رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

يَكْسِبُونَ)(١) فنفى عن نفسه أن يكون كفرهم من عنده تعالى.

وقال عزوجل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)(٢) وقال تعالى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً)(٣) فلو كان الله فعل الكيد والمكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد مكر بنبيه وكاده ، تعالى الله عن ذلك.

وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(٤) ولو كان اتخاذهم الولد فعل الله كان قد اتخذ ولدا ، ولو كان قد فعل عباده فعله كان له شريك في الملك ، تعالى عن ذلك.

ولو قصدنا الى استقصاء ما يدل على مذهبنا في أن الله لم يفعل الظلم والجور والكذب وسائر أفعال العباد لطال بذلك الكتاب ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله رب العالمين.

[الأخبار المانعة من نسبة الشر الى الله تعالى (٥)]

وأما ما روي عن النبي (ص) من اضافة الحسن الى الله والسوء الى العباد ما روي عن أبي أمامة الباهلي (٦) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اضمنوا لي أشياء أضمن لكم الجنة. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : لا تظلموا عند

__________________

(١) سورة البقرة : ٧٩.

(٢) سورة الأنفال : ٣٠.

(٣) سورة الطارق : ١٥.

(٤) سورة الإسراء : ١١١.

(٥) الزيادة من مط.

(٦) أبو أمامة الباهلي واسمه صدى بن عجلان الصحابي ، كان من المشاهير سكن مصر ثم حمص وبها توفي سنة ٨١ ، وهو آخر من توفى من الصحابة بالشام. (أسد الغابة : ٥ / ١٣٨).

٢٠١

قسمة مواريثكم ، ولا تجبنوا عند قتال عدوكم ، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، ولا تغلوا غنائمكم ، ولا تحملوا على الله ذنوبكم.

وروي عن أبي هريرة (١) أنه قال : قام رجل من خثعم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله متى يرحم الله عباده؟ قال «ص» : يرحم الله عباده ما لم يعملوا بالمعاصي ثم يقولون هي من الله.

وروي عن النبي «ص» انه قال : خمسة لا نطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم : رجل أشرك بالله ، ورجل عق والدية ، ورجل سعى بأخيه إلى سلطان جائر فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل حمل على الله ذنبه.

وروي عنه (ص) أنه قال : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد خصلتان لا ينفع معهما صوم ولا صلاة : إلا شراك بالله ، وأن يزعم عبد أن الله بجبره على معصيته.

ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود (٢) أنه سئل عن (٣) امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا؟ فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله وان يكنى خطأ فمني ومن الشيطان.

وروي عن أبي هريرة انه قال : كان رسول الله (ص) إذا قام بالليل إلى الصلاة

__________________

(١) اختلفوا في اسمه كثيرا ، كان من كبار وضاعى الحديث طمعا فيما بيد معاوية ، وكان يلعب بالشطرنج ويقامر، وكانت عائشة تتهمه بوضع الأحاديث وترد ما رواه ، واستعمله عمر على البحرين فجمع أموالا كثيرة (الكنى والألقاب : ١ / ١٧٢).

(٢) أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي حليف بني زهرة ، كان إسلامه قديما ، وكان سببه أنه كان يرعى غمنا فمر به الرسول (ص) وأخذ شاة حائلا من تلك الغنم فدرت عليه لبنا غزيراً ، بعثه عمر إلى الكوفة مع عمار بن ياسر وقال فيه «كنيف مليء علما» ، مات بالمدينة سنة ٣٢ ودفن بالبقيع وكان عمره حين مات بضع وستين سنة (الاستيعاب : ٣ / ٩٨٧).

(٣) في مط : وروى عن ابن مسعود انه قال : سألت عن ..

٢٠٢

قال : لبيك وسعديك ، الخير في يديك ، والشر ليس إليك.

وروي عن حذيفة (١) عن النبي (ص) انه قال : إذا دعي بي يوم القيامة أقوم فأقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك.

وروي عن أنس (٢) انه قال : قال رسول الله (ص) : سيكون في هذه الأمة أقوام يعملون بالمعاصي ويزعمون أنها من الله ، فإذا رأيتموهم فكذبوهم ثم كذبوهم.

