رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

فأما ثواب هذه الحجة ، فإن كان الميت وصى بها وأمر بأن يحج عنه ، كان الثواب مقسما بينه وبين النائب. وان لم يكن كذلك ، فالثواب ينفرد به الفاعل فلم نخرج بهذا التفصيل من الحكم العقلي ، ولا من ظاهر قوله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

المسألة السابعة عشر :

حكم الماء النجس يتمم كرا

إذا كان المذهب مستقرا بأن ما بلغ من المياه المحصورة كرا لم ينجسه شيء إلا ما غير أحد أوصافه. فما القول في ماءين نجسين غير متغيرين ينقص كل واحد منهما عن الكر خلطا فبلغا كرا فما زاد ، أهما نجسان بعد الخلط أم طاهران. فان قلتم بطهارتهما ، فمن أين صار الخلط مؤثرا للطهارة؟ وان قلتم بنجاستهما خالفتم قولكم بطهارة ما بلغ الكر مع عدم التغير.

الجواب :

اعلم أن الصحيح في هذه المسألة هو القول بأن هذا الماء يكون طاهرا بعد اختلاطه إذا كان يبلغ كرا ، لان بلوغ الماء عندنا هذا المبلغ مزيل لحكم النجاسة التي تكون فيه ، وهو مستهلك مكسر لها ، فكأنها بحكم الشرع غير موجودة ، الا أن تؤثر في صفات الماء يكسر به (١) وبلوغه الى هذا الحد مستهلكا للنجاسة الحاصلة فيه ، فلا فرق بين وقوعها بعد تكاملكونه كرا ، وبين حصولها في بعضه قبل التكامل. لان على الوجهين معا النجاسة في ماء كثير ، فيجب أن يكون لها تأثير فيه مع تغير الصفات.

__________________

(١) ظ : بها.

٣٦١

والذي يبين أن الأمر على ما أفتينا به ، أنا لو صادفنا كرا من ماء فيه نجاسة لم تغير شيئا من أوصافه ، لكنا بلا خلاف بين أصحابنا نحكم بطهارته ، ونجيز التوضؤ به ، ونحن لا نعلم هل هذه النجاسة التي شاهدناها وقعت فيه قبل تكامل كونه كرا أو بعد تكامله.

ولو كان بين وقوعها فيه قبل التكامل ، وبين وقوعها بعد التكامل فرق ، لوجب التوقف عن استعمال كل ما توجد فيه نجاسة لم تغير أوصافه ، وان كان كثيرا ، لأنا لا ندري كيف كان حصول هذه النجاسة فيه ، فلما لم يكن بذلك اعتبار دل على أن الأمر على ما ذكرناه.

المسألة الثامنة عشر :

سجدة قراءة العزائم في الصلاة تجب بعد الفراغ من الصلاة

ما القول فيمن سها أو قصد ، فقرأ في بعض فرائضه سورة من عزائم السجود ، فلم يذكر حتى لفظ بالاية التي يجب لها السجود ، أيسجد أم لا؟.

فان قلتم يسجد أوجبتم إفساد صلاة كان يجب المضي فيها بزيادة فيها سجدة ليست منها ، وان قلتم لا يسجد أبحتم الإخلال بالواجب عليه في السجود. وهذان أمران لا يمكن الجمع بينهما ، سواء عما يصح الإخلال به منهما.

الجواب :

اعلم أن ذلك إذا اتفق من غير قصد إليه ، فالأولى أن يتوقف عن السجود ويمضي في صلاته ، فإذا سلم سجد حينئذ ، فتأخيره السجود ـ وان وجب على الفور ـ أهون على كل حال في دفع صلاة قد بدأ بها ، ويعين عليه الاستمرار عليها الى حين الفراغ منها.

٣٦٢

وليس وجوب هذا السجود جار مجرى وجوب المضي في الصلاة ، لأن الشافعي يذهب الى أن سجود القرآن لا يجب على كل حال من الأحوال في صلاة ولا غيرها ، ووجوب المضي في صلاته لا خلاف فيه.

المسألة التاسعة عشر :

حكم من عليه فائتة في وقت الأداء

إذا كان إجماعا مستقرا بوجوب تقديم الفائت من فرائض الصلاة على الحاضر منها ، الى أن يبقى من وقته مقدار فعله ، فما القول فيمن صلى فرضا حاضرا في أول وقته ، أو ثابتة (١) وعليه فائت ، أيجزيه ذلك مع كونه مرتكبا للنهي؟ أم يجب عليه إعادة الصلاة في آخر الوقت؟.

