دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بالخلاف دون الظن ، فيستظهر منهما ان المراد بالشك مطلق عدم العلم ليعم الظن أيضا.

ولكن الشيخ قدس‌سره بعد ما بنى على ان الشك لا يعم الاحتمال الراجح ذكر في التعميم وجهين :

أحدهما : الإجماع على عدم الفرق بين الصورتين ، أي جريان الاستصحاب مع الشك المتساوي ومع الظن بالخلاف أيضا بناء على حجيته من باب الاخبار. والتفصيل بين الصورتين مبني على حجية الاستصحاب من باب الظن.

وفيه : أولا : انه محتمل المدركية ، ومبني على إطلاق الأخبار ، فليس تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم.

وثانيا : ان الاتفاق غير ثابت ، فان إطلاق كلام المفصل يقتضي ثبوت التفصيل حتى بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

ثانيهما : ان الظن بالخلاف ان كان مما قام الدليل على عدم اعتباره كالظن القياسي فوجوده كعدمه ، ولا يعتنى به أصلا ليمنع عن الاستصحاب. وأما ان كان مشكوك الاعتبار فرفع اليد به عن اليقين السابق كان من نقض اليقين بالشك ، إذ الفرض كون الظن بالخلاف مشكوك الاعتبار.

وفيه : ان حجية الاستصحاب في الفرض ، أي مع قيام الظن غير المعتبر على الخلاف ، ان كان أمرا مفروغا عنه كان لما ذكره وجه ، إذ أمكن ان يقال : ان الظن غير المعتبر قطعا ساقط كالعدم ، فكيف يزاحم به الاستصحاب الّذي هو حجة بالفعل. وأما إذا ادعى المنكر ان دليله مختص بالشك المتساوي طرفاه ، وهو لا يعم صورة الظن بالخلاف ، فدعوى القطع بعدم اعتبار الظن غايته انه يسقطه عن الحجية ، ولا ينافي ذلك إخلاله بالاستصحاب وإعدامه لموضوعه الّذي هو الشك المتساوي طرفاه.

٢٢١

وبالجملة الظن غير المعتبر جزما وان لم يكن حجة ، ولا يعول عليه ، إلّا انه مع وجوده لا مجال للاستصحاب ، لانتفاء موضوعه به وهو الشك. وأما الظن المشكوك الاعتبار فليس رفع اليد في مورده عن اليقين السابق من نقض اليقين بالشك ، لأنه انما يصدق فيما إذا تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، وليس المقام كذلك ، فان ما تعلق اليقين بحدوثه قد تعلق الظن بخلافه لا الشك ، وانّما الشك تعلق بأمر آخر وهو حجية ذاك الظن ، فكيف يكون من موارد نقض اليقين بالشك.

فالصحيح : ان التعميم يكون لما ذكرناه من إطلاق الأدلة والقرينتين المزبورتين.

التنبيه الخامس عشر :

يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع والمحمول. واتحادها يستلزم اتحاد النسبة أيضا ، بحيث لم يكن بينهما فرق إلّا من ناحية تعلق اليقين والشك. فإذا اختلفتا من ناحية الموضوع أو المحمول ، كما إذا تيقن بعدالة زيد وشك في عدالة والده ، أو تيقن بعلم زيد وشك في عدالته ، لم تكن موردا لنقض اليقين بالشك ، كما لا يكون ترتيب آثار تحقق المشكوك مضيا على اليقين السابق ، وجريا عمليا على طبقه.

ثم ان تعبيرهم ببقاء الموضوع غير خال عن المسامحة ، ولعلهم عبروا ببقاء الموضوع ، مع ان المعتبر اتحاد القضيتين من جميع الجهات كما عرفت ، من جهة أهمية الموضوع في القضية ، أو لأنهم أرادوا به بقاء الموضوع بوصف الموضوعية المستلزم لبقاء المحمول أيضا ، أو انهم أرادوا به تحقيق موضوع الاستصحاب ، أعني صدق عنوان نقض اليقين بالشك المتقوم باتحاد القضيتين.

٢٢٢

وكيف ما كان لا يعتبر بقاء الموضوع في الاستصحاب إلّا في بعض الموارد التي لا يترتب الأثر على الاستصحاب إلّا في فرض إحراز الموضوع ، كما في الائتمام ، فانه لا بد وان يكون بإمام عادل كما صرح به في بعض الأخبار ، والإنفاق على الزوجة.

ثم الدليل على اعتبار اتحاد القضيتين انما هو نفس أدلة الاستصحاب ، حيث أخذ فيها عنوان نقض اليقين بالشك ، أو المضي على اليقين ، ولا يصدق شيء من ذلك إلّا مع الاتحاد المزبور.

ومن الغريب ان شيخنا الأنصاري قدس‌سره استدل على ذلك بوجه عقلي (١) وهو : ان جريان الاستصحاب مع تبدل الموضوع يستلزم انتقال العرض عن موضوعه إلى موضوع آخر ، وهو مستحيل ، لأن العرض لا يمكن تحققه في الخارج إلّا في موضوع ، فإذا أمكن انتقاله لزم ان يبقى بلا موضوع بعد انفصاله عن الموضوع الأول وقبل حصوله في الموضوع الثاني ، أي في الزمان المتخلل بينهما.

وفيه : أولا : ان المستصحب ليس دائما من الأعراض ، إذ قد يكون هو الوجود ، وقد يكون هو العدم ، وقد يكون من الأمور الاعتبارية ، كالملكية والزوجية ونحوها ، فالدليل أخص من المدعى.