وما أشبه هذه الاخبار كثير ، ولو قصدنا الى ذكرها لطال بها الكتاب وانما نذكر من الباب الذي ينبه به على الحق.

[الأدلة العقلية على تنزيه الله من خلق الشرور] (٣)

وأما حجة القول على أن الله لم يفعل أفعال العباد ، وأن فعل الخلق غير فعل (٤) رب العالمين ، فهو أنا وجدنا من أفعال العباد ما هو ظلم وعبث وفساد ، وفاعل الظلم ظالم ، وفاعل العبث عابث ، وفاعل الفساد مفسد ، فلما لما يجز أن يكون الله مفسدا علمنا أنه لم يفعل (٥) الظلم ولا العبث ولا الفساد.

__________________

(١) حذيفة بن اليمان العبسي ، عد من الأركان الأربعة ، ذكر أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته : أية ساعة هذه؟ قالت : آخر الليل. قال : الحمد لله الذي بلغني هذا المبلغ ولم أوال ظالما على صاحب حق ولم أعاد صاحب حق. سكن الكوفة ومات بالمدائن بعد بيعة أمير المؤمنين على عليه‌السلام (منتهى المقال ص ٨٨).

(٢) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري ، خادم رسول الله (ص) كان من المكثرين في الرواية ، وتوفى بالبصرة سنة ٩٣ ، وقيل في تاريخ وفاته غير ذلك (أسد الغابة : ١ / ١٢٧).

(٣) العنوان من مط.

(٤) في أ : غير خلق.

(٥) في أ : لا يفعل.

٢٠٣

وأيضا فإن أفعالهم التي هي محكمة [منها (١)] ما هو طاعة وخضوع وفاعل الطاعة مطيع ، وفاعل الخضوع خاضع ، فلما يجز أن يكون الله مطيعا ولا خاضعا علمنا أنه لا يفعل الطاعة ولا الخضوع.

وأيضا فإن الله لا يجوز أن يعذب العباد على فعله ، ولا يعاقبهم على صنعه ، ولا يأمرهم بأن يفعلوا [ما (٢)] خلقه ، فلما عذبهم على الكفر ، وعاقبهم على الظلم ، وأمرهم بأن يفعلوا الايمان ، علمنا أن الكفر والظلم والايمان ليست من فعل الله ولا من صنعه.

ومما يبين ما قلنا : أنه لا يجوز أن يعذب العباد على طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم ، لان هذه الأمور فعله وخلقه فيهم ، فلو كان الكفر والفجور فعل الله لم يجز أن يعذبهم على ذلك ولا ينهاهم [عنه (٣)] ولا يأمرهم بخلافه ، فلما أمر الله العباد بالايمان ونهاهم عن الكفر ولم يجز أن يأمرهم بأن يفعلوا طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم علمنا أن هذه الأمور فعل الله، وأن الطاعة والمعصية والايمان والكفر فعل العباد.

وأيضا فلو جاز أن يفعل العبد فعل ربه ، وان يكسب خلق إلهه كما قال مخالفونا ان العباد فعلوا فعل ربهم لجاز أن يكون كلامهم كلام الله ، فيكون كلام العبد كلام ربه كما كان كسب العبد (٤) فعل خالقه ، فلما لم يجز أن يكون كلام العبد كلام خالقه لم يجز أن يكون فعل إلهه ، ولا كسب العبد صنع خالقه ، فثبت أن أفعال العباد غير فعل رب العالمين.

__________________

(١) الزيادة من مط.

(٢) الزيادة من مط.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) في مط : كما أن كسب العباد.

٢٠٤

وأيضا فإنه لا يخلو الظلم في قوله وفعلهم من أن يكون بخلقه تعالى [فيكون الظالم ظالما ومصيبا بذلك لا مخطئا (١)] فلو كان الله بخلقه الظلم عادلا [أيضا (٢)] كان الظلم عدلا وصوابا ، لانه لا يجوز أن يصيب الا بفعل الصواب ، ولا يعدل الا بفعل العدل ، ولو كان الكفر والظلم صوابا وعدلا كان الكافر والظالم مصيبين عادلين [بالظلم (٣)] ولا مصيب بفعل [الكفر والظلم (٤)] ، فثبت أن الله لا يجوز أن يفعل الظلم والخطأ والفسوق والفجور بوجه من الوجوه ولان بسبب من الأسباب.

