دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بقي الكلام في بعض الأحكام الوضعيّة التي وقع النزاع في مجعوليتها مستقلا.

منها : الطهارة والنجاسة. فان شيخنا الأنصاري قدس‌سره ذهب إلى أنهما أمران تكوينيان كشف عنهما الشارع ، فالطهارة هي النظافة الخارجية ، والنجاسة هي القذارة التكوينية ، وليس هناك حكم مجعول شرعا.

وفيه : أولا : انه مخالف لظواهر الأدلة ، لأن ظاهر كلام الشارع وروده في مقام التشريع والجعل ، لا أنه يتكلم بما أنه عالم بالغيب ، فيكشف عن أمر خارجي كطبيب يبين خواص الأدوية ونحوها.

وثانيا : أنهما لو كانتا من الأمور الواقعية لكانتا من المقولات ، ولا يمكن الالتزام بوجود قذارة مقولية في جملة من موارد حكم الشارع بالنجاسة ، وان أمكن ذلك في بعضها كالبول والغائط. وأما ولد الكافر التابع له مع بعده عنه وغسل جسده بصابون وماء طاهر فالالتزام بوجود قذارة خارجية فيه بحيث تزول بمجرد تكلم وليه بالشهادتين بعيد جدا.

فلا مناص من القول بأنهما حكمان مجعولان ، غاية الأمر لم يكن جعلهما جزافا ، وإنما هو تابع لملاك ثابت في المتعلق على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لمصالح في متعلقاتها ، وهو غير مختص بهما ، بل ثابت في جميع الأحكام من الوضعيّة والتكليفية من غير ان يوجب كونها أمورا واقعية كشف عنها الشارع.

ولا يبعد أن يكون ملاك حكم الشارع بنجاسة الكافر اجتناب المسلمين عن الكفار ، وتقليلا لمخالطتهم حفظا لهم من التخلق بأخلاقهم وعاداتهم ، فان نجاستهم قد توجب ذلك ، حيث ان المعاشرة معهم حينئذ تستلزم تنجس البدن واللباس والتطهير يكون صعبا غالبا. وهكذا السر في الحكم بنجاسة الخمر ، فانها توجب التجنب ، فلا يبتلي الإنسان بشربه. ولعل هذا مراد الشهيد بما حكاه الشيخ عنه في الرسائل من ان السر في نجاسة الكافر ونحوه هو الاستقذار أو التوصل بها إلى الفرار.

٨١

وثالثا : لو سلم ذلك في الطهارة والنجاسة الواقعين ، إلّا أنه لا يمكن الالتزام به في الطهارة الظاهرية المستفادة من قوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر» (١).

وكيف يمكن القول بأنها أمر واقعي وقد أخذ فيها الجهل بالطهارة الواقعية ، مع ان لازمه في فرض نجاسة موردها واقعا كون الشيء الواحد قذرا ونظيفا واقعا ، فلا بد وأن تكون الطهارة الظاهرية مجعولة ، والتفصيل بينها وبين الطهارة الواقعية وكذا النجاسة كما ترى.

وتوهم : ان لا يكون في مورد الطهارة الظاهرية جعل ولا كشف عن أمر واقعي ، بل هي عبارة عن تنزيل المشكوك منزلة الأمر الواقعي أعني الطهارة الواقعية ، وكم له من نظير ، كما في قوله عليه‌السلام «الفقاع خمر» (٢) وما يقال «الطواف بالبيت صلاة» (٣).

مدفوع : بأن لازم التنزيل المزبور في ظرف الشك عدم جريان انكشاف الخلاف في الطهارة الظاهرية ، فإذا توضأ أحد أو غسل ثوبه بماء مشكوك الطهارة وصلى معه ثم انكشف نجاسة الماء لم تجب عليه الإعادة ، لوقوع صلاته مع الطهارة بحكم الشارع. نعم لا بد له من الوضوء وتطهير الثوب للصلاة الأخرى ، لتبدل الموضوع. وأما ما أتى به في حال الجهل فكان مطابقا لما هو وظيفته الواقعية ، وذلك لأن انكشاف الخلاف انما هو من مختصات الحكم الظاهري ، ولا يمكن الالتزام بهذا ، فالطهارة والنجاسة حكمان مجعولان كالملكية.

ومنها : الصحة والفساد. فقد اختلفوا في انهما مجعولان أو منتزعان. وظاهر

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ ـ ٢٨٤.

(٢) الكافي : ٦ ـ ٤٢٢.

(٣) عوالي اللئالي : ١ ـ ٢١٤ ، ح ٧٠.

٨٢

الكفاية هو التفصيل فيهما بين العبادات والمعاملات ، فاختار ان الصحة والفساد في العبادات منتزعتان من انطباق المأمور به على المأتي به وعدمه ، والمطابقة وعدمها أمران تكوينيان. وأما في المعاملات فالصحة تكون بمعنى ترتب الأثر ، كما ان الفساد عبارة عن عدمه ، ولا معنى لترتب الأثر على معاملة دون أخرى إلّا حكم الشارع به ، فلا بد وأن يكونا مجعولين.

