رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

الموالاة على هذا الوجه أوجب الترتيب ، لان مالكا وان أوجب الموالاة فإنه يوجبها على من أداه اجتهاده إليها ، ويسقطها عمن أداه الاجتهاد الى خلافها ، وليس يوجبها على كل حال إلا الإمامية.

وليس يجوز لك أن تبني الموالاة على الترتيب في الاستدلال ، كما بنيت الترتيب على الموالاة ، وذلك أن معنى ظاهر الكتاب يدل على وجوب الموالاة ، وهو آية (١) الطهارة ، لأنه أمر فيها بغسل هذه الأعضاء ، والأمر بالعرف الشرعي يدل على الفور.

فالاية تقتضي غسل كل عضو عقيب الذي قبله ، وليس معنى في وجوب الترتيب مثل ذلك ، فإن آية الطهارة لا يوجب بظاهرها الترتيب ، والواو غير موجبة له لغة ، وانما نقول في إيجاب الواو للترتيب في الشرع في أخبار آحاد ، وليست عندنا حجة في مثل ذلك، فبان الفرق بين الأمرين.

وليس كذلك (٢) أن تبنى مسألة على أخرى ، وما دل على ما جعلته أصلا يدل على الفرع ويتناله ، فان ذلك لا يصح ، لان العلم بحكم المسألتين يحصل في حالة واحدة ، فكيف تبنى واحدة على الأخرى.

وانما يصح ن تبنى مسألة على أخرى فيما ينفرد العلم بالأصل عن العلم بالفرع.

مثال ذلك : لا يجوز أن تبنى القول بأن المذي لا ينقض الطهر على أن الرعاف أو القيء لا ينقضه ، لأنا إنما ندل على أن الرعاف أو القيء لا ينقض الطهارة ، بأن نقض الطهارة حكم شرعي لا يقتضيه أصل العقل.

__________________

(١) قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) سورة المائدة : ٦.

(٢) ظ : لك.

١٢١

ولا دليل في الشرع يقطع به على أنه ناقض ، لان معول المخالفين في ذلك على قياس أو أخبار آحاد ، وليس فيهما ما يوجب العلم ، وهذا بعينه قائم في المذي ، فكيف تبني أحد الأمرين على الأخر؟ وليس ينفرد الأصل في العلم عن الفرع.

فان قيل : هذا ينقض كما ما قدمتموه ، لان وجوب مسح الرجلين انما تعلمونه بإجماع الإمامية عليه ، وهذا الإجماع بعينه قائم في جميع ما بنيتموه عليه.

قلنا : قد قدمنا أن الطريق إلى معرفة صحة ما أجمعت عليه الإمامية هو إجماعهم ، وانما استأنفنا طريقا يتمكن من مناظرة الخصوم به من غير انتقال الى الكلام في الإمامة ، فسلكنا ما سلكناه من الطرق راجعة إلى إجماع الأمة ، كلها مما يتفق على أن حجة ، والا فإجماعهم كاف لنا في العلم بصحة ما أجمعوا عليه.

على أنه غير منكر أن يكون الشيعة (١) ناظر في وجوب مسح الرجلين إلى الدلالة بالاية على ذلك ، من غير أن يفكر في طريقة الإجماع من الطائفة ، فيعلم بالاية صحته من غير علم بما يريد أن ينبه عليه من وجوب موالاة أو ترتيب أو غير ذلك ، لم يبتنى المسائل على الطريقة التي ذكرناها ، ويصح بناؤه بصحة علمه بالأصل من غير أن يعلم الفرع.

ولهذه الجملة لا يصح أن يبتنى أن الطلاق في الحيض لا يقع على أن الطلاق بغير شهادة لا يقع ، ولا أنه بغير شهادة لا يقع على أن في الحيض لا يقع ، لأنا إنما نعلم الجميع بطريقة واحدة ، وهي أن تأثير الطلاق حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع ، ولا دليل على ثبوت الفرقة بالطلاق في الحيض ولا بغير شهادة ،

__________________

(١) في النسخة : السبق.

١٢٢

فيجب نفي ذلك كما [لا (١)] يجب نفي كل حكم شرعي لا دلالة في الشرع عليه.

فان قيل : ليس يصح لكم على أصولكم طريقة النساء (٢) التي ذكرتموها ، وذلك أن إجماع الأمة عندكم انما يكون حجة لدخول إجماع الإمامية فيه ، فإجماع الإمامية الذي قول الإمام في جملته هو الحجة في الحقيقة.