فان كان مجزيا فما فائدة قولهم عليهم‌السلام «لا صلاة لمن عليه صلاة» (٢) وكيف يكون مجزيا مع كونه مرتكبا للنهي بفعلها في أول وقتها قبل القضاء.

وان كانت غير مجزية فكيف حكم بفسادها وقد أوقعها مكلفا بنيتها المخصوصة وأتى بجميع أحكامها وشروطها في وقت لا يصح فعلها فيه ، فاعادتها بعد فعلها على هذا الوجه يحتاج الى دليل ولا أعلم دليلا.

وما حكم من عليه صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل ، أينتقل (٣) بقضائها بجميع زمانه الى آخر وقت الفريضة الحاضرة ، فذلك يقطعه من التعيش وسد الخلة، ويمنعه من النوم وغيره.

__________________

(١) الظاهر زيادة «أو ثابتة».

(٢) رواه الشيخ المفيد في الرسالة السهوية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله راجع جامع الأحاديث ٤ ـ ٢٧٠.

(٣) ظ : أيشتغل.

٣٦٣

وان كان مباحا له التشاغل بسد الخلة وحفظ الحياة بالراحة بالنوم ، مع تعلق فرض القضاء بذمته ، فهل له ما خرج عن ذلك وزاد عليه ما هو مستغن عنه في الحال؟ أم لا يجوز التشاغل بما زاد على ما يحفظ به حياته وجوه من يجب عليه القيام به من لباس وغذاء.

وما حكم فرض يومه وليلته في زمان إباحة التعلق والنوم يقدمه في أول وقته ، مع ما عليه من الفوائت ، أم يؤخره إلى وقته ، وان كان متشاغلا عنه بالتكسب.

وهل يجوز لمن عليه فرائض غير الصلاة أن يسدي (١) ما خوطب به من جنسها أم حكم سائر الفرائض حكم الصلاة في وجوب التقديم على الحاضر.

الجواب :

اعلم أن من صلى فرضا حاضر الوقت في أول وقته ، أو قبل تضيق وقت أدائه ، وعليه فريضة صلاة فائتة ، يجب أن يكون ما فعله غير مجز عنه ، وأن يجب عليه اعادة تلك الصلاة في آخر وقتها ، لأنه منهي عن هذه الصلاة ، والنهي يقتضي فساد الصلاة وعدم الاجزاء.

ولان هذه الصلاة مفعولة في غير وقتها المشروع له ، لأنه إذا ذكر أن عليه فريضة فائتة، فقد تعين عليه بالذكر أداء تلك الفائتة في ذلك الوقت بعينه ، فإذا صلى في هذا الوقت غير هذه الصلاة كان مصليا في غير وقتها المشروع لها ، فيجب الإعادة لا محالة.

وأما ما مضى في الكلام من القول بأن وجوب الإعادة يحتاج الى دليل. فقد

__________________

(١) ظ : وحياة.

(٢) ظ : يؤدى.

٣٦٤

ذكرنا الدليل على ذلك ، فلا نسلم أنه أوقع هذه الصلاة على جميع شرائطها المشروعة في وقت يصح فعلها فيه ، لان من شرط هذه الصلاة مع ذكر الفائتة أن يؤدي بعد قضاء الفائت ، فالوقت الذي أداها فيه وقت لم يضرب لها ، لانه يصح أن يكون وقتا لها لو لم يذكر الفائتة ، وهذا مما لا شبهة فيه للمتأمل.

وأما المسألة الثانية : فالواجب على من عليه صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل أن يقضيها في كل زمان ، إلا في وقت فريضة حاضرة يخاف فوتها مع تشاغله بالقضاء ، فيقدم أداء الحاضرة ثم يعود الى التشاغل بالقضاء.

فان كان محتاجا الى تعيش يسد به جوعته وما لا يمكن دفعه من خلته ، كان ذلك الزمان الذي يتشاغل فيه بالتعيش مستثنى من أوقات الصلاة ، كما استثنى منها زمان الصلاة الحاضرة. ولا يجوز له الزيادة على مقدار الزمان الذي لا بد منه في طلب ما يمسك به الرمق.

وانما أبحنا له العدول عن القضاء الواجب لضرورة التعيش ، فيجب أن يكون (١) ما زاد عليها مباح (٢). وحكم من عليه فرض نفقة في وجوب تحصيلها ، كحكم نفقته في نفسه. وأما فرض يومه وليلته في زمان التعيش فلا يجوز أن يفعله إلا في آخر الوقت كما قلناه ، فان الوجه في ذلك لا يتغير بإباحة التعيش.

