رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال السيد الشريف المرتضى (رحمه‌الله) في كتاب الغرر والدرر في أجوبة المسائل السلارية (١) :

مسألة :

ما القول فيما يخبر به المنجمون من وقوع حوادث ويضيفون ذلك الى تأثيرات النجوم؟ وما المانع من أن تؤثر الكواكب على حد تأثير الشمس الادمة فينا؟ وان كان تأثير الكواكب مستحيلا ، فما المانع من أن تكون التأثيرات من فعل الله تعالى بمجرى العادة عند طلوع هذه الكواكب أو انتقالها؟

فلينعم ببيان ذلك ، فإن الأنفس اليه متشوقة. وكيف تقول ان المنجمين حادسون؟ مع أنه لا يفسد من أقوالهم إلا القليل ، حتى أنهم يخبرون بالكسوف ووقته ومقداره ، فلا تكون الا على ما أخبروا به ، فأي فرق بين اخبارهم بحصول

__________________

(١) أورد المسألة بتمامها في البحار ٥٨ / ٢٨٢ ـ ٢٩٠ وبعضها في فرج المهموم ص ٤١.

٣٠١

هذا التأثير في هذا الجسم؟ وبين حصول تأثيرها في أجسامنا.

الجواب :

اعلم أن المنجمين يذهبون الى أن الكواكب تفعل في الأرض ومن عليها أفعالا يسندونها الى طباعها ، وما فيهم أحد يذهب الى أن الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو بعده أفعالا ، من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك.

ومن ادعى هذا المذهب الان منهم ، فهو قائل بخلاف ما ذهبت القدماء في ذلك ، ومتجمل بهذا المذهب عند أهل الإسلام ، ومتقرب إليهم بإظهاره. وليس هذا بقول لأحد ممن تقدم ، وكان الذي كان يجوز أن يكون صحيحا ـ وان دل الدليل على فساده ـ لا يذهبون اليه ، وانما يذهبون الى المحال الذي لا يمكن صحته.

وقد فرغ المتكلمون من الكلام في أن الكواكب لا يجوز أن تكون فينا فاعلة.

وتكلمنا نحن أيضا في مواضع على ذلك ، وبينا بطلان الطبائع الذي (١) يهذون بذكرها واضافة الأفعال إليها ، وبينا أن الفاعل لا بدّ أن يكون حيا قادرا.

وقد علمنا أن الكواكب ليست بهذه الصفة ، وكيف تفعل وما يصحح الافعال مفقود فيها ، وقد سطر المتكلمون طرقا كثيرة في أنها ليست بحية ولا قادرة أكثرها معترض.

وأشف ما قيل في ذلك : ان الحياة معلوم (٢) أن الحرارة الشديدة كحرارة

__________________

(١) كذا في النسخة ، وفي البحار : الذين ، والظاهر : التي.

(٢) ظ : معدومة.

٣٠٢

النار تنفيها ولا تثبت معها ، ومعلوم أن حرارة الشمس أشد وأقوى من حرارة النار بكثير ، لأن الذي يصل إلينا على بعد المسافة من حرارة الشمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النار ، وما كان بهذه الصفة من الحرارة يستحيل كونه حيا.

وأقوى من ذلك كله في نفي كون الفلك وما فيه من شمس وقمر وكوكب أحياء ، السمع والإجماع ، وأنه لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك وما يشتمل عليه من الكواكب ، وأنها مسخرة مدبرة مصرفة ، وذلك معلوم من دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة.

وإذا قطعنا على نفي الحياة والقدرة عن الكواكب ، فكيف تكون فاعلة؟ وعلى اننا قد سلمنا لهم استظهارا في الحجة أنها قادرة.

قلنا : ان الجسم وان كان قادرا ، فإنه لا يجوز أن يفعل في غيره الا على سبيل التوليد، ولا بدّ من وصلة بين الفاعل والمفعول فيه. والكواكب غير مماسة لنا ولا وصلة بينها وبيننا ، فكيف تكون فاعلة فينا.

فان ادعي أن الوصلة بيننا هي الهواء ، فالهواء أولا لا يجوز أن يكون آلة في الحركات الشديدة وحمل الأثقال ، ثم لو كان الهواء آلة (تحركنا بها الكواكب ، لوجب أن نحس بذلك، ونعلم أن الهواء يحركنا ويصرفنا ، كما نعلم في غيرنا من الأجسام إذا حركناه بآلة.

