رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

قلنا : [أما (١)] ما يرجع الى القلب من الشكر ، فهو يحصل في قلوبهم ضرورة ، لأنه يرجع الى الاعتقادات ، وما يرجع الى اللسان منه فلا كلفة فيه ، وربما كان مثله في اللذة (٢) لان أحدنا يلتذ ويسر بالتحدث بنعم الله عليه ، لا سيما إذا كان وصولها اليه بعد شدة ومدى طويل من الزمان.

وأما أفعال أهل الجنة فالصحيح إنها واقعة منهم على سبيل الاختيار وان كانوا ملجئين الى الامتناع من القبح ، بخلاف ما قاله أبو الهذيل (٣) فإنه كان يذهب الى أن أفعالهم ضرورية.

والذي يدل على صحة ما اخترناه أنه لا بد أن يكونوا مع كمال عقولهم ومعرفتهم بالأمور ممن يخطر القبيح بقلبه ويتصوره وهم قادرون عليه لا محالة ، ولا يجوز أن يخلي بينهم وبين فعله ، فلا يخلون من أن يمنعوا من فعل بأمر وتكليف أو بإلجاء على ما اخترناه ، أو بأن يضطروا الى خلافه على ما قاله أبو الهذيل. [ولا يجوز أن يكونوا مكلفين لما تقدم ذكره، ولا مضطرين على ما قاله أبو الهذيل (٤)] لان المضطر مستنغص (٥) اللذة غير خال من تنغيص وتكدير لكونه مضطرا ، ولان التصرف على اختياره فيما يتناول [ما يشتهيه (٦)] وينقله من حال

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في ب : في صلة اللذة.

(٣) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي ، كان من أئمة الاعتزال له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات ، وكف بصره في آخر عمره ، ولد في البصرة سنة ١٣٥ ه‍ وتوفى بسامراء سنة ٢٣٥ ه‍ (الاعلام للزركلى : ٧ / ٣٥٥).

(٤) الزيادة من أوخ.

(٥) في خ : مستنقص ، وكذا بعده : تنقيص.

(٦) الزيادة من أوخ.

١٤١

الى حال باختياره أزيد في لذاته وأدخل في تمتعه وسروره [ولذته (١)] وانما يرغب الله تعالى في اللذات الواصلة في الجنة على الوجه المعتاد في الدنيا ، فلم يبق بعد ذلك الا أنهم يلجئون الى الامتناع من القبيح ، والا جاز وقوعه منهم.

وأما ما ظن أبو الهذيل أنهم متى لم يكونوا مضطرين إلى أفعالهم كانت عليهم فيها مشقة وهم من حيث تكلفوا الافعال ، وقد رأى أن قوله بذلك أدعى الى تخليص الثواب من الشوائب.

فقد بينا أن الذي ينغص (٢) اللذة هو كونهم (٣) مضطرين لا مختارين ، وان نيل الملتذ ما يناله (٤) من اللذات باختياره وإيثاره أكمل للذته وأقوى لمنفعته. وأما الكلفة في الأفعال ، فهي مرتفعة عنهم ، لأنهم ينالون ما يشتهون على وجه لا كلفة فيه ولا تعب ولا نصب.

فان قيل : فهذا يبين كون أهل الثواب غير مضطرين ، فما تقولون في أهل العقاب وأهل الموقف؟.

قلنا : أما أهل العقاب فكونهم مختارين لأفعالهم أشد تأثيرا في إيلامهم والإضرار بهم ، لأنهم إذا لم يتمكنوا مع كونهم مختارين أن يدفعوا ما نزل بهم من الضرر ، كان ذلك أقوى لحسراتهم وأزيد في غمهم. وأما أهل الموقف فبالإجماع يعلم أن أفعالهم (٥) كأفعال أهل الجنة وأهل النار ، لأن أحدا (٦) لم

__________________

(١) الزيادة من ب.

(٢) في خ ينقص.

(٣) في أ : وهم كونهم.

(٤) في ب : ما تناله.

(٥) في ب : ان فعاله.

(٦) في أ : وأحد.

١٤٢

يفرق بين الجميع.

فان قيل : فإذا قلتم أنهم ملجئون الى ألا يفعلوا القبيح فقد ثلم من ذلك كونهم مختارين لأفعالهم على بعض الوجوه.