إذا كان الأمر على ذلك ، لم يصح للإمامي أن يكون طريقة بناء المسائل التي عددتموها على مسألة مسح الرجلين يوجب له العلم بحكمة (٣) تلك المسائل ، وذلك أنه لا يصح أن يعلم أن التفرقة بين وجوب مسح الرجلين وبين وجوب مسح الرجلين وبين وجوب مسح الرأس ببلة اليد ، ليس بمذهب لأحد من الأمة ، إلا بعد أن يعلم أن الإمامية قد أجمعت على كل واحد منهما.

فإذا علم إجماع الطائفة على المسألتين ، حصل له العلم بصحتهما معا ، من غير حاجة الى حمل واحدة على أخرى ، فعاد الأمر الى أن هذه الطريقة التي استأنفتموها وقلتم أنها تصلح للمناظرة مع الخصوم ، ويمكن أن تكون طريقا الى العلم أنها تختص بالمناظرة دون حصول العلم.

قلنا : هذا لعمري تدقيق شديد ، وتحقيق في هذا الموضع تام ، ولو صح أن هذه الطريقة انما تنفع في المناظرة دون إيجاب العلم ، لكان في تحريرها وتهذيبها فائدة كثيرة ومزية ظاهرة ، ويكون أكثر فائدة من طريق القياس التي تكلفنا الكلام فيها مع الخصوم للاستظهار. وكذلك الكلام في أخبار الآحاد.

والفرق بينهما أن طريقة القياس وأخبار الآحاد لا يمكن أن تكون طريقا

__________________

(١) كذا في النسخة والظاهر زيادتها.

(٢) ظ : البناء.

(٣) ظ : بحكم.

١٢٣

الى العلم بشيء من الأحكام البتة ، والحال على ما نحن عليه من فقد دليل التعبد بهما.

وليس كذلك الطريقة التي بنينا فيها بعض المسائل على بعض ورتبناها على الإجماع ، لأنه انما لم يكن طريقا الى العلم لان العلم يسبق الى الناظر بصحة الحكم الذي بنيته لإجماع الإمامية عليه ، ويحصل له قبل البناء.

ولو لم يسبق اليه لكان البناء طريقا الى حصوله ، فإن إجماع الأمة على كل طريق الى العلم بصحة ما أجمعوا عليه لو لم يسبقه إجماع الإمامية الذي عنده يحصل العلم وفيه الحجة ، والقياس وأخبار الآحاد بخلاف ذلك ، لما تقدم ذكره.

غير أنه يمكن على بعض الوجوه أن يكون هذه الطريقة تحصل بها العلم للإمامي ، وذلك أن العلم بأن قول الامام هو على الحقيقة في جملة أقوال الإمامية دون غيرهم ليس بضروري ، والطريق اليه الاستدلال.

ويمكن أن يحصل ذلك لبعض الإمامية ، هو يعلم على الجملة أن قول الإمام الذي هو الحجة لا يخرج من أقوال جميع الأمة ، فإذا علم أن الأمة كلها مجمعة على شيء علم صحته ، لدخول قول الحجة فيه ، فيصح على هذا التقدير أن يكون الطريقة التي ذكرناها توجب العلم للإمامي زائدا على إمكان مناظرة الخصوم لها.

فان قيل : هذا يوجب أن تبنوا جميع مسائل الفقه على مسألة واحدة مما أجمعتم عليه، وتدلوا على صحة كل المسائل التي يخالف فيها خصومكم ، بأن تردوا تلك المسائل الى هذه على الطريقة التي ذكرتموها. وكان مسألة وجوب مسح الرجلين إذا صحت لكم بدليلها ، فقد صح لكم سائر الفقه بالترتيب الذي رتبتموه وما تحتاجون الى تبديل المسائل التي تجعلونها أصولا ولا تغيرها فلا معنى لذلك.

١٢٤

قلنا : الأمر على ما قلتموه ، وما المنكر من ذلك؟ وما الذي يدفعه ويفسده؟ ثم نحن بالخيار أن نجعل الأصل مسألة واحدة ، أو نبدل ذلك على حسب ما نختاره من وضوح دلالة الأصل أو أشباهها.

فإن قيل : كيف (١) ومسألة إلى أخرى وبناؤها عليها ولا نسبة بينهما ولا تشابه ، وهذه مثلا من الطهارة وتلك من المواريث ، وانما فعل الفقهاء ذلك فيما يناسب ويقارب من المسائل.

