رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

ويقال : ان أول من حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان (١) ، فإنه زعم أن ما يكون في العبد من كفر وايمان ومعصية فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحياته ، وأنه لا فعل للعبد في شيء من ذلك ولا صنع ، والله تعالى صانعه ، وان لله تعالى أن يعذبه من ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء.

وحكى عنه علماء التوحيد انه كان يقول مع ذلك : ان الله خلق في العبد قوة بها كان فعله ، كما خلق له غذاء يكون به قوام بدنه ، ولا يجعل العبد كيف تصرف (٢) حاله فاعلا لشيء على حقيقته (٣) ، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخر حكيت عنه.

ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو (٤) بعد أن كان [ضرار (٥)] يقول بالعدل ، فانتفت عنه المعتزلة واطرحته ، فخلط عند ذلك تخليطا كثيرا ، وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عما كان عليه وأصل بن عطاء (٦) وعمرو بن عبيد (٧) بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحة الرأي

__________________

(١) أبو محرز جهم بن صفوان السمرقندي ، رأس الجهمية ، وقد زرع شرا عظيما ، كان يقضى في عسكر الحارث بن سريج الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيار وأمر بقتله فقتل سنة ١٢٨ ه‍ (الاعلام للزركلى: ٢ / ١٣٨).

(٢) في مط : يصرف.

(٣) في مط : على حقيقة.

(٤) ضرار بن عمرو القاضي ، معتزلي جلد ، له مقالات خبيثة. قال أحمد بن حنبل : شهدت على ضرار عند سعيد بن عبد الرحمن القاضي فأمر بضرب عنقه فهرب (ميزان الاعتدال ٢ / ٣٢٨).

(٥) الزيادة من أ.

(٦) واصل بن عطاء البصري الغزال المتكلم ، كان يلثغ بالراء فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه ، وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل ويقول : إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها ، فلو شهدت عندي عائشة وعلى وطلحة على باقة بقل لم بقل لم احكم بشهادتهم. ولد سنة ٨٠ بالمدينة ومات سنة ١٣١ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٢٩).

(٧) أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب التيمي البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها كان جده من سبى فارس وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة ، وقال يحيى بن معين : كان من الدهرية الذين يقولون انما الناس مثل الزرع ، ولد سنة ٨٠ وتوفى سنة ١٤٤ ه‍ (الاعلام للزركلى : ٥ / ٢٥٢).

١٨١

لأنه كان في الأول على رأيهما بل صحبهما وأخذ عنهما.

ثم تكلم الناس بعد ذلك في الاستطاعة ، فيقال : ان أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف السمتي (١) وانه استزله الى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه ، ثم قال بذلك حسين النجار (٢) ، وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل :

«أحدها» ان الله تعالى خلق فعل البعد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع وانما يضاف إليه أنه (٣) فعله كما يضاف اليه لونه وحياته ، وهو قول جهم.

«والثاني» ان الله تعالى خلق فعل العبد وأن العبد فعله باستطاعة (٤) في العبد متقدمة ، وهو قول ضرار ومن وافقه.

«والثالث» ان الله تعالى خلق فعل العبد وان العبد فعله باستطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدم الفعل ، وهو قول النجار وبشر المريسي (٥) ومحمد

__________________

(١) يوسف بن خالد السمتى الفقيه ، قال أبو حاتم : رأيت له كتابا وضعه في التهجم ينكر فيه الميزان والقيامة ، مات في رجب سنة ١٨٩ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٥ / ٤٦٣).

أقول : كذا ورد «السمتى» في ميزان الاعتدال ، وفي أومط : السمنى.

(٢) أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي ، رأس الفرقة النجارية من المعتزلة ، وهو من متكلمي المجبرة ، وله مع النظام عدة مناظرات ، توفى نحو سنة ٢٢٠ ه‍ (الاعلام للزركلى : ٢ / ٢٧٦).

(٣) في مط : لانه.

(٤) في ا : استطاعة.

(٥) أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبى كريمى المريسي الفقيه الحنفي ، اشتغل بالكلام وجرد القول بخلق القرآن وحكى عنه في ذلك أقوال شنيعة ، وكان مرجئا واليه ـ

١٨٢

ابن غوث ، ويحيى بن كامل (١) وغيرهم ، من متكمي المجبرة [وعند هذا أكثر متكلمي المجبرة (٢)] نحو الأشاعرة وغيرهم.