قلنا : انما يلجئون الى ألا يفعلوا القبيح خاصة ، فالالجاء انما يكون فيما لا يفعلونه ، فأما ما يفعلونه فهم فيه مخيرون ، لأنهم يؤثرون (١) فعلا على غيره وينقلون من حال إلى أخرى بعد ألا يكون في أفعالهم شيء من القبيح. وليس يمتنع أن يكون الملجإ من وجه مخيرا [كذلك (٢)] من آخر ، لانه من الجأه السبع إلى مفارقة مكان بعينه هو مخير في الجهات المختلفة والطرق المتغايرة ، فالتخير ثابت وان كان ملجأ من بعض الوجوه ، وليس يجب أن يلحقهم غم ولا حسرة من حيث الجئوا (٣) الى ألا يفعلوا القبيح ، لأنهم مستغنون عنه بالحسن ، فلا غم ولا حسرة في الإلجاء إلى مفارقة القبيح (٤).

وهذه الجملة كافية لمن اطلع عليها. والله الموفق للصواب.

__________________

(١) في ب : يورثون.

(٢) الزيادة من أوخ.

(٣) في أ : من أن ألجئوا.

(٤) في ب : إلى أفعال القبيح.

١٤٣
١٤٤

(٢٠)

مسألة في توارد الأدلة

١٤٥
١٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة

وجدت كل المتكلمين قالوا في كتبهم ، حتى سيدنا (كبت الله أعداءه) الذي هو امامهم والكاشف عما يلبس عليهم ، أن من شروط النظر المؤدي إلى العلم ، أن يكون الناظر شاكا في مدلول. [و] هذا القول يوجب أن يكون العالم بحدوث الأجسام من جهة دليل الاعراض ، العالم بأن الإدراك الا يتناول الأخص (١) الأوصاف ، ولا يعلم بدليل أبي علي بن سينا بدلا يمكنه النظر فيه.

ونحن نعلم أن من لا يعلم أن الموجود إذا لم يكن قديما ، فلا بد كونه محدثا غير كامل العقل.

على أنهم قالوا أيضا حتى سألوا نفوسهم ، فقالوا : ما وجه ترادف الأدلة على المدلول الواحد ، وجهته : أنا نعلم أنها مما لو سبقنا إليها لوجدت العلم.

__________________

(١) ظ : لا يتناول إلا أخص الأوصاف.

١٤٧

مع قولهم انا لا نفرق بين الدليل والشبهة إلا بعد توليد الدليل للعلم ، فكيف يعلم أنها لا يمكننا النظر فيها ولا يولد لنا علما أبدا.

فان قيل : انه إذ نظر غيرنا فيها اضطرنا إلى أنه علم بمدلولها ، فعلمنا أنها أدلة.

أمكن له [أن (١)] يقال : انه لا سبيل الى أن يعلم أحدنا عالما ، وان جاز أن يعلمه معتقدا ، وإذا لم يعلمه عالما فلا سبيل الى ما ذكروه.

الجواب :

اعلم أنه لا شبهة في القول بأن من علم شيئا من المعلومات بدليل نظر فيه أوجب له العلم ، لا يصح أن يعلمه بدليل آخر ، إذا اجتمع مع القول بأن وجه النظر في الأدلة المترادفة مع تقدم العلم بالمعلوم ، انما هو ليعلم أن ذلك المنظور فيه دليل مناقضته.

وقول بيننا (٢) في أن الدليل انما يعلم دليلا إذا حصل عنده العلم فكيف يجوز أن يعلم في الدليل الثاني إذا نظرنا فيه انه دليل وما حصل لنا عنده علم.

والذي يقوى في النفس أن يقال : ان من نظر في شيء يعلمه من طريق الدليل ، قد يجوز أن ينظر في دليل آخر يفضي الى العلم به ، ويكون عالما به من طريقين.

مثال ذلك : أن ينظر في طريق إثبات الاعراض ، ويستدل بها على حدوث الأجسام، فيعلم بهذه الطريقة أن الأجسام محدثة ، ثم ينظر في الطريقة الأخرى يعتمد فيها على أن من شأن الإدراك أن يتعلق في كل ذات مدركة بأخص أوصافها

__________________

(١) الزيادة منا.

(٢) ظ : وقد بينا.

١٤٨

والجسم لو كان قديما لوجب إدراكه على هذه الصفة ، لأنها من أخص أوصافه ، فإذا علم ضرورة أنه لا يدرك قديما ، فلا بد من العلم بحدوثه.

