رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» (١) وهذا الخبر وان كان من طريق الآحاد ، ومما لا يعلم كما علم طريقه من أخبار العلم ، فقد أجمعت الأمة على قبوله ، وان اختلفوا في تأويله ، فما رده أحد منهم ، ولا شكك فيه.

وهو نص صريح غير محتمل ، لأن الرؤية هي الأصل ، وأن العدد تابع لها وغير معتبر، الا بعد ارتفاع الرؤية.

ولو كان بالعدد اعتبار ، لم يعلق الصوم بنفس الرؤية ، ولعلقة بالعدد وقال : صوموا بالعدد وأفطروا بالعدد ، والخبر يمنع من ذلك غاية المنع.

فان قيل : فما معنى قوله «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وأي فائدة لهذا الكلام.

قلنا : معنى ذلك : صوموا لأجل رؤيته وعند رؤيته ، كما يقول القائل : صل الغداة لطلوع الشمس ، يعني لأجل طلوعه وعند طلوعه ، كما قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢).

ثم نعود الى الكلام على ما ذكره صاحب الكتاب :

[المناقشة في الاستدلال بالكتاب على العدد]

دليل في القرآن :

قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(٣) فأخبر بأن الصوم المكتوب علينا نظير الصوم المكتوب

__________________

(١) جامع الأصول ٧ / ١٨٠.

(٢) سورة الإسراء : ٨٧.

(٣) سورة البقرة : ١٨٣.

٢١

على من قبلنا ، وقد علم أنه عنى بذلك أهل الكتاب ، وأنهم لم يكلفوا في معرفة ما كتب عليهم من الصيام الا العدد والحساب ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله في الآية (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

وهذا نص من الكتاب في موضع الخلاف ، يشهد بأن فرض الصيام المكتوب أيام معدودة ، حسب ما اقتضاه التشبيه بين الصومين ، وما فسره بقوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فإذا وجب ذلك فالمحفوظ من العبادات محفوظ بعدده ، محروس بمعرفة كميته ، لا يجوز عليه تغييره ما دام فرضه لازما على وجه.

فهذا هو الذي نذهب إليه في شهر رمضان ، من أن نية معرفته بالعدد والحساب ، وأنه محصور بعدد سالم من الزيادة والنقصان ، ولو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) معنى يستفاد.

يقال له : ما رأينا أبعد عن الصواب وموقع الحجة من هذا الاستدلال ، لان الله تعالى انما جمع بين ما كتبه علينا من الصيام ، وبين ما كتبه على من كان قبلنا ، وتشبه أحدهما بصاحبه في صفة واحدة وهي أن هذا مفروض مكتوب ، كما أن ذلك مفروض مكتوب ، فجمع في الإيجاب والإلزام ، ولم يجمع بينهما في كل الصفات.

ألا ترى أن العدد فيما فرض علينا من الصيام ، وفيما فرض على اليهود والنصارى مختلف غير متفق ، فكيف يدعى أن الصفات والأحكام واحدة.

على أنا لو سلمنا أن الآية تقتضي التشبيه بين الصومين في كل الأحوال ـ وليس الأمر كذلك ـ لم يكن لهم في الآية حجة ، لأنا لا نعلم أن فرض اليهود والنصارى في صومهم العدد دون الرؤية ، واليهود يختلفون في طريقتهم إلى معرفة الشهور.

فمنهم من يذهب الى أن الطريق هو الرؤية ، وآخرون يذهبون الى العدد ،

٢٢

وإذا لم يثبت أن أهل الكتاب كلفوا في حساب الشهور العدد دون الرؤية ، سقط ما بنوا الكلام عليه وتلاشى.

فأما قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فلم يرد به أن الطريق إلى إثبات هذا الصيام وتعيينه هو العدد دون الرؤية ، وانما أراد تعالى أحد أمرين : اما أن يريد ب «معدودات» محصورات مضبوطات ، كما يقول القائل : أعطيته مالا معدودا. يعني أنه محصور مضبوط متعين ، وقد ينحصر الشيء وينضبط بالعدد وبغيره ، فهذا وجه. أو يريد بقوله «معدودات» أنها قلائل ، كما قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ)(١) يريد أنها قليلة.

وهذان التأويلان جميعا يسوغان في قوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)(٢).

فأما قوله «ان المعدود من العبادات محفوظ بعدده محروس بمعرفة كميته ، لا يجوز عليه تغيير ما دام فرضه لازما» فهو صحيح ، لكنه لا يؤثر في موضع الخلاف في هذه المسألة ، لأن العدد إذا كان محفوظا بالعدد مضبوط الكمية ان هذا المعدود المضبوط انما عرف مقداره وضبط عدده ، لا من طريق الرؤية بل من الطريق الذي يدعيه أهل العدد ، فليس في كونه مضبوطا معروف العدد ما يدل على الطريق الذي به عرفنا عدده وحصرناه ، وليس بمنكر أن يكون الرؤية هي الطريق إلى معرفة حصره وعدده.

