دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الاجتهاد والتقليد

الجهة الأولى : تعريف الاجتهاد :

عرف الاجتهاد بأنه : استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالأحكام الشرعية ، كما عن القوم. وهذا التعريف غير تام على مبنانا من عدم حجية الظن ، كما صرح به الكتاب العزيز. ولعله من هذا التعريف ونحوه أنكر الأخباريون الاجتهاد ، وذهبوا إلى بطلانه ، وان التقليد بدعة.

فالأولى تعريفه بأنه : استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية. ولا نظن بالأخباري إنكار الاجتهاد بهذا المعنى ، فان تحصيل الحجة مما لا بد منه على جميع المسالك ، فلا يبعد ان يكون النزاع في المقام بيننا وبينهم لفظيا.

ثم ان الاجتهاد لم يقع في شيء من الكتاب والسنة لنبحث عن معناه عرفا ، بل رتب عليه أحكام ، فلا بد من بيان انها تترتب على أي شيء ، لنعرف بذلك أي نستكشف معناه من ناحية الحكم المترتب عليه.

فنقول : الأمور المترتبة على الاجتهاد ثلاثة : حرمة رجوعه إلى الغير ، وجواز الإفتاء ورجوع الغير إليه ، والقضاء وفروعه من الأمور الحسبية.

أما حرمة التقليد ، فقد ذكر الشيخ (١) أنه لا خلاف في ان من يقدر على

__________________

(١) رسالة في التقليد للشيخ الأنصاري قدس‌سره : ٣١.

٤٢١

الاستنباط يحرم عليه التقليد ، وأدلة التقليد منصرفة عنه. فان تم ما ذكره قدس‌سره لا بد من تعريف الاجتهاد بالملكة والقدرة على الاستنباط. وان لم يتم ، وقلنا : أن من يحرم عليه التقليد انما هو العالم بالاحكام ، وليس القادر على الاستنباط عالما ، فلا بد من تعريفه بالاستنباط الفعلي.

وأما جواز الإفتاء وتقليد الغير إياه ، فهو مترتب على الفقيه وأهل الذّكر ، كما في التوقيع ، وقوله تعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)(١) وآية الذّكر (٢). ومن الظاهر ان الفقيه لا يعم من هو قادر على الاستنباط ولم يستنبط ، بل لا بد في صدقه من أن يكون مستنبطا لمعظم الأحكام التي تكون موردا لابتلاء الناس. ولا يبعد تعريفه بما عرف به الفقه من أنه العلم بالاحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، فالمجتهد هو العارف بالاحكام ، وكذلك فالاجتهاد الموضوع لجواز الإفتاء لا يمكن تعريفه بالملكة ، بل لا بد من تعريفه باستنباط الحجة ، وتحصيله فعلا أو بالفقيه. ويمكن ان يرفع بهذا النزاع بين الاخباري والأصولي.

وأما القضاء وشئونه ، فهو مترتب في الشريعة والأخبار على العارف بالاحكام ، لقوله عليه‌السلام «انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا» (٣) ومن الظاهر ان العارف بأحكامهم لا يصدق على من تمكن من الاستنباط ، بل لا بد وان يكون مستنبطا لمعظم الأحكام ليصدق عليه العارف بالأحكام.

وفي بعض أخبار القضاء وان ورد «عرف شيئا من أحكامنا» إلّا أنه لا يمكن أن يستفاد منه كفاية استنباط حكم أو حكمين في القضاء ، وذلك لأن هذا التعبير

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) النمل : ٤٣.

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

٤٢٢

كناية عن المقدار الكثير ، مثلا في العرف يقال زيد عنده شيء من المال أي كثير منه ، وانما يؤتى بكلمة (من) للتبعيض كناية عن ان ما عنده قليل من المال الموجود في العالم وان كان كثيرا في نفسه ، وهذا هو النكتة في التعبير بلفظ (من) في المقام ، حيث ان المعظم مما يعرفه الفقيه قليل بالقياس إلى أحكامهم عليهم‌السلام التي هي غير متناهية بحسب عقولنا.

فتحصل : ان الاجتهاد الموضوع لحرمة تقليد الغير يعرف بملكة الاستنباط. وأما الاجتهاد في جواز الإفتاء أو جواز القضاء فلا بد وأن يعرف بالاستنباط الفعلي أو الفقيه أو العارف بالاحكام ، ولا يمكن تعريفه بالملكة.

الجهة الثانية : ان المجتهد انما هو المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها ، لا من غيرها من الأقيسة العقلية ، التي لم يقم على اعتبارها دليل ، أو من الرمل والجفر ونحوه ، وان أوجب له العلم بالحكم الشرعي. فإذا فرضنا ان أحدا حصل له العلم بالحكم الشرعي من طريق الجفر مثلا ، فعلمه وان كان حجة عليه ، ولا بد أن يعمل به ، إلّا أن الغير ليس له الرجوع إليه في ذلك ، لعدم صدق عنوان العارف بالأحكام والفقه عليه ، المأخوذ في جواز التقليد ، كما ليس لمثله التصدي للقضاء.