والصحيح : أنهما منتزعتان عن أمر تكويني ، وهو الانطباق وعدمه مطلقا. أما في العبادات فواضح. وأما في المعاملات فتوضيحه : ان الصحة والفساد ليسا من صفات الطبيعة التي هي متعلق الحكم ، فليس طبيعي البيع مثلا صحيحا ولا فاسدا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، بل إذا وجد البيع في الخارج حقيقة أو بالفرض والتقدير ، كما إذا فرض بيع منشأ بلفظ غير عربي ، اتصف ذاك الموجود الحقيقي أو الفرضي بالصحّة تارة وبالفساد أخرى ، بلحاظ انطباق متعلق الحكم عليه وعدمه.

وبعبارة أخرى : الصحة والفساد لا ينتزعان من مرحلة الجعل ، لا في الأحكام التكليفية ولا في الأحكام الوضعيّة ، فمن مجرد أمر المولى بالصلاة إلى القبلة لا ينتزع صحة الصلاة إلى القبلة ، ومن حكمه بالمبادلة عند بيع البالغ العاقل الرشيد ماله لا ينتزع الصحة ، بل لا بد في ذلك من وجود صلاة أو بيع في الخارج ، أو فرض وجوده كذلك لينتزع عنه الصحة بلحاظ انطباق متعلق التكليف في الحكم التكليفي أو موضوع الحكم في الحكم الوضعي عليه ، أو ينتزع منه الفساد بلحاظ عدم انطباقه عليه. فالصحة والفساد في كلا البابين منتزعان عن انطباق متعلق الحكم أو موضوعه على الفرد الحقيقي أو التقديري وعدمه ، فهما منتزعان من أمر تكويني مطلق ، وليسا مجعولين تشريعا ، فالتفصيل لا وجه له.

نعم يمكن التفصيل بوجه آخر ، أي بين الصحة والفساد الواقعيين

٨٣

والظاهريين ، فانه إذا علم انطباق موضوع الحكم أو متعلق التكليف على الفرد الخارجي فالصحة واقعية ، وإذا شك فيه فللشارع ان يحكم تعبدا بالانطباق وان الفرد المشكوك فيه مصداق لذاك الطبيعي ، كما في موارد قاعدة التجاوز والفراغ في باب العبادات ، وموارد أصالة الصحة في باب المعاملات ، فهذه الصحة ظاهرية ، وهي مجعولة ، وهكذا الفساد الظاهري في موارده.

ومنها : الرخصة والعزيمة ، فقد وقع الكلام في كونهما من الأحكام الوضعيّة المجعولة. والمراد بالعزيمة سقوط الأمر في بعض الموارد رأسا ، بحيث يكون دليله مخصصا في ذاك المورد ، فيعبر عن السقوط بهذه الكيفية بالعزيمة. والمراد بالرخصة سقوط المرتبة العالية من الأمر وتبدله بمرتبة ضعيفة ، مثلا في موارد سقوط الأذان والإقامة ان استفدنا سقوط الأمر بها رأسا ، بأن خصص الدليل في تلك الموارد فالسقوط عزيمة ، وإن قلنا بتبدل الأمر الاستحبابي المؤكد المتعلق بهما إلى مرتبة ضعيفة مع بقاء أصله فالسقوط رخصة.

وبما ذكرناه في معنى الأمرين ظهر عدم كون شيء منهما مجعولا ، وانهما من خصوصيات الحكم التكليفي وكيفية سقوطه.

ثم أنه ذكر بعضهم ان مجعولات الشارع ثلاثة : الأحكام التكليفية ، والأحكام الوضعيّة ، والماهيات المخترعة. وأول من ذهب إلى ذلك هو الشهيد قدس‌سره حيث ذكر ان الماهيات المخترعة ألفاظها أسامي للصحيحة منها إلّا الحج والصوم ، لوجوب المضي فيهما وان فسدا. وتبعه في ذلك ، أي في مجعولية الماهيات المخترعة ، جماعة منهم المحقق النائيني (١).

ولا نتعقل له معنى صحيحا ، فان ما يصدر من الشارع حين الأمر بها أمور ثلاثة ، ليس شيء منها جعلا لها تشريعا :

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٨٢.

٨٤

الأول : تصور تلك المقولات المتباينة بلحاظ واحد ، وهذا التصور وان كان جعلا لها ، إلّا أنه جعل تكويني في وعاء الذهن لا تشريعي كالجعل الخارجي ، غاية الأمر في وعاء الخارج يوجد كل جزء من اجزائها بوجود مستقل ، لأنها مقولات متباينة ، ولكن في الذهن توجد جميعها بوجود واحد ، فالتصور إيجاد تكويني لا تشريعي.

الثاني : تصديق المولى بترتب غرض واحد على مجموع تلك الأجزاء ودخلها في ملاك واحد. والتصديق أيضا كالتصور أمر تكويني ، كما انّ دخل الأجزاء المتباينة في غرض واحد تكويني أجنبي عن الجعل والاختراع.

الثالث : أمره بها ، وهو حكم تكليفي ، لا جعل الماهية واختراعها تشريعا.

فالصحيح انحصار مجعولات الشريعة بالأحكام. كما عرفت عدم الانحصار في الحكم التكليفي ، بل الأحكام الوضعيّة أيضا مجعولة اما استقلالا واما بالتبع.