ثم تكلم الناس بعد ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، والكلام في ذلك [من (٣)] أوسع أبواب العلم [وجوها وأعمقها بحرا (٤)] ، ونحن نورد لك في هذا المعنى ما يتحصل به الغرض ، وتنحسم به شبه (٥) الخصوم ونجعله ملخصا وجيزا بلفظ مهذب والى الفهم مقرب ، ونبتدئ (٦) في أوله بوصف دعوة أهل الحق في ذلك ونردفها (٧) بما يجب ، وقد وسمنا هذه الرسالة ب (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) وها نحن مبتدئون بذلك ومستعينون يمن له الحول والقوة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل (٨).

__________________

ـ تنسب الطائفة المريسية ، توفى ببغداد سنة ٢١٨ وقيل سنة ٢١٩ ه‍ (وفيات الأعيان : ١ / ٢٥١).

وجاء بدلا عن المريسي في ا : مرسى.

(١) أبو على يحيى بن كامل بن طليحة الخدري ، كان أولا من أصحاب بشر المريسي ومن المرجئة ثم انتقل الى مذهب الأباضية. له كتب منها كتاب التوحيد والرد على الغلاة (هامش مط : ٣١).

(٢) الزيادة من أ.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) في أ : وينحسم به شعب.

(٦) في أ : وأبتدئ.

(٧) في أ : وأردفها.

(٨) زاد في مط بعد هذا عنوانا هكذا «دعوة أهل الحق».

١٨٣

(فصل)

في دعوة أهل الحق وبيانها

قالت عصبة أهل الحق : ان الله (١) جل ثناؤه اصطفى الإسلام دينا ورضيه لعباده واختاره لخلقه ، ولم يجعله موكولا إلى رأيهم ، ولا جاريا على مقادير أهوائهم ، دون أن نصب له الأدلة ، وأقام عليه البراهين ، وأرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة.

وللإسلام حدود ، وللقيام به حقوق ، وليس كل من ادعى ذلك أخذه (٢) ، ولا كل من انتسب اليه صار من انتسب اليه صار من أهله ، وقد علمنا أن أهل القبلة [قد (٣)] اختلفوا في أمور صاروا فيها الى خلل ، فضلل بعضهم بعضا (٤) وكفر بعضهم بعضا ، وكل يدعي أن ما ذهب اليه من ذلك وانتحله هو دين الله ودين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومعلوم عند كل عاقل أن ذلك كله على اختلافه لا يجوز أن يكون حقا لتضاده واختلافه ، ولا بد حينئذ من اعتبار ذلك وتمييزه ليتبع منه الحق ، ويجتنب منه الباطل ، وقد علمنا بالأدلة الواضحة ، والبراهين الصحيحة التي يوافقنا عليها جميع فرق أهل الملة بطلان (٥) قول كل من خالف جملة الإسلام ما جاء به القرآن وصح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان الأمر كذلك

__________________

(١) في مط : وان.

(٢) في ا : أحزم.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) في أ : في أمور صاروا فيها الى أن ضلل بعضهم بعضا.

(٥) في مط : وقد علمناه .. وأبطل.

١٨٤

وجب (١) أن يكون كل من قال من الأمة قولا يكون عند الاعتبار والنظر خارجا مما يوجبه الإسلام ويشهد به الرسول (ص) والقرآن [أو (٢)] موجبا لان يكون معتقده ليس من جملة الإسلام على سبيل قوة واستبصار ، لقوله بما لا يصح اعتقاده الإسلام معه ولا يوصل الى معرفته ثم القول (٣) به ، فهو محجوج في مذهبه ، ومبطل في قوله ، ومبتدع في الإسلام بدعة ليست من دين الله ولا من دين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالوا : وقد تدبرنا ما اختلف فيه أهل القبلة بفطرة (٤) عقولنا وعرضنا ذلك على كتاب الله سبحانه وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدنا الحق بذلك متميزا من الباطل تمييزا يدركه كل من تدبر الكتاب والسنة بفكره ، وتميز الأمور بعقله ، ولم يجعل هواه قائدا له ، و [لم] يقلد (٥) من لا حجة في تقليده ، فرأينا من الواجب علينا في الدين أن نبين أمر (٦) ذلك للناس ولا نكتمه ، وأن ندعوهم إلى الحق ونحتج له ولا نتشاغل عن ذلك ونعرض عنه ، ونحن نرى ما حدث من البدع ، وخولف من سبيل السلف.