فقالوا : ان أحدا من الأمة ما فرق بين مسألة زوج وأبوين ومسألة امرأة وأبوين ، فمنهم من أعطى الأم في المسألتين معا ثلث ما بقي ، ومنهم من أعطاها في المسألتين ثلث أصل المال.

وبدعوا ابن سيرين في التفرقة بين المسألتين ، لأنه أعطى الأم في مسألة زوج وأبوين الثلث مما يبقى ، وفي مسألة زوجة وأبوين ثلث كل المال.

وكذا قالوا : ان أحدا من الأمة لم يفرق بين من جامع ناسيا في شهر رمضان وبين من أكل ناسيا ، فمنهم من فطرة بالأمرين ، ومنهم من لم يفطره بكل واحد من الأمرين.

وبدعوا الثوري في تفرقته بين المسألتين وقوله ان الجماع يفطر مع النسيان والأكل لا يفطر ، فجمعوا بين مسائل متجانسة ، وأنتم فقد سوغتم الجمع بين مالا تناسب فيه.

قلنا : لا فرق بين المتجانس في هذه الطريقة وبين غير المتجانس ، لان المعتبر هو مخالفة الإجماع والخروج عن أقوال الأمة ، وذلك غير سائغ ، سواء كان في متجانس من المسائل أو مختلف ، لان وجه دلالة المتجانس ليس هو كونه متجانسا ، وانما هو رجوعه إلى الإجماع على الطريقة التي بيناها.

__________________

(١) ظ : كيف تنسب مسألة.

١٢٥

وإذا كان هذا الوجه قائما بعينه فيما ليس بمتجانس كان وجه الدلالة قائما ، ولهذه العلة لا يفرق بين أن يبتنى مسألة حظر على مسألة إباحة أو إباحة على حظر ، أو يبتنى نفيا على إثبات أو إثباتا على نفي ، أو إيجابا على إباحة أو إباحة على إيجاب ، بعد أن يكون طريقة الإجماع التي ذكرناها وأوضحناها في ذلك متأتية ، وانما ينظر من مثل هذا من لا ينعم (١) التأمل ويفطن بالعلل والمعاني.

فإن قيل : لم يبق عليكم الا أن تدلوا على صحة الطريقة التي ذكرتموها في اعتبار الإجماع ، ففي ذلك خلاف ، فبينوا أنه يجري مجرى أن يجمعوا على حكم واحد في أنه لا يجوز مخالفته.

قلنا : لا شبهة في صحة هذه الطريقة على أحد من أهل العلم بأصول الفقه ، وأن مخالفة ما ذكرناه يجري مجرى مخالفة ما أجمعوا فيه على حكم واحد في مسألة واحدة.

ألا ترى أنهم قد بدعوا ابن سيرين والثوري لما خالف الإجماع ، وان كان في مسألتين وفي حكمين ، وأجروه مجرى الخلاف في مسألة واحدة وحكم واحد.

وما اشتباه ذلك من بعده عن الصواب الا كاشتباه الحال على من جوز إذا اختلف الأمة على أفاويل محصورة ، أن يقول قائل بزائد عليها ، ما (٢) يدعى أن ذلك لا يجري مجرى إجماعهم على قول واحد ، فهو يد (٣) زائد أو يختلفوا على أقاويل ثلاثة ، فيقول قائل بمذهب رابع ، لأن في كلتي المسألتين قد خولف الإجماع وقيل بما اتفقوا على خلافه ، ومثل ذلك لا يشتبه على ذوي النقد والتحصيل.

__________________

(١) ظ : يمعن.

(٢) ظ : لما.

(٣) ظ : يدعى زائدا.

١٢٦

واعلم أنك إذا سلكت مع الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه الطريقة التي أشرنا إليها في الرجوع الى أصل ما في العقل ضاقت عليهم الطريق في مناظرتك وقطعتهم بذلك عن ميدان واسع من القياسات واعتماد أخبار الآحاد ، وحصرتهم بذلك حصرا لا يملكون معه قبضا ولا بسطا.

مثال بعض ما أشرنا اليه وهو : أن يسأل عن إباحة نكاح المتعة؟

فنقول : قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا في أصل العقل مباحة، ونكاح المتعة بهذه الصفة فيجب إباحته.

فإن سالت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه انتفاع لا محالة.