وهذه الطريقة مبنية على مقدمات :

منها : أن الجسم مدرك.

ومنها : أن من شأن الإدراك أن يتعلق بأخص أوصاف الذات المدركة.

ومنها : أن الجسم لو كان قديما لكان كونه بهذه الصفة من أخص أوصافه.

ومنها : أن (١) لا يدرك قديما.

فمتى علم بالتأمل صحة هذه المقدمات ، فلا بد أن يفعل لنفسه اعتقادا ، لان الجسم ليس بقديم ، وإذا لم يكن قديما وهو موجود ، فلا بد من كونه محدثا.

وانما قلنا انه مع صحة تلك المقدمات وعلمه بها لا بد أن يفعل اعتقادا لانه ليس بقديم. أن مجموع ما ذكرناه ملجئ له الى فعل هذا الاعتقاد ، كما أن من علم في ذات أنها لم يسبق ذواتا محدثة ملجأ إلى اعتقاد كونها [كذلك] ومن علم في فعل له صفة الظلم ملجأ بما استقر في عقله من قبح ماله هذه الصفة إلى فعل اعتقاد لقبحه ، ويكون ذلك الاعتقاد علما ، لوقوعه على الوجه الذي ذكرناه.

فان قيل : كيف ينظر في حدوث الجسم بالدليل الثاني وهو عالم بحدوثه بالدليل الأول، والعلم بالشيء يمنع من النظر فيه ، ولو جاز أن ينظر فيما علمه ، لجاز أن ينظر في المشاهدات.

قلنا : ليس نظره في الدليل الثاني على الحقيقة نظرا في صدور (٢) الجسم ، فيلزم أن يكون شاكا في حدوثه ، وانما ينظر في مقدمات الدليل الثاني التي منها

__________________

(١) ظ : أنه.

(٢) ظ : حدوث.

١٤٩

أن من شأن الإدراك أن يتعلق بأخص أوصاف المدرك ، ومنها أن الجسم لو كان قديما لكان كونه كذلك من أخص أوصافه ، وغير ذلك مما قد بيناه.

وإذا نظر في شيء ، فيجب أن يكون شاكا في متناول الإدراك وسائر مقدمات الدليل وعلى (١) بالدليل الأول حدوث الأجسام لا يمنع من شكه في مقدمات الدليل الثاني. وانما يمنع على الوجه الصحيح أن يكون ناظرا في شيء وهو عالما (٢) به ، أن النظر لا يتعلق من المنظور فيه بوجه معين ، بل يتعلق بهل الصفة ثابتة أم منتفية ، فكأنه يمثل من الأمرين ، ويجب عن إدراكهما الثابت ، فلا بد من الشك مع ذلك ، لان العلم والقطع ينافيان وجه تعلق النظر.

فهذا هو المانع من نظر الناظر فيما يعلمه ، لا يذكر في الكتب من النظر في المشاهدات.

لان لقائل أن يقول : انما لا يصح أن ينظر في المشاهدات ، لانه دليل يفضي الى العلم بها ، ولو لا أن النظر في الدليل الثاني يحصل عنده علم بالمدلول عليه ، لوجب أن يكون من علم حدوث الأجسام بدليل إثبات الاعراض ، ثم نظر في الطريقة الأخرى المبنية على كيفية يتناول الإدراك متى عرض له شك في إثبات الاعراض ، أن يخرج من أن يكون عالما بحدوث الأجسام ، لان شكه في حدوث الأجسام يؤثر في علمه بحدوثها من هذا الطريق بدلالة أنه لو انفرد كونه ناظرا بهذا الدليل دون غيره حتى يشك في إثبات الأكوان أو حدوثها أو أن الجسم لا يخلو منها يخرج من أن يكون عالما بحدوث الأجسام.

وقد علمنا أنه إذا كان قد نظر في الطريقة الثانية ، ثم شك في إثبات الأكوان ، لا يخرج من أن يكون عالما بحدوث الأجسام ، فلو لا أن الطريقة الثانية قد

__________________

(١) ظ : والعلم بالدليل.

(٢) ظ : وهو عالم.

١٥٠

اقتضت حصول علم له بالمدلول ، لما وجب مع الشبهة في الدليل الأول أن يستمر كونه عالما ، وهذا أوضح.