على أن في الحوادث الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة ولا يتولد عن سبب كالإرادات والاعتقادات وأشياء كثيرة.

على أن في الحوادث الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة ولا يتولد عن سبب كالإرادات والاعتقادات وأشياء كثيرة.

فكيف فعلت الكواكب ذلك فينا؟ وهي لا تصح أن تكون مخترعة للأفعال ، لان الجسم لا يجوز أن يكون قادرا الا بقدرة ، والقدرة لا تجوز لأمر يرجع الى نوعها أن تخترع بها الأفعال.

٣٠٣

فأما الادمة فليست تؤثرها الشمس على الحقيقة في وجوهنا وأبداننا ، وانما الله تعالى هو المؤثر لها وفاعلها بتوسط حرارة الشمس ، كما أنه تعالى هو المحرق على الحقيقة بحرارة النار ، والهاشم لما يهشمه الحجر بثقله ، وحرارة الشمس مسودة للأجسام من جهة معقولة مفهومة ، كما أن النار تحرق الأجسام على وجه معقول.

فأي تأثير للكواكب فينا يجري هذا المجرى في تمييزه والعلم بصحته؟ فليشر إليه فإن ذلك مما لا قدرة عليه.

ومما يمكن أن يعتمد في إبطال أن تكون الكواكب فاعلة ومصرفة لنا ، أن ذلك يقتضي سقوط الأمر والنهي والذم عنا ، ونكون مقدورين (١) في كل إساءة تقع منا ، ونجنيها بأيدينا وغير مشكورين على شيء من الإحسان والإفضال ، وكل شيء نفسد به قول المجبرة فهو مفسد لهذا المذهب.

وأما الوجه الأخر : وهو أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع الكواكب أو غروبه واتصاله أو مفارقته.

وقد بينا أن ذلك ليس بمذهب المنجمين البتة ، وانما يتجملون الان بالتظاهر به ، وأنه قد كان جائزا أن يجري الله تعالى العادة بذلك ، لكن لا طريق الى العلم بأن ذلك قد وقع وثبت.

ومن أين لنا بأن الله تعالى قد أجرى العادة ، بأن يكون زحل أو المريخ إذا كان في درجة الطالع كان نحسا ، وأن المشتري إذا كان كذلك كان سعدا.

وأي سمع مقطوع به جاء بذلك؟ وأي نبي خبر به واستفيد من جهته؟ فان عولوا في ذلك على التجربة ، بأنا جربنا ذلك ومن كان قبلنا ، فوجدناه على هذه الصفة ، وإذا لم يكن موجبا وجب أن يكون معتادا.

__________________

(١) في البحار : ونكون معذورين.

٣٠٤

قلنا : ومن سلم لكم صحة هذه التجربة وانتظامها وأطرافها ، وقد رأينا خطأكم أكثر من صوابكم فيها ، وصدقكم أقل من كذبكم ، فألا نسبتم الصحة إذا اتفقت منكم الى الاتفاق الذي يقع من المخمن والمرجم. فقد رأينا من يصيب من هؤلاء أكثر ممن يخطئ ، وهو على غير أصل معتمد ولا قاعدة صحيحة.

فإذا قلتم : سبب خطأ المنجم زلل دخل عليه في أخذ الطالع أو تسير الكواكب.

قلنا : ولم لا كانت إصابته سببها التخمين ، وانما كان يصح لكم هذا التأويل والتخريج لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير اصابة المنجم.

فأما إذا كان دليل صحة الاحكام الإصابة. فألا كان دليل فسادها الخطأ فما أحدهما في المقابلة الا كصاحبه.

ومما أفحم (١) به القائلون بصحة الاحكام ولم يتحصل منهم عنه جواب ، ان قيل لهم في شيء بعينه : خذوا الطالع واحكموا هل يؤخذ أو يترك ، فان حكموا اما بالأخذ أو الترك خولفوا وفعل خلاف ما خبروا به ، وقد أعضلتهم هذه المسألة واعتذروا عنها بأعذار ملفقة لا يخفى على عاقل سمعها بعدها من الصواب.