وثانيا : ان انتقال العرض حقيقة مستحيل ، واما تعبدا بأن يحكم الشارع بترتيب آثار انتقال العرض في الموضوع الآخر فليس فيه استحالة.

وثالثا : بعد ما عرفت ان نفس دليل الاستصحاب يقتضي اعتبار اتحاد القضيتين فالاستدلال عليه بالوجه العقلي تبعيد المسافة ، فاتحاد القضيتين هو مقتضى نفس أدلة الاستصحاب ، فلو فرض إمكان انتقال الوصف من موضوعه إلى موضوع آخر ، وشككنا فيه ، لا يجري فيه الاستصحاب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٩١ (ط. جامعة المدرسين).

٢٢٣

ثم ان المستصحب قد يكون موضوعا خارجيا. وقد يكون حكما شرعيا. وعلى الأول ، قد يكون المستصحب من المحمولات الأولية ، أعني الوجود المحمولي ومفاد كان التامة ، أو العدم المحمولي ومفاد ليس التامة ، ويعبر عنه بالمحمولات الأولية ، لأن كل ماهية إذا لوحظت يحمل عليها ابتداء أحد الأمرين من الوجود أو العدم ، لاستحالة ارتفاع النقيضين. وقد يكون المستصحب من المحمولات الثانوية ، والمراد بها ما يقابل الأولية ، أي ما يحمل على الشيء بعد حمل الوجود عليه ، ولو كان محمولا ثالثا أو رابعا ولم يمكن حمله إلّا بعد حمل أمور ثلاثة أو أربعة عليه ، كالأوصاف الاختيارية ، فانه لا يصلح حملها إلّا بعد حمل الوجود والشوق والاختيار وسائر مبادئ الإرادة عليه ، فلا يصح أن يقال : ان الإنسان يحرك إصبعه حين الكتابة إلّا بعد حمل الوجود ومبادئ الاختيار عليه ، وكل ذلك يعبر عنها بالمحمولات الثانية في مقابل المحمولات الأولية كالمعقولات الثانوية في مقابل المعقولات الأولية كالقيام أو العدالة ونحوها ، فان اتصاف الموضوع بها فرع وجوده.

أما إن كان المستصحب محمولا أوليا ، فلا معنى فيه لبقاء الموضوع خارجا ، إذ مع فرض بقائه كذلك لا شك ليستصحب ، بل لا بد وان يفرض نفس الماهية فيضاف إليها الوجود أو العدم. وأما الماهية الموجودة فلا معنى لاستصحاب وجودها أو عدمها كما هو واضح ، فيقال الماهية الشخصية كانت موجودة يقينا ، والشك في اتصافها به ، فيستصحب ، فالموضوع في هذا الفرض هو نفس الماهية ، لا الماهية المفروض وجودها.

وأما إن كان المستصحب من المحمولات الثانوية ، فالشك فيها يتصور على أقسام ثلاثة : لأنه تارة : يكون منشأ الشك في بقاء الوصف الشك في بقاء الموضوع ، كما إذا شككنا في عدالة زيد للشك في حياته ، بعد العلم بأنه لو كان حيا

٢٢٤

فهو عادل قطعا. وأخرى : لا يكون الشك فيه من جهة الشك في حياته ، بل يحتمل زواله مع بقاء الموضوع أيضا. وهذا يكون على قسمين : لأنه قد يكون الشك في عدالته مقترنا مع الشك في بقاء الموضوع ، فيشك في عدالة زيد على فرض حياته. وقد يكون الشك في الوصف مع إحراز الموضوع.

أما في القسم الأخير فلا إشكال في استصحاب الوصف ، أعني العدالة في المثال ، وترتيب آثارها عليه ، فيشار إلى الموجود الخارجي ويقال هذا كان متصفا بالعدالة قطعا والآن كما كان.

وانما الكلام في جريان الاستصحاب في القسمين الأولين ، فان الوصف يحتاج في تحققه إلى تحقق الموضوع ، ومع عدم إحرازه لا مجال لاستصحاب الوصف. وأما استصحاب الموضوع ، ففي القسم الأول لا أثر له إلّا بنحو الأصل المثبت ، إذ ليس بقاء العدالة من آثاره الشرعية ، وانما هو ترتب عليه عقلا من جهة العلم الخارجي بعدالته على تقدير حياته. وهكذا في القسم الثاني ، فان استصحاب العدالة الفعلية لا مجال له ما لم يحرز بقاء الموضوع ، واستصحاب بقائه مقدمة لاستصحاب بقاء عدالته لا يترتب عليه أثر شرعي ، واستصحاب العدالة على تقدير بقاء الموضوع لا أثر له أيضا ، لأنه مترتب على العدالة الفعلية لا التقديرية.

ونقول : الظاهر جريان الاستصحاب في جميع الفروض ، أمّا في الفرض الأول فظاهر. وأمّا في الفرض الثاني فيستصحب بقاء الذات المتصفة بالوصف المزبور ، فانا كنا على يقين منها فيترتب عليه الأثر.

وأمّا في الفرض الثالث فيستصحب كلا الأمرين من بقاء الموضوع وبقاء الوصف ، والسر في ذلك : انه إذا رتب أثر في ظاهر الدليل على الوصف ، وفرضنا استحالة تحققه بدون وجود الموضوع ، فيستحيل ان لا يكون وجود الموضوع دخيلا في ترتب ذاك الأثر ، فلا محالة يكون داخلا في الموضوعات المركبة ، وقد

٢٢٥

عرفت فيما سبق انه يمكن إحراز بعض اجزائها بالتعبد وبعضها بالوجدان ، فيترتب الأثر بضم الوجدان بالأصل. كما يمكن إحراز كلا الجزءين بالتعبد والاستصحاب ، ومجرد طولية الجزءين في الوجود الخارجي لا يمنع جريان الاستصحاب في كليهما عرضا ، فيستصحب بقاء الموضوع والوصف.