ومن هنا ظهر أن القائل بالظن الانسدادي لا يجوز تقليده فيما ظن به من الأحكام. أما على الحكومة فظاهر ، لأنه حينئذ يعمل بظنه من باب التبعيض في الاحتياط ، وليس ظنه كاشفا له عن الواقع ولا حجة عليه. وأما على الكشف ، فالظن وان كان حجة بالقياس إليه ، وكاشف عن الواقع تعبدا ، إلّا ان مقدماته غير جارية في حق العامي ، فان من جملتها بطلان التقليد ، ومن الظاهر ان العامي له ان يقلد من هو عارف بالاحكام ويرى انفتاح باب العلم ، فلا تتم مقدمات الكشف بالقياس إلى المقلد ليكون ظن المجتهد حجة عليه.

٤٢٣

نعم ظنه حجة على نفسه ، وله أن يعمل به إلّا ان الغير لا يجوز له الرجوع إليه.

الجهة الثالثة : الكلام في التجزي. وهو يقع في مقامين :

أحدهما : في بيان الموضوع.

ثانيهما : في حكم المتجزي.

أما المقام الأول : فذهب فيه بعض إلى استحالة التجزي في الاجتهاد ، لأنه أمر بسيط ، سواء كان بمعنى القدرة أو الاستنباط الفعلي ، فلا معنى فيه للتبعيض والتجزي. وأوجبه الآخوند في الكفاية (١) ، إذ عدمه يستلزم الطفرة ، وهو محال.

والصحيح : عدم تمامية شيء من الأمرين.

أمّا الاستحالة ، فلأنّ المراد من التجزي والتبعيض في الاجتهاد ليس هو البعض من المركب ، والجزء من الكل ، ليستلزم التركيب وينافي بساطة الاجتهاد ، بل المراد بالبعض هو البعض بمعنى جزئي الكلي ، فانه يستعمل البعض في الفرد ، فيقال : الإنسان بعض الحيوان ، وزيد بعض الإنسان. والاجتهاد على القولين له افراد ولو كان بسيطا ، فاستنباط كل فرع ، أو القوة على استنباطه ، فرد من افراد الملكة أو الاستنباط ، فالتجزي في الاجتهاد عبارة عن حصول بعض تلك الافراد دون بعض. ويمكن ان يكون الإنسان متمكنا من استنباط المسائل غير المبنية على المباحث الغامضة العقلية ، كبحث اجتماع الأمر والنهي مثلا ، ومتمكنا من غيرها ، أو متمكنا من استنباط المسائل التي ليس لمدركها معارض ، بخلاف غيرها ، فيكون متجزيا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٢٨.

٤٢٤

وأما دعوى وجوب التجزي ، فان أراد به الوجوب العادي فتامة ، لأنه بحسب العادة تحصل الملكة والاستنباط الفعلي للإنسان تدريجا. وان أراد به الوجوب العقلي ، فقد ظهر فسادها مما بيناه من ان استنباط كل فرع أو القوة عليه فرد من افراد الاجتهاد ، وليس بينها ترتيب ، كما في اجزاء الصلاة ، ليلزم من حصولها دفعة واحدة الطفرة المحال ، فيمكن عقلا حصولها بأجمعها لشخص دفعة واحدة ولو بالإعجاز على خلاف العادة.

فالصحيح : إمكان التجزي عقلا ، ووجوبه عادة.

وأما المقام الثاني : فتارة : يقع الكلام في حكم المتجزي نفسه. وأخرى : في حكم الغير معه.

أما حكم نفسه فلا يجوز له الرجوع إلى الغير فيما استنبطه من الحكم ، خصوصا إذا كان مخالفا له في الفتوى ، لأنه عالم يرى خطأ غيره ، فكيف يرجع إليه ، وأدلة التقليد لا تشمله قطعا ، ولا يعمه قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وقوله عليه‌السلام «فللعوام أن يقلدوه» (٢).

وأما رجوع الغير إليه في التقليد فالظاهر عدم جوازه ، حتى لو بنينا على ان مدرك التقليد بناء العقلاء ، وذلك لأن بنائهم انما يكون حجة فيما إذا كان ممضى شرعا ، ودليل الإمضاء لا يعمه ، لأن العنوان المأخوذ فيه هو عنوان الفقيه وأهل الذّكر ونحو ذلك ، مما لا يعم المتجزي إلّا إذا كان مجتهدا في معظم الأحكام ، وان لم يكن مجتهدا في خصوص بعض المسائل المبتنية على المسائل العقلية الغامضة.

وبما ذكرناه ظهر الحال في حكمه وقضائه ، فان المأخوذ في أدلته عنوان العارف والعالم كما تقدم ، وهو لا يصدق إلّا إذا كان مجتهدا في معظم الأحكام.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

٤٢٥

مبادئ الاجتهاد :

لا إشكال في توقف الاجتهاد على اللغة والصرف والنحو والأصول.

أما توقفه على اللغة ، فلأنّ مستند عمدة الأحكام هو الكتاب والسنة ، وهما عربيان ، فلا بد من معرفة مواد الكلمات العربية. اما بالرجوع إلى اللغويين بحيث يحصل الوثوق له من اتفاقهم. واما ان يكون عارفا باللغة من غير ذلك.

