رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

وما ذكرناه في اللغة مشهور ، قال لبيد بن ربيعة (١) :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

ولم يرد أن الحق باطل ، ولا أن شعره هذا [الذي قاله] باطل ، وقد قال كل شيء وانما أراد بعض الأشياء ، ويقول القائل (٢) «دخلنا المشرق فاشترينا كل شيء ورأينا كل شيء حسن» ، وانما أراد كل شيء مما اشتروا ، وكل شيء مما رأوا (٣) ، وكذا «خالق كل شيء» مما خلقه لا مما فعله عباده ، لانه لا يجوز أن يفعل العباد خلق رب العالمين.

ويقال لهم : ان كان يجب أن تكون أعمال العباد خلق الله لقول الله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٤) ، فيجب أن يكون كل خلقه حسنا لقوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(٥) فيجب أن يكون الشرك حسنا ، وكذلك الظلم والكذب والفجور والفسوق ، لان ذلك عندهم خلق الله تعالى.

فان قالوا : ان قوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) انما أراد بعض الأشياء. قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون قوله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) انما وقع على كل شيء

__________________

(١) لبيد بن ربيعة العامري الشاعر ، قدم على النبي (ص) سنة وفد قومه فأسلم وحسن إسلامه ، وترك الشعر منذ إسلامه حتى موته ، وعمر طويلا ومات وهو ابن مائة وأربعين سنة ، وقيل انه مات وهو ابن سبع وخمسين ومائة سنة ، وكانت وفاته سنة ٤١ ه‍ على أشهر الأقوال (الاستيعاب : ٣ / ١٣٣٥).

(٢) في أ : ويقول قائل.

(٣) في مط : أرادوا.

(٤) سورة الانعام : ١٠٢.

(٥) سورة السجدة : ٧.

٢٢١

خلقه دون ما لم يخلقه (١) مما يقدر عليه ويعلم أنه لا يفعله ومما يفعله عباده من الطاعة والمعصية.

فإن قال قائل : فما معنى قول الله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٢)؟ قيل له: انما خبر الله عن إبراهيم أنه حاج قومه فقال : [لهم (٣)](أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يقول نحتم خشبا ثم عبدتموه ، على وجه التوبيخ. ثم قال (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يقول خلقكم وخلق الخشب الذي عملتموه صنما ، فسمى الصنم الذي عملوه عملا لهم (٤) وان كان الذي حل فيه من التصوير عملهم.

ولما ذكرناه نظائر من القرآن واللغة : فأما القرآن فقوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ)(٥) وانما عملهم حل في هذه الأمور ، فأما الحجارة فهي خلق الله لا فاعل لها غيره.

ومن ذلك أيضا قوله (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)(٦) فالخشب خلق الله والعباد نجروه وعملوه فلكا وسفنا.

ومن ذلك أيضا قوله (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) فالحديد خلق الله ولكن العباد عملوه دروعا ، فعمل داود عليه‌السلام حل في الحديد والحديد خلق الله.

وقال في الحية (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا)(٧) وإنما يريد أنها تلقف الحبال والعصي

__________________

(١) في أ : ما خلق.

(٢) سورة الصافات : ٩٦.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) في مط : عملا له.

(٥) سورة سبإ : ١٣.

(٦) سورة هود : ٣٧.

(٧) سورة طه : ٦٩.

٢٢٢

التي فيها صنعهم ، فكذلك قال (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(١) خلق الخشب الذي يعملون منه صنما لا أن العباد (٢) عملوا خلق الله [و (٣)] لا ان الله خلق أعمالهم.

وقد يقول القائل : فلان يعمل الطين لبنا ، ويعمل الحديد أقفالا ، ويعمل الخوص زبلا. كذلك أيضا عملوا الخشب أصناما ، فجاز أن يقال : انها عمل لهم ، كما قيل : انهم يعملون الخوص والطين والحديد.

