رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

يكون مثل ثوابه له ، فان الثواب لا ينقلب ولا يتغير (١) بانقلاب الصور والخلق ، فإنه انما يستحق على الاعمال دون الهيئات.

وغير ممتنع أن (٢) يكونا رغبا في أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها ، وليس ذلك برغبة في الثواب ولا الفضل ، فان الثواب لا يتبع الهيئات والصور. ألا ترى أنهما رغبا في أن يكونا نم الخالدين ، وليس الخلود مما يقتضي مزية في ثواب ولا فضلا فيه ، وانما هو نفع عاجل ، وكذلك لا يمتنع أن (٣) تكون الرغبة منهما في أن يصيرا (٤) ملكين انما كانت على هذا الوجه.

ويمكن أن يقال للمعتزلة خاصة وكل من أجاز على الأنبياء الصغائر : ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أن الملك أفضل من النبي وغلطا في ذلك وكان منهما ذنبا صغيرا ، لان الصغائر تجوز (٥) عندكم على الأنبياء ، فمن أين لكم إذا اعتقدا أن الملائكة أفضل من الأنبياء ورغبا في ذلك (٦) أن الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب.

وليس لهم أن يقولوا : ان الصغائر إنما تدخل (٧) في أفعال الجوارح دون القلوب ، لان ذلك تحكم بغير برهان ، وليس يمتنع (٨) معنى هذا الحد في أفعال القلوب

__________________

(١) في ن : ولا ينقلب.

(٢) في أ : في أن.

(٣) في أ : في أن.

(٤) في ا : تصيرا.

(٥) في ا : يجوزا.

(٦) في ا : بذلك.

(٧) في أو «ن» : انما الصغير انما يدخل.

(٨) في ن في الموضعين : بممتنع.

١٦١

كما لم يمتنع (١) في أفعال الجوارح.

ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا : ما أنكرتم أن يكون هذا القول انما يوجه (٢) الى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فأخرج الكلام على حسب اعتقادهم ، وأخر ذكر الملائكة لذلك. ويجري هذا القول مجرى من قال [منا (٣)] لغيره : «لن يستنكف أبي أن يفعل كذا ولا أبوك» ، وان كان القائل يعتقد أن أباه أفضل ، وانما أخرج الكلام على [حسب (٤)] اعتقاد المخاطب لا المخاطب.

ومما يجوز أن يقال أيضا : انه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام وان ذهبنا الى أن الأنبياء أفضل منهم ، ومع التقارب (٥) والتداني يحسن أن يؤخر ذكر الأفضل الذي لا تفاوت بينه وبين غيره في الفضل ، وانما مع التفاوت (٦) لا يحسن ذلك. ألا ترى أنه يحسن أن يقول القائل : «ما يستنكف الأمير فلان من كذا ولا الأمير فلان [من كذا]» (٧) ، وان كانا (٨) متساويين متناظرين أو متقاربين ، ولا يحسن أن يقول : «ما يستنكف الأمير من كذا ولا الحارس» لأجل التفاوت.

وأقوى من هذا أن يقال : إنما أخر ذكر الملائكة عليهم‌السلام عن ذكر المسيح لان جميع الملائكة أكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا ، وهذا لا

__________________

(١) في ا : كما لم يمنع.

(٢) في الأمالي : إنما توجه.

(٣) الزيادة من الأمالي.

(٤) الزيادة من الأمالي.

(٥) في ا : التفاوت.

(٦) في الأمالي : التفاوت والتداني.

(٧) الزيادة من الأمالي.

(٨) في الأمالي : وان كان.

١٦٢

يقتضي أن كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وانما الخلاف في ذلك.

ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا : ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير ، ولم يرد التبعيض. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير ، ولم يرد التبعيض. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)(١) والمعنى (٢) لا تشتروا بها ثمنا [قليلا (٣)] وكل ثمن تأخذونه عنها قليل ، ولم يرد التخصيص والمنع من الثمن القليل خاصة.

ومثله قول الشاعر :

من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع (٤)

وانما أراد نفي الفحش كله عن أخلاقهم وان وصفه بالعاجل ، ونفي الجزع عنهم وان وصفه بالسوء.

وهذا من غريب البلاغة ودقيقها ، ونظائره في الشعر والكلام الفصيح لا تحصر (٥).