ثم من أين صحة قوله «وأنه محصور بعدد سالم من الزيادة والنقصان» فليس في قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أنها لا تكون تارة ناقصة وتارة زائدة ، بحسب ما يدل عليه الرؤية، وانما تدل على أحد الأمرين اللذين ذكرنا هما ،

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٣.

٢٣

أما معنى القلة ، أو معنى الضبط والحصر.

وليس في كونها مضبوطات محصورات ما يدل على أنها تكون تارة زائدة وتارة ناقصة ، بحسب الرؤية وطلوع الأهلة.

فأما انتصاب قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فقد قيل : انه على الظرف ، كأنه قيل: الصيام في أيام معدودات ، كما يقول القائل : أوجبت علي الصيام أيام حياتي وخروج زيد يوم الخميس.

والوجه الثاني : أن يعدى الصيام ، كأنه قال : كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات.

ووجه ثالث : أن يكون تفسيرا عن «كم» يكون مرددا (١) عن لفظة «كما» كأنه قال : كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب على الذين من قبلكم ، وفسر فقال : وهذا المكتوب على غيركم أياما معدودات.

ويجوز أيضا أن يكون تفسيرا وتمييزا للصوم ، فان لفظه «الصوم» مجملة يجوز أن تتناول الأيام والليالي والشهور ، فميز بقوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وبين أن هذا الصوم واقع في أيام.

وقال الفراء : هو مفعول ما لم يسم فاعله كقوله : أعطي زيد المال.

وخالفه الزجاج فقال : هذا لا يشبه ما مثل به ، لانه يجوز رفع الأيام قد يكتب عليكم الصيام ، كما يجوز رفع المال ، فيقول : أعطى زيدا المال. فالأيام لا يكون الا منصوبة على كل حال.

ومما يمكن أن يقال في هذا الباب مما لا نسبق اليه : أن تجعل «أياما» منصوبة بقوله «تتقون» كأنه قال : لعلكم تتقون أياما معدودات ، أي تحذرونها وتخافون شرها ، وهذه الأيام أيام المحاسبة والموافقة (٢) والمساءلة ودخول النار

__________________

(١) في الهامش : ويكون مردودا.

(٢) الظاهر المؤاخذة.

٢٤

وما أشبه ذلك من الأيام المحذورة المرهوبة ، ويكون المعنى : ان الصوم انما كتب عليكم لتحذروا هذه [الأيام](١) وتخافوها ، وتتجنبوا القبائح وتفعلوا الواجب.

ثم حكى صاحب الكتاب عنا ما لا نقوله ولا نعتمده ولا نسأل عن مثله ، وهو أن قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ انما أراد به ان كان عددها وتشاغل بنقض ذلك وإبطاله ، وإذا كنا لا نعتمد ذلك ولا نحتج به ، فقد تشاغل بما لا طائل فيه. والذي نقوله في معنى «معدودات» من الوجهين ما ذكرناه فيما تقدم وبيناه فلا معنى للتشاغل بغيره.

[المناقشة في الاستدلال الثاني بالكتاب على العدد]

دليل آخر من القرآن :

وهو قوله جل اسمه (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ ولِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢) فأبان تعالى في هذه الآية أن شهر رمضان عدة يجب صيامها على شرط الكمال.

وهذا قولنا في شهر الصيام أنه كامل تام سالم من الاختلاف ، وأن أيامه محصورة لا يعترضها زيادة ولا نقصان. وليس كما يذهب إليه أصحاب الرؤية ، إذ كانوا يجيزون نقصانه عن ثلاثين ، وعدم استحقاقه لصفة الكمال.

يقال له : من أين ظننت أن قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معناه : صوموا ثلاثين يوما من غير نقصان عنها.

__________________

(١) الزيادة منا.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٢٥

وما أنكرت أن يكون قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معناه : صوموا العدة التي وجب عليكم صيامها من الأيام على التمام والكمال ، وقد يجوز أن يكون هذه العدة تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين يوما ، ومن رأى الهلال فقد أكمل العدة التي وجب عليه صيامها وما نقص عنها شيئا.

ألا ترى أن من نذر أن يصوم تسعة وعشرين يوما من شهر ثم صامها ، نقول : انه قد أكمل العدة التي وجبت عليه وتممها واستوفاها ولم (١) يعم شهرا عدده ثلاثون يوما.

ثم قال صاحب الكتاب : وقد عارض بعضهم في هذا الاستدلال فقال : ان الشهر وان نقص عدد أيامه عن ثلاثين يوما ، فإنه يستحق من صفة الكمال ما يستحقه إذا كان ثلاثين ، وأن كل واحد من الشهرين المختلفين في العدد ، كامل تام على كل حال.

ثم قال : وهذا غير صحيح ، لان الكامل والناقص من أسماء الإضافات ، وهما كالكبير والصغير والكثير والقليل ، فكما لا يقال كبير الا لوجود صغير ، ولا كثير الا لحصول قليل ، فكذلك لا يقال الشهر من الشهور كامل الا بعد ثبوت شهر ناقص ، فلو استحال تسمية شهر بالنقصان ، لاستحالت لذلك تسمية شهر آخر بالتمام والكمال ، وهذا واضح يدل المنصف على فساد معارضة الخصوم ووجود كامل وناقص في الشهور.