ثم انا نرد هذا الكلام عليهم فنقول لهم : إذا زعمتم أن كفرهم خلقهم (٤) ، وقال إبراهيم محتجا عليهم في قولهم ان الله خلق أعمالهم فلم ما قالوا : يا إبراهيم ان كان الله خلق فينا الكفر ولا يمكننا ان نرد ما خلق الله فينا ولو قدرنا لفعلنا ، وأنت تأمرنا بأمر لا يكون خلق الله فينا ، فإنما تأمرنا بأن لا يخلق الله خلقه حاشا الله (٥) ، بل قالوا ذلك لتبين إبراهيم عليه‌السلام أن كفرهم غير خلق الله ، ولو كان خلق الله ما عذبوا عليه ولا نهوا عنه ، وقد قال الله تعالى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)(٦) فلو كان خلق الله ما بدل وما عذبوا الا على كفرهم الذي هو غير خلق الله وان خلق الله حكمة وصواب ، والكفر سفه وخطأ ، فثبت أن الحكمة غير السفه ، والخطأ غير الصواب.

ولو لا كراهة طول الكتاب وخوف ملال القارئ لأتينا على كل شيء مما

__________________

(١) سورة الصافات : ٩٦.

(٢) في مط : الا أن.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) في مط : خلق لهم.

(٥) في مط : بأن لا يخلق الله خلقا ما شاء الله.

(٦) سورة الروم : ٣٠.

٢٢٣

يسألون عنه من المتشابه في تصحيح مذهبهم. وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على ما لم نذكره ، على أنا قد أودعنا كتابنا (صفوة النظر) من ذلك ما فيه بلاغ. والحمد لله رب العالمين.

فصل

[معنى الهدى في المؤمن والكافر (١)]

ان سأل سائل فقال : أتقولون ان الله هدى الكافر؟ قيل له : ان الهدى على وجهين : هدى هو دليل وبيان ، فقد هدى الله بهذا الهدى كل مكلف بالغ الكافر منهم والمؤمن ، وهدى هو الثواب والنجاة فلا يفعل الله هذا الهدى الا بالمؤمنين المطيعين القائلين عن الله رسوله.

فان قال (٢) : فما الدليل على أن الهدى ما تقولون؟ قيل : الدليل على أن الهدى قد يكون بمعنى الدليل قوله تعالى في كتابه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٣) فقد خبر الله تعالى أنه هدي ثمود الكفار فلم يهتدوا فأخذتهم الصاعقة بكفرهم.

وقال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)(٤) يعني الدلالة والبيان.

وقال تعالى (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)(٥) يعني الدلالة

__________________

(١) العنوان من مط.

(٢) في مط : فان قالوا.

(٣) سورة فصلت : ١٧.

(٤) سورة النجم : ٢٣.

(٥) سورة الإسراء : ٩٤.

٢٢٤

والبيان.

وقال (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ)(١) يعني دللناه على الطريق.

وقال تعالى (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)(٢) فخبروا في الآخرة أن الهدى أتى من الله للكفار فلم يهتدوا ، وانما هدى الله هدى الدليل.

وقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣) يعني تدل وتبين ، وما أشبه ما ذكرناه أكثر من أن نأتي عليه.

وأما ما يدل على ذلك من اللغة : فإن كل من دل على شيء فقد هدي إليه ، فلما كان الله تعالى قد دل الكفار على الايمان ثبت أنه قد هداهم الى الايمان.

فأما هدى الثواب الذي لا يفعله الله بالكافرين فمنه قوله تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ)(٤) وانما يهديهم بعد القتل بأن ينجيهم ويثيبهم.

وقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ)(٥) انما يهديهم بايمانهم بأن ينجيهم ويثيبهم.

وقال (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(٦) وقال (يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ)(٧) يعني من تاب.

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣.

(٢) سورة سبإ : ٣٢.

(٣) سورة الشورى : ٥٢.

(٤) سورة محمد : ٤ ٥.

(٥) سورة يونس : ٩.

(٦) سورة المائدة : ١٦.

(٧) سورة الرعد : ٢٧.

٢٢٥

فهذا الهدى وما أشبه لا يفعله الله الا بالمؤمنين القائلين بالحق (١) ، فأما قرين الدليل فقد هدى الله الخلق أجمعين. وكلما سئلت عن آية من الهدى من الله تعالى فردها الى هذين الأصلين ، فإنه لا يخلو من أن يكون على ما ذكرناه ، ولو لا كراهة التطويل لسألنا أنفسنا عن آية آية مما يحتاج الى البيان ، وفي هذه الجملة دليل على ما نسأل عنه.

فصل

[حقيقة الإضلال منه سبحانه (٢)]

فان قيل : أفتقولون أن الله تعالى أضل الكافرين؟ قيل له : نقول ان الله أضلهم بأن عاقبهم وأهلكهم عقوبة لهم على كفرهم ولم يضلهم عن الحق ولا أضلهم بأن افسدهم ، جل وعز عن ذلك.