فما ذكره بعضهم زائدا على اتحاد القضيتين من اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب مما لا وجه له.

نعم قد يكون الأثر مما لا يترتب إلّا على إحراز الموضوع خارجا ، كالائتمام بمعنى التبعية ، والإنفاق على الزوجة ، إذ لا معنى لمتابعة الموجود بالتعبد ، ولا للإنفاق على الزوجة الحية بالتعبد. هذا كله في استصحاب الموضوع.

وأما الحكم فقد عرفت سابقا ان الشك فيه يتصور على أقسام ثلاثة : لأنه تارة : يشك في بقاء الحكم الجزئي ، كما في الشبهات الموضوعية. وأخرى : في الحكم الكلي. وهو على قسمين : لأنه تارة : يشك في بقاء الحكم الكلي في مرحلة الجعل. وأخرى : في مرحلة المجعول. فهذه أقسام ثلاثة :

أما القسم الأول : فالشك في بقاء الحكم الجزئي لا بد وان يكون ناشئا من الشك في بقاء الموضوع ، فإذا شك في بقاء حرمة المائع الخارجي لا محالة يكون ناشئا عن الشك في بقاء خمريته وتبدله إلى الخل. وكذا إذا شك في انتقال دار زيد عن ملكه كان ناشئا عن الشك في أنه باعه أو نقله عن ملكه بناقل آخر أم لم ينقله ، فيجري الاستصحاب في الموضوع ، أي يستصحب بقاء موضوعه ، فإذا تعبدنا ببقاء الموضوع كخمرية المائع ، ترتب عليه حكمه ، وهي حرمة الشرب مثلا ، ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم ، كما هو ظاهر. بل لا يمكن استصحاب بقاء الحكم حتى لو فرضنا عدم جريان الاستصحاب في الموضوع ، لعدم اتحاد القضيتين ، فان المتيقن لم يكن حرمة ذات الموضوع ، بل كان حرمتها بعنوان أنها

٢٢٦

خمر ، والمشكوك ليس حرمته بذاك العنوان ، بل حرمة الموجود الخارجي بما هو ، لا بما أنه خمر ، فالحكم ليس موردا للاستصحاب في نفسه على التقديرين ، أي على تقدير جريان الاستصحاب في الموضوع وعدمه.

وأما الحكم الكلي في مرحلة الجعل ، فالظاهر عدم جريان الاستصحاب فيه إذا شك في بقائه وارتفاعه بالنسخ ، لأن الشك في الجعل بعد احتمال النسخ يكون شكا في الحدوث، لا في البقاء ، لما ذكرناه سابقا من ان النسخ في الأحكام الشرعية ليس رفعا للحكم الثابت ، ولا تخصيصا افراديا ، لاستلزامه الجهل ، وانما هو تخصيص أزماني ، وبيان أمد الحكم.

وعليه فعند احتمال النسخ يكون الشك في سعة الجعل بحيث يعم هذا الزمان وضيقه ، ومن الواضح انه شك في حدوث الجعل لذاك الزمان ، والأصل عدمه ، فإذا كان هناك إطلاق لدليل نفس الحكم ، أو من الخارج أمكن إثبات استمرار الجعل به فهو ، وإلّا فلا يمكن إثبات بقائه بالاستصحاب.

فما ذكره المحدث الأسترآبادي من كون استصحاب عدم النسخ من الضروريات ليس بصحيح ، بل هو أشكل من الاستصحاب في غيره إذا أراد الاستصحاب المصطلح. اللهم إلّا ان يريد بالاستصحاب نتيجته ، أعني الحكم ببقاء الجعل ولو من جهة الإطلاق أو الدليل الخارجي ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة» (١).

وأما الشك في بقاء الحكم الكلي المجعول ، كالشك في بقاء نجاسة الماء إذا تمم كرا ، أو إذا زال تغيره من نفسه ، فلا بد وان يكون ناشئا من تبدل امر وجودي بالعدم كما في الثاني ، أو انقلاب أمر عدمي بالوجود كما في المثال الأول ، وإلّا فلا مجال للشك.

__________________

(١) الكافي : ١ ـ باب البدع والرّأي والمقاييس ، ح ١٩.

٢٢٧

ثم ان ذاك الأمر المتبدل على أقسام ثلاثة :

الأول : ان يكون بنظر العرف مقوما للموضوع والحكم ، بحيث إذا كان الحكم باقيا بعد تبدله يراه العرف حكما حادثا ، لا بقاء للحكم الأول ، كما في الاجتهاد بالقياس إلى وجوب التقليد ، فإذا فرضنا مجتهدا نسي ما كان يعلمه فصار عاميا ، فهو بنظر العرف يكون موضوعا آخرا ، وإذا ثبت وجوب تقليده كان هناك حكمان وموضوعان ، أحدهما وجوب تقليد المجتهد ، والآخر وجوب تقليد من كان مجتهدا. وهكذا إذا أمر بإكرام المؤمن فصار المؤمن فاسقا ، فان وجوب إكرامه بعده حكم مغاير عرفا لوجوب إكرام المؤمن.

الثاني : ان يكون بنظر العرف من الأوصاف والحالات ، وبتعبير علمي أن يكون من علل ثبوت الحكم لذات الموضوع ، كالقيام إذا أمر المولى بإكرام القائم ، فانه عرفا يكون معرفا للموضوع ، لا مقوما له. وفي هذا القسم يجري الاستصحاب في نفسه بلا إشكال ، مع قطع النّظر عن المعارضة.