يقال له : لسنا ننكر أن يكون في الشهور ما هو ناقص ومنها ما هو كامل ، لكن قولنا «ناقص» يحتمل أمرين : أحدهما أن يراد به النقصان في العدد ، ويحتمل أن يراد به النقصان في الحكم وأداء الفرض.

فإذا سألنا سائل عن شهرين أحدهما عدده ثلاثون يوما والأخر عدده تسعة

__________________

(١) ظ : ولم يصم.

٢٦

وعشرون يوما ، وقال : ما تقولون ان الشهر الذي عدده تسعة وعشرون يوما أنقص من الذي عدده ثلاثون يوما.

فجوابنا أن نقول له : ان أردت بالنقصان في العدد ، فالقليل الأيام ناقص عن الذي زاد عدده. وان أردت النقصان في الحكم وأداء الفرض ، فلا نقول ذلك.

بل نقول : ان من أدى ما عليه في الشهر القليل العدد وصامه كملا الى آخره فقد كمل العدة التي وجبت عليه ، ونقول : ان صومه كامل تام لا نقصان فيه ، وان كان عدد أيامه أقل من عدد أيام الشهر الأخر ، فلم ننكر ، كما ظننت أن يكون شهر ناقصا وشهر تاما ، حتى يحتاج الى أن تقول ان هذا من ألفاظ الإضافات ، انما فصلنا ذلك وقسمناه ووضعناه في موضعه.

ثم قال صاحب الكتاب من بعد ذلك : ثم يقال لهم : كيف استجزتم القول بأن قياس الشهور كاملة ، مع إقراركم بأن فيها ما عدد أيامه ثلاثون يوما ، وفيها ما هو تسعة وعشرون يوما ، وليس في العرب أحد إذا سئل عن الكامل من هذه الشهور ، التبس عليه أنه الذي عدده ثلاثون يوما.

يقال له : هذا مما قد بان جوابه في كلامنا الماضي ، وجملته اننا لا ننكر أن الشهر الذي هو تسعة وعشرون يوما أنقص عددا من الذي عدده ثلاثون يوما ، وأن الذي عدده ثلاثون يوما أكمل من طريق العدد من الذي هو تسعة وعشرون.

وانما أنكرنا أن يكون أحدهما أكمل من صاحبه وأنقص منه في باب الحكم وأداء الفرض ، لأنهما على الوجه الذي يطابق الأمر والإيجاب ، وهذا ما لا يشتبه على المحصلين.

ثم قال بعد ذلك : وقد قال بعض حذاقهم ان قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) انما أراد به قضاء الفائت على العليل والمسافر ، لانه ذكره بعد قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

٢٧

ثم قال يقال لهم : لو كان الأمر على ما ظننتموه ، لكان قاضي ما فاته من علة أو سفر مندوبا إلى التكبير عقيب القضاء ، لقول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وقد أجمعت الأمة على أنه لا تكبير عليه فرضا ولا سنة ، وانما هو مندوب اليه عقيب انقضاء شهر رمضان ليلة الفطر من شوال. فعلم بما ذكرنا سقوط هذه المعارضة وصحة ما ذهبنا إليه في معنى الآية ، وأن كمال العدة يراد به نفس شهر الصيام ، وإيراده على التمام.

يقال له : قد تبينا أن أمره تعالى بإكمال العدة ليس المراد به صوموا ثلاثين على كل حال ، وانما يراد به صوموا ما وجب عليكم صيامه ، واقتضت الرؤية أو العدد الذي نصير اليه بعد الرؤية ، وأكملوا ذلك واستوفروه (١) ، فمن صام تسعة وعشرين يوما وجب عليه لموجب الرؤية ، كمن صام ثلاثين يوما وجب عليه برؤية أو عدد عند عدم الرؤية ، لأنهما قد أكملا العدة وتمماها.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فلا حاجة بنا أن نجعل قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) مخصوصا بقضاء الفائت على العليل والمسافر.

ولو قال صاحب الكتاب في جواب ما حكاه من أن بعض حذاقهم قال : ان إكمال العدة إنما أمر به العليل أو المسافر. ان هذا تخصيص للعموم بغير دليل لكان أجود مما عول عليه ، لان قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) تمام في قضاء الفائت من شهر رمضان وفي استيفاء العدد وتكميله ، وإذا صرفه صارف الى موضع دون آخر ، كان مخصصا بغير دليل.

فأما قوله «ان مندوبية التكبير انما هو عقيب انقضاء شهر رمضان لليلة الفطر وليس على قاضي ما فاته في علة أو سفر تكبير ولا هو مندوب اليه» فغلط منه ، لان التكبير وذكر الله تعالى وشكره على نعمه مندوب إليه في كل وقت وعلى

__________________

(١) ظ : واستوفوه.