وكيف يجوز الاعراض عن ذلك والله تعالى يقول (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٧) ويقول (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى

__________________

(١) في ا : فواجب.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في مط : نعم القول.

(٤) في ا : بفطر.

(٥) في مط : [لا] تقليد.

(٦) في ا : أمور.

(٧) سورة آل عمران : ١٠٤.

١٨٥

ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١).

قالوا : وأي منكر أفحش ، وأي معصية أعظم من تشبيه الله تعالى بخلقه ، ومن تجويره في حكمه ، ومن سوء الثناء عليه واضافة الفواحش والقبائح اليه وكيف لا يكون كذلك وفي القول بالتشبيه والإجبار الانخلاع عن معرفة الله تعالى ومعرفة جميع رسله ، إذ كل من شبه الله بشيء من خلقه لم يتهيأ له أن يثبت الله قديما وقد أثبت له مثلا محدثا ، وفي ذلك عدم العلم باصنع والصانع والرسول والمرسل ، وان من أجاز على الله جل وعلا فعل الظلم والكذب وارادة الفواحش والقبائح لم يمكنه أن يثبت لرسول من رسل الله تعالى معجزة أقامها الله تعالى لهداية الخلق دون إضلالهم ولرشدهم دون إغوائهم (٢) ، وفي ذلك سقوط العلم بصدق الرسل فيما دعت اليه ، وذلك يوجب أن لا يكون معتقدا ، ولا لازم الاخبار عن ثقة ويقين (٣) من صدق الرسل ، ولا صحة الكتب ، ولا كون الجنة والنار ، وهذا هو الخروج من دين الإسلام ، والانخلاع عن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالوا : ونحن نصف قولنا ونذكر دعوتنا فليتدبر ذلك السامع منا ، وليقابل (٤) به قول غيرنا ، فإنه سيعلم ان كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد أينا أهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وأولى بالتمسك بالكتاب والسنة ، واتباع الحجة ، ومجانبة البدعة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٧٨ و ٧٩.

(٢) في مط : ولا لرشدهم دون إغوائهم.

(٣) في مط : ولا لازم الإجبار على [الإجبار عن خ] ثقة وتيقن. وفي أ : ولا لازم الإجبار على ثقة ويقين.

(٤) في مط : وليتأمل.

١٨٦

فأول ذلك أن نقول : ان الله ربنا ، ومحمد (١) نبينا ، والإسلام ديننا ، والقرآن إمامنا ، والكعبة قبلتنا ، والمسلمون إخواننا ، والعترة الطاهرة من آل رسول الله (ص) وصحابته والتابعين لهم بإحسان سلفنا وقادتنا ، والمتمسكون بهديهم من القرون بعدهم جماعتنا وأولياؤنا ، نحب من أحب الله ، ونبغض من أبغض الله ، ونوالي من والى الله ، ونعادي من عادى الله ، ونقول فيما اختلف فيه أهل القبلة بأصول نشرحها ونبينها : فأولها توحيدنا لربنا ، فانا نشهد أن الله عزوجل واحد ليس كمثله شيء ، والقادر الذي لا يعجزه شيء ، وانه الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا يبيد ، والقديم الذي لم يزل ولا يزال ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، عالما ، قادرا ، غنيا ، غير محتاج الى مكان ولا زمان ولا اسم ولا صفة ولا شيء من الأشياء على وجه من الوجوه ولا معنى من المعاني ، قد سبق الأشياء كلها بنفسه ، واستغنى عنها بذاته ، ولا قديم الا [هو (٢)] وحده سبحانه وتعالى عن صفات المحدثين ، ومعاني المخلوقين ، وجل وتقدس عن الحدود والأقطار ، والجوارح والأعضاء ، وعن مشابهة شيء من الأشياء أو مجانسة جنس من الأجناس أو مماثله شخص من الأشخاص ، وهو الا له الواحد الذي لا تحيط به العقول ، ولا تتصوره الأوهام ، ولا تدركه الابصار ، وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير ، الذي يعلم ما يكون ، ويعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، قد أحاط بكل شيء علما ، واحصى كل شيء عددا ، وعلم الأشياء كلها بنفسه من غير علم أحدثه ، ومن غير معين كان معه ، بل علم ذلك كله بذاته التي لم يزل بها قادرا عالما حيا سميعا بصيرا ، لانه الواحد الذي لم يزل قبل

__________________

(١) في أ : ومحمدا.