الثالث : ان يشك العرف في كونه مقوما أو وصفا ، كما إذا أحرق الخشب فصار فحما بالإضافة إلى جواز السجود عليه ، فان العرف يشك في ان وصف الخشبية مقوم للحكم ، أو انه ثابت لما ينبت من الشجر سواء كان خشبا أو فحما. وهكذا المتنجس إذا استحال ، كالخشب المتنجس إذا أحرق فصار رمادا ، فان العرف يشك في كونه الصورة النوعية في المتنجس مقوم الموضوع في الحكم بالنجاسة أو انها من الأوصاف.

نعم في الأعيان النجسة تكون الصور النوعية مقومة للموضوع ، ولذا لو وقع الكلب في المملحة ، أو الدم فصار ملحا لم يحكم بنجاسته ، ولو حكم بنجاسته لكانت الأعيان النجسة أكثر من العشرة. وأما المتنجس إذا استحال فيمكن أن لا تكون الصورة النوعية مقومة للموضوع ، ولذا ذهب المحقق الثاني على ما حكاه

٢٢٨

الشيخ في الاستحالة وكونها مطهرة بين الأعيان النجسة والمتنجسات (١). فهذه أقسام ثلاثة.

ثم انه ربما يكون الشك في الشبهة الحكمية من جهة الشبهة المفهومية والشك في سعة المفهوم وضيقه ، كالغروب المجعول غاية لوجوب الظهرين على ما صرح به في جملة من الأخبار ، إلّا أنه من حيث المفهوم مردد بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، فإذا سقط القرص ولم تذهب الحمرة يشك في بقاء وجوب الظهرين وعدمه.

والحاصل : ان القيد المتبدل تارة يكون مقوما للموضوع عرفا ، كالصور النوعية في الأعيان النجسة ، كالكلب والعذرة ونحوها ، فإذا تبدلت بغيرها كما إذا صارت ملحا أو دودا كان موضوعا آخرا مباينا للموضوع الأول ، وإذا ثبت له النجاسة كان حكما مغايرا لذاك الحكم لا بقاء له ، وفي مثله لا مجال للاستصحاب. وببالي ان بعض الفقهاء تمسك بنجاسة ولد الكافر حيث لم يرد فيها نصّ خاص باستصحاب نجاسته حين كان منيا ، وهو كما ترى.

وأخرى : يكون القيد من حالات الموضوع عرفا ، كالقلة في الماء المتمم كرا ، فان الماء الأقل من الكر بمقدار يسير مثلا لا يكون مباينا لنفسه إذا صار كرا. وهذا هو مورد الاستصحاب بلا إشكال.

وثالثة : يشك العرف في ذلك ، كالأعيان المتنجسة ، فان العرف يشك في ان الصور النوعية فيها مقومة للنجاسة ، فإذا تبدلت بشيء آخر كما إذا أحرق الخشب المتنجس فصار فحما لم يجر فيه استصحاب النجاسة ، لأنه موضوع آخر ، أو أنها من حالات الموضوع ، وما حكم بنجاسته هو الجسم الملاقي للنجس ، لا عنوان الخشبية ، فيجري فيه الاستصحاب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٩٤ (ط. جامعة المدرسين).

٢٢٩

وفي هذا القسم أيضا لا مجال للاستصحاب. امّا في الحكم ، فللشك في بقاء الموضوع ، فيكون التمسك بأخبار الاستصحاب من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وامّا في الموضوع ، فلعدم تعلق الشك ببقاء ما تعلق اليقين بحدوثه ، بل هناك أمر متيقن الارتفاع ، وهو زوال الصورة النوعية ، وأمر متيقن البقاء ، وهو المادة المشتركة بين الخشب والفحم ، فأي شيء يستصحب.

نعم بقاء الموضوع بعنوان الموضوعية مشكوك ، إلّا ان استصحابه كذلك يرجع إلى استصحاب الحكم ، بداهة ان ذات الموضوع بما هي لا شك فيها ، فالشك في بقاء موضوعيته عبارة عن ثبوت الحكم له ، فاستصحابه بهذا العنوان استصحاب بقاء الحكم ، وقد عرفت عدم جريانه.

ومن هنا ذهب المحقق الثاني إلى المنع عن الاستصحاب في الاستحالة في الأعيان النجسة ، وتردد في جريانه في الأعيان المتنجسة.

وبعين هذا البيان يمنع عن جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية التي يكون منشأ الشك فيها هو الشك في سعة المفهوم وضيقه كالغروب ، فان الاستصحاب في الحكم لا يجري ، لعدم إحراز كونه موردا لأدلة الاستصحاب. كما لا يجري في الموضوع ، لعدم الشك في ما تعلق اليقين بحدوثه ، والشك في بقاء الموضوع بوصف الموضوعية يرجع إلى الشك في الحكم ، وقد تقدم تفصيله.

ومن هنا وقع الكلام في ان الميزان في اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة هل هو نظر العقل ، أو العرف ، أو بلسان الدليل؟ فيفرق بين ما إذا ورد في الدليل الماء المتغير ينجس ، فالتغير حينئذ يكون دخلا في الموضوع ، وما إذا ورد في الدليل الماء إذا تغير ينجس ، فيكون الموضوع نفس الماء ، والتغير علة لثبوت النجاسة له على ما هو الشأن في الجملة الشرطية.

وبالجملة بعد اعتبار اتحاد القضيتين ، يقع الكلام في أنه لا بد وان يرى العقل

٢٣٠

المتيقن والمشكوك أمرا واحدا ، أو يكفي فيه الاتحاد العرفي.