٢٨

كل حال ، وعقيب كل أداء العبادة وقضائها ، فكيف يدعي أنه غير مندوب اليه الا عقيب انقضاء شهر رمضان؟.

[المناقشة في الخبر الدال على العدد]

ثم قال صاحب الكتاب : دليل آخر من جهة الأثر : وهو ما روى الشيخ أبو جعفر محمد بن بابويه القمي (رضي الله عنه) في رسالته الى حماد بن علي الفارسي في الرد على الجنيدية.

وذكر بإسناده عن محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : ان الناس يروون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام شهر رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر مما صامه ثلاثين.

فقال : كذبوا ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الا تاما ، ولا يكون الفرائض ناقصة ، ان الله تعالى خلق السنة ثلاثمائة وستين يوما ، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام يحجزها من ثلاثمائة وستين يوما ، فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما.

وهو : شهر رمضان ثلاثون يوما لقول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) والكامل تام ، وشوال تسعة وعشرون يوما ، وذو القعدة ثلاثون يوما ، لقول الله تعالى (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) والشهر هكذا شهر تام وشهر ناقص ، وشهر رمضان لا ينقص أبدا ، وشعبان لا يتم أبدا (١).

وهذا الخبر يغني عن إيراد غيره من الاخبار ، لما يتضمنه من النص الصريح على صحة المذهب ويحويه من البيان.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ١٩٦ ح ٣٢ وح ٣٣.

٢٩

قال الشريف المرتضى (رضي الله عنه) يقال له : أما هذا الخبر فكأنه موضوع ومرتب على مذهب أصحاب العدد ، لانه على ترتيب مذهبهم ، وقد احترس فيه من المطاعن واستعمل من الألفاظ ما لا يدخله الاحتمال والتأويل ، ولا حجة في هذا الخبر ولا في أمثاله على كل حال.

وقد بينا في مواضع كثيرة من كتبنا الخبر الواحد لا يوجب العلم ، ولا يقطع على صحته وان رواه العدول الثقات ، كان العلم به لا يجوز ، لأنا لا نأمن فيما نقدم عليه من الحكم الذي تضمنه أن يكون مفسدة ، ولا نقطع على أنه مصلحة ، والاقدام على مثل ذلك قبيح ، حتى ان من أصحابنا من يزيد على ذلك ويقول : ان أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبد بأحكامها من طريق العقول.

وقد بينا في مواضع كثيرة أن المذهب الصحيح هو تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول ، لكن ذلك ما ورد ولا تعبدنا به ، فنحن لا نعمل بها ، لان التعبد بها مفقود وان كان جائزا.

فإن قيل : تجيزون العمل بها من طريق العقول وورود العبادة بذلك ، مع ما ذكرتموه من أنه لا يؤمن من الاقدام عليها أن يكون مفسدة ، لأن الذي يؤمن ذلك القطع على صدق روايتها ، ولا قطع الا مع العلم ، والظن لا قطع معه.

قلنا : إذا فرضنا ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد ، آمنا أن يكون الاقدام عليها مفسدة ، لأنه لو كان مفسدة أو قبيحا لما وردت العبادة به من الحكيم تعالى بالعمل بها ، فصار دليلا على العمل بها ، يقطع معه أن العمل مصلحة وليس بمفسدة ، كما يقطع على ذلك مع العلم بصدق الراوي.

وإذا لم ترد العبادة بالعمل بأخبار الآحاد وجوزنا كذب الراوي ، فالتجويز لكون العمل بقوله مفسدة ثابتة ، ومع هذا التجويز لا يجوز الاقدام على الفعل ، لأنا لا نأمن من كونه مفسدة ، فصارت هذه الاخبار التي تروي في هذا الباب غير

٣٠

حجة ، وما ليس كذلك لا يعمل به ولا يلتفت اليه.

[حمل أخبار الرؤية على التقية والمناقشة فيه]

قال صاحب الكتاب دليل آخر : وهو أن مشايخ العصابة وأمناء الطائفة قد رووا أخبار العدد ، كما رووا أخبار الرؤية ، وقد علمنا أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا في زمان تقية ولم يكتب أحد من المتغلبين في أيامهم ، ولا من العامة في وقتهم بقول في العدد فيخوفه (١) ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على أن أخبار الرؤية أولى بالتقية.

يقال له : هذا منك كلام على من يحتج في إثبات الرؤية بأخبار الآحاد المروية ، ونحن لا نحتج بشيء من ذلك ولا نقول الا على طرف من الأدلة توجب العلم ويزول معها الشك والريب ، وقد تقدم في صدر كتابنا هذا ما يجب أن يعول عليه.

فأما ترجيح أخبار العدد على أخبار الرؤية بذكر الرؤية ، فهو وإن كان كلاما على غيرنا ممن يعول (٢) على أخبار الآحاد في إثبات العمل بالرؤية. فهو أيضا غير معتمد ، لأن أكثر ما في هذا الترجيح الذي ذكره أن يكون أخبار العدد الظن فيها أقوى منه في أخبار الرؤية ، ومع الظن بالتجويز (٣) قائم ، والعلم القاطع غير حاصل ، والعمل مع ذلك لا يسرع(٤) ، لان العمل انما يحسن مع القطع لا مع قوة الظن.