وقد كنا أملينا في تأويل هذه الآية كلاما مفردا استقصيناه (٦) وشرحنا هذا الوجه وأكثرنا من ذكر أمثلته.

ووجه آخر في تأويل هذه الآية ، وهو أنه غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة عليهم‌السلام أفضل من جميع بني آدم ، وان كان في جملة بني آدم من الأنبياء

__________________

(١) سورة البقرة : ٤١.

(٢) في الأمالي : معناه.

(٣) الزيادة من الأمالي.

(٤) لسويد بن أبي كاهل اليشكري المفضليات ص ١٩١ ٢٠٢.

(٥) في أ : لا يحصى.

(٦) في ا : أسقطناه وفي «ن» لا تحصى.

١٦٣

عليهم‌السلام من يفضل كل واحد [منهم (١)] على كل واحد من الملائكة ، لأن الخلاف انما هو في فضل كل بني آدم (٢) على كل ملك. وغير ممتنع أن يكون جميع الملائكة فضلاء يستحق كل واحد منهم الجزيل الكثير (٣) من الثواب ، فيزيد ثواب جميعهم على ثواب جميع بني آدم، لأن إلا فاضل من بني آدم أقل عددا ، وان كان في بني آدم آحاد كل منهم أفضل من كل واحد من الملائكة.

ووجه آخر مما يمكن أن يقال في هذه الآية أيضا : ان مفهوم الآية إذا تؤملت يقتضي أنه تعالى لم يرد الفضل الذي هو زيادة الثواب ، وانما أراد النعم والمنافع الدنيوية. ألا ترى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ، والكرامة انما هي الترفيه وما يجري مجراه. ثم قال (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ)(٤). ولا شبهة في أن الحمل لهم في البر والبحر ورزق الطيبات خارج عما يستحق به الثواب ، ويقتضي التفضيل الذي وقع الخلاف فيه (٥) ، فيجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا في هذا الباب وفي (٦) هذا القبيل ، فإنه أشبه من أن يراد به غير ما سياق الآية وارد به ومبني عليه. وأقل الأحوال (٧) أن تكون لفظة «فضلناهم» محتملة للأمرين ، فلا يجوز الاستدلال (٨) بها على خلاف ما نذهب اليه.

__________________

(١) الزيادة من الأمالي.

(٢) في أ : كل نبي.

(٣) في الأمالي : الأكثر.

(٤) سورة الإسراء : ٧٠.

(٥) في الأمالي : وقع إطلاقه فيه.

(٦) في أو «ن» : ومن.

(٧) في أ : وأحسن الأحوال.

(٨) في أو «ن» : أقل الاستدلال.

١٦٤

ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا : لا دلالة في هذه الآية على أن حال الملائكة أفضل من حال الأنبياء (١) ، لأن الغرض في الكلام انما هو نفي ما لم يكن عليه ، لا التفضيل لذلك على ما هو عليه. ألا ترى أن أحدنا لو ظن [به (٢)] أنه على صفة (٣) وليس عليها جاز أن ينفيها (٤) عن نفسه بمثل هذا اللفظ وان كان على أحوال هي أفضل من تلك الحال(٥) وأرفع.

وليس يجب إذا انتفى مما تبرأ منه (٦) من علم الغيب وكون خزائن الله تعالى عنده أن يكون فيه فضل أن يكون ذلك معتمدا في كل ما يقع النفي له والتبري منه ، وإذا لم يكن ملكا كما لم يكن عنده خزائن الله جاز أن ينتفي من الأمرين ، من غير ملاحظة لان حاله دون هاتين الحالتين.

ومما يوضح هذا ويزيل الاشكال فيه أنه تعالى حكى عنه في آية أخرى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً)(٧) ونحن نعلم أن هذه منزلة غير جليلة (٨) وهو على كل حال أرفع منها وأعلى ، فما المنكر من أن يكون نفي الملكية عنه في أنه لا يقتضي أن حاله دون حال الملك بمنزلة نفي هذه المنزلة.

والتعلق بهذه الآية خاصة ضعيف جدا ، وفيما أوردناه كفاية [وبالله التوفيق (٩)]

__________________

(١) في أو «ن» : من حال النبي.

(٢) الزيادة من أو «ن».

(٣) في الأمالي : على صفة الملائكة.

(٤) في أو «ن» : ينفيه.

(٥) في أو «ن» : الأحوال.