وقد ذكر الشيخ أنه لو كان الميزان في ذلك بالدقة العقلية لاختص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع دون غيره (١).

وذكر الآخوند (٢) أنه عليه لا يجري الاستصحاب في مورد أصلا ، وعلله بان الشك في البقاء لا بد وان يكون لتبدل بعض خصوصيات الموضوع ، فيكون بقاؤه مشكوكا إلّا في موارد الشك في النسخ التي هي خارجة عن محل الكلام.

والظاهر انه ناظر إلى الإيراد على الشيخ ، حيث انه قدس‌سره جعل المانع عن اعتبار النّظر العقلي لزوم اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في الرافع ، فأورد عليه بأن لازمه سقوط الاستصحاب رأسا.

ثم أورد عليه ثانيا بان هذا ليس محذورا على مسلكه من اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ، فان الاختصاص على مسلكه ثابت ولو جعل الميزان في الاتحاد بنظر العرف دون العقل ، فليس هذا إيرادا على مبناه قدس‌سره.

ومن هنا وجه الميرزا مراد الشيخ من الشك في الرافع بوجه آخر (٣) حاصله : ان الرافع قد يكون في مقابل المقتضي ، والمراد بالشك فيه ان يكون المتيقن في نفسه قابلا للاستمرار والبقاء في عمود الزمان ، بحيث لا يشك فيه مع قطع النّظر عن حدوث حادث أو ارتفاع موجود ، فإذا شك في بقائه لا محالة يكون الشك في الرافع ، فيجري فيه الاستصحاب.

وفي مقابله الشك في المقتضي ، وهو ان لا يكون للمتيقن في نفسه بقاء في عمود الزمان ، بحيث يضمحل ولو لم يحدث في العالم شيء ولم ينعدم أمر موجود ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٩٣ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) الكفاية : ٢ ـ ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٣) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٤٩.

٢٣١

نظير الخيار إذا شك في فوريته.

وربما يراد بالرافع في مقابل المانع ، فان الأمر العدمي إذا أخذ في الموضوع ، تارة : يكون مأخوذا فيه حدوثا وبقاء ، بحيث لا يحدث الأثر بدونه ، ويعبر عنه بالمانع. وأخرى : لا يكون مأخوذا فيه كذلك ، بل إذا تحقق ذاك الأمر رفع الأثر بقاء ، ويعبر عنه بالرافع ، كالطلاق الرافع للزوجية ، فانه يستحيل أخذ عدمه في الزوجية حدوثا.

وبعبارة أخرى : تارة : يؤخذ في الموضوع أمر وجودي ، وأخرى : يؤخذ فيه أمر عدمي ، والأمر العدمي ، تارة : يكون مأخوذا فيه حدوثا ، وأخرى : بقاء فقط. ويعبر عن الأخير بالرافع في مقابل المانع ، فإذا لا منافاة بين ذهابه إلى اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع بالمعنى الأول ، وإنكاره اختصاصه بالرافع بهذا المعنى.

والصحيح : ما ذهب إليه في الكفاية من انه لو كان الميزان في اتحاد القضيتين بالدقة العقلية لم يجر الاستصحاب في الشبهات الحكمية ظاهرا ، وانّما يختص جريانه ببعض أقسام الشبهة الموضوعية. وذلك لأن الأمور التكوينية يستحيل ان تكون رافعة للأحكام الشرعية ، التي هي من الأمور الاعتبارية ، وأمر وضعها ورفعها بيد الشارع ، فالشك في بقاء الحكم دائما يكون ناشئا عن تبدل أمر مأخوذ في موضوعه شرعا ، سواء كان وجوديا أو عدميا ، مأخوذا فيه حدوثا وبقاء أو بقاء فقط.

وبعبارة أخرى : الشرطية والجزئية والسببية والمانعية والرافعية كلها منتزعة من أخذ الشارع أمرا وجوديا أو عدميا في موضوع حكمه حدوثا أو بقاء فقط. مثلا الطلاق الّذي هو رافع للزوجية مأخوذ في حكم الشارع بالزوجية بقاء ، فان طلق الزوج زوجته ، وقال لها : أنت خلية أو برية ، أو أنشأ الطلاق

٢٣٢

بالجملة الفعلية ، وشك في صحة الطلاق بذلك ، لا محالة يشك في بقاء الموضوع ، فلا فرق من هذه الجهة بين الرافع والمانع. فما في الكفاية هو الصحيح.

والحاصل : انه بعد اعتبار اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة يقع الكلام في ان الاتحاد المعتبر هل هو الاتحاد بالنظر الدقي ، أو بالنظر العرفي ، أو بحسب لسان الدليل؟ وهذا التشقيق الثلاثي مختص بالاستصحاب في الشبهات الحكمية. وأما في الشبهات الموضوعية فالتشقيق ثنائي ، إذ ليس الدليل متكفلا لبيان موضوع نفسه ، وانما هو حكم ثابت للموضوعات المقدر وجودها ، فيدور أمر بقاء الموضوع فيها بين ان يكون بنظر العرف أو يكون بالدقة العقلية.

ثم انه ربما يتوهم أن التشقيق غير تام حتى في الشبهات الحكمية ، بل يتعين فيها بقاء الموضوع بحسب لسان الدليل ، وذلك لأن العقل بعيد عن الأحكام الشرعية ، ولا طريق له إلى معرفة موضوعها ، بل لا بد وان يعين موضوع الحكم الشرعي من الدليل الدال عليه شرعا. فاحتمال ان يكون الميزان في بقاء الموضوع بالنظر العقلي فاسد.