وأما النوم فيجري ما يمسك الحياة منه في وجوب التشاغل به مجرى ما يمسك الحياة من الغذاء وتحصيله.

وأما الفرائض الفائتة غير الصلاة ، فليست جارية مجرى الفائت من الصلاة في تعين وقت القضاء. ألا ترى أن من فاته صيام أيام من شهر رمضان ، فإنه مخير في تقديم القضاء وتأخيره الى أن يخاف هجوم شهر رمضان الثاني ،

__________________

(١) ظ : أن لا يكون.

(٢) ظ : مباحا.

٣٦٥

فيتضيق عليه حينئذ القضاء.

ويجوز لمن عليه صيام أيام من شهر رمضان أن يصوم نذرا عليه ، أو يصوم عن كفارة لزمته ، ولو صام نفلا أيضا لجاز وان كان مكروها. وليس كذلك الصلاة الفائتة ، لأن وقت الذكر يتعين في فعلها ، بشرط أن لا يقتضي فوت صلاة حاضر وقتها.

المسألة الحادية والعشرون :

إثبات حجية إجماع الطائفة

إذا كان طريق معظم الأحكام الشرعية إجماع علماء الفرقة المحقة ، لكون الامام المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ واحدا من علمائهم دون عامتهم وعلماء غيرهم ، وكان العلماء من هذه الفرقة محصورين بدليل عدم التجويز لوجود عالم منهم يعرف فتياه ، مع تعذر معرفته بعينه واسمه ونسبه.

ووجوب هذه القضية يوجب أحد أمور كل منها لا يمكن القول به :

اما كون فتيا الامام الغائب المرتفعة معرفته بعينه خارجة عن إجماع علماء الإمامية ، وهذا يمنع من الثقة بإجماعهم.

أو كون فتياه داخلة فيهم ، فهذا يوجب تعينه وتميز فتياه ، وهذا متعذر الان مع غيبته.

أو حصول فتياه في جملة فتياهم مع تعذر معرفة شخصه ، فهذا يؤدي الى تجويز عدة علماء لا سبيل الى العلم بتميزهم ، لأنه إذا جاز في فتيا الامام ـ وهو سيد العلماء ورئيس الملة ـ أن يتعذر معرفتها على سبيل التفصيل مع حصولها في جملة فتيا شيعته ، فذلك في علماء شيعته أجوز ، وذلك يمنع من القطع على حصول إجماعهم على الحكم الواحد.

٣٦٦

أو يقال : ان في إمساكه عن النكير دلالة على رضاه بالفتيا.

فهذه طريقة المتقدمين من شيوخنا ، وقد رغبنا عنها وصرحنا بخلافها ، لان فيها الاعتراف بأن الإمساك يدل على الرضا مع احتماله لغيره من الخوف المعلوم حصوله للغائب.

الجواب :

اعلم أن قول امام الزمان وفتياه في كل واقعة وحادثة من الشرائع ، لا بد أن يكون في جملة أقوال علماء الفرقة الإمامية ، وليس كل عالم من علماء الإمامية نعلمه بعينه واسمه ونسبه على سبيل التمييز ، وأنه انما نعلمه على سبيل التفصيل بالعين والاسم والنسب من علماء هذه الطائفة من اشتهر منهم باشتهار كتبه ومصنفاته ورئاسته وأحوال له مخصوصة ، والا فمن نعلمه على سبيل الجملة وان لم نعلمه على سبيل التفصيل أكثر ممن عرفناه باسمه ونسبه. ومن هذا الذي يدعي معرفة كل عالم من علماء كل فرقة من فرق المسلمين بعينه واسمه ونسبه في كل زمان ، وعلى كل حال.

فعلى هذا الذي قررناه لا يجب القطع على أن من لم نعرفه بعينه واسمه ونسبه من علماء الإمامية يجب نفيه والقطع على فقده.

وليس إذا كنا لا نعلم عين كل عالم من علماء الإمامية واسمه ونسبه ، وجب أن لا نكون عالمين على الجملة بمذهبه ، وأنه موافق لمن عرفنا عينه واسمه ونسبه.