فقالوا في هذه المسألة : يجب أن يكتب هذا المبتلى بها ما يريد أن يفعل أو يخبر به غيره فانا نخرج ما قد عزم عليه من أحد الأمرين.

وهذا التعليل منهم باطل ، لأنهم إذا كان النظر في النجوم يدل على جميع الكائنات التي من جملتها ما يختاره أحدنا من أخذ هذا الشيء أو تكره.

فأي فرق بين أن يطوي ذلك فلا يخبر به ولا يكتبه حتى يقول المنجم ما عنده ،

__________________

(١) أفحمه : أسكته بالحجة.

٣٠٥

وبين أن يخبر به ويكتبه قبل ذلك.

وانما فزعوا إلى الكتابة وما يجري مجراها ، حتى لا يخالف المنجم فيما يذكره ويحكم به من أخذ أو ترك. ولو كانت الأحكام صحيحة وفيها دلالة على الكائنات ، لوجب أن يعرف المنجم ما اختاره من أحد الأمرين على كل حال.

ولو نزلنا تحت حكمهم وكتبنا ما نريد أن نفعله ، لما وجدنا إصابتهم في ذلك إلا أقل من خطائهم ، ولم يزيدوا فيه على ما يفعله المخمن المرجم من غير نظر في طالع ولا غارب ، ولا رجوع إلى أصل ، والا فالبلوى بيننا وبينهم (١).

وكان بعض الرؤساء بل الوزراء ممن كان فاضلا في الأدب والكتابة ومشغوفا بالنجوم عاملا عليها ، قال لي يوما وقد جرى حديث يتعلق بأحكام النجوم ورأى من مخايلي التعجب ممن يتشاغل بذلك ويفني زمانه فيه : أريد أن أسألك عن شيء في نفسي.

فقلت : سل عما بدا لك.

قال : أريد أن تعرفني هل بلغ بك التكذيب بأحكام النجوم الى أن لا تختار يوما لسفر ولبس ثوب جديد وتوجه في حاجة.

فقلت : قد بلغت الى ذلك ـ والحمد لله ـ وزيادة عليه ، وما في داري تقويم ولا أنظر فيه ، وما رأيت مع ذلك الا خيرا.

ثم أقبلت عليه فقلت : ندع ما يدل على بطلان أحكام النجوم مما يحتاج الى ظن دقيق ورؤية طويلة ، وهاهنا شيء قريب لا يخفى على أحد ممن علت طبقته في الفهم أو انخفضت.

خبرني لو فرضنا جادة مسلوكة وطريقا يمشي فيه الناس ليلا ونهارا ، وفي محجته آبار متقاربة ، وبين بعضها وبعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل وتوقف

__________________

(١) خ ل : بينكم.

٣٠٦

حتى يتخلص من السقوط في بعض تلك الآبار.

هل يجوز أن يكون سلامة من يمشي في هذا الطريق من العميان ، كسلامة من يمشي فيه من البصراء؟ وقد فرضنا أنه لا يخلو طرفة عين من المشاة فيه بصراء وعميان.

وهل يجوز أن يكون عطب البصراء يقارب عطب العميان؟ أو سلامة العميان مقاربة لسلامة البصراء؟

فقال : هذا مما لا يجوز ، بل الواجب أن تكن سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان ، ولا يجوز في مثل هذا التقارب.

فقلت : إذا كان هذا محالا فأحيلوا نظيره وما لا فرق بينه وبينه ، وأنتم تجيزون شبيه ما ذكرناه وعديله ، لان البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم ، ويميزون سعدها ونحسها ، ويتوقون بهذه المعرفة مضار الزمان ويتخطونها ، ويعتمدون منافعه ويقصدونها.

ومثال العميان كل من لا يحسن تعلم النجوم ، ولا يلتفت اليه من الفهماء والفقهاء وأهل الديانات والعبادات ثم سائر العوام والاعراب والأكراد ، وهم أضعاف أضعاف من يراعي عدد النجوم.

ومثال الطريق الذي فيه الآبار ، الزمان الذي يمضي عليه الخلق أجمعون. ومثال آباره مصائبه ونوائبه ومحنه.