ثم ان الأحكام التكليفية كما يمكن أن تكون مجعولة تارة : بنحو القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها ثابتا للموضوعات المفروض وجودها وهو الغالب ، وأخرى : بنحو القضية الخارجية الشخصية ، كأمر النبي أو الوصي شخصا بشيء بما أنه شارع وجاعل للحكم ، مثل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنفيذ جيش أسامة ، ولعن من تخلف عنه ، فيجب على المأمور اتباعه ، فان هذا الفرض هو المتيقن من قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(١) وإن كان الصحيح وجوب امتثال أمرهم مطلقا ، كذلك الأحكام الوضعيّة ربما تكون مجعولة على نحو القضايا الحقيقية كقوله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ويمكن ان تكون مجعولة بنحو القضايا الخارجية ، كجعل الولاية والوصاية ونحوها لأشخاص خاصة.

فما ذكره المحقق النائيني من انحصار الحكم الوضعي بما هو مجعول بنحو القضية

__________________

(١) التوبة : ٢٧٥.

٨٥

الحقيقية ، كالملكية المجعولة للوارث أو بالاسترقاق ونحوه ، وعدم كون الآخر حكما وضعيا إن كان مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه ولا نزاع في التسمية ، وإلّا فلا وجه له.

فتحصل : مما بيناه أنه لا وجه للتفصيل في جريان الاستصحاب بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعيّة المجعولة استقلالا ، فكما يجري استصحاب عدم النسخ إذا شك في بقاء الحكم التكليفي في مرحلة الجعل ، يجري عند الشك في ارتفاع الحكم الوضعي بالنسخ. وكذا لو بنينا على جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء الحكم التكليفي المجعول نبني على جريانه إذا شك في بقاء الحكم الوضعي الفعلي. وكذلك الحال في استصحاب الحكم الجزئي في الشبهات الموضوعية ، فانه كما يجري في الأحكام التكليفية يجري في الأحكام الوضعيّة أيضا ، فإذا شك في سقوط وجوب فعل عن ذمة مكلف خاص ، للشك في الإتيان به ، جرى فيه استصحاب عدم الإتيان وبقاء الوجوب ، وهكذا إذا شك في زوال ملكية زيد عن ماله لاحتمال بيع ونحوه جرى فيه استصحاب عدمه وبقاء الملكية ، فلا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي المجعول مستقلا في شيء من المراتب الثلاثة من حيث جريان الاستصحاب وعدمه ، والتفصيل بين الأقسام.

وأما الحكم الوضعي المجعول تبعا كالشرطية فهو أيضا قابل للاستصحاب ، إلّا أن الشك في بقائه ملازم للشك في بقاء منشئه ، وجريان الاستصحاب فيه يغني عن جريانه في الحكم الوضعي ، مثلا إذا شككنا في بقاء شرطية الطهارة للصلاة وارتفاعها بالنسخ ، فهذا الشك ملازم للشك في بقاء الأمر بالصلاة المقيدة بالطهارة ، فيجري استصحاب بقاء الأمر بالصلاة المقيدة بالطهارة ، فيثبت الأمر بالمقيد ظاهرا ، فينتزع منه الشرطية الظاهرية ، كما كان تنتزع الشرطية الواقعية من الأمر الواقعي بالصلاة المقيدة بالطهارة ، ومعه يكون إجراء الاستصحاب في

٨٦

نفس الشرطية لإثبات بقائها ظاهرا لغو واضح ، بل هو تحصيل الحاصل ، ودائما يكون الأمر كذلك ، لمكان الملازمة بين الحكم الوضعي ومنشأ انتزاعه وجودا وعدما.

هذا تمام الكلام في بيان بعض التفصيلات في الاستصحاب مع إسقاط جلها ، لعدم ترتب فائدة مهمة على التعرض لها.

٨٧

«تنبيهات»

التنبيه الأول : هل يعتبر في جريان الاستصحاب ان يكون المتيقن ماضيا والمشكوك فعليا كما هو الغالب ، أو يكفي فيه مجرد تأخر المشكوك عن المتيقن ولو كان المتيقن أمرا فعليا والمشكوك استقباليا؟ لم نر من تعرض لجريان هذا الاستصحاب وعدمه سوى ان المحقق النائيني في بحث المقدمة المفوتة نسب إلى صاحب الجواهر عدم جريانه من دون تعرض لدليله. وقد حكي عنه خلافه في مسألة إدراك الجماعة بإدراك الإمام راكعا ، حيث ذكر ما حاصله : عدم إمكان تصحيح صلاة المأموم باستصحاب بقاء الإمام راكعا ، لأنه مثبت ، ولكن يجوز له الاقتداء مع هذا الاحتمال عملا بالاستصحاب.

وكيف كان مورد جل أخبار الاستصحاب وان كان هو الأول ، كما يظهر من قوله عليه‌السلام في المضمرة «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت» إلّا ان إطلاق العلة المذكورة فيها كقوله عليه‌السلام «فان اليقين لا يدفع بالشك» وقوله «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» وغير ذلك مما استفيد منه عدم جواز رفع اليد عن الأمر المبرم بغير المبرم يعم الصورتين ، فإذا تيقنا بعدالة زيد فعلا ، وشككنا في بقائها إلى سنة مثلا ، جرى استصحاب بقاؤه ، إلّا أنه لا بد في جريانه من ترتب أثر عليه فعلا.