(٦) في أو «ن» : إذا اتفق فيما تبرأ به.

(٧) سورة هود : ٣١.

(٨) في أو «ن» : على أحوال.

(٩) الزيادة من الأمالي ، وفي «ن» : ولله الحمد والمنة.

١٦٥
١٦٦

(٢١)

مسألة في المنع عن تفضيل الملائكة على الأنبياء

١٦٧
١٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ان سأل سائل مستدلا على فضل الملائكة على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال : ما تنكرون (١) أن يكون قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٢) ، يدل على ذلك.

ووجه الدلالة منه : أنه تعالى خبر بأنه فضل بني آدم على كثير ممن خلقه ، وظاهر هذا الكلام يقتضي أن في خلقه من لم يفضل بني آدم عليه ، وقد علمنا أن المخلوقات هم الانس والجن والملائكة والبهائم والجمادات. ومعلوم أن بني آدم أفضل من الجن والبهائم والجمادات بلا شبهة ، فيجب أن يكون من يجب خروجه من الكلام ممن لم يفضل بني آدم عليهم هم الملائكة عليهم‌السلام والا سقطت الفائدة.

__________________

(١) في الأصل : ينكرون.

(٢) سورة الإسراء : ٧٠.

١٦٩

على أن لفظة «من» لا تتوجه إلى البهائم والجمادات ، وانما تختص بمن يعقل ، فليس يدخل تحتها ممن يجوز أن يفضل الآدميون عليه الا الملائكة والجن وإذا علمنا أنهم أفضل من الجن بقي الملائكة خارجين من الكلام ، وفي خروجهم دلالة على أنهم أفضل.

الجواب :

يقال له : لم زعمت أو لا أن ظاهر الكلام يقتضي أن في المخلوقات من لم يفضل بني آدم عليه ، فعلى ذلك بنيت (١) الكلام كله ، فإنه غير صحيح ولا يسلم. فان قال : ان لفظة «كثير» تقتضي ذلك.

قيل له : من أين قلت انها تقتضي ما ادعيته ، ويطالب بالدلالة ، فإنا لا نجدها.

ثم يقال له : قد جرت عادة الفصحاء من العرب بأن يستعملوا مثل هذه اللفظة من غير ارادة للتخصيص بل مع قصد الشمول والعموم ، فيقولون : «أعطيته الكثير من مالي ، وأبحته المنيع من حريمي ، وبذلت له العريض من جاهي» ، وليس يريدون أنني أعطيته شيئا من مالي وادخرت عنه شيئا آخر منه ، ولا أبحته منيع حريمي ولم أبح (٢) ما ليس يمنعها ، ولا بذلت له عريض جاهي ومنعت ما ليس بعريض ، وانما المعزي بذلك والقصد : اننى أعطيته مالي ومن صفته أنه كير ، [وبذلت له جاهي ومن صفته أنه عريض (٣)].

وله نظائر في القرآن كثيرة ، وفي أشعار العرب ومحاوراتها ، وهو باب معروف لا يذهب على من أنس بمعرفة لحن كلامهم ، ونحن نذكر منه طرفا لان

__________________

(١) خ ل : شيدت.

(٢) في الأصل : ولم أبحه ما ليس منيعا.

(٣) الزيادة من الهامش ، وبعدها وضع حرف ظ.

١٧٠

استيعاب الجميع يطول :

فمما يجري هذا المجرى قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)(١) ولم يرد أن لها عمدا لا ترونها (٢) بل أراد نفي العمد على كل حال.

وقال تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ)(٣) ، ولم يرد أن لأحد برهانا في دعاء مع الله تعالى ، بل أراد أن من فعل ذلك فقد فعل مالا برهان عليه.

وقوله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ)(٤) ولم يرد تعالى أن فيمن يقتل من الأنبياء من يقتل بحق ، بل المعنى ما ذكرناه وبيناه.

ومثله قوله (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)(٥) ، ولم يرد النهي عن الثمن القليل دون الكثير ، بل نهى تعالى عن أخذ جميع الأثمان عنها والابدال ، ووصف ما يؤخذ عنها بالقلة.

وقال سويد بن أبي كاهل (٦) :

من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع (٧)

__________________

(١) سورة الرعد : ٢.

(٢) في الأصل : لا تروه.

(٣) سورة المؤمنون : ١١٧.