وأيضا فلو جاز أن يفعل الله الظلم ولا يكون ظالما لجاز أن يخبر بالكذب [بقوله (٥)] ولا يكون كاذبا ، فلما لم يجز أن يكون الله يقول الكذب لأن القائل المخبر بالكذب كاذب كذلك لم يجز أن يفعل الظلم لان الفاعل للظلم ظالم ، فلما لم يجز أن يكون عزوجل ظالما لم يجز أن يكون لظلم فاعلا ، فنثبت (٦) ان الظلم ليس من فعل الله ولا الكذب من قوله سبحانه.

وأيضا فإن الله سخط الكفر وعابه وذم فاعله ولا يجوز على الحكيم أن يذم العباد على فعل ولا يعيب صنعه ولا يسخط ، بل يجب أن يرضى بفعله ، لان من فعل مالا يرضى به فهو غير حكيم ، ومن يعيب ما صنع ويصنع ما يعيب فهو معيب والله يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا ، فلما لم يجز على ربنا أن يعيب ما

__________________

(١) هذه الجملة جاءت في مط هكذا : بخلقه الظلم عادلا أو ظالما أو مصيبا بذلك أو مخطئا.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) الزيادة من مط.

(٥) الزيادة من مط.

(٦) في ا : ثبت.

٢٠٥

صنع و [لا (١)] يسخط من يفعل علمنا أن أفعال (٢) العباد غير فعل رب العالمين.

وأيضا فإن الله قال في كتابه (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ)(٣) وقال (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ)(٤) فالله أحكم وأعدل من أن يسخط في فعله ، ويغضب من خلقه ، ويفعل مالا يرضى به.

وأيضا فإن الفاعل للفاحشة والظلم والكفر أكثر استحقاقا للذم من الأمر بالفاحشة أو الكفر ، فلما كان الأمر بالكفر والظلم والفواحش غير حكيم الفاعل لذلك والمحدث له غير حكيم ، فلما كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنه غير فاعل للفكر ، ولا محدث للظلم ، ولا مبتدع للقبائح ، ولا مخترع للفواحش ، وثبت أن الظلم فعل الظالمين ، والفساد فعل المفسدين ، والكذب فعل الكاذبين وليس شيء من ذلك فعل رب العالمين.

وأيضا فإنه لا تخلو (٥) أفعال العباد من أن تكون كلها فعل رب العالمين لا فاعل لها غيره ، أو أن تكون فعله وفعل خلقه وكسبهم ، أو أن تكون فعل العباد وليست بفعل الله ، فلما لم يجز أن يكون الله تعالى منفردا بالافعال ولا فاعل لها غيره لانه لو كان كذلك كان لا يجوز إرسال الرسل وإنزال الكتب ولبطل الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحمد والذم ، لانه لا فعل للعباد ، وأوجب أيضا أن يكون هو الفاعل لشتم نفسه ، وللعن أنبيائه ، وللفسوق والفجور ، والكذب والظلم ، والعبث والفساد ، فلو (٦) كان ذلك منه وحده كان هو الظالم [والكاذب (٧)] والعابث

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في مط : أن فعل.

(٣) سورة الزمر : ٧.

(٤) سورة محمد : ٢٨.

(٥) في أ : لا يخلو.

(٦) في أ : ولو.

(٧) الزيادة من أ.

٢٠٦

والمفسد ، إذ كان لا فاعل للظلم والعبث والكذب والفساد غيره ، ولو كان فاعلا لما فعله العباد كان هو الفاعل للظلم الذي فعله العباد والكذب والعبث والفساد وكان يجب أن يكون ظالما كما انهم ظالمون ، وكان عابثا مفسدا إذ لم يكونوا (١) الفاعلين لهذه الأمور دونه ، ولا هو الفاعل لها دونهم.

فلما بطل هذان الوجهان ثبت الثالث ، وهو أن هذه الافعال عمل العباد وكسبهم ، وانها ليست من فعل رب العالمين ولا صنعه ، ولو قصدنا الى استقصاء أدلة أهل العدل في هذا الباب لطال بذلك الكتاب.