فان قالوا : لم زعمتم أن الضلال قد يكون عقابا؟ قيل لهم : قد قال الله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)(٣) يعني في هلاك ، وسعر يعني سعر النار فيهم ، إذ ليس في ضلال هو كفر أو فسق ، لان التكليف زائل في الآخرة ، وقد بين الله تعالى من يضل فقال (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ)(٤) وقال (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)(٥) وقال (ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ)(٦) وقال (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ

__________________

(١) في ا : القائلين للحق.

(٢) العنوان من مط.

(٣) سورة القمر : ٤٧.

(٤) سورة إبراهيم : ٢٧.

(٥) سورة غافر : ٧٤.

(٦) سورة البقرة : ٢٦.

٢٢٦

هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)(١).

ثم أوضح الأمر وخبر أنه لا يضل الا بعد إقامة الحجة ، فقال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٢) فأخبر أنه لا يضل أحدا حتى يقيم الحجة عليه ، فإذا ضل عن الحق بعد البيان والهدى والدلالة أضله الله حينئذ ، بأن أهلكه وعاقبه.

وأما الإضلال الذي ننفيه عن ربنا تعالى فهو ما أضافه الله الى غيره فقال (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ)(٣) يقول : أضلهم بأن دعاهم الى عبادة العجل.

وقال (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(٤) يريد أضلهم بأن قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وأمرهم بالكفر ودعا اليه ، والله لا يأمر بعبادة غيره ولا يفسد عباده.

وقال (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)(٥).

وقال (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(٦) يريد أنه أفسد وغر وخدع ، والله لا يغر (٧) العباد ولا يظهر في الأرض الفساد.

وقال يخبر عن أهل النار : انهم يقولون (ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ)(٨) يريد ما أفسدنا ولا غيرنا ولا بين الكفر والمعاصي إلا المجرمون ، ولم يقولوا ما أضلنا

__________________

(١) سورة غافر : ٣٤.

(٢) سورة التوبة : ١١٥.

(٣) سورة طه : ٨٥.

(٤) سورة طه : ٧٩.

(٥) سورة القصص : ١٥.

(٦) سورة يس : ٦٢.

(٧) في مط : لا يضر.

(٨) سورة الشعراء : ٩٩.

٢٢٧

الا رب العالمين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!

وكل إضلال أضل الله به العباد فإنما هو عقوبة (١) لهم على كفرهم وفسقهم.

وأما من خالفنا زعموا ان الله تعالى يبتدئ كثيرا من عباده بالإضلال عن الحق ابتداء من غير عمل ، وان قولهم ان عبدا مجتهدا في طاعة الله قد عبده مائة عام ثم لا يأمنه أن يضله عما هو عليه من طاعة (٢) فيخلق فيه من الكفر ، ويزين عنده الباطل ، وان يعبد غيره مائة عام ويكفر به ثم لا يأمن أن يخلق في قلبه الايمان فينقله عما هو عليه ، فليس يثق (٣) وليه بولايته ، ولا يرهب عدوه من عداوته.

فصل

[عود على بدء في معنى الهدى (٤)]

فان سأل سائل فقال : ما معنى قوله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(٥). قيل له : معنى ذلك انك لا تنجي من العذاب من أحببت .. (٦) لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان حريصا على نجاة أقاربه بل كل من دعاه.

فان قيل : فلم زعمتم أن هذا [هو (٧)] تأويل الآية؟ قيل له : لما كان الله قد هداهم بأن دلهم على الايمان علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب ، وقد بين

__________________

(١) في ا : عقوبته لهم.

(٢) في أ : من طاعته.

(٣) في ا : فليس يبقى.

(٤) العنوان من مط.

(٥) سورة القصص : ٥٦.

(٦) هنا في أجاءت كلمة «ولا» ثم فراغ بمقدار كلمات.

(٧) الزيادة من أ.

٢٢٨

الله تعالى أن الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به ، فقال (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)(١) يعني الدلالة والبيان.

فان قيل : فما معنى قوله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)؟ (٢) قيل له : انما أراد به ليس عليك نجاتهم ، ما عليك الا البلاغ ولكن الله ينجي من يشاء.

فان قيل : فلم قلتم هذا؟ قيل له (٣) : لما أخبر الله تعالى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هدى الكافر فقال (إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤) وانما يريد انك تدل ، فلما كان قد دل المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن ، فعلمنا انه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة ، فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من أمثال هذه الآية.