فإن قيل : كيف يعلم في الدليل الثاني أنه دليل ، وهو لا يتميز له حصول العلم له من جهته ، لأنه إذا كان عالما بحدوث الأجسام بالدليل الأول ، ثم نظر في الدليل الثاني ، وادعيتم أنه يجب أن يفعل لنفسه عند تكامل صحة مقدمات الدليل الثاني اعتقاد حدوث الأجسام. وهذا مما لا يتميز له ، لانه معتقد وعالم بحدوث الأجسام بالنظر الأول ، فكيف يعلم أن الدليل الثاني دليل على الحقيقة. ولا يجري ذلك مجرى من لم يكن عالما بشيء ، ثم نظر في دليل عليه فوجد نفسه عالما لم يكن عالما به ، لان هاهنا تمييز (١) له حصول العلم بعد أن يكون حاصلا.

قلنا : الناظر قبل أن ينظر في الدليل الثاني إذا تأمل مقدماته ، فلا بد أن يكون عالما بأنها من صحة ، وعلم الناظر ذلك من حالها ، فإنه لا بد أن يفعل لنفسه علما بحدوث الأجسام ، وأنه لا يجوز أن يتكامل له العلم بثبوت المقدمات وصحتها ، ولم يفعل لنفسه علما بحدوث الجسم.

كما أنه يعلم قبل النظر في طريقة إثبات الاعراض وحدوثها ، أنه متى علم الناظر أن الجسم (٢) بشيء ذواتا محدثة ، فلا بد أن يفعل لنفسه اعتقادا ، لانه محدث ويكون ذلك الاعتقاد علما لهذا الوجه ، فكان العلم بأن الدليل دليل هو علم بتعلقه بالمدلول على وجه مخصوص يفضي الى العلم.

ومن قال : ان النظر في الدليل الثاني لا يحصل عنده علم ، بأن يقتضي يضيق عليه هذا الكلام.

__________________

(١) ظ : يتميز له حصول العلم بعد أن لم يكن حاصلا.

(٢) ظ : العلم.

١٥١

ويقال له : ان معنى قولك انه ينظر في الدليل الثاني أنه دليل لا يعلم المدلول عليه. فأنت تزعم أن العلم بأن الدليل هو علم بالمدلول ، وإذا كان العلم عندك بأن الدليل دليل انما يحصل بعد حصول العلم للناظر بالمدلول ، فهذا الناظر لا يعلم أبدا أن هذا الدليل الثاني ، فلا بد أن يكون ما يمضي في الكتب من أن العلم بأن الدليل دليل ، وهو علم بالمدلول فيه ضرب من التجوز والاختصار.

ويجب أن يقال : ان العلم بأنه دليل لا بد أن يفارقه العلم بالمدلول ، والا فقد علم المدلول من لا يعرف أن ذلك الدليل عليه ، وقد يجهل كون هذه الطريقة دالة على المدلول من يعلم المدلول.

فالذي ذكرناه أوضح وأتم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

١٥٢

(٢٠)

مسألة في تفضيل الأنبياء عليهم‌السلام على الملائكة

١٥٣
١٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما (١)].

اعلم أنه لا طريق من جهة العقل الى القطع بفضل مكلف على آخر ، لان الفضل المراعى في هذا الباب هو زيادة استحقاق الثواب ، ولا سبيل إلى معرفة مقادير الثواب من ظواهر فعل الطاعات ، لان الطاعتين قد تتساوى في ظاهر الأمر حالهما (٢) وان زاد ثواب واحدة (٣) على الأخرى زيادة عظيمة.

وإذا لم يكن للعقل في ذلك مجال فالمرجع فيه الى السمع ، فان دل سمع مقطوع به من ذلك على شيء عول عليه ، والا كان الواجب التوقف عنه والشك فيه.

__________________

(١) الزيادة من الأمالي.

(٢) كذا في الأمالي ، وفي أ«وان الطاعتين قد يتساوى .. حال بقبا».

(٣) في ا : واحد.

١٥٥

وليس في القرآن ولا في سمع مقطوع على صحته (١) ما يدل على فضل نبي على ملك ولا ملك على نبي ، وسنين أن آية واحدة مما يتعلق (٢) به في تفضيل الأنبياء على الملائكة عليهم‌السلام يمكن أن يستدل بها على ضرب من الترتيب نذكره.