ويترتب عليه الأثر في مسألة جواز البدار لذوي الأعذار في باب الصلاة ، فان مقتضى القاعدة لمن يعلم بزوال عذره لزوم التأخر وعدم جواز البدار ، لأن المأمور به انما هي الطبيعة فيما بين مبدأ الوقت ومنتهاه.

٨٨

كما ان من علم باستمرار عذره واستيفائه الوقت جاز له البدار ، لكونه مكلفا بالصلاة الفاقدة لذاك الجزء أو الشرط المتعذر ، فإذا شك في بقاء العذر وعدمه ليس له البدار ، لعدم إحراز الأمر بالفاقد ، إلّا إذا بنينا على جريان الاستصحاب الاستقبالي ، فانه حينئذ يستصحب بقاء العذر إلى آخر الوقت ، فبالتعبد الشرعي يثبت الأمر الظاهري بالفاقد ، فيجوز الإتيان بها غايته جوازا ظاهريا لا واقعيا ، فإذا أتى به ولم ينكشف الخلاف إلى أن خرج الوقت فهو ، وإلّا فيبنى وجوب الإعادة وعدمها على اجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وعدمه ، فان قلنا بالاجزاء ـ ولا نقول به ـ لم تجب الإعادة ، وإلّا فتجب.

وما ذكرناه جار في جميع الأعذار إلّا التيمم ، فقد وردت فيه روايات دالة على عدم البدار ولزوم التأخير. وفي بعضها ان فاته الماء فلا تفوته الأرض. وأخذ في بعضها عنوان عدم التمكن ، وهو محمول على اليأس عن التمكن من استعمال الماء ، ولهذا فصلنا في محله بين التيمم وغيره ، عكس ما أفتى به السيد في العروة من جواز البدار في جميع الأعذار سوى التيمم.

التنبيه الثاني : حكم الاستصحاب مع الشك التقديري.

بما ان الموضوع في أدلة الاستصحاب عنوان اليقين والشك فيعتبر في جريانه فعليتهما ، كما هو شأن جميع الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، فانها كما عرفت تنحل إلى قضية شرطية ، مقدمها تحقق الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، ففعلية الموضوع لا بد منه في فعلية الحكم ظاهريا كان أو واقعيا ، فظاهر قوله الخمر حرام ، حرمة ما هو خمر تحقيقا لا تقديرا ، فلا يثبت به الحرمة لما هو خمر على تقدير الغليان. وكذا النهي عن نقض اليقين بالشك لا يعم الشك التقديري الّذي معناه عدم ثبوت الشك ، فإذا تيقن المكلف بشيء ثم غفل عنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لعدم وجود الشك إلّا معلقا ، بمعنى أنه لو التفت يشك ، نظير ما لو غلى يكون خمرا.

٨٩

وقد اختاره شيخنا الأنصاري (١) ورتب عليه فرعين :

الأول : صحة الصلاة فيما إذا تيقن المكلف بالحدث فغفل وصلى ، ثم بعد الفراغ شك في الوضوء ، فان الشك التقديري إذا كان كافيا في جريان الاستصحاب لجرى في حقه استصحاب الحدث حين الشروع في الصلاة وفي الأثناء ، حيث لا مجال لقاعدة الفراغ ، فكانت صلاته محكومة بالفساد. وهذا بخلاف ما إذا اعتبرنا فعلية الشك ، فانه لا مجال حينئذ للاستصحاب قبل الفراغ ، لعدم فعلية الشك ، وكذا بعده ، لقاعدة الفراغ وتقدمها عليه بالحكومة ـ كما هو الصحيح ـ أو بالتخصيص ـ كما قيل ـ لأنه لو لم تتقدم عليه لزم تخصيصها بالموارد النادرة كالشك في المانع ، وسيتضح في محله إن شاء الله تعالى.

الثاني : بطلان صلاة من تيقن بالحدث ثم شك فيه وجرى في حقه الاستصحاب ، ثم غفل عن حاله وصلى ، وبعدها التفت وشك في كونه محدثا ، لتنجز الحدث عليه بالاستصحاب قبل الشروع في الصلاة.

ونقول : الكبرى الكلية التي أفادها تامة ، وهي اعتبار فعلية اليقين والشك في جريان الاستصحاب ، لأن ظاهر القضية ثبوت الحكم للموضوع الفعلي لا التقديري كما عرفت. إلّا ان ما فرعه عليها غير صحيح.

أمّا الفرع الأول : فاستصحاب الحدث حين الشروع في الصلاة وفي الأثناء وان لم يكن جاريا ، إلّا أن جريان قاعدة الفراغ أيضا محل تأمل ، وعليها تبتني صحة الصلاة وفسادها.

توضيحه : انّه بناء على كون قاعدة الفراغ من الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع كما هو المختار ، فان الشارع في عمل مركب بحسب طبعه لا يخل

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٤٧ ـ ٥٤٨ (ط. جامعة المدرسين).