(٢) الزيادة من أ.

١٨٧

الأشياء كلها ثم خلق الخلق من غير فقر ولا حاجة ، ولا ضعف ولا استعانة ، من غير أن يلحقه لحدوث ذلك تغير ، أو يمسه لغوب ، أو ينتقل به الى مكان ، أو يزول به عن مكان، إذ كان جل شأنه لم يزل موجودا قبل كل مكان ، ثم حدثت الأماكن وهو على ما كان فليس يحويه مكان ، وقد استوى على العرش بالاستيلاء والملك والقدرة والسلطان وهو مع ذلك بكل مكان إله عالم ، مدبر ، قاهر ، سبحانه وتعالى عما وصفه به الجاهلون ، من الصفات التي لا تجوز الأعلى الأجسام من الصعود والهبوط ومن القيام والقعود ، ومن تصويرهم له جسدا ، واعتقادهم إياه مشبها [للعباد (١)] يدركونه بأبصارهم ، ويرونه بعيونهم، ثم يصفونه بالنواجذ والأضراس ، والأصابع ، والأطراف ، وانه (٢) في صورة شاب أمرد وشعره جعد قطط ، وإنه لا يعلم الأشياء بنفسه ، ولا يقدر عليها بذاته ، ولا يوصف بالقدرة على أن يتكلم ولا يكلم أحدا من عباده ، فتعالى الله عما قالوا ، وسبحانه عما وصفوا ، بل هو الا له الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، العليم القدير ، الذي كلم موسى تكليما ، وأنزل القرآن تنزيلا ، وجعله ذكرا محدثا من أحسن الحديث ، وقرآنا عربيا من أحسن (٣) الكلام ، وكتابا عزيزا من أفضل الكتب ، أنزل بعضه قبل بعض ، وأحدث بعضه بعد بعض ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ، وكل ذلك محدث كائن بعد أن لم يكن ، والله قدير قبله لم يزل ، وهو رب القرآن وصانعه وفاعله ومدبره ، ورب كل كتاب أنزله ، وفاعل كل كلام كلم به أحدا من عباده ، والقرآن كلام الله ووحيه ، وتنزيله الذي أحدثه لرسوله وجعله هدى

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في أ : وما به.

(٣) في أ : من أبين.

١٨٨

وسمى نفسه فيه بالأسماء الحسنى ، ووصفها فيه بالصفات المثلي ليسميه بها (١) العباد ، ويصفوه بها ويسبحوه ويقدسوه (٢) ولا إله إلا الله وحده ، ولا قديم الا الله دون غيره من كل اسم وصفة ومن كل كلام وكتاب ، ومن كل شيء جاز أن يذكره ذاكر ، أو يخطره على باله مفكر. هذا قولنا في توحيد ربنا.

[دعوة أهل الحق في العدل (٣)]

فأما قولنا في عدله وهو المقصود من هذا الكتاب وانما أوردنا معه غيره لأنا أردنا إيراد جملة الاعتقاد فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجور ، والحكيم الذي لا يظلم ولا يظلم (٤) ، وانه لا يكلف عباده ما لا يطيقون ، ولا يأمرهم بما لا يستطيعون ، ولا يتعبدهم بما ليس لهم اليه سبيل ، لأنه أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين الذي أمرنا بالطاعة ، وقدم الاستطاعة ، وأزاح العلة ، ونصب الأدلة ، وأقام الحجة وأراد اليسر ولم يرد العسر ، فلا يكلف نفسا الا وسعها ، ولا يحملها ما ليس من طاقتها ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يعذبه على ما ليس من فعله ، ولا يطالبه بغير جنايته وكسبه ، ولا يلومه على ما خلقه فيه ، ولا يستبطئه فيما لم يقدره عليه ، ولا يعاقبه الا باستحقاقه ، ولا يعذبه الا بما جناه على نفسه ، وأقام الحجة عليه فيه ، المنزه عن القبائح ، والمبرأ عن الفواحش ، والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان ، وعن خلق (٥) الزور والبهتان الذي لا يحب

__________________

(١) في ا : ليسميه به.

