوجود النهار أيضا. وأما في غيره ، بأن كان اللزوم بينا بالمعنى الأعم ، أو لم يكن بينا أصلا بحيث توقف العلم بالملازمة على مقدمات والتأمل فيها ، فلا يتم ما ذكره ، إذ ليس الاخبار عن الملزوم حينئذ اخبارا عن اللازم ، لأن الاخبار أمر قصدي لا بد فيه من الالتفات ، مثلا إذا أخبر العادل بملاقاة شيء من المائع وهو جاهل بنجاسة الملاقي ، ونحن نعلم به ، وجب علينا ترتيب آثار لازمه من نجاسة الملاقي ، ولا يجب على المخبر ذلك ، لأنه لم يخبر عن نجاسته لعدم التفاته بالملازمة.

ومن هنا ذكر الفقهاء وذكرنا في محله ان إنكار الضروري من الدين لا يوجب الارتداد إلّا إذا كان المنكر ملتفتا إلى استلزامه لإنكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو واضح

١٥٤

جدا ، فليس الاخبار عن الملزوم دائما اخبارا عن اللازم.

ومنها : ما ذكره الميرزا قدس‌سره (١) من ان الفرق بين الاستصحاب والأمارات من هذه الجهة انما هو من ناحية المجعول ، فان المجعول في الأمارات انما هي الطريقية ، وجعل ما ليس بعلم علما تعبدا ، فكما ان العلم الوجداني بتحقق الملزوم مع العلم بالملازمة يوجب العلم بالنتيجة وترتيب آثار اللازم ، كذلك العلم التعبدي بالملزوم يستدعي العلم باللازم في فرض العلم بالملازمة ، فيرتب آثاره. بخلاف الاستصحاب ، فان المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، والمفروض ان اليقين لم يتعلق باللازم ، كما انه ليس ترتيب آثار اللازم من آثار اليقين ببقاء ملزومه تعبدا ، فلا وجه لحجية مثبتاته.

ونقول : أولا : نفرض صحة ما أفاده في الاستصحاب من كون المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، فلا يستلزم ذلك ترتيب آثار لوازم المتيقن ، إلّا أنه لا وجه لقياس العلم التعبدي بالملزوم بالعلم الوجداني إذا تعلق به ، فان العلم الوجداني بالملزوم مع العلم بالملازمة يتولد منها علم ثالث ، وهو العلم بثبوت اللازم ، كما في الشكل الأول ، حيث ان الصغرى فيه مثبتة للملزوم ، والكبرى تثبت الملازمة ، فيحصل منها العلم باللازم والنتيجة ، فلمكان العلم باللازم يرتب آثاره. وهذا غير جار في العلم التعبدي ، فان العلم التعبدي بالملزوم لا يوجب العلم الوجداني باللازم بالبداهة. كما انه لا يوجب العلم به تعبدا ، لعدم تعلق التعبد به على الفرض ، مثلا إذا علم الإنسان وجدانا ببقاء زيد ، وعلم بملازمته مع نبات لحيته يحصل منها العلم بذلك ، فيرتب آثاره ، وأما إذا علم بحياته تعبدا ، فمورد التعبد هو الملزوم دون اللازم ، فلا يتعلق به العلم التعبدي ، كما لا يحصل من ذلك العلم به وجدانا ، فبأي سبب يرتب آثاره؟!

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

١٥٥

وثانيا : قد عرفت ان المجعول في الاستصحاب ليس الجري العملي على اليقين السابق ، بل المجعول فيه الطريقية والتعبد ببقاء اليقين ، كما في الأمارة ، فمن حيث المجعول لا فرق بينهما. فالاستصحاب أيضا أمارة ، ولا ينافيه تقدم الأمارات عليه ، لأنه بملاك آخر سيتضح في محله. ومن هنا ترى تقدم بعض الأمارة على بعض ، فالبينة تتقدم على اليد ، والإقرار يتقدم على البينة ، وجميعها تتقدم على الاستصحاب.

فالصحيح : عدم الفرق بين الاستصحاب والأمارات ، لا من ناحية الدليل والمقتضي كما ذكر الآخوند ، ولا من ناحية المجعول كما ذكره الميرزا ، بل حال الأمارات والاستصحاب من حيث عدم حجية مثبتاتها على حد سواء ، غاية الأمر في الأمارات نلتزم بحجية مثبتاتها فيما لو قام الدليل عليها ، كما في الإخبارات مطلقا بجميع أنحائها ، فان السيرة القطعية العقلائية قائمة على حجية مثبتاتها وترتيب آثار لوازمها ، سواء كان المخبر ملتفتا إلى الملازمة أو لم يكن ، ولذا إذا اعترف أحد بملزوم كسقي السم لشخص مثلا أو إيصال سلك الكهرباء إليه يرتب عليه آثار لازمه من القتل الخطئي ولو كان منكرا للملازمة وانه يستلزم قتله. وأما غير الإخبارات من الأمارة فلم يقم دليل على حجية المثبتات. ومن هنا في باب القبلة جعل الظن أمارة عند تعذر العلم ، فإذا استلزم الظن بالقبلة دخول الوقت لا يرتب عليه آثاره أصلا.