قلت : الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها ويعلم فقد ذلك ، والضرر الأجل انما هو العقاب ، وذلك تابع للقبح. ولو كانت هذه المنفعة قبيحة يستحق بها العقاب ، لدل الله تعالى على ذلك ، لوجوب اعلامه المكلف ما هذه سبيله.

فلم يبق بعد ذلك الا أن يسأل الدلالة على أن المنافع التي صفتها ما ذكرناه في العقل على الإباحة ، فينتقل من الكلام في الفروع إلى الأصول. ثم الدلالة على ذلك سهلة يسيرة ، أو يعارض بقياس أو خبر واحد ، فلا يقبل ذلك ، لأنهما غير حجة عندك في الشرع.

فان انتقل الى الكلام في التعبد بالقياس أو خبر الواحد ، كان أيضا منتقلا من فرع إلى أصل.

وإذا انتقل الكلام الى ذلك ، كان أسهل وأقرب من غيره ، أو ليس كنا نسامح الخصوم في بعض الأزمان ، بأن نقبل المعارضة منهم بالقياس أو خبر الواحد ، استظهارا أو استطالة عليهم ، فصار ذلك من الواجب علينا ، بل المناقشة أولى وأضيق عليهم. فإذا أردت بعد ذلك أن نتبرع بما يجب عليك من قبول ما

١٢٧

يعارضون به ، والكلام عليه تغلب على بصيرة وبعد بيان وإيضاح.

وكذلك متى سلكت معهم في بعض مسائل الخلاف الاعتماد على ظاهر كتاب.

ومثال ذلك : أن يستدل على إباحة نكاح المتعة بقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) وبقوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)(٢) وهذا الظاهر عام في نكاح المتعة. فإن الكلام يضيق عليهم ، لأنهم إن عارضوا بقياس أو خبر واحد وليس لهم الا ذلك لم يتقبل منهم ذلك ، لان مذهبك بخلاف ، فيقف الكلام ضرورة عليهم.

فان قيل : قد بنيتم بناء المسائل على الإجماع ، وبنيتم كيف يستدل أيضا بالأصل في العقل وبظواهر الكتاب ، فاذكروا أمثلة طريقة القسمة التي ذكرتم أنها طريقة صحيحة ، ومما يعتمد عليه في إيجاب العلم في مناظرة الخصوم.

قلنا : مثال هذه الطريقة أن من قال لزوجته : أنت علي حرام.

فقد اختلف أقوال الأمة فيه ، فمن قائل : انه طلاق بائن أو رجعي. ومن قائل : إنه ظهار. وقال قوم : هو يمين.

وقال قوم وهو الحق : انه لغو ولا تأثير له والمرأة على ما كانت عليه ، وهذا قول الإمامية وصح مذهبهم ، لانه ليس بعد إبطال تلك المذاهب.

وطريق إبطال ما عدا مذهب الإمامية الواضح أن نقول : كونه طلاقا بائنا ، أو رجعيا ، أو ظهارا ، أو يمينا أحكام شرعية ، والحكم الشرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، فإن الذي سلكه القوم في ذلك من القياس ليس بصحيح ، لانه مبني على التعبد بالقياس ولم يثبت ذلك ، فإذا بطلت تلك

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

(٢) سورة النساء : ٢٥.

١٢٨

الأقسام صح ما عداها.

ولك أيضا أن تبطلها بأن تقول : لفظة «حرام» ليس في ظاهرها طلاق ولا طهار ولا يمين ، فكيف يفهم منها ما ليس في الظاهر ، وهل حملها على ذلك والظاهر لا يتناوله الا كحملها على ما لا يحصى مما لا يتناوله الظاهر.

واعلم أنه لا خفاء على أحد أن بما أوضحناه ونهجناه قد وسعنا الكلام لمن أراد أن يناظر الخصوم في جميع مسائل الخلاف التي بيننا وبينهم غاية التوسعة ، وقد كان يظن أن ذلك يضيق على من نفى القياس ولم يعمل بخبر الواحد.

فلا مسألة الا ويمكن أصحابنا على الطرق التي ذكرناها أن يناظروا خصومهم فيها ، لأن مسألة الخلاف لا يخلو من أن يكون خصومنا القائلين فيها بالحظر ونحن بالإباحة ، أو نحن نذهب الى الحظر فيها وهم على الإباحة ، أو يكون خصومنا هم الذاهبين فيها الى ما هو عبارة وحكم شرعي ونحن ننفي ذلك ، أو يكون نحن المثبتين للحكم الشرعي وهم ينفون ذلك.