والمعتمد في القطع على أن الأنبياء أفضل من الملائكة إجماع الشيعة الإمامية [على ذلك (٣)] ، لأنهم لا يختلفون في هذا ، بل يزيدون عليه ويذهبون الى أن الأئمة عليهم‌السلام أفضل من الملائكة. وإجماعهم حجة لأن المعصوم في جملتهم.

وقد بينا في مواضع من كتبنا كيفية الاستدلال بهذه الطريقة ورتبناه وأجبنا عن كل سؤال يسأل قد [فيها (٤)] ، وبينا كيف الطريق مع غيبة الإمام إلى العلم بمذاهبه وأقواله وشرحنا ذلك ، فلا معنى للتشاغل به هاهنا.

ويمكن أن يستدل على ذلك بأمره تعالى الملائكة (٥) بالسجود لادم عليه‌السلام ، وأنه يقتضي تعظيمه عليهم وتقديمه وإكرامه. وإذا كان المفضول لا يجوز تعظيمه وتقديمه على الفاضل علمنا أن آدم عليه‌السلام أفضل من الملائكة.

وكل من قال ان آدم عليه‌السلام أفضل من الملائكة ذهب الى أن جميع الأنبياء أفضل من جميع الملائكة (٦) ، ولا أحد من الأمة فرق (٧) بين الأمرين.

__________________

(١) في الأمالي : على صحة.

(٢) في أ : أن واحدة مما يعلق به.

(٣) الزيادة من الأمالي.

(٤) الزيادة من الأمالي.

(٥) في الأمالي : للملائكة.

(٦) في ا : جماعة الملائكة.

(٧) في الأمالي : فصل.

١٥٦

فإن قيل : من أين أنه أمرهم بالسجود [له (١)] على وجه التعظيم والتقديم؟

قلنا : لا يخلو تعبدهم له بالسجود من أن يكون على سبيل القبلة والجهة من غير أن يقترن به تعظيم وتقديم أن يكون على ما ذكرناه ، فان كان الأول لم يجز (٢) أنفة إبليس من السجود وتكبره عنه وقوله (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)(٣) وقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). (٤)

والقرآن كله ناطق بأن امتناع إبليس من السجود انما هو لاعتقاده التفضيل به والتكرمة ، ولو لم يكن الأمر على هذا لوجب أن يرد الله تعالى عليه (٥) ويعلمه أنه ما أمره بالسجود على جهة تعظيمه له (٦) [عليه (٧)] ولا تفضيله ، بل على الوجه الأخر الذي لاحظ للتفضيل هو [والتعظيم] فيه وما جاز إغفال ذلك ، و [يقع] سبب معصية إبليس وضلالته ، فلما لم يقع ذلك دل على أن الأمر بالسجود لم يكن الا على جهة التفضيل والتعظيم ، وكيف [يقع (٨)] شك في أن الأمر على ما ذكرناه وكل من أراد (٩) تعظيم آدم عليه‌السلام ووصفه بما يقتضي الفخر والشرف نعته بإسجاد الملائكة ، وجعل ذلك من أعظم فضائله ، وهذا مما لا شبهة فيه.

فأما اعتماد بعض أصحابنا في تفضيل الأنبياء على الملائكة على أن المشقة

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في أ : لم يجب.

(٣) سورة الإسراء : ٦٢.

(٤) سورة الأعراف : ١٢.

(٥) في الأمالي : عنه.

(٦) الزيادة من أ.

(٧) الزيادة من أ ، وفي «ن» عليها.

(٨) الزيادة من الأمالي.

(٩) في الأمالي : وكل نبي أراد.

١٥٧

في طاعات (١) الأنبياء عليهم‌السلام أكثر وأوفر ، من حيث كانت لهم شهوات في القبائح ونفار عن [فعل (٢)] الواجبات. فليس بمعتمد ، لأنا نقطع على أن مشاق الأنبياء أعظم من مشاق الملائكة في التكليف ، والشك في مثل ذلك واجب وليس كل شيء لم يظهر لنا ثبوته وجب القطع على انتفائه.

ونحن نعلم على الجملة أن الملائكة إذا كانوا مكلفين فلا بد أن تكون (٣) عليهم مشاق في تكليفهم ، ولو لا ذلك ما استحقوا ثوابا على طاعاتهم (٤) ، والتكليف انما يحسن في كل مكلف تعريضا للثواب ، ولا يكون التكليف عليهم شاقا الا ويكون لهم شهوات فيما حظر عليهم ونفار عما أوجب [عليهم (٥)].