(٢) أ : ويصفونه ويسبحونه ويقدسونه.

(٣) العنوان من مط.

(٤) في أ : وانه لا يظلم.

(٥) في هامش أ : قول ظ.

١٨٩

الفساد ، ولا يريد ظلما للعباد ، ولا يأمر بالفحشاء ، ولا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، وكل فعله حسن ، وكل صنعه جيد وكل تدبيره حكمة.

سبحانه وتعالى عما وصفه به القدرية المجبرة المفترون الذين أضافوا اليه القبائح ، ونسبوه الى فعل (١) الفواحش ، وزعموا أن كل ما يحدث في العباد من كفر وضلال ، ومن فسق وفجور ، ومن ظلم وجور ، ومن كذب وشهادة زور ، ومن كل نوع من أنواع القبائح ، فالله تعالى فاعل ذلك كله ، وخالقه وصانعه ، والمريد له ، والمدخل فيه ، وأنه يأمر قوما من عباده بما لا يطيقون ويكلفهم بما لا يستطيعون ، ويخلق فيهم ما لا يتهيأ لهم الامتناع منه ، ولا يقدرون على دفعه ، مع كونه على [خلاف (٢)] ما أمرهم به (٣) ، ثم يعذبهم على ذلك في جهنم بين أطباق النيران خالدين فيها أبدا.

ويزعم منهم قوم أنه يشرك معهم في ذلك العذاب (٤) الأطفال الصغار (٥) الذين لا ذنب لهم ولا جرم ، ويجيز آخرون [منهم] أنه يأمر (٦) الله تعالى العباد وهم على ما هم عليه من هذا الخلق وهذا التركيب أن يطيروا في جو السماء وأن يتناولوا النجوم ، [وأن (٧)] يقتلعوا الجبال ويدكدكوا الأرض ، ويطووا السماوات كطي السجل ، فإذا لم يفعلوا ذلك لعجزهم عنه وضعف بنيتهم عن احتماله ،

__________________

(١) في ا : إلى جعل.

(٢) الزيادة من مط.

(٣) في مط : ما أمر به.

(٤) في مط : العدل.

(٥) في مط : العدل.

(٦) في مط : ويجيز آخرون [أنه] أن يأمر.

(٧) الزيادة من مط.

١٩٠

عذبهم في نار جهنم عذابا دائما ، فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وتقدس عما وصفوه به.

بل نقول : انه العدل الكريم الرءوف الرحيم ، الذي حسنات العباد منسوبة اليه ، وسيئاتهم منفية عنه ، لأنه أمر بالحسنة ورضيها (١) ورغب فيها ، وأعان عليها ، ونهي عن السيئة وسخطها ، وزجر عنها ، وكانت طاعات العباد منه بالأمر والترغيب ولم تكن معاصيهم منه للنهي والتحذير ، وكان جميع ذلك من فاعليه ومكتسبيه بالفعل والاحداث ، وكانت معاصيهم وسيئاتهم من الشيطان بالدعاء والإغواء.

[آراء المخالفين لأهل العدل (٢)]

فأما من يخالفنا فقد افتضحوا حيث قالوا : ان من الله جور الجائرين وفساد المعتدين ، فهو عندهم المريد لشتمه ، ولقتال أنبيائه ، ولعن أوليائه ، وانه أمر بالايمان ولم يرده ، ونهى عن الكفر وأراده ، وأنه قضى بالجور والباطل ثم أمر عباده بإنكار قضائه وقدره ، وانه المفسد للعباد ، والمظهر في الأرض الفساد ، وأنه صرف أكثر خلقه عن الايمان والخير ، وأوقعهم في الكفر والشرك ، وأن من أنفذ وفعل ما شاء عذبه ، ومن رد قضاءه وأنكر قدره وخالف مشيئته أثابه ونعمه ، وأنه يعذب أطفال المشركين [بذنوب آبائهم (٣) وانه تزر الوازرة عندهم (٤) وزر أخرى ، وتكسب النفس على غيرها ، وأنه خلق أكثر خلقه للنار ، ولم يمكنهم من طاعته ثم أمرهم بها ، وهو عالم بأنهم لا يقدرون عليها ، ولا يجدون

__________________

(١) زاد في مط : [رضى بها خ].