وقد كان يجب لو صح العلم بالنجوم وأحكامها ، أن تكون سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل ، لأنهم يتوقون المحن لعلمهم بها قبل كونها ، وتكون محن كل من ذكرناه من الطبقات الكثيرة أوفر وأظهر ، حتى تكون السلامة هي الطريقة (١) الغريبة.

__________________

(١) في البحار : الطريفة.

٣٠٧

وقد علمنا خلاف ذلك ، وأن السلامة أو المحن في الجميع متقاربة غير متفاوتة.

فقال : ربما اتفق مثل ذلك.

فقلت له : فيجب أن نصدق من خبرنا في ذلك الطريق المسلوك الذي فرضناه ، بأن سلامة العميان كسلامة البصراء ، ونقول : لعل ذلك اتفق وبعد ، فان الاتفاق لا يستمر بل ينقطع. وهذا الذي ذكرناه مستمر غير منقطع. فلم يكن عنده عذر صحيح.

ومما يفسد مذهب المنجمين ، ويدل على [أن](١) ما لعله يتفق لهم من الإصابة على غير أصل ، أنا قد شاهدنا جماعة من الزراقين الذين لا يعرفون شيئا من علم النجوم ولا نظروا قط في شيء منه ، يصيبون فيما يحكمون به إصابات مستطرفة.

وقد كان المعروف ب «الشعراني» الذي شاهدناه ، وهو لا يحسن أن يأخذ الأسطرلاب للطالع ، ولا نظر قط في زيج ولا تقويم ، غير أنه زكي (٢) حاضر الجواب ، فطن بالزرق معروف به كثير الإصابة وبلوغ الغاية فيما يخرجه من الاسرار.

ولقد اجتمع يوما بين يدي جماعة كانوا عندي ، وكنا قد اعتزمنا جهة نقصدها لبعض الأغراض ، فسأله أحدنا عما نحن بصدده ، فابتدأه من غير أخذ طالع ولا نظر في تقويم ، فأخبرنا بالجهة التي أردنا قصدها ، ثم عدل الى كل واحد من الجماعة ، فأخبره عن كثير من تفصيل أمره وأغراضه.

حتى قال لأحدهم : وأنت من بين الجماعة قد وعدك واعد بشيء يوصله إليك ، وقلبك به متعلق ، وفي كمك شيء مما يدل على هذا ، وقد انقضت حاجتك وانتجزت ، وجذب يده الى كمه فاستخرج ما فيه ، فاستحيى ذلك الرجل ووجم

__________________

(١) الزيادة من البحار.

(٢) كذا في النسخة والبحار ، والظاهر : ذكى.

٣٠٨

ومنع من الوقوف على ما في كمه بجهده ، فلم ينفعه ذلك ، وأعان الحاضرون على إخراج ما في كمه لما أحسوا بالإصابة من الزرق ، فأخرج من كمه رقاع كثيرة في جملتها صك على دار الضرب بصلته (١) من خليفة الوزراء في ذلك الوقت.

فعجبنا مما اتفق من اصابته مع بعده من صناعة النجوم.

وكان لنا صديق يقول أبدا : من أدل دليل على بطلان أحكام النجوم اصابة الشعراني.

وجرى يوما مع من يتعاطى علم النجوم هذا الحديث ، فقال : عند المنجمين أن السبب في اصابة من لا يعلم شيئا من علم النجوم ، أن مولده وما يتولاه ويقتضيه كواكبه اقتضى له ذلك.

فقلت له : لعل بطليموس وكل عالم من عامة (٢) المنجمين ومصيب في أحكامه عليها انما سبب اصابته مولده وما يقتضيه كواكبه من غير علم ولا فهم ، فلا يجب أن يستدل بالإصابة على العلم ، إذ كانت تقع من جاهل ويكون سببها المولد.

وإذا كانت الإصابة بالمواليد ، فالنظر في علم النجوم عبث ولعب لا يحتاج إليه ، لأن المولد ان اقتضى الإصابة أو الخطأ ، فالتعلم لا ينفع وتركه لا يضر.

وهذه علة تسري الى كل صنعة حتى يلزم أن يكون كل شاعر مفلق وصانع حاذق وناسج للديباج مونق ، لا علم له بتلك الصناعة ، وانما اتفقت الصنعة بغير علم لما تقتضيه كواكب مولده ، وما يلزم على هذا من الجهالات لا يحصى.