كما انه متوقف على علم الصرف ، لأنه متكفل لبيان معاني هيئات الألفاظ المفردة ، التي يختلف بها المعنى ، كهيئة الماضي والمضارع ، والفاعل والمفعول ، فلا مناص من معرفة هذا المقدار من الصرف لا أكثر.

كما انه متوقف على العلم بالنحو أيضا ، لأنه متكفل لبيان معاني الهيئات المركبة ، ويختلف بها المعنى. نعم لا يلزم فيه أكثر من ذلك ، كالفرق بين الحال والتمييز.

وأما توقفه على علم الرّجال ، فعلى المعروف من ان عمل المشهور بالخبر الضعيف يكون جابرا لضعف سنده ، كما ان إعراض المشهور عن الخبر الصحيح يسقطه عن الحجية ، فيقل احتياج المجتهد إلى علم الرّجال ، لأنّه بالرجوع إلى الفقه يظهر له الخبر المعمول به ، والخبر المعرض عنه ، ولذا ذكر المحقق الهمداني أنه ليس من دأبه المراجعة إلى علم الرّجال. نعم عليه لا بد من الرجوع إلى الرّجال في الفروع التي ليست مذكورة في الفقه.

وأما على المختار من اعتبار الوثوق بالراوي ، وعدم كفاية وثاقة الرواية ، وان عمل المشهور بالخبر الضعيف لا يجبر ضعفه ، كما ان إعراض المشهور عن الخبر الصحيح لا يسقطه عن الحجية ، فيكثر الحاجة إلى علم الرّجال ، إذ لا مناص من تحصيل وثاقة الراوي بطريقهم.

٤٢٦

وأما توقفه على علم الأصول ، فهو أظهر من أن يخفى ، من غير فرق بين مباحث الألفاظ والأصول العملية ، فلا بد للمجتهد من ان يكون عارفا بمبحث الأوامر والنواهي ، وبحث العام والخاصّ ، وان إجمال المخصص سرى إلى العام أو لا ، إلى غير ذلك. كما لا بد له من معرفة حجية الخبر ، وأن المرجع في الشبهات هو البراءة أو الاحتياط ، وان الاستصحاب حجة أو لا ، ومبحث التعادل والتراجيح.

ثم ان المجتهد قد يكون مصيبا للحكم الواقعي. وقد يكون مخطئا.

نعم هو مصيب دائما في الحكم الظاهر أعني الحجة ، كما انّه عالم به ، ومن هنا أخذوا العلم في تعريف الفقه. وأما الحكم الواقعي فهو كالأحكام العقلية ، كإمكان اجتماع الأمر والنهي ، وأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو لا ، وغير ذلك من الأحكام العقلية ، سواء كانت من مبادئ الفقه أم لم يكن ، فانها أمور واقعية ربما يصيبها المجتهد ، وربما يخطئها. كما ان في مورد اختلاف رأي المجتهدين لا يمكن ان يكونا معا مصيبين ، فالقول بالتصويب في الأحكام الواقعية فاسد ، وقد نسب ذلك إلى بعض العامة ، ويدفعه إطلاقات أدلة الأحكام ، فانها تعم العالم والجاهل ، لشبهة حكمية أو موضوعية ، والاخبار الواردة في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وان لم تكن متواترة والإجماع على ذلك.

وأما ما ذكره ابن قبة من ان اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل يستلزم تفويت المصلحة ، أو الإلقاء في المفسدة ، فيما إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع ، كما يستلزم ذلك اجتماع الضدين ، والمصلحة والمفسدة ، وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، فقد أجبنا عن ذلك كله في محله ، وبينا ان ذلك لا يستلزم شيئا من المحاذير المذكورة ، ولا نعيد.

هذا كله في الاجتهاد.

٤٢٧

الكلام في التقليد

وقد عرف بوجوه :

منها : انّه الالتزام بقول الغير في مقام العمل.

ومنها : انّه تعلم فتوى الغير للعمل بها.

ومنها : كما في العروة انه أخذ الرسالة ملتزما بأن ما فيه هو حكم الله في حقه ، وان لم يعمل بشيء منه ، بل ولو لم يتعلمه.

والظاهر انه ليس في التقليد اصطلاح خاص ، بل هو مستعمل في معناه اللغوي ، وهو : جعل القلادة في الجيد. ومن هذا الباب ما ذكروه في الهدى من اعتبار الإشعار والتقليد فيه ، أي جعل علامة في رقبته. وقد يستعمل في غير الأمور الخارجية ، فيقال : قلدتك الدعاء والزيارة ، أي جعلت ذلك في عهدتك ، وهو المراد به في المقام.

وعليه فالتقليد عبارة عن الاستناد إلى قول الغير في العمل ، أو العمل المستند إلى فتوى الغير. ولا فرق بين التعبيرين ، فان المقلد باستناده إلى فتوى المجتهد يجعل وزر ذلك العمل ان كان مخالفا للواقع على ذمة المقلد ورقبته. ويشهد لهذا ما ورد في بعض الاخبار من انه من أفتى بغير علم كان عليه وزر من عمل بفتياه ، وما ورد في قضية ربيعة اليوم حيث أتاه أحد ، فسأله عن مسألة ، فأجاب ، فقال له : أعلى رقبتك؟ فسكت ، وأعاد ذلك إلى ثلاث ، فقال الصادق عليه‌السلام وكان حاضرا على رقبته قال نعم أو لم يقل يعني ان الإفتاء بنفسه يقتضي ذلك.