«باب»

(الكلام في الإرادة وحقيقتها)

فان سأل سائل فقال : أتقولون ان الله تعالى أراد الإيمان من جميع الخلق المأمورين والمنهيين أو أراد ذلك من بعضهم دون بعض؟ قيل له : بل أراد ذلك من جميع الخلق ارادة بلوى واختبار ، ولم يرد ارادة إجبار واضطرار ، وقد قال الله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)(٥) وقال (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٦) فأراد

__________________

(١) سورة النجم : ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢٧٢.

(٣) في مط : قيل لهم.

(٤) سورة الشورى : ٥٢.

(٥) سورة النساء : ١٣٥.

(٦) سورة البقرة : ٦٥.

٢٢٩

أن يجعلهم هو قردة ، ارادة إجبار واضطرار فكانوا كلهم كذلك ، وأراد أن يقوموا بالقسط ارادة بلوى واختبار ، فلو أراد أن يكونوا قوامين بالقسط (١) كما أراد أن يكونوا قردة خاسئين، لكانوا كلهم قوامين شاءوا أو أبوا ، ولكن لو فعل ذلك ما استحقوا حمدا ولا أجرا.

ومما يدل من القرآن على ان الله أراد بخلقه الخير والصلاح ولم يرد بهم الكفر والضلال قوله سبحانه (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(٢) فأخبر ان ما أراد غير ما أرادوا.

وقال (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ)(٣) فأخبر أن إرادته في خلقه الهداية والتوبة والبيان ثم قال (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(٤) فأخبر ان ما أراد الله منهم [غير ما أراد (٥)] غيره من الميل العظيم.

وقال (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)(٦) فأخبر انه انما يأبى ما اراده العباد من إطفاء نوره.

وقال (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(٧) وقال (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ)(٨) فأخبر انه تعالى لا يريد الظلم بوجه من الوجوه ، كما انه لما قال (وَلا يَرْضى

__________________

(١) في مط : أن يقوموا بالقسط.

(٢). سورة الأنفال : ٦٧.

(٣) سورة النساء : ٢٦.

(٤) سورة النساء : ٢٧.

(٥) الزيادة من أ.

(٦). سورة التوبة : ٣٢.

(٧) سورة غافر : ٣١.

(٨) سورة آل عمران : ١٠٨.

٢٣٠

لِعِبادِهِ الْكُفْرَ)(١) لم يجز أن يرضى [به (٢)] بوجه من الوجوه.

وكذلك لما قال (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣) لم يجز أن يأمر بالفحشاء بوجه من الوجوه ، ولو جاز أن يريد الظلم وهو يقول (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) لجاز أن يرضى بالكفر ويجب الفساد ويأمر بالفحشاء ، مع هذه الآيات ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يريد الظلم.

ومما يدل على أن الله تعالى لم يرد الكفر والفجور : انا وجدنا المريد لشتم نفسه سفيها (٤) غير حكيم ، فلما كان الله أحكم الحاكمين علمنا انه لا يريد شتمه ولا سوء الثناء عليه.

وأيضا فإن الكفار إذا فعلوا ما أراد من الكفر كانوا محسنين ، لان من فعل ما أراد الله تعالى فقد أحسن ، فلما (٥) لم يجز أن يكون [الكافر (٦)] محسنا في شتمه الله ومعصيته له علمنا أنه لم يفعل ما أراد الله.

وأيضا فإنه لو جاز أن يريد الكفر به ويكون بذلك ممدوحا لجاز أن يحب الكفر ويرضى به ، ويكون بذلك حكيما ممدوحا ، فلما لم يجز أن يرضى بالكفر ولا يحبه لم يجز أن يريده.

وأيضا فإن من أمر العباد بما لا يريده فهو جاهل ، فلما كان ربنا أحكم الحاكمين علمنا انه لم يأمر بشيء لا يريده ، لان نم أمر بمدحه ولم يرد أنه يفعله ونهى عن شتمه وأراد أن يفعل فهو جاهل ناقص ، فلما كان الله احكم الحاكمين

__________________

(١) سورة الزمر : ٧.

(٢) الزيادة من مط.

(٣). سورة الأعراف : ٢٨.

(٤) في مط : لشتمه نفسه سفيه.

(٥) في مط : ظلما لم.

(٦) الزيادة من أ.