__________________

(١) خ ل : فيفوته.

(٢) خ ل : يقول.

(٣) ظ : فالتجويز.

(٤) ظ : لا يشرع.

٣١

قال صاحب الكتاب : ويزيد ذلك بيانا ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : إذا أتاكم عنا حديثان فحدثوا (١) بأبعدهما من أقوال العامة (٢). وفي إجماع العامة على القول بالرؤية ، مع ورود هذه الاخبار عن الأئمة صلوات الله عليهم دلالة واضحة على وجوب الأخذ بالعدد ، وأنه الأصل الذي عليه المعول.

يقال له : ومن أين علم صحة هذا الخبر المروي عن الصادق عليه‌السلام حتى جعلته أصلا ، وعولت عليه في العمل بالأخبار المروية ، وترجيح بعضها على بعض ، إذ ليس هذا الخبر من أخبار الآحاد ، نعني بقولنا «انه من أخبار الآحاد» أنه لا يوجب علما ولا ينفي تجويزا وان كان رواه أكثر من واحد.

فكيف تعول في أخبار الآحاد وترجيح بعضها على بعضها على خبر هو من جملة أخبار الآحاد ، وهذا يعول عليه من أصحابنا من لا يعرف ما تقوله وتأتيه وتذره.

[الاستدلال بالقياس على العدد والمناقشة فيه]

ثم قال صاحب الكتاب : استدلال من طريق القياس ، ومما يدل على ما نذهب إليه في شهر رمضان ، انا وجدنا صيامه أحد فرائض الإسلام ، فوجب من فرضه سلامة أيامه من الزيادة والنقصان ، قياسا على الصلوات الخمس التي لا يجوز كونها مرة أربعا ومرة خمسا ومرة ستا ، وعلى الزكاة أيضا لفساد إخراج أربعة من المائتين وخمسة مرة أخرى ، فعلم بهذا الاعتبار أن شهر رمضان لا يجوز عليه زيادة ولا نقصان.

يقال له : إذا كان القياس عندك باطلا وعند أصحابنا ، فكيف ولا خلاف

__________________

(١) في الهامش : فخذوا.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ / ٨٥ ما يدل على مضمون الحديث.

٣٢

بينهم يحتج بما ليس بحجة عندك؟ وكيف تثبت الأحكام الشرعية بما ليس بدليل؟

فان قال ما قاله بعيد هذا الموضع. ننكر من القياس ما خالف النصوص ، وقياسنا هذا يعضده النص الوارد في القرآن ، والاخبار تدل على صحته واستمراره على أصله.

قيل له : هذا مخالف لما يقوله أصحابك المتقدمون والمتأخرون ، لأن القياس عندهم باطل لا يجوز اعتماده فيما وافق النصوص وفيما خالفها ، ولا هو حجة في شيء من الاحكام على وجه وعلى سبب.

وإذا كانت النصوص تدل على الحكم ، أي حاجة بنا الى استعمال القياس في ذلك الحكم ، وقد عرفناه من طريق النصوص ، فوجود القياس هاهنا كعدمه ، وانا إذا كنا نستغني بالنص الوارد في الحكم عن نص الأخر ، وان كان الثاني حجة دالا على الحكم.

على أن القياس الذي استعملته ليس كذلك ، استعماله باطل غير صحيح في نفسه ، لأن الأصل الذي قست عليه ـ وهو الصلوات ـ يجوز اختلاف العبادة فيها على المكلفين بالزيادة والنقصان.

ألا ترى أن من دخل في صلاة الظهر لا يعلم أنه يبقى حتى يصلي الركعات الأربع ، وأنه يجوز على الاخترام قبل التمام ، وانما يعلم أنه مكلف بالأربع إذا فرغ منها وجاوزها.

وقد يجوز أن يبقي الله سبحانه بعض المكلفين صحيحا سليما الى أن يصلي الأربع ، وقد يجوز أن يقبضه وقد فرغ من واحدة أو اثنتين أو ثلاث ، فيعلم أن الذي دخل في تكليفه ما نقص الفراغ منه ، وما اقتطع دونه من الركعات فليس بداخل في تكليفه ، فقد اختلف الفرض كما ترى ، وصار فرض بعض المكلفين

٣٣

في الصلوات زائدا وبعضهم ناقصا ، وجرى ذلك مجرى شهر رمضان ، فإنه يلحقه الزيادة والنقصان.

فيجب على من رأى الهلال ليلة الثلاثين أن يفطر ، ويكون فرضه تسعة وعشرين يوما. ويكون من لم يره ولا شهد عنده بمن يجب العمل بقبوله (١) ، أن يصوم ثلاثين ، فيختلف فرضاهما. ويجب أيضا على الجميع إذا غم عليهم ليلة الثلاثين أن يصوموا شهرا على التمام. ويجب عليهم إذا رأوه ليلة الثلاثين أن يفطروا ، فيختلف التكليفان باختلاف الأحوال.