فدللنا على بطلان قولهم وصحة مذهبهم (١) في هذه المسألة التي نقول فيها بالإباحة وهم بالحظر أن الأصل في العقل الإباحة ، فمن ادعى حكما زائدا على ما في العقل ، فعليه الدليل الموجب للعلم. وإذا أوردوا قياسا أو خبر واحد أعلموا أن ذلك ليس بجهة للعلم ولا موجب للعمل.

مثال ذلك : ما تقدم ذكره من الخلاف في إباحة نكاح المتعة ، وما نحلة من لحوم الأهلية ويحرمونه ، ونبيحه من خطإ المطلقة بلفظ واحد والاستمتاع بها ويحظرونه. وأمثلته أكثر من أن تحصى.

وهذه الطريقة نسلك إذا كان الخلاف معهم في إثبات عبادة أو حكم شرعي ، ونحن ننفي ذلك ، لان الأصل في العقل نفي ما أثبتوه فعليهم الدليل ، ولا

__________________

(١) ظ : مذهبنا.

١٢٩

يقبل القياس ولا أخبار الآحاد لما تقدم ذكره.

مثال ذلك : أنهم يثبتون القيء والرعاف والمذي ومس الذكر أو المرأة ناقضا للطهارة ، وذلك حكم شرعي خارج عن أصل ما هو في العقل ، فعلى مثبت ذلك الدليل. وكذلك إذا أثبتوا الزكاة في الحلي وفي الذهب والفضة وان لم يكونا مطبوعين ، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى.

وأما إذا كان الحظر في جهتهم وإثبات العبادة أو الحكم الشرعي هو مذهبنا وهم ينفون ذلك ، كما نقوله في تحريم الشراب المسكر ، وإيجاب التشهدين الأول والثاني ، والتسبيح في الركوع والسجود ، وإيجاب الوقوف بالمشعر الحرام ، وأمثلة ذلك أيضا أكثر من أن تحصى وأنت منتبه عليها.

فحينئذ يجب الفرع (١) الى الطريقة التي ذكرناها ، وهو أن يقصد مسألة من المسائل التي قد دلت (٢) عليها دليل يوجب العلم من ظاهر كتاب أو غيره.

فنقول : قد ثبت كذا في هذه المسألة ، وكل من ذهب الى ذاك فيها ذهب في المسألة الفلانية تذكر المسألة التي تريد أن تدل عليها كذا ، والتفريق بينهما خلاف الإجماع على ما شرحناه فيما تقدم.

فقد بان أنه لا يعزل طريق يسلكه مع الخصوم في كل مسائل الخلاف.

فقد بينا على كيفية ما يعمله في جميع المسائل.

__________________

(١) ظ : الفزع.

(٢) ظ : دل.

١٣٠

(١٩)

مسألة في أحكام أهل الآخرة

١٣١
١٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال [المرتضى (١)] رضي الله عنه :

سألت بيان أحكام أهل الآخرة في معارفهم وأحوالهم (٢) ، وأنا ذاكر من [ذلك (٣)] جملة وجيزة :

اعلم أن لأهل الآخرة ثلاث أحوال : حال ثواب ، وحال عقاب ، وحال أخرى للمحاسبة. ويعمهم في هذه الأحوال الثلاث سقوط التكليف عنهم ، وان معارفهم ضرورية ، وانهم ملجئون الى الامتناع من القبيح وان كانوا مختارين لأفعالهم مؤثرين لها ، وهذا هو الصحيح دون ما ذهب اليه من خالف هذه (٤) الجملة.

والذي يدل على سقوط التكليف عن أهل الثواب منهم ، فهو أن الثواب

__________________

(١) الزيادة من ب.

(٢) في ب : وأفعالهم.

(٣) الزيادة من أوخ.

(٤) في ب : في هذه.

١٣٣

شرطه وحقه (١) أن يكون خالصا غير مشوب (٢) ولا منغص (٣) ، ومقارنة التكليف للمثاب يخرجه عن صفته التي لا بد أن يكون عليها.