٢٣١

علمنا انه لا يريد ان يشتم ولا يثنى عليه بسوء الثناء. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

فصل

[في (١)] شبهة لهم [في الإرادة (٢)]

قالوا : لو أراد الله سبحانه من زيد الايمان فوقع خلافه وهو مراد الشيطان والعبد لكانا قد عجزا الله ووجب أن يكونا أقدر منه.

والجواب عن ذلك : أنه يقال لهم : لم قلتم ذلك؟ فان قالوا : لأنا نعلم ان جند السلطان لو فعلوا مالا يريده لدل على عجزه وعدم قدرته (٣).

قيل لهم : انما صح ذلك لان السلطان لم يكن ممن يصح منه التكليف أو ممن له قدرة على الانتصاف منهم في أي وقت أراد ولا يخاف الفوت ، ولم يكن أيضا ممن يعلم مقدار الحسنة والجزاء عليها والسيئة والأخذ بها.

وأيضا فإن السلطان يتألم إذا لم يقع مراده ويسر بوقوعه ، وكل هذه الأوصاف منتفية عن القديم تعالى ، ففرق (٤) بين الأمرين ، ولم يكن للقياس الذي اعتمدوا عليه معنى في هذا الموضع ، وانما يجب أن يجمع بين المتساويين بعلة والأمر هاهنا بخلاف ذلك.

ثم يقال لهم : انما كان (٥) يجب أن يكون عاجزا لو أراد منهم الطاعة ارادة

__________________

(١) الزيادة من مط.

(٢) الزيادة منا.

(٣) في أ : وقلة قدرته.

(٤) في ا : فافترق.

(٥) في أ : ان كان.

٢٣٢

اضطرار وإجبار ثم لم تقع ، فأما إذا أراد (١) ارادة البلوى والاختبار فهذا مالا يغبى الا على المسكين ، وإذا كان ذلك كله فلا يكون منا التعجيز لله تعالى ، إذ فعل العباد مالا يريده من الكفر ولم يفعلوا ما اراده من الايمان ، لانه لم يرد ان يحملهم عليه حملا ويلجئهم اليه إلجاء ، فيكون منهم على غير سبيل التطوع.

وقد بين الله [ذلك (٢)] في كتابه فقال (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٣) فأخبر أنه لو شاء لا حدث آية يخضع عندها الخلق ، ولكنه لو فعل ذلك ما استحقوا حمدا ولا جزاء (٤) ولا كرامة ولا مدحا ، لان الملجإ لا يستحق حمدا ولا جزاء ، وانما (٥) يستحق ذلك المختار المستطيع وقد بين الله ذلك فقال (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ)(٦) وقال الله عزوجل (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٧) فأخبر انه لا ينفع الإيمان إذا كان (٨) العذاب والا لجاء.

وقال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٩) فأخبر أنه لا ينفع الايمان في حال الإلجاء.

__________________

(١) في أ : وقد أراد.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) سورة الشعراء : ٤.

(٤) في أ : ولا حمدا وجزاء.

(٥) في ا : لأنه انما.

(٦) سورة غافر : ٨٤.

(٧) سورة غافر : ٨٥.

(٨) في مط : إذ كان.

(٩) سورة الانعام : ١٥٨.

٢٣٣

وقال عزوجل (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١).

وقال الله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فأخبر أنه لا ينفعه الايمان في وقت الا لجاء والإكراه.

وقال عزوجل (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)(٢) فأخبر انه لا تنفع التوبة في حال المعاينة ، وما أشبه ما ذكرناه كثير.

ثم يقال لهم : فإذا كان العبد بفعله ما لم يرد الله قد أعجزه فيجب أن يكون بفعله ما يريده قد أقدره ، ومن انتهى قوله الى هذا الحد فقد استغني عن جداله وربحت مئونته.

فصل

[الايمان وحقيقة المشيئة (٣)]

فإن سألوا عن معنى قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٤).

قيل لهم : معنى ذلك لو شاء ربك لألجأهم الى الايمان ، لكنه لو فعل ذلك

__________________

(١) سورة يونس : ٩٠.

(٢) سورة النساء : ١٧ ١٨.

(٣) الزيادة من مط.

(٤) سورة يونس : ٩٩.