واعلم أن التعب بعلم مراكز الكواكب وأبعادها وإشكالها وتسيراتها متى لم يكن ثمرته العلم بالأحكام والاطلاع على الحوادث قبل كونها لا معنى له ولا

__________________

(١) في البحار : صلة.

(٢) خ ل علماء.

٣٠٩

غرض فيه ، لانه لا فائدة في أن يعلم ذلك كله ويختص نفس العلم به.

وما يجري الاطلاع على ذلك إذا لم تتعد المعرفة إلى العلم بالأحكام الا مجرى العلم بعدد الحصى وكيل النوى ، ومعرفة أطوال الجبال وأوزانها.

وكما أن العناء في تعرف ذلك عبث وسفه لا يجدي نفعا ، فكذلك العلم بشكل الفلك وتسيرات كواكبها وأبعادها ، والمعرفة بزمان قطع كل كوكب للفلك وتفاصيلها فيه.

وما شقي القوم بهذا الشأن وأفنوا أعمارهم الا لتقديرهم أنه يفضي الى معرفة الاحكام.

فلا تغتر بقول من يقول منهم : اننا ننظر في ذلك لشرف نفوسنا بعلم الهيئة ، ولطيف ما فيها من الأعاجيب ، فإن ذلك تجمل منهم وتقرب الى أهل الإسلام.

ولو لا أن غرضهم معرفة الاحكام ، لما تعنوا بشيء من ذلك كله ، ولا كانت فيه فائدة ولا منه عائدة.

ومن أدل الدليل على بطلان أحكام النجوم ، أنا قد علمنا أن من جملة معجزات الأنبياء عليهم‌السلام الاخبار عن الغيوب ، وعد ذلك خارقا للعادات ، كإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص. ولو كان العلم بما يحدث طريقا نجوميا ، لم يكن ما ذكرناه معجزا ولا خارقا للعادة.

وكيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم؟ وقد أجمع المسلمون قديما وحديثا على تكذيب المنجمين ، والشهادة بفساد مذاهبهم وبطلان أحكامهم.

ومعلوم من دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة التكذيب بما يدعيه المنجمون والإزراء عليهم والتعجيز لهم.

وفي الروايات عنه عليه‌السلام من ذلك ما لا يحصى كثرة. وكذا عن علماء أهل بيته عليهم‌السلام وخيار أصحابه ، فما زالوا يبرؤن من مذاهب المنجمين ،

٣١٠

ويعدونها ضلالا ومحالا.

وما اشتهر هذه الشهرة في دين الإسلام كيف يغتر بخلافه منتسب إلى الملة ومصل إلى القبلة.

فأما إصابتهم في الاخبار عن الكسوفات ، وما مضى في أثناء المسألة من طلب الفرق بين ذلك ، وبين سائر ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب في أجسامنا ، فالفرق بين الأمرين أن الكسوفات واقترانات الكواكب وانفصالها طريقه الحساب وتسير الكواكب ، وله أصول صحيحة وقواعد سديدة.

وليس كذلك ما يدعونه من تأثيرات الكواكب في الخير والشر والنفع والضر.

ولو لم يكن في الفرق بين الأمرين إلا الإصابة الدائمة المتصلة في الكسوفات وما يجري مجراها ، فلا يكاد يبين فيها خطأ البتة ، وأن الخطأ المعهود الدائم انما هو في الأحكام الباقية، حتى أن الصواب هو العزيز فيها ، وما يتفق لعله فيها من الإصابة قد يتفق من المخمن أكثر منه ، فحمل أحد الأمرين على الأخر بهت وقلة دين.

انتهى كلامه قدس الله إسراره.

***

ثم ذكر الناسخ كلاما آخر للسيد في مسألة النجوم قال : ومن المناسب أن نضم مع ما ذكر في هذا المقام جوابا آخر للسيد (رحمه‌الله) يتعلق بهذا المرام ، بنقل بعض الاعلام (١) عن السيد ابن طاوس (رحمه‌الله) عنه أنه كتب في أجوبة بعض ما سئل عنه ، ليكون الناظر على بصيرة ، وهذا كلامه :

قلنا : ان الذي جاء بعلم النجوم من الأنبياء هو إدريس عليه‌السلام ، وانما

__________________

(١) هو العلامة المجلسي في البحار ٥٨ / ٢٨٩.