٩٠

بشيء مما يعتبر فيه عمدا ، والإخلال السهوي خلاف الأصل ، ولا يعتني باحتماله العقلاء، لأن الإنسان حين اشتغاله بالعمل ملتفت غالبا ، وإنما يسهو بعد الفراغ منه ، وإليه أشير في بعض الأخبار بقوله عليه‌السلام «لأنه حين ما يتوضأ أذكر» وقوله عليه‌السلام «لأنه حينما يصلي أقرب إلى الواقع منه حينما يشك» وقوله عليه‌السلام فيمن شك في الركوع وقد دخل في السجدة «بلى قد ركع» ، فتختص بما إذا كانت الأذكرية حين العمل محتملة ، ولا تجري مع اليقين بالغفلة ومجرد احتمال المصادفة الواقعية ، نظير ما إذا كانت صورة العمل محفوظة وشك في صحته ، كما إذا توضأ بمائع معين وصلى ، ثم شك في كونه مطلقا أو مضافا ، فلا تجري في المقام أيضا ، إذ المفروض ان المصلي متيقن بالغفلة حين الشروع وفي الأثناء ، وحاله بعد الفراغ وقبله سيان ، فأين الأذكرية والأقربية إلى الواقع؟! فحينئذ يجري استصحاب الحدث بعد الصلاة ، فيحكم ببطلانها.

وأما بناء على كونها وظيفة عملية جارية في فرض الغفلة ومجرد احتمال المصادفة ، كما هو أحد الوجهين في المسألة ، فيحكم بصحة الصلاة ، سواء قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي أم لم نقل به ، فان قاعدة الفراغ كما تتقدم على الاستصحاب الفعلي الجاري بعد الفراغ ، لكونها واردة في مورده ، كذلك تتقدم على الاستصحاب التعليقي الجاري قبل الفراغ ، لعين ذاك الوجه ، فانه مورد لها غالبا لو قلنا بجريانها مع الغفلة أيضا ، فلا بد من ترجيحها عليه.

وبالجملة فلا بد من النّظر في أدلة قاعدة الفراغ ، فان قيل : بجريانها في مورد الغفلة جرت في المقام ، وتتقدم على الاستصحاب التعليقي لو قلنا به ، فيحكم بصحة الصلاة ، وإلّا فلا تجري ، فيحكم بفساد الصلاة ، سواء قلنا بالاستصحاب التعليقي أم لم نقل.

٩١

وأما الفرع الثاني : فبطلان الصلاة فيه ليس لما ذكره الشيخ من استصحاب بقاء الحدث قبل الصلاة ، لزواله حين الشروع في الصلاة وفي الأثناء بزوال موضوعه وهو الشك الفعلي وانقلابه إلى الغفلة ، فانه كما يعتبر فعلية الشك في جريان الاستصحاب حدوثا يعتبر فعليته فيه بقاء ، فإذا غفل عن الشك يسقط الاستصحاب لا محالة. ولا أثر لجريانه قبل الصلاة مع سقوطه حين الشروع فيها ، بل الفساد إنما هو لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها ، فانها إنما تجري في الشك الحادث بعد الفراغ لا قبله ، والشك في الحدث بعد الصلاة بعينه هو الشك الأول الثابت قبل الدخول في الصلاة عرفا ، الّذي غفل عنه وكان موجودا في خزانة النّفس ثم التفت إليه ، وكونه بالدقة العقلية شكا حادثا مغايرا للشك الأول لا يعتنى به بعد كونه عينه بنظر العرف الّذي هو المعتبر.

نعم لو فرض الشك في الصحة من جهة أخرى بحيث كان شكا حادثا عرفا جرت فيه القاعدة ، بناء على جريانها مع الغفلة. فالمدار في بطلان الصلاة على جريان القاعدة وعدمه لا الاستصحاب.

وبما بيناه ظهر ان ما ذكره في الكفاية (١) من تقييد الفرع بما إذا قطع المصلي بعدم تطهيره بعد الشك لا يوجب بطلان الصلاة من حيث الاستصحاب.

التنبيه الثالث : موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين.

لا إشكال في جريان الاستصحاب في ما إذا تيقن المكلف بحدوث شيء وجدانا وشك في بقائه. وإنما الكلام في جريانه فيما كان محرزا بالتعبد بقيام أمارة أو أصل عملي عليه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣٠٩.

٩٢

قد يستشكل فيه كما في الكفاية (١) بما حاصله : بأنه ليس في موردها حكم متيقن ، فلا يقين بالحدوث ، كما لا شك في البقاء أيضا ، لتفرعه عليه ، إلّا تقديرا أي لو كان هناك حكم ثابت فهو شاك في بقائه ، فلا مجال للاستصحاب المتقوم باليقين والشك الفعليين.

والإشكال على القول بالطريقية في باب الأمارات واضح ، إذ ليس في موارد قيامها سوى تنجز الواقع على تقدير ثبوته.

وأما على السببية فلأن قيام الأمارة في مورد ان أوجبت ثبوت مصلحة في ذاته مقتضية لجعل الحكم على طبقها ، وكان قيامها من قبيل العلة والواسطة في الثبوت ، كان مؤداها حكما متيقنا ثابتا لذات الموضوع ، كما قيل ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية ، الحكم فإذا شك في ارتفاعه يستصحب.