(٢) العنوان من مط.

(٣)]. الزيادة من مط.

(٤) في ا : عنده.

١٩١

السبيل إليها ، ثم استبطأهم لم لم يفعلوا ما لم يقدروا عليه (١) ولم لم يوجدوا ما لم يمكنهم منه؟ وانه صرف أكثر خلقه عن الايمان ثم قال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٢) وأفكهم وقال (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣) ، وخلق فيهم الكفر ثم قال (لِمَ تَكْفُرُونَ)(٤) وفعل فيهم لبس الحق بالباطل ثم قال (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ)(٥) ، وأنه دعا إلى الهدي ثم صد عنه وقال (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٦).

وقال خلق كثير منهم : ان الله تعالى منع العباد من الايمان مع قوله (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)(٧) وأنه حال بينهم وبين الطاعة ثم قال (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٨). وأنه ذهب بهم عن الحق ثم قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(٩) ، وأنه لم يمكنهم من الايمان ولم يعطهم قوة السجود ثم قال (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ)(١٠) ، وأنه فعل بعباده الاعراض عن التذكرة ثم قال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(١١) وأنه يمكر بأوليائه المحسنين ، وينظر لأعدائه المشركين.

__________________

(١) في ا : مالا يقدرون عليه.

(٢) سورة يونس : ٢٣.

(٣) سورة الانعام : ٩٥.

(٤) سورة آل عمران : ٧٠.

(٥) سورة آل عمران : ٧١.

(٦) سورة آل عمران : ٩٩.

(٧) سورة الإسراء : ٩٤.

(٨) سورة النساء : ٣٩.

(٩) سورة التكوير : ٢٦.

(١٠) سورة الانشقاق : ٢٠ ٢١.

(١١) سورة المدثر : ٤٩.

١٩٢

لان العبد عندهم مجتهد في طاعته ، فبينما هو كذلك وعلى ذلك إذ خلق فيه الكفر، وأراد له الشرك ، ونقله مما يحب الى ما يسخط ، وبينما هو (١) مجتهد في الكفر به ، والتكذيب له ، إذ نقله من الكفر الى الايمان ، وهو عندهم لعدوه انظر منه لوليه ، فليس يثق (٢) وليه بولايته ، ولا (٣) يرهب عدوه من عداوته.

وانه يقول للرسل : أهدوا إلى الحق من عنه قد أضللت ، وانهوا عبادي عن أن يفعلوا ما شئت وأردت ، وأمروهم أن يرضوا بما قضيت وقدرت ، لانه عندهم شاء الكفر ، وأراد الفجور ، وقضى الجور ، وقدر الخيانة.

ولو لا كراهة الإكثار لأتينا على وصف مذهبهم ، وفيما ذكرناه كفاية في تقبيح (٤) مذهبهم ، والحمد لله على قوة الحق وضعف الباطل.

فصل

[الخير والشر ومعنى نسبتهما اليه تعالى (٥)]

ان سأل سائل فقال : أتقولون ان الخير والشر من الله تعالى؟

قيل له : ان أردت أن من الله تعالى العافية والبلاء والفقر والغناء ، والصحة والسقم ، والخصب والجدب ، والشدة والرخاء ، فكل هذا من الله تعالى ، وقد تسمى شدائد الدنيا شرا وهي في الحقيقة حكمة وصواب وحق وعدل. وان أردت أن من الله الفجور والفسوق ، والكذب والغرور والظلم والكفر والفواحش

__________________

(١) في مط : وبينما عبد.

(٢) في ا : فليس يبقى.

(٣) في مط : وليس.

(٤) في هامش : أ : في تنقيح خ ل.

(٥) الزيادة من مط.

١٩٣

والقبائح فمعاذ الله أن نقول ذلك! بل الظلم من الظالمين والكذب من الكاذبين ، والفجور من الفاجرين ، والشرك من المشركين ، والعدل والانصاف من رب العالمين.

وقد أكد الله تعالى ما قلنا فقال (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)(١) ولم يقل : من عند خالقهم ، فعلمنا أن المعصية من عباده ، وليس هي من قبله ، وقال عزوجل (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٢) فعلمنا أن الكذب والكفر ليس من عند الله ، وإذا لم يكن من عند الله فليس من فعله ولا من صنعه.