٣١١

علم من جهته على الحد الذي ذكرناه ، ونعلم أنه لا يجوز كونها دلالة الا على هذا الوجه فقط ، لأن الشيء انما يدل على هذا الحد ، أو على الوجه الذي يدل الدليل العقلي عليه.

وقد بينا تعذر ذلك في النجوم ، فلم يبق الا ما ذكرناه.

والقطع على أن كيفية دلالتها معلوم الان غير ممكن ، لأن شريعة إدريس عليه‌السلام وما علم من قبله كالمندرس ، فلا نعلم الحال فيه.

فان كان بعض تلك العلوم قد بقي محفوظا عند قوم تناقلوه وتداولوه ، لم نمنع أن يكون معلوما لهم إذا اتصل التواتر.

وان لم يكن كذلك ، لم نمنع أن يكون العلم به ، وان بطل وزال أن يكون أمارة يقتضي غالب الظن عند كثير منهم.

وهذا هو الأقرب فيما يتمسك به أهل النجوم ، لأنهم إذا تدبرت أحوالهم وجدتهم غير واثقين بما يحكمون ، وانما يتقدم أحدهم في ذلك العلم ، كتقدم الطبيب في الطب ، فكما أن علوم الطب مبنية على الأمارات التي تقتضيها التجارب وغالب الظن ، فكذلك القول في علم النجوم ، إلا في أمور مخصوصة يمكن أن يعلم بضروب من الاخبار. انتهى.

٣١٢

(٢٧)

جوابات المسائل الرسية الأولى

٣١٣
٣١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على متوالي نعمه ومتتالي قسمه ، وله الشكر على أن جعلنا والتفكر (١) حتى نميز بين الحق المبين ، والحجة المتبوعة والشبهة المدفوعة. وصلى الله على سيد الأمم ، وأفضل العرب والعجم ، محمد نبيه وصفية ونجيبه. وعلى أفاضل عترته وأطائب ذريته.

أما بعد :

فاني وقفت على المسائل التي ضمنها الشريف (أدام الله عزه) كتابه ، وسررت شهد الله تعالى بما دلتني عليه هذه المسائل من كثرة تدبر ، وجودة تبحر ، وأنس ببواطن هذه العلوم ومآربها وكوامنها.

وأنا أجيب عن المسائل على ضيق زماني ، وقلة فراغي ، وكثرة قواطعي ، ومن الله جلت عظمته استمد التوفيق ، مستمطرا اغمامه ومسند مرآته؟ فهو تعالى ولي ذلك والقادر عليه ، المفزوع فيه اليه.

__________________

(١) ظ : أهل التفكر.

٣١٥

المسألة الأولى

حكم معتقد الحق تقليدا

ما القول في معتقد الحق تقليدا؟ أكافر أم مؤمن أم فاسق؟.

فان كان كافرا وندم عن تقليده وقصد الى النظر ، أيترك التكليف الشرعي الى أن تستقر له المعرفة؟ إذ كانت صحتها موقوفة على حصول المعرفة ، أو يعمل بها (١) مع علمنا بأنها غير عبادة.

فإن كان العمل بها واجبا ، ففيه خلاف الأصول. وان كان غير واجب ، ففيه خلاف ما أجمع المسلمون عليه ، من وجب التكليف الشرعي على كل بالغ كامل العقل.

وكذلك القول في زمان مهلة النظر لكل مكلف وما زاد عليها من الأزمان التي فرط فيها في النظر في طريق المعرفة ، هل يجب عليه فيها العبادات؟ وما يفعله إذا حصلت له المعرفة بدليلها؟ أيقضي ما تركه أو ما فعله أم لا؟.

الجواب :

اعلم أن معتقد الحق على سبيل التقليد غير عارف بالله تعالى ، ولا بما أوجب عليه من المعرفة به. فهو كافر لاضاعته المعرفة الواجبة.

ولا فرق في إضاعته الواجب عليه من المعرفة ، بين أن يكون جاهلا معتقد الحق ، وبين أن يكون شاكا غير معتقد لشيء ، أو بين أن يكون مقلدا. لان خروجه من المعرفة على الوجوه كلها حاصل في اطاعته لها ثابتة ، وهو كافر. لأن الإخلال

__________________

(١) ظ : به مع علمنا بأنه غير عبادة ، فإن كان العمل به واجبا.