ولكن من المحتمل ان يكون قيام الأمارة من قبيل الواسطة في العروض ، فتوجب ثبوت المصلحة والحكم الظاهري بعنوان قيام الأمارة. وعليه فإذا زالت الأمارة يزول الحكم الثابت بعنوان قيامها لا محالة ، فإذا شك فيه يكون الشك في حدوث حكم جديد ، لا بقاء الحكم الأول ، مثلا إذا أخبرت البينة بنجاسة شيء في زمان ثم شككنا في بقائها ، ففي ظرف الشك ليست البينة قائمة على النجاسة ، ولذا لو سألت عن النجاسة بقاء تنفي العلم بها ، فلا محالة تزول النجاسة الثانية بعنوان اخبارها. ونظير هذا ما إذا أفتى المجتهد بشيء ثم تردد في فتواه ، فانه لا يمكن استصحاب ما كان يفتي به سابقا ، لأنه كان ثابتا بعنوان فتوى المفتي ، وقد ارتفع قطعا. فعلى كل من الطريقية والموضوعية لا مجال لجريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٠.

٩٣

وأجاب في الكفاية (١) عن الإشكال بما حاصله : أن أدلة الاستصحاب ناظرة إلى مرحلة البقاء والتعبد به على تقدير الحدوث ، فإذا تنجز حدوثا تنجز بقاء ، وان كان ذلك ببركة الاستصحاب والملازمة بين الحدوث والبقاء.

ثم أورد على نفسه بأنه كيف يمكن ذلك؟! وقد أخذ اليقين في دليل الاستصحاب. فأجاب أنه أخذ مرآة وكاشفا عن الواقع.

ونقول : ما ذكره لا يمكن المساعدة عليه.

أما كون اليقين مأخوذا على نحو الطريقية ، ففيه : أنه طريقي بالإضافة إلى متعلقه ، وموضوعي إلى الاستصحاب ، كعنوان الشك المأخوذ فيه ، فلا وجه لا لقائه وجعل الاعتبار بالواقع. ويؤكد ذلك اسناد النقض إليه على ما أوضحناه من ان المراد به رفع اليد عن الأمر المبرم بغير المبرم ، فظاهر الأدلة اعتبار تحقق الصفتين في جريان الاستصحاب.

وأما ما ادعاه من ان مفادها الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فان أراد بها الملازمة الواقعية ، كالملازمة الثابتة بين النهي والإفطار بقوله عليه‌السلام «وكلما أفطرت قصرت» بأن تكون الروايات اخبارا عن الملازمة.

ففيه : مضافا إلى القطع بعدم الملازمة كذلك بين الثبوت والدوام ، ومخالفته لظاهر الأخبار ، أنه عليه يكون اخبار الأمارة عن حدوث شيء اخبارا عن بقائه بالالتزام بعد ثبوت الملازمة شرعا ، سواء كان المخبر ملتفتا إلى الملازمة أم لم يكن ، كما سيتضح في بحث المثبت ، فيكون البقاء مفاد الأمارة لا الأصل ، فلا بد من حجية مثبتاته ولوازمه العقلية ، وهو لا يقول به.

وإن أراد بها الملازمة الظاهرية الراجعة إلى جعل منجز الحدوث منجز البقاء تعبدا.

__________________

(١) المصدر السابق.

٩٤

ففيه : مضافا إلى كونه خلاف الظاهر ، ان لازمه تنجز الاحتمال بقاء إذا كان منجزا حدوثا ، فلا يمكن الرجوع إلى البراءة في أطراف العلم الإجمالي بعد انحلاله ، لتنجز الاحتمال فيها حدوثا ، فيستحيل الجواب عن شبهة بعض المحدثين في المنع عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا من دعوى العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية فيها ، وقد أجبنا عنها بالانحلال. وعلى هذا الأساس لا فائدة في انحلاله ، لعدم إمكان الرجوع إلى البراءة بعده أيضا. كما انه يلزم منه حجية قاعدة اليقين أعني الشك الساري.

وتوهم : أن المراد بالملازمة التعبد ببقاء ما ثبت واقعا ، تيقن به المكلف أو لم يتقين ، فاسد ، فان لازمه مضافا إلى مخالفته لظاهر الأدلة ، وعدم إمكان اسناده إلى المحقق المزبور ، جريان الاستصحاب بمجرد احتمال البقاء في فرض الثبوت واقعا ، ولو لم يعلم به المكلف ، فإذا شك في نجاسة شيء وجرى فيه قاعدة الطهارة ثم بعد مدة علم بأنه كان نجسا سابقا قبل زمان الشك في نجاسته انكشف به نجاسته من حين الشك ، للاستصحاب ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

نعم يمكن أن يقال : ان المراد باليقين في الأخبار المانعة عن نقضه بالشك مطلق المنجز ، فمفادها عدم نقض المنجز بالشك ، سواء كان هو اليقين الوجداني أو غيره ، وإنما عبر عنه باليقين من باب أنه أظهر أفراد المنجز ، كما عبر عنه بالمعرفة في قوله عليه‌السلام «حتى تعرف الحرام منه بعينه» ، وقوله «حتى تعلم انه قذر» وهذا الاحتمال وإن كان وجيها ثبوتا ، إلّا انه خلاف الظاهر إثباتا ، إذ التعبير بالفرد وإرادة الجامع لا يمكن إلّا بقرينة.

فالصحيح : عدم إمكان دفع الشبهة على مسلك المحقق الخراسانيّ ومن تبعه من كون المجعول في باب الطرق والأمارات هو المنجزية والمعذرية. إلّا انه يمكن الجواب عنها على المسلك المختار.