وعلى هذا يختلف أحوال المكلف (٢) في الصيام ، فان اخترم في أيام شهر رمضان فتكليفه ما صامه من الأيام ، وعلمنا بالاخترام أن صيام باقي الشهر لم يكن في تكليفه ، ومن الباقي الى آخر الشهر قطعنا على أنه مكلف بصيام جميع الشهر.

وهذا يخفى على من لم يعرف كيف الطريق الى العلم بدخول بعض الافعال في التكليف وهل يسبق ذلك وقوع الفعل أو يتأخر عنه.

[الاستدلال بمعرفة العبادات في أوقاتها والمناقشة فيه]

قال صاحب الكتاب : استدلال آخر وهو : ان جميع الفرائض يعلم المكلف أوقاتها قبل حلولها ، ويعلم أوائلها قبل دخوله فيها ، وكذلك يعلم أواخرها قبل تقضيها.

ألا ترى أنه لا شيء من الصلوات وطهورها والزكوات وشرائطها وفرائض الحج والعمرة ومناسكها الا وهذه صفته وحكمه ، فعلمنا أن شهر رمضان كذلك إذا كان أحد الفرائض ، يجب أن يعلم أوله قبل دخول التكليف فيه وآخره قبل

__________________

(١) ظ : من يجب العمل بقوله.

(٢) في الهامش : التكليف.

٣٤

تقضيه ، وهذا لا يقدر عليه الا بالعدد دون الرؤية ، فعلم أن العدد هو الأصل.

يقال له : إن أردت بكلامك هذا أن جميع الفرائض لا بدّ أن يعلم المكلف أوقاتها قبل دخوله فيها وأوائلها وأواخرها ، وأنه لا بدّ أن يعلم ذلك على الجملة ، ويكون مميزا للأول والأخر بالصفات التي أوردتها الشريعة من غير أن يعلم أنه في نفسه لا يكون داخلا في تكليف الأول والأخر ، فالآخر على ما ذكرت.

وان أردت أنه لا بدّ أن يعلم قبل الدخول فيها أنه مكلف لأولها وآخرها في تكليف الأخر كما دخل في تكليف الأول ، فقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك ، وأن المكلف يعلم أنه مكلف للآخر ولا كل جزء من العبادات الا بعد قطعه وتجاوزه.

فان قيل : لا يعلم المكلف على مذهبكم قبل دخول شهر رمضان أول هذه العبادة وآخرها.

قلنا : يعلم أول هذه العبادة بأن يشاهد الهلال ليلة الشهر ، أو يخبره من يجب عليه قبول خبره برؤيته ، فيعلم بذلك أنه أول هذه العبادة قبل دخوله فيها.

فأما آخرها فيعلمه أيضا قبل الوصول إليه ، بأن يشاهد الهلال ليلة الثلاثين ، أو يخبره عن مشاهدته من يلزمه العمل بخبره ، أو بأن يفقد الرؤية مع الطلب والخبر عنها ، فيلزمه أن يصوم الثلاثين ، فقد صار أول شهر رمضان وآخره متميزين عند أصحاب الرؤية كما تميز عند أصحاب العدد.

فان قيل : التميز عند أصحاب العدد واضح ، لأنهم يقولون على شيء واحد في أول الشهر وآخره ، وهو العدد دون انتقال من غيره اليه ، وأصحاب الرؤية يقولون على الرؤية التي يجوز أن تحصل وأن لا تحصل ، ثم ينتقلون إذا لم تحصل الى العدد.

قلنا : وأي فرق بين تمييز العبادة وتعيينها بين أن يتميز بأمر واحد لا ينتقل

٣٥

منه الى غيره ولا يختلف حكمه ، وبين أن تتميز ما ميز بتقدر حصوله وبتوقع كونه فان وقع تميز به وان لم يقع وقع الانتقال إلى أمر آخر ، وأكثر الشريعة على ما ذكرناه ، وأنها تتميز بأوصاف مختلفة وشروط متعاقبة مترتبة.

أولا ترى أن العدة في الطلاق قد تختلف على المرأة ، فتقيد تارة بالشهور وتارة بالاقراء، فتنتقل العدة بالمعتدة الواحدة من شهور الى اقراء ومن اقراء الى شهور ، فتختلف العادة. وهذا الاختلاف كاختلاف الشروط والصفات فيها.

[الاستدلال بالحصر على بطلان الرؤية والمناقشة فيه]

قال صاحب الكتاب : أخبرونا عمن طلب أول شهر رمضان إذا رقب الهلال فرآه ، لا يخلو أمره من احدى ثلاث خصال :

اما أن يعتقد برؤيته أنه قد أدرك معرفة أوله لأهل الإسلام ، حتى لا يجيز ورود الخبر برؤيته قبل ذلك في بعض البلاد.