فان قيل : فهبوا أن هذا يتم في أهل الجنة الذين هم مثابون ، فمن أين زوال التكليف عن أهل النار أو عن أهل الموقف؟

قلنا : [الجواب (٤)] الصحيح عن هذا السؤال أنا إذا علمنا زوال التكليف عن أهل الجنة بالطريقة التي ذكرناها علمنا زواله عن أهل العقاب وأهل الموقف بالإجماع ، لأن أحدا من الأمة (٥) لا يفصل بين أحوال [أهل (٦)] الآخرة في كيفية المعارف وزوال التكليف.

وهذا الوجه أولى مما يمضي في الكتب من أن أهل الآخرة بين مناب (٧) أو معاقب أو مساءل يحاسب ، ولو كانوا مكلفين لجاز أن يتغير أحوال [أهل (٨) العقاب الى الثواب وأحوال [أهل (٩)] الثواب الى العقاب ، وان يصيروا دون المؤمنين حالا في الثواب بمنزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منازله في ثوابه (١٠).

وانما قلنا انه أولى منه ، لان العقل لا يمنع مما ذكروه من تغير أحوال

__________________

(١) في ا : شرط وصفه.

(٢) في ب : غير مسنون.

(٣) في خ : ولا منتقص.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) في أوخ : من الأئمة.

(٦) الزيادة من ب.

(٧) في ب : من أهل الآخرة بين حيات.

(٨) الزيادة من أ.

(٩) الزيادة من أ.

(١٠) في أ : وثوابه.

١٣٤

[أهل (١)] الآخرة في الثواب والعقاب ، وان منع [من (٢)] ذلك سمع أو إجماع ، عول عليه في المنع منه ، والا فقد كان مجوزا.

وليس لأحد أن يقول : كيف [يكون (٣)] أهل الآخرة مكلفين وليس لهم دواع مترددة ، والشبهة لا تدخل (٤) عليهم ، والتكليف انما يحسن تعريضا للثواب و [الثواب (٥)] لا يستحق مع توفر الدواعي وامتناع دخول الشبهة.

فالجواب عن هذه الشبهة : انه غير ممتنع دخول الشبهة على أهل الآخرة ، فيصح أن يكلفوا ، لأنهم في معاينتهم تلك الأحوال والآيات يجرون (٦) مجرى من شاهد المعجزات العظيمة للأنبياء عليهم‌السلام في أنه مكلف ، ويجوز دخول الشبهة عليه.

وأما الذي يدل على أن أهل الآخرة لا بد أن يكونوا عارفين بالله تعالى وأحواله ، فهو أن المثاب متى لم يعرفه تعالى ، لم يصح منه معرفة كون الثواب ثوابا وواصلا (٧) اليه ، على الوجه الذي يستحقه (٨) ، وانه دائم غير منقطع ، وإذا كانت هذه المعارف واجبة فما لا يتم هذه المعرفة إلا به من معرفة الله تعالى وإكمال العقل وغيرهما (٩) لا بد من حصوله.

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) الزيادة من ب.

(٣) الزيادة من ب.

(٤) في ب : والشبهة لا يدخل.

(٥) الزيادة من ب.

(٦) في أوخ : تجري.

(٧) في ا : ثوابا واصلا.

(٨) في ب : استحقه.

(٩) في أوب : وغيره.

١٣٥

وانما قلنا بوجوب حصول هذه (١) المعارف لان المثاب متى لم يعرف أن الثواب واصل اليه على سبيل الجزاء عما فعله (٢) من الطاعات لم يعلم أنه قد وفي حقه وفي له (٣) بما عرض له من التكليف الشاق ، ولان كون الثواب (٤) ثوابا مفتقر الى العلم بقصد فاعله الى التعظيم به، والعلم بالقصد يقتضي العلم بالقاصد ، والعلم بدوام الثواب أيضا زائد في لذة المثاب وناف للتكدير والتنغيص (٥) بجواز انقطاعه ، ومعلوم أنه لا يتم العلم بدوامه الا بعد المعرفة بالله تعالى.

والقول في المعاقب يقرب (٦) من القول [في (٧)] المثاب ، لانه يجب أن يعرف أن إلا لام الواصلة اليه على سبيل العقاب ، فيعلم أنها مستحقة وواقعة على وجه الحسن ، ويعلم قصد القاصد الى الاستحقاق بها كما قلناه في باب الثواب والقصد الى التعظيم به ، ويعلم أيضا دوامه ، فيكون ذلك زائدا في إيلامه والإضرار به (٨) وهذا كله لا يتم الا بعد المعروفة بالله تعالى وأحواله فيجب حصولها.