٩٥

فنقول : يقع الكلام تارة : في جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات ، وأخرى : في موارد الأصول العملية.

أما الأمارات : فيستحيل ان يكون المجعول فيها هو المنجزية والمعذرية ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وهو غير قابل للتخصيص ، كقبح الظلم الّذي لا يمكن تخصيصه ، فلا معنى لأن يقال ان العقاب بلا بيان قبيح إلّا في مورد الأمارة ، بل لو أراد المولى تنجيز الواقع لا بد له من إيصاله ولو بإيجاب الاحتياط على ما مرّ تفصيله.

وعليه فلا مناص من الالتزام بكون المجعول في الأمارات هي الطريقية ، أي اعتبارها علما تأسيسا أو إمضاء ، كما هو ظاهر أدلتها أيضا ، كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرد به عن ثقاتنا» فحينئذ يوجد باعتبار الشارع صنف آخر للعلم ، فيكون له فردان واقعي وتعبدي.

ويترتب على اعتباره هذا أمران :

أحدهما : المنجزية ، فان المكلف الّذي قامت الأمارة لديه على الإلزام كان له ان يتمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ويأمن بها قبل اعتبار الشارع الأمارة علما. وأما بعده فليس له ذلك ، لتمامية البيان كما في موارد القطع الوجداني ، فيكون نفس احتمال التكليف منجزا ، فالمنجزية ليست بنفسها مجعولة في باب الأمارات ، وإنما هي أثر لما هو المجعول.

ثانيهما : قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكاشفية ، كما هو ظاهر عنوان العلم والقطع إذا أخذ في دليل ، فإذا قامت الأمارة على نجاسة شيء مثلا ، فنسيها المكلف ، وصلى فيه ، وجب عليه الإعادة ، كما كانت تجب عليه فيما إذا علم وجدانا بالنجاسة ونسيها ، ومن هنا ذكرنا في مبحث القطع قيام الأمارة بدليل حجيتها مقام القطع الطريقي المحض والمأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية من دون

٩٦

أن يلزم منه الجمع بين اللحاظين.

وعليه فالأمارة علم تعبدا إذا قامت على شيء ، ومن قامت لديه متيقن في اعتبار الشارع فيعمه أدلة الاستصحاب المانعة عن نقض اليقين بالشك بالحكومة. ومما يؤكد ذلك ان اليقين المأخوذ غاية للاستصحاب في قوله عليه‌السلام «ولكن تنقضه بيقين مثله» يعم الأمارات المعتبرة شرعا كالبينة ، ولذا يرفع بها اليد عن الاستصحاب ، وليس ذلك إلّا للحكومة. ولا فرق من هذه الجهة بين اليقين المذكور في الصدر والمأخوذ في الذيل.

وأما الأصل العملي : فتارة : يكون متكفلا للحكم الظاهري حدوثا وبقاء ، وأخرى : يكون متكفلا له حدوثا فقط.

والأول : كقاعدة الطهارة وأصالة الحل والاستصحاب ، فإذا شك في نجاسة شيء وجرت فيه القاعدة ، وكان مقتضاها ثبوت طهارة ظاهرية مستمرة ما لم يعلم بالنجاسة ، فإذا احتمل بعد ذلك ارتفاعها لم يجري فيها الاستصحاب وان كان الشك شكا حادثا ، لأن الطهارة الواقعية لم تكن متيقنة حدوثا ، والطهارة الظاهرية محرزة وجدانا ، لعدم حصول غايتها وهي العلم بالخلاف ، فأي شيء يستصحب. وهكذا أصالة الحل فانها تثبت حلية ظاهرية عند الشك حدوثا وبقاء ما لم يعلم الحرمة ، فلا مجال لاستصحابها.

وتوهم حكومة الاستصحاب على سائر الأصول العملية ، مدفوع ، بأنه إنما يتقدم فيما إذا تمت أركانه. وكذا حال الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب ، مثلا لو شككنا في طهارة شيء بقاء بعد العلم بحدوثها ، وجرى فيها الاستصحاب ، ثم احتملنا زوالها لجهة أخرى ، لا معنى لاستصحاب الطهارة الثابتة بالاستصحاب حدوثا وبقاء إلى أن يعلم بالخلاف.

نعم بناء على عدم جريان الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي في هذه

٩٧

الموارد ، لكون الشك فيه مسببا عن الشك في الملاقاة وعدمه ، فيجري الاستصحاب في السبب دونه ، والتعبير باستصحاب الطهارة مبني على المسامحة ، فالمستصحب في الحقيقة عدم الملاقاة مع النجس ، لا مانع من جريان الاستصحاب إذا احتمل ارتفاع الطهارة المستصحبة لأجل الملاقاة مع نجس آخر ، فيستصحب عدم ملاقاته معه كما استصحب عدم ملاقاته مع النجس سابقا.

وبعبارة أخرى : النجاسة المحتملة من جهة الملاقاة مع البول مغايرة مع النجاسة المحتملة من جهة الملاقاة مع الدم ، فكل منهما مورد للاستصحاب ، وجريانه في إحداهما لا يغني عن الآخر. هذا فيما إذا كان الأصل متكفلا للحكم الظاهري حدوثا وبقاء.