لان العلم بأقوال الفرق ومذاهبها يعلم ضرورة على سبيل الجملة ، اما باللقيا والمشافهة أو بالأخبار المتواترة ، وان لم يفتقر هذا العلم الى تمييز الأشخاص وتعينهم وتسميتهم. لأنا نعلم ضرورة أن كل عالم من علماء الإمامية يذهب الى أن الامام يجب أن يكون معصوما منصوصا عليه ، وان لم نعلم كل قائل بذلك

٣٦٧

وذاهب اليه بعينه واسمه ونسبه.

وهكذا نقول في العلم بإجماع علماء كل فرقة من فرق المسلمين : أن الجملة فيه متميزة من التفصيل ، وليس العلم بالجملة مفتقرا الى العلم بالتفصيل وقد علمنا أنه لا امامي لقيناه وعاصرناه وشاهدناه الا وهو عند المناظرة والمباحثة يفتي بمثل ما أجمع عليه علماؤنا ، سواء عرفناه بنسبه وبلدته أو لم نعرفه بهما.

وكذلك كل امامي خبرنا عنه في شرق وغرب وسهل وجبل عرفناه بنسبه واسمه أو لم نعرفه ، قد عرفنا بالأخبار المتواترة الشائعة الذائعة التي لا يمكن إسنادها إلى جماعة بأعيانهم لظهورها وانتشارها ، أنهم كلهم قائلون بهذه المذاهب المعروفة المألوفة ، حتى أن من خالف منهم في شيء من الفروع عرف خلافه وضبط وميز عن غيره.

وقد استقصينا هذا الكلام في جواب المسائل التبانيات ، وانتهينا فيه الى أبعد الغايات.

فإذا قيل لنا : فلعل الإمام لأنكم لا تعرفونه بعينه يخالف علماء الإمامية فيما اتفقوا عليه.

قلنا : لو خالفهم لما علمنا ضرورة اتفاق علماء الإمامية الذين هو واحد منهم على هذه المذاهب المخصوصة ، وهل الإمام إلا أحد علماء الإمامية ، وكواحد من العلماء الإمامية الذين لا نعرفهم بنسب ولا اسم.

ونحن إذا ادعينا إجماع الإمامية أو غيرها على مذهب من المذاهب ، فما نخص بهذه الدعوى من عرفناه باسمه ونسبه دون من لم نعرفه ، بل العلم بالاتفاق عام لمن عرفناه مفصلا ولمن لم نعرفه على هذا الوجه.

وليس يجب إذا كان امام الزمان غير متميز الشخص ولا معروف العين أن لا يكون معروف المذهب ومتميز المقالة ، لأن هذا القول يقتضي أن كل من لم

٣٦٨

نعرفه من علماء الإمامية أو علماء غيرهم من الفرق ، فانا لا نعرف مذهبه ولا نحقق مقالته وهذا حد لا يبلغه متأمل.

فإن قيل : أتجوزون أن يكون في جملة الإمامية عالم يخالف هذه الطائفة في بعض المسائل ولم ينته إليكم خبره ، لانه ما اشتهر كاشتهار غيره ، ولا له تصنيفات سارت وانتشرت.

فان أجزتم ذلك فلعل الامام هو ذلك القائل. وهذا يقتضي ارتفاع الثقة ، لأن (١) قول امام الزمان داخل لا محالة في جملة أقوال علماء الإمامية ويبطل ما تدعونه من أن الحجة في إجماعهم. وان منعتم من كون عالم من علمائهم يخفى خبر خلافه لهم في بعض المذاهب كابرتم.

قلنا : لا يجوز أن يكون في علماء الإمامية من يخالف أصحابه في مذهب من مذاهبهم ، ويستمر ذلك ويمضي عليه الدهور ، فينطوي خبر خلافه ، لان العادات ما جرت بمثل ذلك ، لان ما دعا هذا العالم الى الخلاف في ذلك المذهب يدعوه إلى إعلانه وإظهاره ، ليتبع فيه ويقتدى به في اعتقاده.

وما هذه سبيله يجب بحكم العادة ظهوره ونقله وحصول العلم به ، لا سيما مع استمراره وكرور الدهور عليه.

وما تجويز عالم يخفى خبر خلافه الا كتجويز جماعة من العلماء يخالفون من عرفنا مذاهبه من العلماء في أصول الدين ، أو فروعه ، أو في علم العربية والنحو واللغة ، فيخفى خلافهم وينطوي أمرهم. وتجويز ذلك يؤدي من الجهالات الى ما هو معروف مسطور ، على أن لإمام الزمان عليه‌السلام في هذا الباب مزية معلومة.