٤٢٨

فالتقليد عبارة عن العمل بقول الغير عن استناد إليه ، ولا يتم الاحتمالات السابقة ، لعدم الدليل عليها ، إلّا أنه لا يترتب ثمر عملي على تحقق معنى التقليد ، لعدم وروده في دليل لفظي حتى في جواز العدول عن الحي إلى غيره ، والبقاء على تقليد الميت وعدمه ، فان الحكم في الفرعين تابع لدليل ذلك ، لا لتحقيق معنى التقليد.

ومن الغريب ما ذكره بعض من اعتبار العمل في البقاء على تقليد الميت ، فان التقليد على ما ذكرناه هو العمل ، ولا معنى لاعتباره فيه. وبناء على القول بأنه هو الالتزام أو الأخذ أيضا لا يفرق في جواز البقاء بين العمل وعدمه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكره في الكفاية (١) من ان التقليد ان كان بمعنى العمل لزم ان لا يكون العمل الأول الصادر من المقلد عن تقليد ، إلّا أنه لم يدل دليل على اعتبار كون العمل عن تقليد ، وانما اللازم ان يكون العمل عن حجة ، وهو متحقق في الفرض ، وان لم يصدق كونه عن تقليد اصطلاحا ، وهذه التعبيرات نحن سطرناها وليس لها عين ولا أثر.

مسائل مرتبطة ببحث التقليد :

مسألة : في جواز التقليد. ويدل عليه :

أولا : سيرة العقلاء ، فانها قائمة على رجوع الجاهل إلى العالم ، ولم يثبت عنها ردع شرعا ، فتكون ممضاة. ويدل على إمضائها قيام سيرة المتشرعة على الرجوع إلى العلماء في أحد الأحكام الشرعية عنهم في زمان الأئمة عليهم‌السلام ، فان كل أحد لم يكن متمكنا من فهم كلمات الأئمة ، ولا أقل من جهة جهله بلغة العرب ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٣٥.

٤٢٩

فكان جملة من الشيعة في ذاك العصر يأخذون الفتاوى والأحكام من الفقهاء ، وكان ذلك بمرأى من الأئمة عليهم‌السلام ومنظر ، ولم يردعوا عنه ، فيعلم من ذلك انه كان موردا لقبولهم عليهم‌السلام فلا نحتاج في جواز التقليد إلى التمسك بالآيات والروايات ، مضافا إلى انّها أيضا دالة عليه.

وثانيا : الأخبار ، مثل ما ورد من إرجاع الناس إلى بعض الثقات في أخذ معالم الدين منهم (١) ، فانه يعم نفس الرواية والإفتاء. وقوله عليه‌السلام لبعض أصحابه اجلس في الناس وأفت فيهم إلى غير ذلك. وقوله عليه‌السلام في التوقيع «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه» إلى قوله عليه‌السلام «فللعوام أن يقلدوه» (٢).

وثالثا : الآيات ، كقوله سبحانه وتعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣) فان أهل الذّكر في الآية وان فسر بعلماء أهل الكتاب تارة ، وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرى ، وبالأئمة عليهم‌السلام ثالثة ، إلّا انه لا يوجب اختصاصه بذلك. وقد ورد في عدة من الروايات ان الآية إذا كانت واردة في مورد خاص أو في طائفة خاصة لا تختص بهم ، وإلّا لماتت بموتهم ، بل تجري مجرى الشمس والقمر ، وقد ذكرت هذه الأخبار في مقدمة تفسير البرهان.

وعليه فلا يوجب تفسير أهل الذّكر الاختصاص ، بل يكون المراد به في معرفة أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علماء أهل الكتاب ، وفي معرفة الأحكام النبي والأئمة عليهم‌السلام فانهم من أظهر أفراده ، وفي المرتبة الثانية الفقهاء المجتهدين. وقوله سبحانه وتعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٤)

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧ وح ٣٣.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

(٣) النحل : ٤٣.

(٤) التوبة : ١٢٢.

٤٣٠

فانه يدل على لزوم قبول قول المتفقهين المنذرين ، وإلّا لم يكن للأمر بالتفقه والإنذار مجال أصلا. والإنذار يعم ما إذا كان بنقل الفتوى وما استفاده من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وإطلاق (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يعم ما إذا حصل الاطمئنان وما لم يحصل.

وبالجملة فجواز التقليد مما لا إشكال فيه ، أولا : لقيام سيرة العقلاء على رجوع العالم إلى الجاهل ، الممضاة شرعا قطعا للسيرة المتشرعة. وثانيا : للروايات. وثالثا : للآيات.

وربما يتوهم ورود المنع من التقليد لقوله تعالى ذما للكفار (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(١) فذمهم على تقليدهم آبائهم.

وفيه : أولا : انه مورد الآية هو رجوع الجاهل إلى الجاهل ، وهو خارج عن محل الكلام.