وأما الثاني : أي إذا كان الأصل متكفلا له حدوثا فقط ، فهو مثل ما إذا شككنا في طهارة الماء ، وجرى فيه قاعدة الطهارة ، وحكم بطهارته تعبدا ، ثم غسلنا به الثوب المتنجس ، فان الثوب حينئذ ثوب مغسول بماء طاهر. اما غسله بالماء فوجداني وأما كونه بماء طاهر فبحكم الشارع ، فيحكم بطهارة الثوب ظاهرا. لكن بما ان قاعدة الطهارة لم تجر في نفس الثوب لتثبت طهارته حدوثا وبقاء ، وإنما جرت في الماء الّذي غسل به الثوب ، فليس أثرها إلّا طهارة الثوب حدوثا فقط ، فإذا شك في بقاء ما كان متيقنا من الطهارة الظاهرية لا مانع من استصحابها.

فتلخص : ان الصحيح جريان الاستصحاب في مورد الأمارات ، لأنها يقين تعبدا ، وفي مورد الأصول العملية فيما إذا كان متكفلا للحكم الظاهري حدوثا فقط.

٩٨

التنبيه الرابع : استصحاب الكلي.

قد يكون المستصحب شخصا فيما إذا رتب الأثر على الشخص شرعا ، كحرمة المكث في المسجد المترتبة على خصوص الجنابة. وقد يكون كليا ملغى عنه الخصوصيات الشخصية فيما إذا كان الأثر مترتبا على الجامع ، كحرمة مس المصحف على المحدث على ما فسّر به قوله تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(١) من باب التفعل لا التفعيل.

وليعلم ان جريان الاستصحاب في الكلي غير مبني على القول بوجود الطبيعي في الخارج ، وإن كان هو الصحيح ، بل يجري حتى على القول بكونه انتزاعيا ، لأن حقيقة الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما تعلق به اليقين حدوثا إذا كان موردا للأثر على ما هو عليه من الوجود الخارجي أو الانتزاعي. فالمراد من الثبوت في مورد الاستصحاب ما يعم الثبوت الخارجي والانتزاعي وغير ذلك. على أن البحث عن وجود الكلي الطبيعي بحث فلسفي في انه يمكن وجود أمرين طوليين بوجود واحد ، وإنما يستحيل ذلك في الموجودين العرضيين لكونه خلفا أو لا يمكن ذلك مطلقا؟ واما بالنظر العرفي المسامحي فالكلي الطبيعي موجود حقيقة ، والألفاظ تحمل على المعاني العرفية.

ثم انه لا يفرق في جريان الاستصحاب في الكلي بين ان يكون من المقولات المتأصلة كالجواهر والأعراض ، أو يكون من الأمور الانتزاعية كالعناوين الاشتقاقية مثل العالم والقائم فيجري فيها الاستصحاب إذا رتب عليها الأثر ، أو يكون من الأمور الاعتبارية كالملكية والزوجية ، ومن هذا القبيل جميع الأحكام الوضعيّة والتكليفية.

__________________

(١) الواقعة : ٧٩.

٩٩

ثم الأثر الشرعي إن كان مترتبا على الشخص فلا مجال لاستصحاب الكلي بلحاظ ذاك الأثر ، لعدم ترتبه عليه ، وإن كان مترتبا على الجامع ، فلا مجال لاستصحاب الشخص بلحاظه ، لأن استصحاب الخصوصية حينئذ لغو محض. مثلا حرمة مس المصحف رتبت شرعا على طبيعي الحدث ، وحرمة المكث في المساجد على خصوص الجنابة ، فإذا شك الجنب في انه اغتسل أم لم يغتسل بعد ، فبلحاظ حرمة مس الكتاب لا بد له من استصحاب طبيعي الحدث ، وبلحاظ حرمة المكث في المساجد لا مناص له من استصحاب خصوص الجنابة.

إذا عرفت ما بيناه نقول : استصحاب الكلي ينقسم إلى أقسام أربعة :

الأوّل : أن يتيقن وجود الكلي في ضمن فرد ويشك في ارتفاعه من جهة احتمال ارتفاع الفرد بعينه.

وقد عرفت انه ان أريد فيه ترتيب آثار الفرد يستصحب بقاؤه. وإن أريد ترتيب آثار الكلي يستصحب بقاء الكلي دون الخصوصيات.

وقد ظهر بما ذكرناه فساد ما ربما يستظهر من الكفاية (١) من كون المكلف مخيرا فيه بين استصحاب الشخص واستصحاب الكلي ، لتعين استصحاب كل منهما بلحاظ الأثر المترتب عليه.

الثاني : أن يتيقن بوجود الكلي في ضمن فرد ، وتردد الفرد بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو محتمل البقاء أو مقطوعه. وما صدر من الشيخ من التعبير بمقطوع البقاء الظاهر انه من باب المثال ، وإلّا فمجرد احتمال البقاء كاف في الاستصحاب ، مثاله ما إذا خرج من المتطهر المستبرئ بالخرطات رطوبة مرددة بين البول والمني ، فانه إذا توضأ يشك في بقاء طبيعي الحدث المتيقن وارتفاعه ، لأنه إن كان في ضمن الأصغر فقد ارتفع ، وإن كان في ضمن الأكبر فهو باق.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٣١٠ ـ ٣١١.

١٠٠