بقي امران :

أحدهما : انه بناء على شمول أدلة الاستصحاب في نفسها لمثبتاته ، وترتيب آثار لوازم المستصحب العقلية والعادية ، وثبوت المقتضى له ، فهل يكون هناك مانع عنه أو لا؟

١٥٦

ذهب جماعة (١) تبعا لكاشف الغطاء إلى الثاني. وادعوا معارضة استصحاب بقاء الملزوم من حيث ترتيب آثار لازمه باستصحاب عدم اللازم ، إذ المفروض ان اللازم لم يكن متيقن الحدوث ، وإلّا لم يكن حاجة إلى التمسك بالأصل المثبت ، فاستصحاب بقاء الملزوم يثبت آثار اللازم ، واستصحاب عدم اللازم ينفي تلك الآثار ، فتقع المعارضة بينهما.

وأورد عليه الشيخ بأن الاستصحاب في الملزوم حاكم على استصحاب عدم اللازم ، حيث يرتفع به الشك فيه ، فيتقدم عليه بالحكومة (٢).

ونقول : الصحيح هو التفصيل بحسب اختلاف المباني في الاستصحاب. فبناء على القول بحجية الاستصحاب من باب الظن النوعيّ ، فلا مجال لتوهم استصحاب عدم اللازم والمعارضة أصلا ، لأنّ الظن بالملزوم الحاصل من الاستصحاب يلازم الظن باللازم أيضا ، ومع حصول الظن ببقائه كيف يجري استصحاب عدمه ويحصل منه الظن بعدمه ، مع انّ الظن بالوجود والعدم مما لا يجتمعان.

وأما لو بنينا على حجيته من باب التعبد ، فان بنينا حجية مثبتاته على ان التعبد بالملزوم تعبد بلازمه العقلي والعادي أيضا ، فيرتب عليه آثاره ، فما أفاده الشيخ يكون تاما ، إذ عليه بعد جريان الاستصحاب في الملزوم ، والتعبد ببقائه ، لا يبقى شك في بقاء اللازم ليستصحب عدمه ، فان منشأ الشك فيه كان هو الشك في ملزومه ، فيكون اللازم العقلي حينئذ كالأثر الشرعي الّذي يزول الشك فيه بالتعبدية ، كنجاسة الثوب المغسول بالماء المشكوك طهارته ، فإذا جرى في الماء استصحاب الطهارة زال الشك عن نجاسة الثوب لا محالة ، فحال اللازم العقلي على

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٦٥.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٦١ (ط. جامعة المدرسين).

١٥٧

هذا المبنى حال اللازم الشرعي ، فالحكومة تامة. وأما لو بنينا حجية مثبتات الاستصحاب على ان التعبد بالملزوم تعبد بآثار لازمه لا بنفس اللازم ، من باب أن أثر الأثر أثر كما ذكره في الكفاية ، فالمعارضة ثابتة ، ولا حكومة ، لأن التعبد ببقاء الملزوم حينئذ لا يوجب التعبد ببقاء اللازم ، بل الشك فيه باق على حاله ، وهو مورد لاستصحاب العدم ، فتقع المعارضة بينهما من جهة آثار اللازم.

وبالجملة على هذا يكون هناك يقينان وشكان ، أحدهما : اليقين بحدوث الملزوم ، والشك في بقائه ، ثانيهما : اليقين بعدم اللازم ، والشك في بقائه ، وليس بينهما سببية شرعا. مثلا إذا شككنا في حياة زيد ، وفرضنا ان لازمها نبات لحيته ، فان كان التعبد بحياته تعبدا بنبات لحيته ، فلا مجال لاستصحاب عدمه بعد التعبد ببقاء حياته. وأما لو لم يكن كذلك ، بل كان التعبد بحياته تعبدا بترتيب آثار نبات لحيته شرعا ، فنفس نبات اللحية يكون مشكوك الحدوث ، والأصل عدمه ، فتقع المعارضة بينهما ، فلا بد من التفصيل.

إلّا أن إثبات الاستصحاب من باب الظن ، أو حجية مثبتاته من جهة ان التعبد بالملزوم تعبد باللازم دونه خرط القتاد ، فعلى فرض شمول أدلة الاستصحاب لترتيب آثار لازمه تكون المعارضة مانعة عنه.

الأمر الثاني : ان شيخنا الأنصاري (١) بعد ما بنى على عدم حجية مثبتات الاستصحاب ، وانه لا يترتب عليه آثار لوازم المستصحب ، استثنى منه ما إذا كانت الواسطة خفية ، بأن كان أثر الواسطة أثرا لذيها عرفا ، لأن الميزان في الأثر نظر العرف لا الدقة. ومثل لذلك بأمثلة ، منها : مسألة عدم الحاجب وانغسال المحل ، فان الانغسال وان كان من آثار وصول الماء إلى البشرة بالدقة ، إلّا انه أثر لنفس عدم الحاجب عرفا ، فيترتب على استصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٦٤ ـ ٦٦٥ (ط. جامعة المدرسين).