فان قيل : فمن أين [علمتم (٩)] أن أهل الموقف يجب أن يكونوا عارفين بالله تعالى وليس يتم فيهم ما ذكرتموه في أهل الثواب والعقاب في وجوب المعرفة بالله تعالى.

قلنا : [أهل الموقف يجرون مجرى أهل الثواب والعقاب (١٠)] في وجوب

__________________

(١) في ب : هذين.

(٢) في أوخ : عما فعل.

(٣) في أ : ووفى لنا.

(٤) في أو خ : ولا كون.

(٥) في خ : والتنقيص.

(٦) في أوخ : من المعاقب مقرب.

(٧) الزيادة من أ.

(٨) في ب : الاحتراز به.

(٩) الزيادة من أ.

(١٠) الزيادة من ب.

١٣٦

المعرفة بالله تعالى ، لأن الفائدة (١) في المحاسبة والمساءلة والمواقفة هي حصول السرور واللذة لأهل الثواب ، والألم والحسرة لأهل العقاب ، فلا بد [من (٢)] أن يعرفوا الله عزوجل ليعلموا ما ذكرناه ، ولان نشر الصحف والمحاسبة (٣) والمساءلة أفعال واقعة على وجه الحكمة ، ولا يجوز أن يعرفوا وقوعها على هذا الوجه من الحسن والحكمة إلا بعد معرفتهم (٤) بالله تعالى وأحواله ، ومتى لم يعرفوه (٥) جوزوا فيها خلاف ما بني عليه من وجوه (٦) الحكمة.

وإذا وجب في أهل الآخرة أن يكونوا عارفين بالله تعالى لم تخل حالهم في هذه المعرفة من وجوه : اما أن يكونوا مكتسبين لها ومستدلين عليها ، أو يكونوا ملجئين إليها والى النظر المولد لها ، أو يكونوا مضطرين إليها والى النظر المولد لها ، ولا يجوز أن يكونوا مكتسبين لهذه المعرفة ، لأن ذلك (٧) يقتضي كونهم مكلفين ، وقد بينا أنهم غير مكلفين ، ولا يجوز أن يكونوا [مكتسبين (٨)] لها على سبيل التذكر كما يفعله المنتبه عن نومه عند انتباهه في أنه يفعل اعتقادا لما كان عالما (٩) ، فيكون له علوما لأجل التذكر.

__________________

(١) في خ والنسخة المطبوعة في كلمات المحققين : قلنا لأن الفائدة إلخ.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في أ : والمحاسب.

(٤) في ب : معرفته.

(٥) في أو خ : لم يعرفوا.

(٦) في ب : من وجه.

(٧) في أوخ : لان هذه.

(٨) الزيادة من ب.

(٩) في ا : اعتقلوا لما كان علم به. وفي خ : اعتقادا لما كان علم به.

١٣٧

وذلك [أن (١)] هذا الوجه لا يخرجون معه من جملة التكليف ، لأنهم وان كانوا عند التذكر لا بد أن يفعلوا الاعتقادات التي تصير علوما والشبه متطرقة عليهم ويجوز دخولها فيما علموه ، فلا بد أن يكلفوا دفعها والتخلص منها ، فالتكليف ثابت أيضا على هذا الوجه.

على أن هذا الوجه انما يتطرق فيمن كان عارفا بالله تعالى في دار الدنيا ، وأما من لم يكن عارفا [به (٢)] فلا يتأتى منه.

فان قيل : هؤلاء الذين كانوا في الدنيا لا يعرفون الله تعالى يعرفونه في الآخرة ضرورة.

قلنا : بالإجماع نعلم ضرورة أن معارف أهل الآخرة متساوية في طريقها غير مختلفة ، ولا يجوز أن يكونوا ملجئين إلى المعرفة ولا الى النظر المولد للمعرفة ، لأن إلا لجاء (٣) إلى أفعال القلوب لا يصح الا منه تعالى لانه المطلع على الضمائر ، ولا يصح (٤) أن يكون تعالى ملجئا لهم الا مع تقدم معرفتهم به وبأحواله (٥) ، لأنه إنما يلجئهم الى الفعل بأن يعلمهم (٦) بأنهم متى حاولوا العدول عنه منعهم منه ، وذلك يقتضي كونهم عارفين به تعالى وبصفاته.