أو يعتقد أنه أول الشهر عنده ، لانه رآه ويجزي رؤية غيره له من قبل واستتاره عنه في الحال ، لكنه لا يلتفت الى هذا الجواز ، ولا يعول الا على ما أدركه ورآه.

أولا يعتقد ذلك ويقف مجوزا غير قاطع ، لإمكان ورود الخبر الصادق بظهوره لغيره قبل تلك الليلة في إحدى الجهات. فعلى أي هذه الأقسام يكون تعويل المكلف في رؤية الهلال؟

فان قالوا : على القسم الأول ، وهو القطع وترك التجويز مع المشاهدة ليصح الاعتقاد ، أوجبوا على المكلف اعتقاد أمر آخر يجوز عند العقلاء خلافه وألزموه ترك ما يشهد به الامتحان والعادة بتجويزه ، لان اللبس يرتفع عن ذوي التحصيل في اختلاف أسباب المناظر وجواز تخصيص العوارض والموانع.

٣٦

ثم ما رووه من وجوب صوم الشك حذرا من ورود الخبر برؤية الهلال ، يدل على بطلان ذلك.

وان قالوا : يعتمد على القسم الثاني ، فيعتقد أنه أول الشهر لما دلته عليه المشاهدة ، ولا تكثرت لما سوى ذلك من الأمور المجوزة. أجازوا اختلاف أول شهر رمضان ، لجواز اختلاف رؤية الهلال. وأحلوا لبعض الناس الإفطار في يوم ، أوجبوا على غيرهم فيه الصيام ، ولزمهم في آخر الشهر نظير ما التزموه في أوله من غير انفصال.

وهذا يؤول إلى نقصانه عند قوم وكونه عند قوم على التمام ، وفيه أيضا بطلان التواريخ وفساد الأعياد ، مع عموم التكليف لهم بصومه على الكمال ، وهو خلاف ما أجمعت عليه الشيعة من الرد على أصحاب القياس ، من بطلان تحليل شيء وتحريمه على غيرهم من الناس.

وهو أيضا يضاد ما يروونه من صوم يوم الشك على سبيل الاستظهار. وظهور بطلان هذا القسم يغني من الإطالة فيه والإكثار.

وان قالوا : الواجب على العبد إذا رأى الهلال أن لا يبادر بالقطع والثبات ، وأن يتوقف مجوزا ، لورود أخبار البلاد بما يصح معه الاعتقاد. كان هذا بعيدا عن الصواب وأولى بالفساد ، وهو مسقط عن كافة الأمة اعتقاد أول شهر رمضان الى أن يتصل بهم أخبار البلاد.

وكيف السبيل لمن لم ير الهلال الى العلم ، بأنه قد رأى في بعض الجهات ، فيثبت له النية في فرض الصيام ، بل كيف يصنع من رآه إذا اتصل به انه ظهر قبل تلك الليلة للناس ، ومتى يستدرك النية والاعتقاد في أمر قد فات.

ثم قال : واعلم أن إيجابهم لصوم يوم الشك ، لا يسقط ما لزمهم في هذا الكلام ، لأنا سألناهم عن النية والاعتقاد. وليس يمكنهم القول بأن يوم الشك

٣٧

من شهر رمضان ، ولا يجب على من أفطره ما يجب من أفطر يوما فرض عليه فيه الصيام ، والشك فيه يمنع من النية على كل حال.

يقال له : القسم الثاني من اقسامك التي ذكرتها هو الصحيح المعتمد ، وما رأيناك أبطلت هذا القسم الا بما لا طائل فيه ، لأنك قلت : انه يلزم على اختلاف أول شهر رمضان ، لجواز اختلاف رؤية الهلال ، أن يحل لبعض الناس الإفطار في يوم يجب على غيرهم فيه الصيام ، وأنه يلزم في آخر الشهر نظير ما لزم في أوله ، وهذا يؤول إلى انقضائه عند قوم، وكونه عند غيرهم على التمام.

وهذا الذي ذكرته كله وقلت انه لازم لهم ، صحيح ونحن نلتزم ذلك ، وهو مذهبنا. وأي شيء يمنع من اختلاف العبادات لاختلاف أسبابها وشروطها ، وأن يلزم بعض المكلفين من العبادة ما لم يلزم غيره ، فتختلف أحوالهم باختلاف أسبابهم.

ومن الذي يدفع هذا وينكره والشريعة مبنية عليه ، ألا ترى أن من وجب عليه بعض الصلوات ويجتهد في جهة القبلة ، فغلب في ظنه بقوة بعض الأمارات أنها في جهة مخصوصة ، فإنه يجب عليه الصلاة الى تلك الجهة.

وإذا اجتهد مكلف آخر فغلب في ظنه أنها في جهة أخرى غير تلك [الجهة] فإنه يجب عليه أن يصلي الى تلك الجهة الأخرى وان خالفت الاولى فقد اختلفت فرض هذين المكلفين كما ترى ، وصار فرض أحدهما أن يصلي الى جهة وفرض الأخر أن يصلي الى خلافها.