فلو جاز هذا الذي سألنا عنه في غيره لم يجز مثله فيه ، لأن الامام قوله

__________________

(١) ظ : بأن.

٣٦٩

حجة والجماعة التي توافقه في مذهبه انما كانت محقة لأجل موافقتها له ، فلا بد من أن يظهر ما يعتقده ويذهب اليه ، حتى يعرف من يوافقه ممن يخالفه ، وليس إظهاره لاعتقاده وتصريحه بمذهبه مما يقتضي أن يعرف هو بنسبه ، لأنا قد نعرف مذاهب من لا نعرف نسبه ولا كثيرا من أحواله.

وكيف يجوز أن يكون للإمام مذهب أو مذاهب تخالف مذاهب الإمامية لا يكون معروفا مشهورا بين الإمامية ، وهو يعلم أن المرجع في أن إجماع هذه الطائفة حجة الى أن قوله في جملة أقوالها. فإذا أجمعوا على قول وهو مخالف فيه ، هل له منه مندوحة عن إظهار خلافه وإعلانه ، حتى يزول الاغترار بأن إجماع الإمامية على خلافه.

ولهذا قلنا في مواضع من كتبنا أن ما اختلف فيه قول الإمامية من الاحكام لا يجوز أن يحتج فيه بإجماع الطائفة ، لأنها مختلفة ونحن غير عالمين بجهة قول الامام ولمن هو موافق من هؤلاء المختلفين ، فلا بد في مثل ذلك من الرجوع الى دليل غير الإجماع يعلم به الحق فيما اختلفوا فيه.

فإذا علمنا قطعنا على أن قول الامام موافق له ، لان قوله لا يخالف الحق وما يدل عليه الأدلة.

المسألة الثانية والعشرون :

حكم العاقد في الإحرام

ما الوجه فيما يفتي به الطائفة من سقوط الحكم الشرعي عمن عقد نكاحا وهو محرم مع الجهل بالحكم ، وما وردت به الروايات من سقوط الحكم في

٣٧٠

كثير من المواضع مع الجهل بها (١) ، مع اتفاق العلماء على أن الجهل لا يبيح سقوطه الا عمن لا يتمكن به.

فأما من هو متمكن من ذلك لكونه عاقلا ، فلا يعرض العلم يلزمه ويتسعه الحكم يتعلق عليه ، وأن جهله لو لا ذلك لكان الجهل سببا مبيحا لسقوط ما يلزم عليه من التكاليف العقلية والشرعية ، وهذا شيء لا يقوله مسلم.

الجواب :

اعلم أن الجهل ممن كلف العلم وله اليه طريق لا يكون إلا معصية وتفريط (٢) عن المكلف ، الا أن الحكم الشرعي غير ممتنع أن يتغير مع الجهل ، ولا يكون حاله مساوية لحالة مع العلم.

فإذا قال أصحابنا : من عقد نكاحا على امرأة وهو محرم فنكاحه باطل على كل حال. ثم قالوا : فان كان هذا العاقد عالما بتحريم العقد لم يحل له هذه المرأة المعقود عليها أبدا ، وان كان جاهلا بالتحريم بطل العقد وحلت له المرأة بعقد آخر صحيح. فلم يكن هذا القول منهم اقامة (٣) لعذر الجاهل العاصي بجهله بما وجب أن يعلمه بل ابانة لان حكمه عند هذا الجاهل العاصي في جهله متى عقد مع الحصول في الشريعة ، بخلاف حكم العاقد مع العلم. وان كان الجاهل عاصيا مفرطا. والعلم بالحكم كان لازما ، وهو الان أيضا له لازم، وانما دخلت الشبهة على من يظن أنه بالجهل يسقط عنه وجوب العلم ، وما كذلك قلنا.

__________________

(١) ظ : به.

(٢) ظ : وتفريطا من المكلف.

(٣) ظ : ابانة.

٣٧١

وانما ذهبنا الى تغير الحكم الشرعي الذي تغيره موقوف على المصالح التي لا يعلم وجوهها الا علام الغيوب جلت عظمته.

المسألة الثالثة والعشرون :

ما يجوز قتله من الحيوان المؤذي

ما تقول فيما لم يحل أكله من الحيوان المؤذي وغير المؤذي؟.

أيحل قتل ما لا يؤذي كالخطاف والخفاش والغراب وما أشبه ذلك؟.