(٤) سورة النساء : ١٥٥.

(٥) سورة البقرة : ٤١.

(٦) سويد بن أبي كاهل (واسمه غطيف أو شبيب) بن حارثة بن حسل الذبياني الكناني اليشكري ، أبو سعد شاعر من مخضرمى الجاهلية والإسلام ، توفي سنة ستين هجرية (الاعلام للزركلى : ٣ / ٢١٥).

(٧) من قصيدة في المفضليات ص ١٩١ ٢٠٢.

١٧١

ولم يثبت بهذا الكلام في أخلاقهم فحشا أصلا وجزعا غير سيئ ، وانما نفى الفحش والجزع على كل حال ، ولو لا ذلك لكان هاجيا لهم ولم يكن مادحا.

وقال الفرزدق (١) :

ولم تأت غير أهلها بالذي أتت

به جعفرا يوم الهضيبات عيرها (٢)

أتتهم بتمر لم يكن هجرية (٣)

ولا حنطة الشام المزيت خميرها (٤)

فقوله «لم يكن هجرية» أي لم يحمل التمر الذي يكون كثير في هجر (٥) ، ولم يرد بباقي البيت أن هناك حنطة ليس في خميرها زيت ، بل أراد بها لم يحمل تمرا ولا حنطة ، ثم وصف الحنطة بأن الزيت يجعل في خميرها.

ونظائر هذا الباب أكثر من أن تحصى.

فعلى ما ذكرناه لا ينكر أن يريد تعالى : انا فضلناهم على جميع من خلقنا وهم كثير ، فجرى ذكر الكثرة على سبيل الوصف المعلق لا على وجه التخصيص وليس لأحد أن يخبر بقوله (٦) : «فعل كذا وكذا كثير من الناس» على سبيل التخصيص دون العموم.

__________________

(١) همام بن غالب بن صعصعة التميمي ، أبو فراس صاحب الجرير ، قيد رجليه فلم يفك القيد حتى حفظ القرآن الكريم ، وكان من الشعراء الفحول حتى قال هو «قد علم الناس أنى أفحل الشعراء» ، توفي سنة ١١٠ ، وقيل سنة ١١٢ ، وقيل سنة ١٤٤ (معاهد التنصيص : ١ / ٤٥ ٥١).

(٢) كذا في الديوان ، وفي الأصل : به جعفر القرم يوم الهضاب عيرها.

(٣) كذا في الأصل ، وفي الديوان : أتتهم بعير لم تكن هجرية.

(٤) ديوان الفرزدق : ١ / ٣٦٨.

(٥) هجر مدينة ، وهي قاعدة البحرين ، وقيل ناحية البحرين كلها هجر (معجم البلدان ٥ / ٣٩٣).

(٦) في الأصل : بقولهم.

١٧٢

وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(١) وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)(٢) ، وذلك انا لم نقل ان هذه اللفظة في كل موضع تستعمل بمعنى واحد ، بل الوجه في استعمالها يختلف ، وربما أريد بها التخصيص وربما أريد ما ذكرناه مما تقدم ، وانما يرجع في ذلك اما الى الوضع أو الى الدلالة تدل على المعنى المقصود ، وانما أردنا الرد على من ادعى أنها تقتضي التخصيص لا محالة ، فدفعناه عن ذلك بما أوردناه.

وليس لأحد أن يدعي أن الظاهر من هذه اللفظة يقتضي التخصيص وانها إذا وردت لا تقتضيه كانت مجازا وعمل عليه بدلالة. لأن ذلك تحكم من قائله.

وإذا عكس عليه وقيل له : بل التخصيص هو المجاز وورودها مورد النعت والوصف هو الحقيقة ، لم يجد فصلا.

ووجه آخر :

وهو أن الجنس انما يكون مفضلا على الجنس على أحد وجهين : اما بأن يكون كل عين من أعيانه أفضل من أعيان الجنس الأخر ، أو بأن يكون الفضل في أعيانه أكثر ، وليس يجوز أن يفضل الجنس على غيره بأن يكون فيه عين واحدة أفضل من كل عين في الجنس الأخر وباقية خال من فضل ، ويكون الجنس الأخر لكل عين منه فضلا وان لم يبلغ الى فضل تلك العين التي ذكرناها ، ولهذا لا يجوز أن يفضل أهل الكوفة وباقي أهل بغداد لا فضل لهم ، حتى كان كثير من أهل الكوفة ذوي فضل وان لم يبلغوا إلى منزله الفاضل الذي ذكرناه.