١٥٨

عدم الحاجب هذا الأثر ، ويعمه حديث المنع عن نقض اليقين بالشك ، فانه يحمل على المعاني العرفية.

وأضاف إليه الآخوند (١) ما إذا كانت الواسطة جلية ، بمعنى كون اللزوم شديدا بحيث تكون الملازمة بينهما ثابتة واقعا وظاهرا ، وكان التعبد بكل منهما تعبدا بالآخر وعد أثر اللازم أثرا لهما عرفا ، نظير وجوب المقدمة الملازمة لوجوب ذيها ، على ما بين في محله من ان وجوب ذي المقدمة واقعا مستلزم لوجوب المقدمة واقعا ، ووجوبه ظاهرا يستلزم وجوبها كذلك.

فاستثنى قدس‌سره من عدم حجية مثبتات الاستصحاب موردين : صورة خفاء الواسطة ، وصورة جلائها.

والكبرى الكلية التي أفادها وان كانت تامة ، إلّا أن الكلام في صغرياتها. فانه قدس‌سره في حاشيته على الرسائل مثل لجلاء الواسطة بموردين :

أحدهما : موارد التضايف كالأبوة والبنوة والأخوة ، والتقدم والتأخر ونحو ذلك ، فانهما متلازمان في القوة والفعلية ، والتعبد بأحد المتضايفين كالأبوة تعبد بالآخر أي البنوة ، فإذا حكم الشارع بان زيدا أبو عمر فكأنه حكم بأنه ابنه ، وكذا كون هند أخت بكر عبارة أخرى عن كونه أخوها. كما أنه إذا رتب أثر على أبوة زيد لعمر كوجوب الإطاعة صح أن يقال : من آثار أبوة زيد وجوب إطاعته على عمرو ، أو يقال من آثار بنوة عمرو وجوب إطاعته لزيد ، فيترتب على استصحاب كل من الأمرين الآثار المترتبة على الآخر.

ثانيهما : العلة التامة ومعلولها. فان التعبد بالعلة تعبد بمعلولها ، كما ان الأثر المترتب عليها أثر لمعلولها عرفا ، فيترتب على استصحاب العلة آثار المعلول ، وبالعكس.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٢٧.

١٥٩

والظاهر أن شيئا من الموردين ليس داخلا تحت تلك الكبرى.

أما المورد الأول : فلأن اليقين بأحد العنوانين المتضايفين يستلزم اليقين بالعنوان الآخر ، فيجري في نفسه الاستصحاب ، ويرتب عليه آثاره ، فلا حاجة فيه إلى الأصل المثبت لما عرفت من ان مورده ما إذا لم يكن اللازم بنفسه متيقنا ، وإلّا فالأصل المثبت لغو محض. هذا ان أريد استصحاب أحد العنوانين المتضايفين.

وأما إذا كان ذات أحد المتضايفين متيقنا كذات الأب ، وبقاؤه كان مستلزما لوجود ابن له ، فاستصحب ذلك ، وأريد ترتيب آثار لازمه ، أعني وجود الابن ، فهو من أوضح أنحاء المثبت ، إذ ليس التعبد ببقاء ذات الأب ملازما للتعبد بوجود الابن له ، ولا مانع من التفكيك بينهما تعبدا أصلا.

وأما المورد الثاني : أعني العلة والمعلول ، فان أراد من العلّة العلّة التامة فاليقين بها مستلزم لليقين بالمعلول ، فيجري في نفسه الاستصحاب ، ويرتب عليه الأثر ، فلا مجال فيها للأصل المثبت كما في المتضايفين. وان أراد استصحاب بقاء السبب ، أعني جزء العلة ، وضمه إلى العلم الوجداني يتحقق الجزء الآخر ، وبما ان النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ، لا محالة يكون تحقق اللازم أو ترتيب آثاره تعبديا وان كان أحد جزئي علته محرز بالوجدان ، فهو من أوضح أنحاء المثبت ، بل غالبا يكون الأصل المثبت من هذا القبيل ، فيكون أحد جزئي العلم محرزا بالوجدان ، ويحرز جزئه الآخر بالتعبد الاستصحابي ، ويرتب آثار المعلول. ففي مثال عدم الحاجب يكون وصول الماء إلى البشرة معلولا لصب الماء وعدم وجود الحاجب على البشرة ، ويكون أحد الجزءين وهو صب الماء محرزا وجدانا ، والجزء الآخر وهو عدم الحاجب يحرز بالتعبد الاستصحابي ، ومع ذلك لا يرتب أثر المعلول وهو الغسل مثلا ، لعدم الملازمة بين التعبد بأحد جزئي العلة والتعبد بالمعلول ، ولا مانع

١٦٠