وقال عزوجل (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ)(٣) وما قدمته [لهم (٤) أنفسهم لم يقدمه لهم ربهم.

وقال (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ)(٥) ولم يقل حمله على القتل ربه ، ولا ألجأ إليه خالقه.

وقال (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً)(٦) فأخبر (٧)

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٩.

(٢) سورة آل عمران : ٧٨.

(٣)]. سورة المائدة : ٨٠.

(٤) الزيادة من مط.

(٥) سورة المائدة : ٣٠.

(٦). سورة مريم : ٨٨ ٩١.

(٧) في ا : فأخبرهم.

١٩٤

أنهم جاءوا بأولاد ، ولم يقل أنا جئت به فأدخلته قلوبهم ، وقال (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) فأخبرهم أنهم [هم (١)] ادعوا الولد ولم يدعه لنفسه.

ثم أخبر جل وعز عن الأنبياء عليهم‌السلام لما عوتبوا على ترك مندوب وما أشبهه إضافة ما ظاهره الإخلال بالأفضل من الأفعال إلى أنفسها ولم تضفها الى خالقها ، فقال آدم وحواء عليهما‌السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢) وقال يعقوب لبنيه (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ)(٣) ولم يقل سول لكم ربكم.

وقال بنو يعقوب (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ)(٤) ولم يقولوا ان خطايانا من ربنا.

وقال (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) بمعنى ان نضيق عليه كما قال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني يضيق وقال (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضيق (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٥) فأقر على نفسه ولم يضف الى ربه.

وقال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)(٦) من بعد ما قال (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)(٧) ولم يقل من عمل الرحمن.

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) سورة الأعراف : ٢٣.

(٣) سورة يوسف : ١٨.

(٤) سورة يوسف : ٩٧.

(٥) سورة الأنبياء : ٨٧.

(٦) سورة القصص : ١٦.

(٧) سورة القصص : ١٥.

١٩٥

وقال يوسف عليه‌السلام (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)(١).

وقال الله تعالى لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)(٢).

وقال فتى موسى عليه‌السلام (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ)(٣) ولم يقل وما إنسانية الا الرحمن. فما قالوه موافق لقول الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٤) فقال رجس من عمل الشيطان ، ولم يقل رجس من عمل الرحمن ، وقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فعلمنا أن ما أراد الشيطان غير ما أراد الرحمن ، وأخبر أن الشيطان يصد عن ذكر الله ولم يقل الرحمن يصد عن ذكر الله.

وقال (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ)(٥) ولم يقل من الرحمن.

وقال (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)(٦) يعني بوسوسته وخديعته.

وقال عزوجل (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٠.

(٢) سورة سبإ : ٥٠.

(٣) سورة الكهف : ٦٣.

(٤) سورة المائدة : ٦٠ ـ ٦١.

(٥) سورة المجادلة : ١٠.

(٦) سورة الأعراف : ٢٧.

١٩٦

صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(١) فأخبر أن الشيطان أضلهم عن الحق.

وقال (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)(٢) وقال تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)(٣) ولم يقل فلا تلوموني ولوموا ربكم ، لانه افسدني وافسدكم ، وكفرني وكفركم.

و [لو (٤)] قصدنا الى الاخبار عما أضافه الله تعالى الى الشيطان من معاصي العباد لكثر ذلك وطال به الكتاب.

فصل

[الفرق بين صنع الخالق والمخلوق ودلالة الكتاب (٥)]

فان قال قائل : ما الدليل على أن الله تعالى لم يفعل أفعال عباده ، وان فعل العبد غير فعل رب العالمين؟

قيل له : الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى ، ومن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن إجماع الأمة ، ومن حجج العقول :

فأما ما يدل على ذلك من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى (صُنْعَ اللهِ الَّذِي

__________________

(١) سورة يس : ٦٠ ٦٢.

(٢) سورة الإسراء : ٥٣.

(٣) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) الزيادة من أ.

١٩٧

أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)(١) فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم علمنا أنه ليس من صنعه.

وقال تعالى (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٢) وقد علمنا ان الله تعالى قد جعل وخلق الشاة والبعير ، وانما ينفي عن نفسه ما جعلوه من الشق الذي فعلوه في آذان أنعامهم ، فعلمنا أن ما نفاه الله تعالى عن نفسه هو كفر العباد وفعلهم.