٣١٦

بمعرفة الله ومعرفة من يجب العلم به لا يكون الا كفرا.

وقد بينا في كتابنا الموسوم ب «الذخيرة» كيف الطريق الى كفر من ضيع المعارف كلها ، وسلكنا فيها غير الطرق التي سلكها المعتزلة.

فإذا ثبت كفر من ضيع المعارف ، فلا شبهة في أنه فاسق ، لان كل كفر فسق وان لم يكن كل فسق كفرا.

فأما العمل بالعبادات الشرعية ، فليس يجوز أن يكلفها الا من يصح منه أن يأتي بها على الوجه الذي وجب عليه.

وقد علمنا أن من قلد فاعتقد الحق تقليدا من غير نظر يفضي به الى المعرفة ، قد فرط فيما وجب عليه من المعرفة ، وعري من العلم لتفريطه فيه ، فهو ملزم معاقب على تضييعه وتفريطه ، وهو مخاطب بهذه العبادات في ابتداء الوقت الذي لو نظر وعرف ما يلزمه من المعارف ، كان فيه عالما بوجوب هذه العبادات عليه وصح منه أداؤها على الوجه الذي وجبت.

فأما مثل هذا الوقت الذي (١) .. فإنه لا يجوز أن يلزمه فيه عبادة شرعية ، لأنها لا يصح منه قبل المعرفة بوجوبها الا لمعرفته (٢).

والقول في مهلة النظر مثل هذا بعينه ، لان الزمان الذي لا يجوز أن يقع المعارف الا بعد تقضيه ، ولا يمكن أن يتقدم عليه هو المسمى مهلة النظر ، وهذا زمان لا يمكن قبل انقضائه أن يعرف وجوب شيء من العبادات ، فكيف يلزمه أن يفعل ما لا يصح أن يعلم وجوبه عليه.

فأما من أهمل النظر وفرط فيه حتى انقضى الزمان المضروب لمهلة النظر ، فان العبادات تلزمه ، لانه لو شاء أن ينظر في الزمان المضروب لمهلة النظر لنظر

__________________

(١) بياض في النسخة والظاهر أنه : لا يمكنه المعرفة فيه.

(٢) ظ : المعرفة.

٣١٧

وعرف ما يجب عليه معرفته ، وعلم وجوب هذه العبادات عليه وأمكنه أن يفعلها على الوجه الذي وجبت عليه. فإذا ضيع ذلك كان ملوما معاقبا ..

فان قيل : كيف تقولون فيمن أهمل النظر في معرفة الله تعالى وضيعها وتقضى زمان مهلة النظر وأضعافه؟ أهو مكلف وحاله هذه لان يفعل العبادات؟.

فان قلتم : انه مكلف ، فهو مكلف لما لا يطاق ، لانه لا يعلم في هذه الحال وجوبها عليه ، ولا يتمكن أيضا من العلم بذلك ، لحاجة هذا العلم الى علوم كثيرة يتقدم عليه تضيق هذا الزمان عنها. وان قلتم : انه غير مكلف تركتم مذهبكم في أن الكفار كلهم يخاطبون بالشرعيات.

قلنا : ان كان ذلك الزمان الذي سئلنا عن تكليفه الشرعيات فيه زمانا يتمكن قبل حلوله من العلم بوجوب هذه الشرعيات عليه ، فهو مخاطب بفعلها وان كان يضيق عن ذلك ، لتفريطه وإهماله الى أن انتهى اليه.

فانا نقول : كان مخاطبا بفعل هذه الشرعيات في هذا الزمان ، فأضاع ما كلفه ، فهو مذموم معاقب على إخلاله بهذه الشرعيات ، لأنها كانت واجبة عليه قبل هذا الزمان ، وهو الان مخاطب منها (١) بما يتمكن من العلم بوجوبه. فان علم وفعل فقد قام بالواجب ، وان فرط أيضا كان القول فيه ما تقدم ذكره ..