٢٣٤

لزال التكليف ، فلم يشأ ذلك بل شاء ان يطيعوا على وجه التطوع والإيثار لا على وجه الإجبار والاضطرار ، وقد بين الله ذلك فقال (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يريد اني انا أقدر على الإكراه منك ولكنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ)(١) وكذلك الجواب في قوله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) ، و (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٢) وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)(٣) ولو شاء لحال بينهم وبين ذلك. ولو فعل ذلك لزال التكليف عن العباد ، لانه لا يكون الأمر والنهي إلا مع الاختيار لا مع إلجاء (٤) والاضطرار.

وقد بين الله [ذلك (٥)] بما ذكرنا من قوله (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٦) فأخبر أنه لو شاء لاكرههم على الايمان.

وقد بين ذلك ما ذكرناه من قصة فرعون وغيره انه لم ينفعهم الايمان في وقت الإكراه.

وقد بين الله في كتابه العزيز أنه لم يشأ الشرك ، وكذب الذين أضافوا إليه ذلك ، فقال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) فأخبروا أنهم (٧) انما أشركوا بمشيئة الله تعالى فلذلك كذبهم ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٦.

(٢) سورة النحل : ٩.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٣.

(٤) في أ : لا مع الإجبار.

(٥) الزيادة من أ.

(٦) سورة الشعراء : ٤.

(٧) في مط : انه.

٢٣٥

ولو كانوا أرادوا أنه لو شاء الله لحال بيننا وبين الايمان لما كذبهم الله ، قال الله تكذيبا لهم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) يعني عذابنا (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يعني هل عندكم من علم أن الله يشاء الشرك ثم قال (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)(١) [يعني تكذبون (٢)] كقوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)(٣).

وقال عزوجل (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(٤) يعني يكذبون.

وقال عزوجل (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥) خبر أن الرسل قد دعت الى الايمان ، فلو كان الله تعالى شاء الشرك لكانت الرسل قد دعت خلاف ما شاء الله ، فعلمنا ان الله لم يشأ الشرك.

فان قال بعض الأغبياء : فهل يشاء العبد شيئا أو هل تكون للعبد ارادة؟ قيل له : نعم قد شاء ما امكنه الله من مشيئته ويريد ما امره الله بإرادته ، فألقوه على الإرادة فعل الله والإرادة فعل العبد.

والدليل على ذلك قول الله تعالى (قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها)(٦).

__________________

(١). سورة الانعام : ١٤٨.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) سورة الذاريات : ١٠.

(٤) سورة الزخرف : ٣٠.

(٥) سورة النحل : ٣٥.

(٦) سورة الكهف : ١٩.

٢٣٦

وقال تعالى (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١) وقال (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً)(٢) وقال (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ)(٣).

وقال (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ)(٤).

وقال (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما)(٥).

وقال (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(٦).

وقال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(٧).

وقال فيما بين أن العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته فقال (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(٨).

وقال (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(٩).

وقال (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)(١٠) فأخبر أنهم لو أرادوا لفعلوا كما فعل من أراد الخروج.

وقال (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ)(١١).

__________________

(١) سورة المزمل : ١٩.

(٢) سورة النبإ : ٣٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٥١.

(٤) سورة يوسف : ٦٥.

(٥) سورة الأعراف : ١٩.

(٦) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٧) سورة الكهف : ٧٧.

(٨) سورة الأنفال : ٦٧.

(٩) سورة النساء : ٢٧.

(١٠) سورة التوبة : ٤٦.

(١١) سورة الفتح : ١٥.

٢٣٧

وقال (يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)(١).

وقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ)(٢). وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع.

فان قال : فما معنى قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

قيل له : ان الله ذكر هذا المعنى في موضعين ، وقد بينهما ودل عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على أنها مشيئته في الطاعة ، فقال (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٣) فهو عزوجل شاء الاستقامة ولم يشأ الاعوجاج ولا الكفر ، وقال في موضع آخر (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٤) فالله قد شاء اتخاذ السبيل ولم يشأ العباد ذلك الا وقد شاء الله لهم ، فأما الصد عن السبيل وصرف العباد عن الطاعة فلم يشأ عزوجل.

ويقال لهم : أليس المريد لشتمه غير حكيم؟ فمن قولهم : نعم. قيل لهم : أو ليس المخبر بالكذب كاذبا؟ فمن قولهم : نعم. قيل لهم : وقد زعمتم ان الله يريد شتمه ويكون حكيما فلا بد من الإقرار بذلك أو يتركوا قولهم.