وقال تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(٣) فلما كان الكفر متفاوتا متناقضا علمنا انه ليس [من خلق الله تعالى ، وقال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(٤) ، فلما لم يكن الكفر بحسن علمنا انه ليس (٥)] من خلقه ولا من فعله ، لان خلق الله هو فعله ، وقد قال : انه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ)(٦) وقال (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(٧) وأخبر أن خلقه وفعله واحد.

فان قال قائل منهم : ان الكفر حسن لان الله خلقه.

قيل له : لو جاز أن يكون حسنا لان الله تعالى خلقه ، جاز أن يكون حقا وصدقا وعدلا وصلاحا ، [فلما لم يجز أن يكون الكفر حقا ولا صدقا ولا عدلا ولا صلاحا (٨)] لم يجز أن يكون حسنا ، ولو كان الكفر حسنا كان الكافر محسنا

__________________

(١) سورة النمل : ٨٨.

(٢) سورة المائدة : ١٠٣.

(٣) سورة الملك : ٣.

(٤) سورة سجدة : ٧.

(٥) الزيادة من أ.

(٦). سورة آل عمران : ٤٧.

(٧) سورة آل عمران : ٤٧.

(٨) الزيادة من أ.

١٩٨

إذ فعل حسنا ، فلما كان الكافر مسيئا مفسدا كاذبا جائرا مبطلا ، علمنا (١) ان فعله ليس بحسن ولا حق ولا صدق ولا عدل ولا صلاح.

وقال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)(٢) ولو كان فاعلا لها لكان قد أنزل بها أعظم السلطان والحجة.

وقال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً)(٣) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقال (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(٤) والله قد جعل الأجسام كلها ، وانما نفى عن نفسه أن يكون قولهم لأزواجهم وقولهم لأولادهم أنتن أمهاتنا ، وأنتم أبناؤنا ، ثم أخبر أنه لا يقول الا حقا وان الكذب ليس من قوله ولا من فعله.

وقال عز من قائل (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(٥) فأخبر أنهم جعلوا له شركاء ، ولو كان الجاعل لما كان قد جعل لنفسه شركاء ، ولا يخلو من أن يكون هو جعل لنفسه شركاء دونهم ، أو يكونوا (٦) هم الذين جعل لنفسه شركاء دون عبادة أو ان كان (٧) هو جعل ما جعلوا كان قد جعل لنفسه شركاء كما جعل ذلك عباده. فكان قد شارك

__________________

(١) في مط : علما.

(٢) سورة النجم : ٢٣.

(٣) سورة مريم : ٨١.

(٤) سورة الأحزاب : ٤.

(٥) سورة الانعام : ١٠٠.

(٦) في مط : أو يكون.

(٧) في أ : وان كان.

١٩٩

عباده في شركهم وكفرهم ، ومن جعل لله شريكا فقد أشرك بالله غيره [وقال (١)](وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ)(٢) وقال (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ)(٣) وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ)(٤) فلو كان جاعلا ما جعلوه من الكفر كان قد جعل لنفسه ما يكرهه ، وجعل لنفسه أندادا ، جعل الله عن ذلك.

وقال عزوجل (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(٥) فنفى أن يكون جعل من دونه آلهة ، فعلمنا أن اتخاذ الا له من دون الله لم يجعله الله.

وقال عزوجل (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)(٦) فلو كان هو الذي جعل الحمية في قلوبهم لم يقل هم الذين جعلوا الحمية.

فإن قالوا : ما أنكرت أن يجعل ما جعل العباد.

قيل لهم (٧) : لو جاز أن يكون جاعلا لما جعله العباد لكان عادلا بعدل العباد ، ومصلحا بصلاح العباد ، وجائرا بجور العباد ، ومفسدا بفساد العباد ، وكاذبا بكذبهم ، إذ كان لكذبهم وفسادهم وجورهم فاعلا ، فلما لم يجز ما ذكرناه علمنا أن الله لم يجعل لما جعله العباد.

وقال تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) سورة النحل : ٥٧.

(٣) سورة النحل : ٦٢.

(٤) سورة إبراهيم : ٣٠.

(٥) سورة الزخرف : ٦٥.

(٦) سورة الفتح : ٢٦.

(٧) في أ : قيل له.

٢٠٠