وأما وجوب القضاء عليه متى عرف الله تعالى ووجوب الشرعيات ، فإنه غير واجب عليه القضاء ولا سقوط بسقوطه ، لانفصال كل واحدة من هاتين العبادتين عن الأخرى ، لأن في العبادات ما لا يجب أداؤه ويجب قضاؤه ، كصوم الحائض.

وهذه المسألة قد أحكمناها واستقصيناها في مسائل أصول الفقه ، حيث دللنا على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.

__________________

(١) في الهامش : بها.

٣١٨

وبينا أنهم متمكنون في حال كفرهم من أداء هذه العبادات ، بأن يؤمنوا ويسلموا ، فيعلموا وجوبها ، ويتمكنون حينئذ من فعله.

وبينا أن من دفع وجوب ذلك عليهم من حيث لا يتمكنون منه في الثاني والا بعد أحوال كثيرة ، يلزمه أن لا يكون المحدث مخاطبا بالصلاة ، لأنه لا يتمكن مع الحدث من إيقاعها ، لكنه لما تمكن من إزالته الحدث قبل الإيقاع كان مخاطبا بالإيقاع ، وبلغنا في استيفاء ذلك الى الغاية القصوى ..

وعندنا أن المرتد يقضي ما فاته من الصلاة وغيرها من العبادات ، وان كان الكافر الأصلي لا يلزم قضاء ذلك إذا أسلم ، وهو مذهب الشافعي.

والفرق بينهما أن المرتد كفر بعد الالتزام لهذه الشرعيات ، فيجوز أن يلزمه من القضاء ما لا يلزم الكافر الأصلي ، لأن الكافر الأصلي لم يلتزم من ذلك شيئا ، وأن له (١) لازما.

فأما ما مضى في أثناء الكلام من إجماع المسلمين على أن التكليف الشرعي لازم لكل بالغ كامل العقل ، فهو خطأ بلا شبهة ، لان الخلاف كله في ذلك ..

أما المتكلمون فيذهبون الى أن من هو في مهلة النظر لا يجب عليه العبادات الشرعيات ، فإنه لا يتمكن من العلم بوجوبها عليه ، وان كان بالغا عاقلا.

وأكثر الفقهاء يذهبون الى أن الكفار كلهم من اليهود والنصارى وغيرهم ، غير مخاطبين بالعبادات الشرعية وان كانوا عقلاء بالغين ، فكيف ينبغي الإجماع فيما فيه خلاف كل محق ومبطل؟ فالصحيح اذن ما بيناه ورتبناه.

__________________

(١) ظ : وان كان له.

٣١٩

المسألة الثانية

كيفية رجوع العامي إلى العالم

إذا كنتم تقولون ان العقلاء بأسرهم متساوون في كمال العقل ، فما الوجه في فتياكم بأن العامي المسوغ له تقليد العلماء في الفروع ، وعلم جل الأصول ، هو الذي لا يتمكن من التدقيق في الأصول ، ولا يقدر على التغلغل في غوامض المعارف ، ولا يستطيع حمل (١) الشبهة ، ولا سبيل له إلى معرفة الفروع ، لافتقار العلم بها الى أمور لا يستطيعها العامي بحال مع كونها (٢) عاقلا مكلفا ، وهل هذا الا يقتضي اختلاف العقلاء في كمال العقل ، من حيث اختلف تكليفهم ، أو أنفع على أن العامي غير عاقل ، فيكون غير مكلف لشيء.

الجواب :

اعلم أن العامي لا يجوز أن يسوغ له العمل بفتيا العلماء ، الا بعد أن يكون ممن قامت عليه الحجة بصحة الاستفتاء والعلم بجوازه.

ولن يكون كذلك الا وهو ممن يصح أن يعلم الأحوال التي نشأ عليها صحة الاستفتاء اما على جملة أو تفصيل ، لأنه ان لم يكن بذلك عالما كان مقدما من العمل بالفتيا على ما لا يأمن كونه قبيحا ، وانما يأمن أن يكون كذلك بأن يعلم الحجة في جواز الاستفتاء وصحته.

وقد علمنا أن الاستفتاء مشروع ، ومن جملة ما علمناه بالسمع من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا بد من أن يكون هذا العامي الذي سوغنا له العمل بالفتيا

__________________

(١) ظ : حل.

(٢) ظ : كونه.

٣٢٠