__________________

(١) سورة الانعام : ١١٩.

(٢) سورة الروم : ٨.

١٧٣

فإذا صحت هذه المقدمة لم ينكر أن جنس بني آدم [مفضولا (١)] لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم على مذهب أكثر الناس أو لأكثرهم ، والفضل في بني آدم مخصص بقليل من كثير.

وعلى هذا لا ينكر أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة وان كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، للمعنى الذي ذكرناه ، ولما تضمنت الآية ذكر بني آدم على سبيل الجنسية وجب أن يفضلوا على من عدي الملائكة ، ولو ذكر الأنبياء بذكر يخصهم ممن عداهم ممن ليس بذي فضل لفضلهم على الملائكة.

وهذا واضح بحمد الله وحسن معونته وتوفيقه.

__________________

(١) الزيادة منا لتتميم الكلام. وفي هامش النسخة : أفضل.

١٧٤

(٢٢)

إنقاذ البشر من الجبر والقدر

١٧٥
١٧٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

نبدأ (١) رسالتنا هذه بالحمد لله ربنا على نعمة الواصلة [منه (٢)] إلينا ، وعلى إحسانه المتقدم علينا (٣) ، إذ أصبحنا (٤) بتوحيده وعدله قائمين ولمن جوّره في حكمه غائبين، ولمعاصينا عليه غير حاملين ، وبآثار أئمة الهدى مقتدين ، وبالمحكم من كتابه وآياته متمسكين.

فالحمد لله الذي اختصنا بهذه النعمة ، وشرفنا بهذه الفضيلة ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين ، الذي جعله رحمة للعباد أجمعين واستنقذ به من الهلكة ، وهدى به من الضلالة ، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، فبلغ عن ربه ، واجتهد في طاعته ، حتى أتاه اليقين ، وعلى آله الطاهرين.

سألت أعزك الله وأرشدك إملاء رسالة في القدر فقد جالت به الفكر وأكثرها

__________________

(١) في ا : نبتدئ.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في ا : إلينا.

(٤) في مط : إذا أصبحنا.

١٧٧

عن معرفته قد انحسر ، وذكرت أن الذي حداك الى ذلك ما وجدته ظاهرا في عوام النيل (١) ومعظم خواصها من القول المؤدي إلى الكفر المحضض بسبب الجبر وتجويرهم الله في حكمه ، وحملهم معاصيهم عليه (٢) ، وإضافتهم القبائح اليه ، وتعلقهم بأخبار مجهولة منكرة أو متشابهة في اللفظ مجملة ، وحجاجهم بما تشابه من الكتاب لعدم معرفتهم بفائدته ، وقصور إفهامهم عن [الغرض (٣)] المقصود به.

واعلم أن الكلام في القضاء والقدر قد أعيى أكثر أهل النظر ، وأتعب ذوي الفكر ، والمتكلم فيه بغير علم على غاية [من (٤)] الخطر. والذي يجب على من أراد معرفة هذا (٥) الباب وهو (٦) العلم بما يستحق الباري سبحانه من الأوصاف الحميدة وما ينفى عنه من ضدها فإنه متى علم ذلك أمن من أن يضيف اليه ما ليس من أوصافه أو ينفي عنه ما هو منها ويتبع ذلك من الأبواب ما لا بد من الوقوف عليه : نحو المعرفة بأقوال المبطلين ، ومعرفة أقوال المحقين ، وغير ذلك مما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

[حدوث البحث في أفعال العباد] (٧)

واعلم ان أول حالة ظهر فيها الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة ،

__________________

(١) النيل يطلق على عدة أمكنة لا نعلم أيها قصد السائل : «أحدها» بليدة في سواد الكوفة قرب حلة بنى مزيد يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير ، «ثانيها» نهر من أنهار الرقة حفره الرشيد على ضفة نيل الرقة ، «ثالثها» نيل مصر وهو النهر المشهور (معجم البلدان : ٥ / ٣٣٤).

(٢) في أ : وحمله معاصيه عليه.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) في مط : معرفة في هذا.

(٦) في مط : هو.

(٧) الزيادة من مط.