ويقال لهم : فما أنكرتم ان يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فان منعوا من ذلك قيل لهم : ولا يجب أن يكون حكيما بإرادة السفه وارادة شتم نفسه ، ولا يجدون الى الفصل سبيلا. فإن أجازوا على الله أن يخبر بالكذب لم يأمنوا بعد اخباره عن البعث والنشور والجنة والنار أنها كلها كذب ويكون بذلك صادقا ، ولا يجدون من الخروج عن هذا الكلام سبيلا.

__________________

(١) سورة النساء : ٦٠.

(٢) سورة المائدة : ٩١.

(٣) سورة التكوير : ٢٩.

(٤) سورة الإنسان : ٣٠.

٢٣٨

ويقال لهم : فما تريدون أنتم من الكفار؟ فان قالوا : نريد من الكفار الكفر ، فقد أقروا على أنفسهم بأن يريدوا ان يكفر بالله ويجب عليهم ان يجيزوا ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكون مريدا للكفر (١) بالله تعالى ، وهذا غاية سوء الثناء عليه.

وان قالوا : ان الذي نريده من الكفار الايمان. قيل لهم : فأيما أفضل ما أردتم من الايمان أو ما أراد الله من الكفر؟ فان قالوا : ما أراد الله خير مما أردنا من الايمان ، فقد زعموا ان الكفر خبر من الايمان. وان قالوا : ان ما أردنا من الايمان خير مما اراده الله من الكفر ، فقد زعموا أنهم اولى بالخير والفضل من الله ، وكفاهم بذلك خزيا.

فيقال لهم : فما يجب على العباد يجب عليهم ان يفعلوا ما تريدون أنتم أو ما يريد الله؟ فان قالوا : ما يريد الله ، فقد زعموا أن على أكثر العباد ان يكفروا ، إذ كان الله يريد لهم الكفر. وان قالوا : انه يجب على العباد أن يفعلوا ما نريد من الايمان ولا يفعلوا ما يريد الله من الكفر ، فقد زعموا أن اتباع ما أرادوا هم أوجب على الخلق من اتباع ما أراد الله ، وكفاهم بهذا قبحا.

ولو لا كراهة طول الكتاب لسألناهم في قولهم ان الله تعالى أراد المعاصي عن مسائل كثيرة يتبين فيها فساد قولهم ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله رب العالمين.

فصل [الاخبار المسددة لمذهب العدلية] (٢)

ومما جاء من الحديث (٣) ما يصحح مذهبنا في القضاء والمشيئة وغير ذلك

__________________

(١) في مط : مريد الكفر.

(٢) الزيادة من مط.

(٣) في أ : في الحديث.

٢٣٩

مما ذكرنا ، فمن ذلك ما روي (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : لا يؤمن أحدكم حتى يرضى بقدر الله تعالى. وهذا مصحح لقولنا ، لأنا بقدر الله راضون وبالكفر غير راضين.

وروي عن عبد الله بن شداد (٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه كان يقول في دعائه : «اللهم رضني بقضائك ، وبارك لي في قدرك ، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ، ولا تأخير ما عجلت» والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجوز أن يرضى بالكفر ولا بالظلم.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «سيكون في آخر هذه الأمة قوم يعملون بالمعاصي حتى يقولون هي من الله قضاء وقدر ، فإذا لقيتموهم فأعلموهم اني منهم بريء».

وروي عنه انه قال له رجل : بأبي أنت وأمي متى يرحم الله عباده ومتى يعذب الله عباده؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يرحم الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا [هي منا ، ويعذب الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا (٣) هي من الله قضاء وقدر».

وقد روي عن عمر بن الخطاب انه أتي يسارق فقال : «ما حملك على هذا؟ فقال (٤) قضى الله وقدره ، فضربه عمر ثلاثين سوطا ثم قطع يده فقال : قطعت يدك بسرقتك وضربتك بكذبك على الله تعالى». وهذا خبر قد روته جميع

__________________

(١) في مط : من ذلك ما ذكرناه.

(٢) عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي عربي كوفي من خواص أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان من كبار التابعين وثقاتهم ، وقال لما منع بنو أمية عن التحدث بفضائل على عليه‌السلام : وددت أن أترك فأحدث بفضائل على بن أبى طالب عليه‌السلام وان عنقي ضرب بالسيف ، قتل سنة ٨٢ ه‍ (منتهى المقال : ١٨٦).

(٣)]. الزيادة من أ.

(٤) في مط : قضاء الله.

٢٤٠