وثانيا : موردها أصول الدين ، ولا يجوز فيها التقليد ، لتمكن كل مكلف فيها من الاستنباط ، بداهة ان المخلوق لا بد له من خالق ، والمخلوق بلا خالق كالزرع بلا زارع. وهذا بخلاف الاجتهاد في الفروع ، فانه أمر صعب لا يتمكن منه إلّا الأوحدي من الناس ، فلا ربط للآية بما نحن فيه.

ثم جواز التقليد هو الجواز بالمعنى الأخص أعني الوجوب فهو من الأمور التي إذا جاز وجب ، وذلك لأن كل مكلف يعلم إجمالا بتوجه تكاليف إليه ولا بد له من الخروج عن عهدتها وبما ان الاجتهاد غير ميسور لكل أحد والاحتياط أيضا كذلك فيتعين التقليد.

وبعبارة أخرى : المكلف ابتداء مخير بين الاجتهاد والاحتياط والتقليد ، إلّا ان الاجتهاد لا يتمكن منه جميع الناس.

__________________

(١) الزخرف : ٢٣.

٤٣١

وأمّا الاحتياط أولا : لا بد في الرجوع إليه مع التمكن من التقليد من الاجتهاد أو التقليد ، فانه مسألة خلافية.

وثانيا : لا بد من معرفة موارده وكيفيته باجتهاد أو تقليد.

وثالثا : قد لا يمكن الاحتياط رأسا ، كما إذا كان عنده ماء واحد ، ولاقى مع المتنجس ، فانه بناء على تنجس المتنجس وظيفته التيمم ، وعلى القول بعدمه يبقى عليه الوضوء ، فلا بدّ حينئذ من الاجتهاد في تلك المسألة أو التقليد ، فإذا التقليد واجب ، اما تعيينا واما تخييرا.

مسألة : هل يجوز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم. الكلام فيها يقع في مقامين :

الأول : في وظيفة المقلد.

والثاني : في حكم المسألة.

أمّا المقام الأول : فالمقلد ليس له الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم ، فانه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، وقد عرفت سابقا ان مقتضى القاعدة فيه هو التعيين ، لأنه لا يحتمل أن يكون فتوى غير الأعلم حجة عليه تعيينا ، بل يعلم بأن فتوى الأعلم حجة عليه قطعا ، وهذا حتى إذا فرضنا ان غير الأعلم أفتى بجواز تقليد غير الأعلم ، فان حجية فتواه أول الكلام. نعم إذا أفتى الأعلم بذلك جاز للمقلد الرجوع إلى غير الأعلم بفتوى الأعلم.

وقد ناقش السيد قدس‌سره في العروة حتى في هذا الفرض ، ولم نعرف الوجه في مناقشته ، إلّا إذا فرض ان المقلد هو من أهل الخبرة ، وقد استقل عقله بعدم حجية فتوى المفضول عند معارضته مع فتوى الأعلم ، فالرجوع إليه حينئذ ليس من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم ، بل لا يمكنه الرجوع حينئذ إلى فتوى الأعلم بجواز تقليد المفضول ، لاستقلال عقله بخلافه.

٤٣٢

وأما المقام الثاني : وهو جواز تقليد المفضول وعدمه. فلا بد وان نفرض الكلام فيه فيما إذا كان فتوى المفضول مخالفا للاحتياط ، كما إذا أفتى الأعلم بوجوب السورة ، وغيره بعدمه ، وإلّا فيجوز الرجوع إليه ، لأنه احتياط. فتارة : يعلم بمخالفة فتوى غير الأعلم مع الأعلم ، ومخالفته للاحتياط أيضا ، امّا تفصيلا وامّا إجمالا. وأخرى : لا يعلم ذلك.

أما إذا علم بذلك ، فلا يجوز الرجوع إلى غير الأعلم ، وذلك لأن دليل حجية فتوى المجتهد لا يعم صورة المعارضة ، لأن شموله لهما معا يستلزم التعبد بحجية متناقضين ، وهو غير ممكن ، والترجيح بلا مرجح ، كما هو الحال في موارد تعارض الأمارتين مطلقا ، فلا بد في حجية أحدهما من التماس دليل آخر ، وفيما نحن فيه سيرة العقلاء قائمة على الرجوع إلى الأعلم ، والأخذ بفتواه ، دون فتوى المفضول ، كما نشاهد ذلك في اختلاف طبيبين ومهندسين وغير ذلك ، ولم يردع عنها فيستكشف بها حجية فتوى الأعلم.

على ان ما ادعاه الشيخ قدس‌سره من دعوى الإجماع على عدم جواز طرح كليهما يوجب دخوله في ما تقدم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإنّا لا نحتمل حجية فتوى المفضول معينا ، بل فتوى الأعلم مقطوع الحجية ، وفتوى غيره مشكوك الحجية ، والأصل عدم حجيته.

وأما إذا لم يعلم المخالفة ، أو لم يعلم كون فتوى المفضول مخالفا للاحتياط ، فالمعروف فيه أيضا الرجوع إلى الأعلم. وقد استدل عليه بوجوه :

الأول : انه مقتضى الأصل كما تقدم. وهو تام فيما إذا لم يثبت دليل على التخيير.

الثاني : مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث جعل فيها من المرجحات الأفقهية.