وان كان لا يحل ، فهل كون شيء منه مؤذيا أذية يجوز يحمل (١) منه مثلها ، كوجود النمل في المسكن ، واتخاذ الطائر سقف البيت وحائطه وكرا أبيح قتله؟.

فان قلنا بإباحة شيء من ذلك قبل حصول الأذى أو بعده فما وجهها؟ مع علمنا أن العقول تقبح إنزال الضرر الا سمع مقطوع به.

وهل يجوز قتل ما جرت العادة بكونه مؤذيا؟ كالسبع والذئب والحية إن يقصدنا بأذية، وهل قصدنا الى قتله إذا أرادنا على جهة المدافعة له أو على وجه العزم على قتله؟.

الجواب :

اعلم أن إدخال الضرر على البهائم المؤذي لنا منها وغير المؤذي لا يحسن إلا بإذن سمعي ، الا أن يكون ذلك الضرر يسيرا ، أو النفع المتكفل به لها عظيما فيحسن من طريقة العقل.

__________________

(١) ظ : أن يتحمل.

٣٧٢

فان كثيرا من الناس أجازوا ركوب البهائم عقلا من غير افتقار الى سمع ، وقال : إذا تكلفنا لها بما تحتاج اليه من غذاء وديار ومصلحة ، ربما كانت لها فائدة لو لا تكلفنا جاز أن ندخل عليها ضرر الركوب ، لانه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها.

والاذن السمعي في إدخال الضرر عليها مؤذن بأن المبيح لذلك هو التكفل بالعوض عنه ، فقتل البهائم الذي (١) لا أذية منها لا يجوز على وجه ، لان السمع لم يبحه. وكذلك ما يؤذي أذى يسيرا متحملا كالنمل وما أشبهه ، فان المؤذيات من البهائم المضرات مباح قتلها كالسباع والأفاعي.

ويجب القصد الى قتلها والاعتماد له ، دون القصد إلى المدافعة ، لأن بالإباحة قد صار القتل حسنا ، والقصد الى الحسن حسن ، كما يقصد الى ذبح الحيوان المأكول وان لم يكن مؤذيا ، لان بالإباحة قد صار إتلافه حسنا ، وانما يوجب القصد إلى المدافعة إلى الضرر في من يقصد إلى إيقاع الضرر بنا ، لان القصد إلى الإضرار به يكون قبيحا ، لانه ارادة الظلم ، فإذا قصدنا المدافعة ودفع الضرر غير مقصود لم يكن ظلما.

ويحسن منا أن نقتل السباع والأفاعي وان لم نخف ضررها في الحال ولم يقصدنا بأذية ، لأن الإباحة تضمنت ذلك.

وانما نفرق بين قتل الحية وما أشبهها في الصلاة ، فنقول : إذا خاف المصلي من ضرر الحية وقصدها له جاز أن يقتلها في الصلاة ، لأنه فعل كثير لا يستباح في الصلاة إلا عن ضرورة. وليس ذلك معتبرا في قتل السباع والأفاعي في غير الصلاة.

__________________

(١) ظ : التي.

٣٧٣

المسألة الرابعة والعشرون :

بر الوالدين الكافرين الفاسقين

إذا كان بر الوالدين واجبا ، وتجنب اليسير من اذاهما لازما بالمعروف مدة الحياة مأمورا به ، كافرين كانا أو فاسقين.

فما الحكم فيهما إذا كانا فاسقين أو ذميين أو حربيين ، أيجب أن يعمل معهما ولدهما ما نصنع بكل فاسق وذمي وحربي من اللعن والبراءة أو القتل أم لا يجب؟ فان وجب فعل ذلك بهما ، فكيف يجامع ما استقر من الأمر بتعظيمهما وتجنب أذاهما؟ وان لم يجب كان خالف ما عليه من وجوب ذلك.

الجواب :

أعلم أن بر الوالدين بالنفقة واحتمال الصحة والكراهة غير مناف للعن لهما والبراءة منهما إذا كانا كافرين ، كما لا تنافي بين شكر الكافر على نعمه وبين لعنه على كفره ، وان كان الشكر معه ضرب من التعظيم ، فان ذلك التعظيم غير مناف للاستخفاف على الكفر لاختلاف جهتهما.

وإذا كنا نذهب معشر القائلين بالارجاء الى أن التعظيم على الطاعة لا ينافي الاستخفاف على المعصية ، مع التقابل بين جهة التعظيم والاستخفاف ، لجاز أن نقول ذلك فيما لم تتقابل جهاته من الشكر على النعم المقترن بالتعظيم والذم على المعاصي بالاستخفاف.