وامّا الترديد بين النّظر العرفي ولسان الدليل فكذلك لا وجه له ، لأنه ان أريد من النّظر العرفي ما يفهمه العرف من الدليل ، ويراه موضوعا للحكم ، ولو بملاحظة القرائن الخارجية المتصلة أو المنفصلة ، فهو عين الموضوع الدليلي ، إذ المراد بالموضوع في لسان الدليل ما يكون الدليل ظاهرا فيه ولو بملاحظة القرائن الخارجية ، متصلة كانت أو منفصلة ، فالموضوع العرفي على هذا ليس أمرا مغايرا للموضوع الدليلي ليجعل الترديد بينهما. وان أريد بالنظر العرفي المسامحات العرفية ، فهو وان كان مغايرا للموضوع بحسب الدليل ، إلّا انه لا اعتبار به كما هو ظاهر. فإذا لا مناص من أن يكون الميزان في بقاء الموضوع بلسان الدليل دون غيره.

٢٣٣

ونقول : ما ذكر وان كان متينا ، إلّا انه انما يتم في مرحلة حدوث الحكم وثبوته ، فالموضوع الّذي يثبت له الحكم في لسان الدليل هو ما يراه العرف موضوعا ، إلّا أنه لا يتم في مرحلة البقاء الّذي هو محل الكلام ، فان الترديد انما هو في ان عنوان نقض اليقين بالشك ، أو المضي على طبق الحالة السابقة المتقوم ببقاء الموضوع ، هل هو ببقاء ما أخذ موضوعا في لسان الدليل فقط ، فيصدق هذا العنوان بمجرد بقاء موضوع الدليل ، أو هو ببقاء ما يراه العرف موضوعا ولو من القرائن الخارجية أو من مناسبة الحكم والموضوع؟ فالترديد في محله.

توضيحه : ان الحكم الواحد يمكن ان يختلف بحسب الإلقاء ولسان الدليل ، فنجاسة الماء المتغير تارة : تلقى بجملة حملية ، فيقال : الماء المتغير ينجس ، وأخرى : بجملة شرطية ، فيقال : الماء ينجس إذا تغير ، وهكذا وجوب القصر على المسافر. وبحسب اللب والواقع وان لم يكن فرق بين الكيفيتين ، لرجوع القضية الشرطية بحسب الواقع إلى القضية الحقيقية وكذا العكس ، إلّا ان الموضوع للحكم على الأول هو عنوان المتغير ، وعلى الثاني نفس الماء ، والتغيير يكون شرطا ، أي علة لثبوت الحكم له ، ولذا التزمنا بثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، ولم نلتزم به في الوصف ، خصوصا إذا لم يكن معتمدا على الموصوف ، بل كان من قبيل المشتق ، فثبوت الحكم للموضوع بحسب الدليل ومرحلة الإثبات تختلف.

وعليه فان كانت العبرة بلسان الدليل ، لا بد وان يفصل في جريان الاستصحاب بعد زوال التغير بين الفرضين ، فعلى الأول لا مجال لجريانه ، لتبدل الموضوع ، وعلى الثاني يجري. إلّا ان العرف يفهم من الدليل بملاحظة القرائن ان موضوع النجاسة دائما هو الماء ، فالنجاسة كالتغير عارضة له ، إذ لا معنى لعروضها على التغير ، فلو كانت العبرة في صدق نقض اليقين بالشك ببقاء الموضوع بنظره لا يفرق بين القسمين ، فيجري الاستصحاب على كلا التقديرين. وهكذا إذا

٢٣٤

انعكس الأمر ، بأن كان القيد مقوما للموضوع صرفا ، كالاجتهاد في وجوب التقليد ، والعدالة في قبول الشهادة ، فلا مجال للاستصحاب عند زواله ، سواء أخذ في لسان الدليل مقوما للموضوع ، أو شرطا للحكم. وبما أن عنوان نقض اليقين بالشك عنوان عرفي ، ورد في الدليل ، لا بد من حمله على النقض العرفي ، والمضي العرفي ، فيكون العبرة في البقاء بنظر العرف دون لسان الدليل ، فلا عبرة به.

ونظير هذا ما ذكرناه في كتاب البيع من ان تخلف الصور النوعية العرفية يوجب بطلان البيع ، سواء أخذ في مقام الإنشاء مقوما للمبيع ، كما إذا قال : بعتك هذا الفرس وكان حمارا ، أو قال : بعتك هذا البساط فبان كونه عباء. أو أخذ شرطا في البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا على أن يكون فرسا أو بساطا ، وتخلف الوصف لا يوجب سوى الخيار ، من غير فرق بين جعله عنوانا للمبيع ، كما إذا قال : بعتك العبد الكاتب ، وجعله شرطا بقوله : بعتك هذا العبد على أن يكون كاتبا. فالميزان بكون العنوان مقوما أو وصفا بنظر العرف ، ولا اعتبار بالدليل وكيفية الأخذ فيه. ومقامنا أيضا كذلك ، لا بد في شمول دليل الاستصحاب من صدق عنوان النقض والمضي عرفا ، وهو متقوم ببقاء الموضوع عرفا.