٤٣٣

وفيه : مضافا إلى ضعف السند ، لأن عمر بن حنظلة لم يوثق في كتب الرّجال ، انه مختص بتعارض الخبرين ، وأجنبي عن معارضة فتوى المجتهدين. وشهد لذلك أمران :

أحدهما : انه جعل فيها من المرجحات الأصدقية والأورعية ، وبالقطع واليقين ليست الأورعية ولا الأصدقية معينا للفتوى.

ثانيهما : ان الرواية هكذا «خذ بأصدقهما وأفقههما» فعين الأخذ بقول الأفقه من الراويين ، ولو كان في الفتوى لكان اللازم الأخذ بفتوى اعلم الناس ، لا أعلم الشخصين ، وانحصار الأعلم فيهما بعيد ، هذا مضافا إلى ان ظاهر الأفقهية في المقبولة هو كثرة الاطلاع على الأحكام الشرعية ، وهي ليست موجبة للتعيين في مقام التقليد ، لأن الأفقهية الموجبة لتعيين المقلد انما هي الدقة في النّظر والاستنباط ، لا كثرة التتبع والاطلاع.

ومن هذا ظهر الجواب عن التمسك بما ورد من أمر علي عليه‌السلام مالكا بتعيين أعلم أصحابه للقضاء في المصر ، فانه أيضا في القضاء دون الفتوى ، وإلّا لزم تعيين أعلم من في الأرض ، لا أعلم أصحابه. ونظيره في الجواب عنه ما ورد في ذم من يقضي في الناس وفي المصر من هو أعلم منه ، فانه أيضا مختص بالقضاء ، اما وجوبا ، واما استحبابا ، وإلّا لم تختص بأهل المصر.

الثالث : انّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع.

وفيه : منع الصغرى والكبرى. أما الصغرى ، فلأنّه قد يكون فتوى المفضول أقرب إلى الواقع ، لموافقته مع فتوى المشهور ، أو مع فتوى من كان أعلم من الأعلم الفعلي. وأما الكبرى فلأن الأقربية إلى الواقع لا دليل على مرجحيته.

فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأول لو لم يثبت دليل على التخيير.

٤٣٤

والظاهر ثبوته ، وهي سيرة العقلاء ، فإنّا نراهم لا يتوقفون عن الرجوع إلى الطبيب المفضول مثلا عند احتمال مخالفة فهمه مع الطبيب الأفضل ، ولا ينسد أبواب المفضولين ، بل يرجع إليهم ولو كان احتمال المخالفة موجودا ، ولم يردع عن هذه السيرة شرعا ، فتكون ممضاة.

وتوهم : كون الشبهة في المقام مصداقية ، إذ يحتمل كون فتوى المفضول معارضة مع فتوى الأعلم ، فلا يعم دليل الحجية شيئا منهما.

مدفوع : بأن استصحاب عدم وجود المعارض نعتيا أو أزليا ينفي ذلك ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

ثم إذا علم بأن أحد المجتهدين أعلم من الآخر ، وعلم بمخالفتهما في الفتوى تفصيلا أو إجمالا ، ولم يكن الأعلم منهما متميزا خارجا ، فهو من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة. فان أمكن تمييز الأعلم بالفحص وجب ، وإلّا فان أمكن الاحتياط تعين ، وإلّا فيثبت التخيير ، لأنه لا يمكنه معرفة الواقع إلّا بأحد طريقين فيتخير.

وربما يقال : في الفرض بأنه يعمل بالظن ، إلّا أنه لا دليل على اعتباره ، إلّا أن الأخذ بالمظنون أولى عقلا.

ثم إذا علم بمخالفة مجتهدين في الفتوى ، ولم يعلم أعلمية أحدهما ، لا تفصيلا ولا إجمالا ، ولكن احتمل ذلك ، فالمعروف أن أحدهما المعين ان كان مظنون الأعلمية تعين الأخذ بقوله ، وإلّا فان كان أحدهما المعين محتمل الأعلمية دون الآخر تعين للأصل ، وإلّا فان احتمل تساويهما ، واحتمل أعلمية كل منهما ، فالتخيير.

والظاهر عدم تمامية ذلك ، لأن الظن بأعلمية أحدهما المعين لا يوجب التعيين مع احتمال كون الآخر أعلم.

٤٣٥

فالصحيح أن يقال : انّه لو احتمل أعلمية أحدهما بالخصوص ، ولم يحتمل أعلمية الآخر ، تعين الأخذ بقوله ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، فان فتوى محتمل الأعلمية حجة عليه قطعا دون الآخر. وإلّا فان أمكن الاحتياط فهو ، وإلّا فالتخيير ، حتى فيما إذا كان أحدهما مظنون الأعلمية والآخر محتمل الأعلمية ، لأن الظن لا يوجب الترجيح.

نعم إذا كان أحدهما مظنون الأعلمية ولم يكن الآخر محتمل الأعلمية تعين الأخذ بقول مظنون الأعلمية.