وكذلك لو دخل اثنان في بعض الصلوات وذكر أحدهما أنه على غير وضوء وأنه أحدث ونقض الوضوء ، والأخر لم يذكر شيئا من ذلك ، لكان فرض أحدهما أن يقطع الصلاة ويستأنفها ، وفرض الأخر أن يمضي فيها ويستمر عليها.

وكذلك لو حضر ماء بين يدي محدثين ، فغلب في ظن أحدهما بأمارة لاحت

٣٨

له نجاسة ذلك الماء ، والأخر لم يغلب في ظنه نجاسته ، لكان فرضاهما مختلفين ووجب على أحدهما أن يتجنب ذلك الماء ، وعلى الأخر أن يستعمله.

وكذلك حكم الأوقات عند من غلب في ظنه دخول بعض الصلوات ، فإنه يجب عليه الصلاة في ذلك الوقت ، ومن لم يغلب ذلك في ظنه لا يحل له أن يصلي في ذلك الوقت. وهذا أكثر من أن يحصى ، والشريعة مبنية على ذلك.

وكما يجوز أن يكون الوقت وقتا للصلاة عند قوم ، وغير وقت لها عند آخرين. والقبلة في جهة عند قوم ، وعند آخرين خلاف ذلك ، فيختلف الفرض بحسب اختلاف الأسباب ، كذلك يجوز أن يكون الشهر ناقصا عند قوم وتاما عند آخرين ، والا فما الفرق.

فأما قوله «ان في ذلك بطلان التواريخ وفساد الأعياد يتبعان الرؤية» وقد يجوز أن يكون عيد قوم غير عيد غيرهم ، لان ذلك يتبع الأسباب المختلفة.

[نقل كلام المستدل بالعدد والمناقشة فيه]

فأما قوله «وفي هذا ان نية المعلوم من حقيقة المنتهى عند الله تعالى غير معلوم لسائر العباد ، مع عموم التكليف لهم بصومه على الكمال».

فكلام غير متحقق لما يقوله خصومة في هذا الباب ، لان المعلوم من حكم الشريعة عند الله تعالى هو المعلوم للعباد من غير اختلاف ولا زيادة ولا نقصان ، لان الله تعالى إذا أوجب على من رأى الهلال ليلة الشهر أن يصومه ويفتح اليوم الذي رأى الهلال من ليله بالصوم ، ويحكم بأنه في عبادته أول الشهر على الحقيقة في حقه وأوجب على من لم يره في تلك الليلة ولا خبره برؤيته أن يحكم بأنه ليس من شهر رمضان ، ولا وجب عليه فيه الصيام.

فالمعلوم لله تعالى هو هذا بعينه وانه تعالى يعلم هذا الذي فصلناه وفسرناه ،

٣٩

وهو أن هذا اليوم في حق من رأى الهلال في ليلة من شهر رمضان ، فواجب عليه صومه ، وليس هو من شهر رمضان في حق من لم يره ولا صح بالخبر رؤيته ، ولا معلوم له يخالف ذلك.

كما قلنا في سائر المسائل الشرعية ، وفي جهة القبلة ، وان من غلب في ظنه أنها في جهة مخصوصة ، وجب عليه التوجه الى خلاف الجهة الاولى ، واختلف فرض هذين المكلفين ، وكان معلوم الله تعالى مطابقا لمعلومهما وغير مختلف لما وجب عليهما وعلماه في هذا الباب.

فان قيل : أليس الله تعالى لا بدّ أن يكون عالما بأن القبلة في جهة بعينها لا يجوز عليه الاختلاف وان اختلف ظنون المتوجهين ، وكذلك لا بدّ أن يكون عالما بطلوع الهلال في ليلة مخصوصة ، أو بفقد طلوعها فيها وان لم يظهر ذلك بعينه للمكلف ، وكيف يكون ما علمه الله تعالى في هذه المواضع مساويا لما يعتقده العبد ويعمله.

قلنا : لا اعتبار في باب التكليف بجهة الكعبة نفسها ، مع فقد المعاينة وبعد الدار ، وانما الاعتبار الذي يتبعه الحكم انما يرجع الى ظن المكلف بما يؤديه إليه اجتهاده في جهة الكعبة مع بعد داره عنها.

وتكليفه انما يختلف بحسب اختلاف ظنونه ، فإذا غلب في ظنه أنها في جهة مخصوصة ، فتكليفه متعلق بالتوجه إلى الجهة بعينها ، سواء كانت الكعبة فيها أو لم تكن ، وان كان فرضه بالتوجه متعلقا بما يغلب في ظنه أنه جهة الكعبة ، فتلك الجهة هي قبلته ، والمفروض عليه التوجه إليها ، وعلم الله متعلق بهذا بعينه.

وكذلك القول في مكلف آخر غلب في ظنه أن جهة الكعبة في جهة أخرى ، فان الواجب عليه التوجه الى تلك الجهة وهي جهة القبلة ، والقول في طلوع الهلال واستتاره كالقول في الكعبة ، فلا معنى لإعادته.

٤٠