قاعدة المقتضي والمانع :

ثم بعد ما عرفت اعتبار اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في صدق عنوان نقض اليقين بالشك ، وعنوان المضي على اليقين ، عرفت عدم شمول أخبار الاستصحاب لقاعدة المقتضي والمانع ، وذلك لعدم تعلق الشك فيها بما تعلق به اليقين ، وانما تعلق اليقين بوجود المقتضي ، والشك بوجود المانع ، فإذا صب الماء على الجسد للغسل واحتمل وجود المانع ، كان الصب وهو المقتضي متيقنا ،

٢٣٥

ووجود الحاجب وهو المانع مشكوكا ، ولا يحصل منهما اليقين بالطهارة ، لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ، فليس رفع اليد عنها مصداقا لنقض اليقين بالشك ، ولا ترتيب آثارها من المضي على طبق اليقين السابق ، فلا يعمه اخبار الاستصحاب. نعم مقتضى الاستصحاب عدم تحقق المانع ، إلّا أنه لا يترتب عليه آثار المقتضي إلّا بنحو الأصل المثبت.

وقد يتمسك لقاعدة المقتضي والمانع بسيرة العقلاء.

ولكنها غير ثابتة ، ولذا لو فرضنا أن أحدا لقي من السطح حجرا ، وكان مقتضيا لتلف نفس أو مال ، إلّا أنه احتمل وجود مانع في البين عن وقوع الحجر على ذاك الشخص أو العين لا يرتّبون العقلاء عليه آثار التلف أو القتل كما هو واضح ، فلا دليل على قاعدة المقتضي والمانع أصلا ، لا من الأخبار ولا من السيرة.

قاعدة اليقين :

ثم هل تعم الأخبار قاعدة اليقين بعد امتناع اختصاصها بها ، لأن مورد جملة منها هو الاستصحاب ، مثل ما ورد في جواب قوله «فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم» ربما يقال بأن إطلاق كلام الإمام عليه‌السلام حتى في مورد الاستصحاب هو المتبع ، فان المورد لا يكون مخصصا ، فقوله عليه‌السلام «من كان على يقين ثم شك فليمض على يقينه» (١) يقتضي المضي على طبق اليقين السابق مطلقا ، سواء تعلق الشك أيضا بالحدوث أو بالبقاء ، فمطلق من كان على يقين فشك لا بد له من المضي على طبق يقينه السابق ، فيعم قاعدة اليقين ، فإذا تيقن المكلف بطهارة شيء ثم شك فيها بالشك الساري مضى على اليقين بالطهارة إلى غير ذلك من الموارد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

٢٣٦

والمحقق النائيني منع إطلاق الأخبار ، وإمكان شمولها للاستصحاب وقاعدة اليقين معا ، فيتعين حملها على الاستصحاب (١). وذكر للمنع وجوها ثلاثة :

الأول : أن التعبد في الاستصحاب بكون البقاء بعد فرض حدوث المتيقن ، فيفرض المتيقن حادثا ، وبعد فرض حدوثه يعبدنا ببقائه في ظرف الشك ، فالاستصحاب متقوم بفرض حدوث المتيقن. وهذا بخلاف قاعدة اليقين ، فان التعبد فيها يكون بالحدوث ، وهو مستلزم لعدم فرض الحدوث ، ومن الواضح ان فرض الحدوث وعدم فرضه متنافيان ، فلا يمكن الجمع بينهما بدليل واحد ، فيدور الأمر بين اختصاصها بالاستصحاب أو بالقاعدة ، فيتعين الأول لمكان مورد جملة منها.

الثاني : ان ظاهر اليقين المأخوذ فيها هو اليقين الفعلي ، على ما هو ظاهر كل قضية شرعية أو عقلية ، وهو مورد النزاع بين الفارابي والشيخ ، فإذا قال : الخمر حرام ، ظاهره حرمة ما هو خمر بالفعل ، لا ما كان خمرا أو خمر بالإمكان ، فقوله «فليمض على يقينه» ظاهر في المضي على اليقين الفعلي ، فلا يعم اليقين اليقين المعدوم ، كما في مورد القاعدة ، فيختص بالاستصحاب.

لا يقال : أنه مبني على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس. وأما على القول بكونه حقيقة في الأعم منه ومن المنقضي عنه المبدأ فلا مانع من استعمال اليقين في الموجود والمعدوم بأن يعمهما.

لأنه يقال : أولا : ان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس.

وثانيا : ذاك البحث انما هو في المشتق الاصطلاحي ، ولا يجري في الجوامد وما يلحق بها كاليقين ، فانه عبارة عن الصفة النفسانيّة ، وبعد زوالها لا يبقى شيء

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٤٥١.

٢٣٧

ليبحث أن إطلاق اليقين عليه حقيقة أو مجاز ، فلو كان المأخوذ في الأدلة عنوان المتيقن ونحوه من المشتقات لكان لهذا التوهم مجال.

لا يقال : ان إطلاق اليقين على اليقين المعدوم بالفعل بلحاظ حال تحققه يكون حقيقة على أي تقدير ، فيعم اليقين اليقين في القاعدة بلحاظ حال ثبوته.

لأنّا نقول : هذا انما يتم لو كان اليقين في الأدلة مأخوذا بما أنه صفة أي موضوعيا ، لا طريقيا وبما هو كاشف كما هو الظاهر ، إذ كاشفيته انما تكون ما دام موجودا ، وليس له طريقية بعد انعدامه ، فكيف يعم حينئذ اليقين المعدوم بالشك الساري ، فهو ظاهر في اليقين الفعلي بلحاظ حال الجري على طبقه ، وهو حال الشك ، وهو مورد الاستصحاب فقط.