فإذا كانت للوالدين نعمة التربية والحضانة وغير ذلك ، وجب من إكرامهما وتعظيمهما ما يجب لكل منعم ، فان اقترن بذلك منهما كفر وجب لعنهم بالكفر

٣٧٤

والبراءة منهما من أجله. وان ارتد بعد ايمان وجب من قتلهما ما يجب فيهما لو كان في غير الوالدين. وقد بينا أن ذلك غير متناف ولا متضاد.

المسألة الخامسة والعشرون :

حكم المنعم الكافر

كيف السبيل لمن أنعم عليه كافر بنعمة إلى أداء الواجب عليه من تعظيمه مع وجوب ذمه ولعنه والبراءة منه وفساد التحابط.

الجواب :

اعلم أن الكافر إذا كانت له نعمة وجب شكره عليها ممن بقي نعمه عليها ، وان استحق من هذا المنعم عليه أن يلعنه على كفره يستخف به من أجله.

وأبو هاشم يوافق هذه الجملة وان كان قائلا بالإحباط ، لأنه يذهب الى أن الإحباط بين ما تتقابل جهاته من تعظيم الاستحقاق ، كالتعظيم على الايمان ، واستخفاف على الكفر ، وليس ذلك قائما في الشكر على نعمة الكافر مع الذم على كفره.

وأبو علي يخالفه في ذلك ويذهب الى أن الكفر محبط لما يستحق بالنعم من شكر وتعظيم ، كما يحبط ما يستحق بالطاعات من ثواب وتعظيم.

والصحيح ما قاله أبو هاشم ، ونحن نزيد على هذه الجملة ونقول : انه لا تنافي بين الذم والمدح والتعظيم والاستخفاف ، إلا إذا كانا على فعل واحد. فأما إذا كانا على فعلين جاز أن يجتمع استحقاقهما وان كانا متقابلين ، بعد أن يتغاير الفعلان اللذان يستحقان منهما.

٣٧٥

ولهذا نقول : ان الفاسق يجتمع استحقاقهما وان كانا متقابلين ، له استحقاق الذم والمدح والتعظيم والاستخفاف بإيمانه وطاعته وفسقه ومعاصيه. ولو لا أن الكافر قد دل الدليل على أنه لا طاعة له ، لجاز عندنا أن يجتمع له استحقاق الثواب والعقاب والذم والمدح والتعظيم والاستخفاف.

وإذا كنا نقول ذلك في المتقابل الجهات ، فكيف القول بمثله فيما لا تتقابل جهات استحقاقه ، فليقس على هذا كل المسائل ، فإنه طريق جدد.

المسألة السادسة والعشرون :

الكافر إذا كانت له أعواض

على أي وجه يعوض الكافر المحترم عقيب استحقاقه العوض عليه تعالى أو على غيره، مع إجماع الأمة على أنه لا يجوز أن ينتفع في الآخرة بشيء لا في حال الموقف ولا في حال دخوله في النار ، وقد نطق القرآن بذلك.

الجواب :

اعلم أن الكافر إذا كانت له أعواض ما استوفاها في الدنيا ، فيجب إيصالها إليه عند البعث قبل إدخاله النار للعقاب. والأشبه أن يكون ذلك قبل المحاسبة والمراقبة ، فإنه لا يليهما الا المعاقبة والعوض عندنا منقطع ، ويمكن إيصال الكثير في الأوقات اليسيرة.

وها هنا إجماع على أن الكافر لا يجوز أن ينتفع بشيء بعد لعنه. فأما بعد دخوله النار فلا شبهة فيه ، وكيف يدعى الإجماع فيما نخالف نحن فيه. وانما الإجماع على أن الكافر لا ينتفع في حالة معاقبة.

وليس لأحد أن يمنع من استحقاق الكافر لعوض لا يمكن استيفاؤه له في

٣٧٦

الدنيا ، لانه لا يجوز أن يقتله ظالم فيستحق بهذا القتل أعواضا بعد فوت الحياة.

وكذلك من الجائز أن يلحقه باماتة الله تعالى له آلام عظيمة يستحق بها أعواضا بعد موته ، لأن أبا هاشم وان جوز أن يبطل الحياة بغير ألم ، فإنه يجيز أن يقترن بها الألم ، وهو الأظهر. فقد تصور جواز استحقاق الكافر الاعواض بعد عدم حياته ، وما نحتاج مع ما ذكرناه الى ما سواه.