وإذا كان الأمر على هذا فمن أين يعلم أن مشاق الأنبياء عليهم‌السلام أكثر من مشاق الملائكة؟ وإذا كانت المشقة عامة لتكليف الأمة (٦) ، ولا طريق الى القطع على زيادتها في تكليف بعض وتفضيلها على تكليف آخرين (٧) ، فالواجب التوقف والشك.

ونحن الان نذكر شبه (٨) من فضل الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام ونتكلم عليها بعون الله تعالى :

فمما تعلقوا به في ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس مخاطبا لادم وحواء

__________________

(١) في الأمالي : في طاعة.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في أ : فلا بد أن يكون.

(٤) في ا : طاعتهم.

(٥) الزيادة من أ.

(٦) في أو «ن» : لتكليف الحاجة.

(٧) في أو «ن» : على تكليف آخر.

(٨) في ا : شبهة.

١٥٨

عليهما‌السلام (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(١) فرغبهما بالتناول من الشجرة [ليكونا (٢)] في منزلة الملائكة حتى تناولا وعصيا ، وليس يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون على منزلة هي دون منزلته ، حتى يحمله ذلك على خلاف الله تعالى ومعصيته ، وهذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء.

وتعلقوا أيضا بقوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(٣) وتأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم (٤) ، لأن العادة انما جرت بأن يقال : «لن يستنكف الوزير أن يفعل كذا ولا الخليفة» فيقدم الأدون ويؤخر الأعظم ، ولم يجز أن يقول : «لن يستنكف الأمير أن يفعل [كذا (٥)] ولا الحارس» ، وهذا يقتضي تفضيل (٦) الملائكة على الأنبياء.

وتعلقوا بقوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧) قالوا : وليس بعد بني آدم مخلوق يستعمل في الخبر عنه لفظة «من» التي لا تستعمل إلا في العقلاء الا الجن والملائكة ، فلما لم يقل «وفضلناهم على من [خلقنا (٨)]» بل

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠.

(٢) الزيادة من الأمالي.

(٣) سورة النساء : ١٧٢.

(٤) في أ : يقضى بفضلهم.

(٥) الزيادة من الأمالي.

(٦) في أو «ن» : فضل.

(٧) سورة الإسراء : ٧٠.

(٨) الزيادة من أ.

١٥٩

قال (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) علم أنه انما أخرج الملائكة عمن فضل بني آدم عليه ، لانه لا خلاف في أن بني آدم أفضل من الجن ، وإذا كان وضع الخطاب يقتضي مخلوقا لم يفضل بنو آدم عليه (١) فلا شبهة في أنهم الملائكة.

وتعلقوا بقوله تعالى (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)(٢) فلو لا أن حال الملائكة أفضل من حال النبي لما قال ذلك.

فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا : لم زعمتم أن قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) معناه أن تصيرا وتنقلبا (٣) الى صفة الملائكة ، فإن هذه اللفظة ليست صريحة لما ذكرتم ، بل أحسن الأحوال أن تكون محتملة له.

وما أنكرتم أن يكون المعنى أن المنهي عن تناول الشجرة غير كما وأن النهي يختص الملائكة والخالدين دونكما. ويجري ذلك مجرى قول أحدنا لغيره «ما نهيت أنت عن كذا الا أن تكون فلانا» وانما يعني أن المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد الا أن تنقلب فتصير فلانا. ولما كان غرض إبليس إلقاء (٤) الشبهة لهما فمن أوكد الشبه ليهاما (٥) انهما لم ينهيا وانما المنهي غيرهما.

ومن وكيد ما يفسد به هذه الشبهة أن يقال : ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا الى صفة الملائكة وخلقتهم (٦) كما رغبهما إبليس في ذلك ، ولا تدل هذه الرغبة على أن الملائكة أفضل منهما ، لان المنقلب (٧) إلى خلقه غيره لا يجب أن

__________________

(١) في الأمالي : عليهم.

(٢) سورة الانعام : ٥٠.

(٣) في أو «ن» : وتبدلا.

(٤) في الأمالي و «ن» : إيقاع.

(٥) في أ : فمن أوكد الشبهة إيهامهما.

(٦) في الأمالي : وخلقهم.

(٧) في الأمالي : لانه بالتقلب.

١٦٠