١٧٨

هو أن جماعة ظهر منهم القول بإضافة معاصي العباد الى الله سبحانه ، وكان الحسن ابن أبي الحسن (١) البصري (٢) ممن نفى ذلك ، ووافقه في زمانه [جماعة و (٣)] خلق كثير من العلماء كلهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من الله ، منهم معبد الجهني (٤) وأبو الأسود الدؤلي (٥) ومطرف بن عبد الله (٦) ووهب بن منبه (٧) وقتادة (٨).

__________________

(١) في مط : أبى الحسين.

(٢) أبو سعيد الحسن بن أبى الحسن يسار البصري ، مولى زيد بن ثابت الأنصاري ، كان الحسن أحد الزهاد الثمانية ، وكان يلقى الناس بما يهوون ويتصنع للرئاسة ، وكان رئيس القدرية ، ولد سنة ٨٩ وتوفى في رجب سنة ١١٠ ه‍ (الكنى والألقاب : ٢ / ٧٤).

(٣) الزيادة من أ.

(٤) معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصري ، أول من قال بالقدر في البصرة ، وحضر يوم التحكيم وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه ، خرج مع ابن الأشعث على الحجاج فجرح فأقام بمكة ، فقتله الحجاج بعد أن عذبه ، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان بدمشق ، وذلك في سنة ٨٠ ه‍ (الاعلام للزركلى : ٨ / ١٧٧).

(٥) اسمه ظالم بن عمرو أو ظالم بن ظالم ، كان من السادات التابعين وأعيانهم ومن شعراء الإسلام الفضلاء الفصحاء ، ابتكر النحو بإشارة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، توفى بالطاعون الجارف في البصرة سنة ٦٩ ه‍ (الكنى والألقاب : ١ / ٧ ١٠).

(٦) أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب الحريشى كان من مشاهير الزهاد ، مات سنة ٨٧ أو ٩٥ ه‍ (وفيات الأعيان : ٤ / ٢٩٩).

(٧) أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني ، كان على قضاء صنعاء ، وكتب كتابا في القدر ثم ندم ، وكان كثير النقل من كتب الاسرائيليات ، ولد في آخر خلافة عثمان وتوفى سنة ١١٤ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٥٢).

(٨) أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي ، كان ذا علم في القرآن والحديث والفقه ، وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه ، وقال : ما نسيت شيئا قط. ثم قال : يا غلام ناولني نعلي ، قال : نعلك في رجلك ، مات بالبصرة سنة ١١٧ ه‍ (معجم الأدباء : ١٧ / ٩ ١٠).

١٧٩

وعمرو بن دينار (١) ومكحول الشامي (٢) وغيلان (٣) وجماعة كثيرة لا تحصى (٤).

ولم يك ما وقع من الخلاف حينئذ يتجاوز باب إضافة (٥) معاصي العباد الى الله سبحانه عن ذلك ونفيها عنه وغيره من هذا الباب بباب (٦) القدرة والمقدور وما أشبهه (٧).

[الأقوال في كيفية خلق الافعال] (٨)

فأما الكلام في خلق أفاعيل العباد [و (٩)] في الاستطاعة وفيما اتصل بذلك وشاكله فإنما حدث بعد دهر [طويل (١٠)].

__________________

(١) أبو يحيى عمرو بن دينار البصري ، مولى آل الزبير بن شعيب ، قال احمد ضعيف وقال البخاري فيه نظر ، وقال ابن معين ذاهب ، وقال مرة ليس بشيء ، وقال النسائي ضعيف (ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٥٩).

(٢) مكحول الدمشقي : مفتى أهل دمشق وعالمهم ، هو صاحب تدليس ورمى بالقدر ، وكان يقول : ما استودعت صدري شيئا إلا وجدته حين أريد ، مات سنة ١١٣ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ١٧٧).

(٣) أبو الحارث ذو الرمة غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود ، أحد فحول الشعراء ، قيل : فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة ، مات سنة ١١٧ ه‍ (الكنى والألقاب : ٢ / ٢٢٧).

(٤) في أ : لا تخفى.

(٥) في ا : صفات [اضافة ظ] ، وفي مط : صفات [اضافة].

(٦) في مط : بيان ، وفي ا : بيان [بباب ظ].

(٧) في ا : القدر وما أشبهه.

(٨) الزيادة من مط.

(٩) الزيادة من أ.

(١٠) الزيادة من مط.

١٨٠