فصل

[اللوازم الفاسدة للقول بخلق أفعال العباد (٢)]

ومما يسأل عنه ممن زعم أنه فعل العباد هو فعل الله وخلقه أن يقال لهم : أليس من قولكم (٣) ان الله محسن الى عباده المؤمنين ، إذ خلق فيهم الايمان وبين [لهم (٤)] بفعل الأيمان؟.

فإن قالوا : لا نقول ذلك ، زعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحسن في تبليغ الرسالة ، وكفى بهذا خزيا لهم.

فان قالوا : ان الإنسان المؤمن محسن بفعل الايمان وكسبه. يقال لهم : فقد كان إحسان واحد من محسنين بفعل الايمان وكسبه (٥) من الله ومن العبد.

فان قالوا : بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون إساءة واحدة من مسيئين ،

__________________

(١) في مط : إذا لم يكونوا.

(٢) العنوان زيد من مط.

(٣) في أ : له أليس من قولكم.

(٤) الزيادة من أ ، وفوقها حرف «ظ».

(٥) أضاف في أ : من محسنين.

٢٠٧

فيكون الله عزوجل مسيئا بما فعل من الإساءة التي العبد بها مسيء ، كما كان محسنا بالإحسان الذي به العبد محسن.

فان قالوا : انه مسيء باساءة [العباد (١)] لزمهم أن يكون ظالما بظلمهم ، وكاذبا بكذبهم ، ومفسدا بفسادهم ، كما كان مسيئا باساءتهم.

فان قالوا : لا يجوز أن تكون إساءة واحدة بين مسيئين. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون إحسان واحد بين محسنين ، ولا يجدون من هذا الكلام مخرجا والحمد لله رب العالمين.

وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها ، ويقال لهم : أليس الله نافعا للمؤمنين بما خلق فيهم من الايمان. فمن قولهم : نعم. فيقال لهم : والعبد نافع لنفسه بما فعل من الايمان. فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : قد ثبت أن منفعة واحدة من نافعين هي منفعة من الله بالعبد بأن خلقها ، ومنفعة من العبد بأن اكتسبها.

فان قالوا : نعم. قيل لهم : وكذلك الفكر قد ضر الله به الكفار بأن خلقه ، وضر الكافر نفسه بأن اكتسب الكفر.

فان قالوا : نعم (٢). قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله قد أفسد الكافر بأن خلق فساده ويكون الكافر هو أفسد نفسه بأن اكتسب الفساد.

فان قالوا : نعم. قيل : فما أنكرتم أن يكون الكافر جائرا على نفسه بما اكتسب من الجور (٣). [فان قالوا : جائر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله جائرا على نفسه بما فعل من الجور (٤)] أيضا كما قلتم في الكافر ، فان قالوا : جائر

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في مط : فان قالوها.

(٣) في مط : من [فعل خ] الجور.

(٤) الزيادة من أ.

٢٠٨

خرجوا من دين أهل القبلة ، وان قالوا : لا يجوز أن يكون الله جائرا بما فعله العباد من الجور، قيل لهم : وكذلك ما أنكرتم أن لا يكون (١) مفسدا بفسادهم ، ولا ضارا لهم بضررهم.

فان قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون فاعلا لما فعلوه من الكفر والفساد وأن يكون فعله غير فعلهم ، وكلما اعتلوا بعلة [في هذا الكلام (٢) عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله نافعا للعباد [المؤمنين (٣)] بما خلق فيهم من الايمان. فمن قولهم : نعم. فيقال : وكذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفعهم بما دعاهم الى الايمان.

فإن أبوا ذلك وزعموا أن النبي ما نفع أحدا ولا أحسن الى أحد. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجب على المؤمنين شكره ولا حمده ، إذ كان غير نافع لهم ولا محسن إليهم.

وان قالوا : ان النبي (ص) قد نفعهم بدعائه إياهم الى الايمان. قيل لهم : أفليس الله بما خلق فيهم من الايمان أنفع لهم من النبي (ص) إذ دعاهم الى الايمان ، فلا بد لهم من نعم ، لأن النبي قد يجوز أن يدعوهم الى الايمان ، فلا بد لهم من نعم يجيبون إليه (٤) ولا يجوز أن يخلق الله فيهم الايمان الا وهم مؤمنون.