مسألة : في بيان معنى الأعلم. الظاهر انه ليس المراد به من هو أكثر حفظا للأخبار ، أو اطلاعا بأحوال الرّواة ، بل المراد به الأكثر تحقيقا بمباني الفقه من الأصول اللفظية ، كبحث الظهورات من الأوامر والنواهي ، والعام والخاصّ ، ومن الأصول العملية من البراءة والاحتياط والاستصحاب ، وموارد جريان كل منهما ، وبحث التعادل والتراجيح ، وأكثر خبرة بتطبيقها على مواردها كما في الأعلم في علم الطب ، فانه عبارة عن الأعرف بقواعد الطب ، وخصوصيات موارد التطبيق ، وتشخيص الأمراض ، فيعتبر في الأعلم كلا الأمرين ، ولا ملازمة بينهما ، إذ ربما يكون شخص أعرف بالمباني والقواعد ، وهو مجتهد حقيقة ، لكنه ليس كما تريد في تطبيقها على مواردها. وربما ينعكس الأمر ، كما قد يتفق ان أحدا يكون كثير المعرفة بالنحو لكنه لا يقدر على قراءة صفحة واحدة من الكلام العربي بدون غلط وقد ينعكس الأمر ، فتأمل. وقد عاصرنا شخصا من العلماء ينكر الأعلمية ، بدعوى ان المجتهد ان تمت الحجة لديه فهو مجتهد ، وإلّا فليس بمجتهد.

مسألة : هل يعتبر الحياة في التقليد ، فلا يجوز تقليد الميت. الأقوال فيه ثلاثة : القول بجواز تقليد الميت ابتداء واستمرارا ، وقد ذهب إليه أكثر المحدثين ، وتبعهم في ذلك المحقق القمي في جامع الشتات. والقول بالمنع عنه مطلق ،

٤٣٦

والتفصيل بين التقليد ابتداء فلا يجوز ، واستمرارا فيجوز.

وليعلم ان الكلام تارة : يقع فيما إذا علم مخالفة فتوى الميت مع الحي الّذي يجب تقليده. وأخرى : في فرض عدم العلم بالمخالفة.

أمّا المقام الثاني : فقد يستدل فيه على الجواز بالاستصحاب ، فان فتواه قبل موته كانت حجة ، ويشك في حجيته بعد موته ، فيستصحب.

وقد أورد عليه بوجهين ، فان الاستصحاب كما بين في محله متقوم بأمرين ، اليقين بالحدوث والشك بالبقاء ، فأشكل على هذا الاستصحاب من كلتا الجهتين.

أما من جهة اليقين بالحدوث ، فلأن المجتهد السابق لم يكن فتواه حجة على من كان معلوما في ذاك العصر ، وانما كان فتواه حجة على من كان في عصره من العوام.

وفيه : أولا : ان حجية فتوى المجتهد غير مقيدة بخصوص المعاصرين له ، بل هو حجة على جميع المكلفين ، غايته ان المعدوم لم يكن قابلا لذلك ، والشك في حجيته بعد موته ليس لاحتمال اختصاص الحجية بالمعاصرين ، وانما هو لاحتمال اعتبار الحياة في المجتهد. وهذا نظير ما ذكرناه في استصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة ، حيث قلنا : ان أحكام تلك الشريعة لم تكن مختصة بأهل ذاك الزمان ، وانما يشك في بقائها لاحتمال نسخها بالشريعة اللاحقة ، ومن هنا لو فرضنا بقاء ذاك المفتي إلى زمان وجود هذا المكلف أو وجوده قبل موته لكان فتواه حجة عليه قطعا ، فحجية فتوى المجتهد السابق على نحو الإطلاق كانت متيقنة ، سواء قلنا بأن الحجية عبارة عن جعل الحكم المماثل ، كما ذهب إليه جمع من القدماء ، أو منتزعة من الحكم التكليفي ، أو بمعنى جعل الطريقية ، أو التنجيز والتعذير على جميع المباني.

٤٣٧

وثانيا : نفرض اختصاصها بالمعاصرين ، إلّا ان الإشكال حينئذ مختص بالتقليد الابتدائي ، ولا يجري في البقاء والاستمرار. بل لا يجري في التقليد الابتدائي على إطلاقه ، لأن المكلف ان كان معاصرا للمجتهد الميت ، ولم يكن مقلدا له ، اما لتقليده عن غيره ، أو نسيان أو عصيان ، أو لكونه عاملا بالاحتياط ، ثم أراد ان يقلده بعد موته ، فان فتواه حينئذ كانت حجة عليه فعلا يقينا.

وأما الإشكال من ناحية الشك في البقاء ، فربما يقال : بتبدل الموضوع في المقام ، فان الميت والحي بنظر العرف الّذي هو الميزان في الاستصحاب موضوعان متغايران ، وان كان الموت حقيقة وبالدقة كمالا للإنسان ، ولذا يرى عامة الناس المعاد من إعادة المعدوم.

ثم أيد هذا الإشكال كما في الكفاية (١) بما إذا عدل المجتهد عن رأيه ، أو زال علمه بجنون أو شيخوخة أو غير ذلك ، فانه لا يجوز تقليده في جميع هذه الصور ، ولا فرق بين الموت وبين هذه الأمور.