على ان الإلجاء إلى المعرفة أيضا لا يصح ، لأنه إنما يلجئ الى الاعتقادات المخصوصة، بأن يعلم الملجإ أنه يمنعه متى رام غيرها. وأكثر ما في ذلك أن

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في ب : لان إلجاء.

(٤) في ب : والصحيح.

(٥) في ا : وجوبا لهم.

(٦) في ب : الى الله بأن تعلمهم.

١٣٨

يقع من هذا الملجإ تلك الاعتقادات ، فما الذي يقتضي كونها علوما ومعارف؟ ولا وجه يقضي ذلك من الوجوه المذكورة التي يصير الاعتقاد لها علما.

ولا يجوز أن يكون تعالى مضطرا لهم الى النظر المولد للمعرفة ، لان ذلك جار مجرى العبث الذي لا فائدة فيه (١) لان الغرض هو المعرفة ، والاضطرار إليها يغني عن الاضطرار الى سببها ، على ان في النظر مشقة وكلفة ، وذلك ينافي صفة أهل الثواب في الآخرة ، وإذا وجب في معرفة أهل الثواب منهم الاضطرار وجب ذلك في معارف الجميع من الوجه الذي بيناه.

فان قيل : دلوا (٢) على أن [في (٣)] مقدوره تعالى علما يفعله في غيره ، فيكون ذلك الغير به عالما ، فان كلامكم (٤) مبني على أن ذلك مقدور غير ممتنع.

قلنا : لا بد من كون ذلك في مقدوراته تعالى ، [لأنه (٥)] لو لم يكن له مقدور لوجب في أجناس الاعتقادات على اختلافها أن تكون خارجة من مقدور الله تعالى ، لانه لا يوصف تعالى بالقدرة على علم يكون به هو تعالى عالما ، وإذا كان لا يوصف بالقدرة على علم يكون غيره به عالما ، فيجب أن يكون جنس العلوم من الاعتقادات خارجا عن مقدوره، وهذا يقتضي أن يكون غيره من المحدثين أقدر منه وأكمل حالا في القدرة ، لأنا نقدر على هذه (٦) الأجناس ، وإذا ثبت انه تعالى أقدر منا وأنه لا يجوز أن نقدر على جنس لا يقدر هو تعالى عليه ، ثبت

__________________

(١) في أوخ : لا يليقه.

(٢) في ب : ولوا.

(٣) الزيادة من ب.

(٤) في ب : فان كلامك.

(٥) الزيادة من أوخ.

(٦) في ب : على هذين.

١٣٩

أنه لا بد أن يكون قادرا على جنس العلوم.

ولهذا كفر أبو القاسم البلخي (١) في هذه المسألة ، وقيل له [إنك (٢)] مصرح بأنا أقدر منه ، ولا يلزم على هذا ما نقوله كلنا من أنه لا يوصف بالقدرة على الجمع بين الضدين ، وأن يفعل في نفسه الحركة ، وما أشبه ذلك ، لان هذا كله غير مقدور في نفسه من حيث لا يقدر عليه من القادرين أحد ، وليس كذلك قبيل الاعتقادات ، لانه مقدور في نفسه لمن هو انقص حالا من القديم تعالى في باب القدرة ، فأولى وأحرى أن يكون تعالى قادرا عليه.

فان قيل : فإذا كان التكليف زائلا عنهم فكيف أمرهم تعالى بقوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٣).

قلنا : قيل ان هذا اللفظ وان كان صيغة الأمر فليس بأمر (٤) على الحقيقة بل يجري مجرى الإباحة ، والإباحة لها صورة الأمر ، فقيل (٥) أيضا انه أمر وانه تعالى أراد من أهل الجنة الأكل والشرب على سبيل الزيادة في ملاذهم وسرورهم لا على سبيل التكليف.

فان قيل : فكيف تقولون في شكر أهل الجنة لنعم الله تعالى ، أو ليس هو لازم لهم(٦)؟

__________________

(١) عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي ، كان رأس طائفة ، من المعتزلة يقال لهم الكعبية ، وهو صاحب مقالات ، وهو صاحب مقالات ، وكان من كبار المتكلمين ، وله اختيارات في علم الكلام. توفي سنة ٣١٧ ه‍ (وفيات الأعيان : ٢ / ٢٤٨).

(٢) الزيادة من ب ، وفي خ : بأنك.

(٣) سورة الحاقة : ٢٤.

(٤) في ب : فليستأمر.

(٥) في خ : وقيل.

(٦) في ب : وليس هو ملازم لهم.

١٤٠