المسألة السابعة والعشرون :

حكم العالم بقبائح غيره

كيف السبيل لمن اختص علمه بقبائح غيره الى فعل الواجب عليه من ذمه ، وتسميته بأسماء السيئة من أفعاله ، كسارق وزان وقاتل ولائط ، وبأسماء الغير الشريفة ، كفاسق وفاجر ورجس وملعون ، ان صرح لها كان ما يجب عليه الحد.

وان اقصر على الاعتقاد لم يؤثر ذلك على الغرض المشروع من ذم الفاسق ولعنه ، وان أسقطها جميعا أخل بالواجب عليه.

الجواب :

اعلم أن من علم من غيره قبائح يستحق بها منه الذم والاستخفاف ، فله أن يذمه بقلبه ولسانه ، ويقول : انه ملعون مذموم يستحق البراءة والاستخفاف والإهانة. ويتجنب كل لفظ يقتضي إطلاقه حدا وله في غيرها مندوحة.

فإن الألفاظ التي تنبئ على الذم والاستخفاف لا يوجب على مطلقها حدا أوسع وأكثر من الألفاظ التي توجب الحد. ولا خلاف بين الفقهاء في أن من ينسب غيره الى الكفر ـ وهو أعظم من كل الذنوب ـ لا يستحق حدا ، وان كان يستحق الحد بقذفه له بالزنا. وليس تجنب الألفاظ التي تقتضي الحد بما

٣٧٧

منع (١) من فعل الواجب من لعنه وإهانته والاستخفاف به.

المسألة الثامنة والعشرون :

معنى حياة الشهداء والأنبياء والأوصياء

إذا كنا نعلم أن علم المكلف بوصوله الى ثواب طاعاته عقيب فعلها يقتضي الجاؤه إليها ، وأن يفعلها لأجل الثواب لا لوجه وجوبها ، وأن ذلك وجهان يقتضيان قبح تكليفها ، ولذلك قلنا بوجوب تأخير الثواب.

فما الوجه من كون الشهيد حيا عنده تعالى والوجيه الحال الى (٢) وما وردت به من وصول الأنبياء والأوصياء ومخلصي المؤمنين إلى الثواب عقيب الموت ، وأنهم أجمع أحياء عند الله يرزقون.

الجواب :

اعلم أن الذي يمضي في الكتب من أن المكلف لو قطع على وصوله الى ثواب طاعته وعقاب معصيته عقيب الطاعة فالمعصية (٣) ، يقتضي الإلجاء على نظر في ذلك ، غير مناف لما نقوله من أن الشهيد يدخل الجنة عقيب موته بالشهادة.

وكذلك الأنبياء والأوصياء ، لأن الشهادة أولا ليست من فعل الشهيد ، وانما بطلان حياته بالقتل في سبيل الله تعالى يسمى «شهادة» ، والقتل الذي به تكون الشهادة من فعل غير الشهيد ، فكيف يجوز الإلجاء اليه؟ ولا هو يجوز أن يقال انهم ملجئون الى الجهاد، لان الجهاد لا يعلم وقوع الشهادة لا محالة ،

__________________

(١) ظ : بمانع.

(٢) الظاهر زيادة «إلى».

(٣) ظ : والمعصية.

٣٧٨

ولان المجاهد انما يفعل الجهاد ويقصد به غلبته للمشركين ، لا الى أن يغلبوه ويقتلوه شهيدا ، فالالجاء هاهنا غير متصور.

فأما الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام فليس يتعين لهم الطاعة التي يجازون بالثواب ودخول الجنة عقيبها ، ولا طاعة يفعلونها الا وهم يجوزون أن يتأخر الجزاء عليها ، بأن يغير تكليفهم ويستمر ، كما يجوزون أن يصلوا عقيبها الى الثواب.

وهذا التجويز وعدم القطع يزيلان الإلجاء الذي اعتبر فيمن يقطع على وصوله الى ثواب طاعته عقيب فعله ، وهذا بين لمن تدبره.

ونسأل الله تعالى أن يؤيدنا ويسددنا في كل قول ينحوه وفعل يعروه ، وأن يجعل ذلك كله خالصا له ومقربا منه ، انه سميع مجيب.

كان الفراغ من جواب هذه المسائل في اليوم التاسع من المحرم من سنة تسع وعشرين وأربعمائة. والحمد لله رب العالمين ، وصلوات الله على خير خلقه محمد النبي وآله الطاهرين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.

٣٧٩
٣٨٠