وفيه : ان المعتبر في الاستصحاب انما هو اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا ، وهي حجية رأي المجتهد في المقام. توضيحه : ان الأحكام قد تكون تابعة لموضوعاتها حدوثا وبقاء ، كما هو الغالب ، مثل حرمة الخمر ، فانها تدور مدار بقاء الخمرية وارتفاعها. وقد تكون ثابتة بحدوث موضوعها حدوثا وبقاء ، نظير السقوط عن الإمامة بمجرد ان يمد الإنسان على قول ، والفتوى من هذا القبيل ، فان موضوعها حدوث الرّأي ، كما في الاخبار وحجيته ، فهو متيقن الحجية ، ويشك في بقاء تلك الحجية ، فالموضوع باق غير متبدل.

وأما النقض بالعدول فهو غير وارد ، وذلك لأن العدول عن الفتوى كالعدول

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٤٣.

٤٣٨

عن الاخبار بإقرار الراوي بالاشتباه ، فيسقط به الفتوى والنقل السابق عن الحجية حدوثا ، فلا يقاس به الموت ونحوه.

وأما الجنون والنسيان فطروه وان كان موجبا لسقوط فتوى المجتهد عن الحجية مع عدم سقوطه حدوثا ، إلّا أن عدم حجية الفتوى في الموردين لأحد أمرين ، كليهما مفقود في الموت. إما لأجل ان منصب الفتوى من المناصب المهمة ، الّذي لا يليق ان يتلبس به من ليس له أهلية ذلك ، كالمجنون فانه غير لائق لذلك المنصب ، وكذا من طرأ عليه النسيان للشيخوخة ونحوها ، بحيث صار كالصبي ، وهذا بخلاف الموت ، فانه كمال لا يوجب النقص. واما للإجماع على عدم جواز تقليد المجنون ومن عرض عليه النسيان ، وهو أيضا غير متحقق في الموت ، ومن هنا نرى ان طرو شيء من الجنون والنسيان والفسق لا يوجب سقوط النقل السابق عن الحجية. وقد يوجد انّ أحدا يروى الحديث عن نفسه بواسطة ، فالتمسك بالاستصحاب لا مانع منه ، ويثبت به جواز تقليد الميت استمرارا وابتداء.

هذا ولكن الاستصحاب غير جار.

أولا : لما بيناه في بحثه من عدم جريانه في الأحكام الكلية.

وثانيا : انّا ذكرنا في بحث الاستصحاب انه ولو قلنا بجريانه في الأحكام الكلية ، إلّا انه مع ذلك لا يجري عند الشك في أحكام الشريعة السابقة ، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في أصل الجعل بالنسبة إلى من لم يكن من أهل تلك الشريعة ، والأصل عدمه ، والاستصحاب انما يجري فيما إذا كان الموضوع واحدا وشك في بقاء الحكم في نفس ذلك الموضوع وارتفاعه بمزيل ، كما إذا شك في زوال النجاسة عن الماء المتغير بعد زوال تغيره وعدمه ، فيستصحب بقاؤها. وأما الموضوع الحادث فالشك فيه يكون في أصل الجعل ، والأصل عدمه.

ثم انّه قد يستدل على تقليد الميت بقيام السيرة عليه ، فان العقلاء يرجعون

٤٣٩

إلى فتاوى الميت ، كما يرجعون إلى الحي ، مثلا إذا عرفوا مرض المريض ففي تشخيص دوائه يرجعون إلى كتاب ابن سينا.

إلّا انّها مردوعة أولا بالإجماع المدعى على عدم جواز تقليد الميت.

وثانيا : بظاهر الاخبار والآيات الواردة في التقليد ، حيث أخذ فيها الرجوع إلى العارف وأهل الذّكر والمنذر والفقيه ونحوها ، وكلها منصرفة عن الميت.

فمن جميع ذلك يحصل القطع للإنسان بعدم جواز الرجوع إلى الميت ، بل يلزم من جواز الرجوع إلى الميت ابتداء وجوب اجتماع جميع الناس على تقليد رجل واحد ، وذلك لما بيناه في فرض العلم بالمعارضة بين فتواءين من ان أدلة الحجية لا تشمل شيئا منهما ، إلّا ان سيرة العقلاء قائمة على الرجوع حينئذ إلى الأعلم ، فضم هذه المقدمة إلى جواز تقليد الميت ابتداء كالحي ينتج أنه لا بد من تقليد جميع الناس إلى الأعلم في الأحياء والأموات ، للعلم الإجمالي بمخالفة العلماء في جملة من الفتاوى ، فلا بد من الفحص عن الأعلم منهم ، كالشهيد أو المحقق أو غيرهما من المجتهدين ، ورجوع الجميع إليه نظير العامة حيث حصروا المجتهدين في اشخاص معدودين ، وهذا بديهي البطلان.

وكل هذه الوجوه انما يكون في تقليد الميت ابتداء.

وأما البقاء على تقليد الميت ، فلا يرد عليه بشيء من الوجوه.

أما الإجماع فغير متحقق في المنع عنه ، لوجود القول بجواز البقاء على تقليد الميت من جماعة من الاعلام.

وأما الأدلة فكذلك ، لأن قوله سبحانه وتعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ظاهره كون المسئول عنه حين السؤال كذلك ، فإذا فرضنا ان المعنى حين السؤال كان من أهل الذّكر ، وسألنا عنه ثم مات ، وأردنا الاستمرار على ما سألناه منه ، فالآية أجنبية عنه. وكذا قوله سبحانه وتعالى (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فان ظاهر تحقق عنوان

٤٤٠