الثالث : ان المنع من نقض اليقين بالشك لا يمكن الأخذ بظاهره ، لأن الصفتين متنافيتان ، لا يمكن اجتماعهما متعلقا بشيء في زمان واحد ، فلا بد من الالتزام بالمسامحة ومخالفة الظاهر بأحد النحوين. أما بجعل الزمان قيدا لليقين والشك ، مع التحفظ على اتحاد متعلقيهما من جميع الجهات ، كما في مورد القاعدة. وإما بجعل المتعلق هي الطبيعة مع إلغاء خصوصية الحدوث والبقاء ، كما في الاستصحاب. فإذا فرضنا تكفل الدليل الواحد لهما لزم لحاظ الزمان وأخذه قيدا وظرفا في دليل واحد ، وهو محال ، فإذا يلزم اختصاص الأدلة بالاستصحاب ، لعدم شمولها لهما معا.

وفي جميع الوجوه نظر :

أما الوجه الأول : فلأن الحدوث في الاستصحاب وان كان مفروضا ، وفي القاعدة غير مفروض ، إلّا أن الحدوث ليس موضوعا في الأدلة ، بل الموضوع فيها نفس اليقين والشك ، والحدوث متعلق الموضوع ، ولا مانع من كونه مفروض

٢٣٨

التحقق في مورد ، وغير مفروض التحقق في مورد آخر ، وإطلاق الموضوع يعم كلا الحالين. فهو نظير اختلاف متعلق اليقين في الاستصحاب ، فانه قد يكون وجود شيء فيشك في بقائه فيستصحب ، وقد يكون عدم شيء فيستصحب أيضا ، كما انه قد يكون علم زيد ، وقد يكون عدالته إلى غير ذلك.

وبعبارة أخرى : ما هو محذور وممنوع أن لا يكون ما جعل موضوعا في القضية مفروضا ، فان مرجعه إلى موضوعية شيء للحكم وعدم موضوعيته ، وهو خلف ومناقضة. وأما فرض الثبوت في متعلق الموضوع في مورد ، وعدمه في مورد آخر ، لا محذور فيه.

ومن الظاهر ان الموضوع في أدلة الاستصحاب هو نفس اليقين والشك ، وهو مفروض التحقق في كل من القاعدة والاستصحاب ، قد تعلق به التعبد ، غايته قد يكون متعلقه مفروض التحقق ، فيكون التعبد بلحاظ بقائه ، وأخرى لا يكون كذلك ، فيكون التعبد من حيث حدوثه. ويشهد لذلك انه لا مانع من ان يصرح المتكلم بالتعميم فيقول : كلما تيقنت بشيء وشككت فامض على يقينك ، سواء تعلق الشك بالحدوث أو بالبقاء.

وأما الوجه الثاني : ففيه : ان اليقين في القاعدة وان لم يكن فردا مباينا لليقين في الاستصحاب ليعمهما إطلاق اليقين ، إلّا أنه لا مانع من التعبد به على تقدير وجوده وارتفاعه ، ولا يلزم منه ثبوت الحكم للموضوع بلحاظ وجوده وعدمه ، فان التعبد به في قاعدة اليقين انما هو بلحاظ حال وجوده.

ودعوى : كونه منافيا مع أخذه طريقيا كما ترى. فانه لو أريد من زوال طريقيته بعد انعدامه زوال كاشفيته الذاتيّة فهو وان كان كذلك ، إلّا ان اليقين في الاستصحاب مع بقائه أيضا ليس له كاشفية عن البقاء ، الّذي هو مورد التعبد ، فان طريقة اليقين انما هي بالإضافة إلى متعلقه وهو الحدوث ، دون ما لم يتعلق به وهو

٢٣٩

البقاء على الفرض. واما الطريقة التعبدية فهو ممكن في كلتا القاعدتين ، فيعبدنا الشارع بطريقية اليقين المعدوم ، كما يعبدنا بطريقية اليقين بالحدوث بالنسبة إلى البقاء أيضا.

وأما الوجه الثالث : فالجواب عنه يظهر مما بيناه في الوجه الأول ، إذ أخذ الزمان قيدا أو ظرفا كله خارج عن موضوع الحكم في الأدلة ، وانما هو من حالاته ومتعلقاته ، فلا مانع من التعبد ببقاء اليقين مطلقا ، سواء كان الزمان قيدا له أو ظرفا كذلك.

وبالجملة لا يتم شيء من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الميرزا قدس‌سره ، فان تعلق الشك بالحدوث في مورد ، وتعلقه بالبقاء في مورد آخر ، لا ينافي شمول الدليل ، فان هذا الاختلاف كاف ، كاختلاف متعلقيهما من بقية الجهات ، فالوجه الأول فاسد. كما ان شمول الأدلة لكلتا القاعدتين غير مبتنية على كون المشتق حقيقة في الأعم ، فان التعبد في كلتيهما انما يكون بلحاظ حال وجود اليقين ، فلا يلزم من ذلك ثبوت الحكم بلحاظ حال وجود الموضوع وعدمه ليلزم الجمع بين اللحاظين. كما ان الوجه الثالث فاسد أيضا ، بداهة ان الزمان لم يؤخذ قيدا في شيء من القاعدتين ، بل الاختلاف بينهما انما هو من حيث تعلق الشك ، فانه قد يكون متعلقا بعين ما تعلق به اليقين ، فلا محالة يختلف زمانهما ، وقد يتعلق بالبقاء ، فيكون الاختلاف من ناحية المتعلق. ولذا لا مانع من التصريح بالمضي على طبق اليقين مطلقا ، سواء تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين أو ببقائه.

والتحقيق : ان المانع عن شمول الأدلة للموردين إثباتي لا ثبوتي. أولا : لعدم المقتضي ، وثانيا : لوجود المانع.

أما عدم المقتضي ، فلأن ظاهر كل قضية ودليل سواء كان دليلا لحكم واقعي أو ظاهري ثبوت الحكم للموضوع الفعلي حين ثبوته ، مثلا قوله : الخمر حرام ،

٢٤٠