فيقال : أفليس قد ضر الله الكافر في قولهم بما خلق فيه من الكفر؟ فمن قولهم : نعم. [يقال لهم : وكذلك إبليس قد ضرهم بدعائه (٥)] إياهم إلى

__________________

(١) في أ : أن يكون.

(٢)]. الزيادة من أ.

(٣) الزيادة من أ.

(٤) في أ : فلا يجيبون اليه.

(٥) في مط : فمن قولهم نعم أفليس قد ضرهم إبليس بدعائه.

٢٠٩

الكفر ، فلا بد من نعم والا لزمهم أن لا يكون إبليس وسوس الى أحد بمعصيته ولا يجب ان يذم على شيء من أفعاله ، وردوا أيضا مع ذلك كتاب الله ، لان الله يقول (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)(١).

ويقال لهم : فأيما أعظم المضرة التي فعلها الله تعالى بالكافر من خلق الكفر [فيه (٢)] أو المضرة التي فعلها إبليس من دعائه إياهم إلى الكفر؟ فان قالوا : المضرة التي فعلها بهم إبليس من دعائه إياهم إلى الكفر أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون منفعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين أعظم بدعائه إياهم الى الايمان.

فإن قالوا : ان المضرة التي خلقها الله فمنهم أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون مضرة الله للكافرين في خلق الكفر فيهم أعظم من مضرة إبليس بدعائه إياهم إلى الكفر.

فان قالوا ذلك (٣) قيل لهم : فقد وجب عليكم ان إلهكم أضر على الكافرين من إبليس. فإذا قالوا : انه أضر عليهم من إبليس. قيل لهم : فما أنكرتم ان يكون شرا عليهم من إبليس كما كان أضر عليهم من إبليس كما قلتم : ان الله أنفع للمؤمنين من النبي وخير لهم من النبي (ص).

فان قالوا : ان الهم شر من إبليس فقد خرجوا من دين أهل القبلة ، وان أبوا ذلك لم يجدوا منه مخرجا مع التمسك بقولهم.

ويقال لهم : أتقولون ان الله قد ضر الكفار في دينهم؟ فمن قولهم : نعم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٨.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في مط : فان قالوا بذلك.

٢١٠

فيقال لهم : فما أنكرتم ان يغرهم (١) في دينهم كما أنه ضرهم في دينهم. فان قالوا : ان الله لا يغر (٢) العباد في أديانهم. قيل لهم : والله لا يضرهم في أيمانهم.

وان قالوا : ان الله يغرهم (٣) في أديانهم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يموه عليهم ويخدعهم عن أديانهم؟ فإن قالوا بذلك شتموا الله أعظم الشتيمة. وان قالوا : ان الله لا يخدع أحدا عن دينه ولا يغر أحدا عن دينه. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يضره في دينه. وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أتقولون ان الله ضر النصراني في دينه إذ جعله نصرانيا وخلق فيه الكفر ، وكذلك اليهودي؟ فإن قالوا : نعم وهو قولهم فيقال لهم : فما أنكرتم ان يفسده (٤) في دينه فيكون مفسدا لعباده في أديانهم. فإن قالوا : انه مفسد لهم في أديانهم. قيل لهم : أفيجب عليهم شكره وهو في قولهم مفسد لهم؟ فان قالوا : لا يجب أن يشكر صح كفرهم ، وان قالوا : انه يجب أن يشكر. قيل لهم : على ما ذا يشكر؟ فان قالوا : على الكفر فقد افتضحوا وبان خزيهم. وان قالوا : انه يشكر [على (٥)] ما خلق فيهم من الصحة والسلامة. قيل لهم : أو ليس هذه الأمور عندكم قد فعلها مضرة عليهم في دينهم ليكفروا ويصيروا الى النار ، فكيف يكون ما به هلاكهم نعمة عليهم؟! فإذا جاز ذلك يكون من أطعمني خبيصا مسموما ليقتلني به منعما علي ومحسنا [الي (٦)] فان قالوا : لا يكون محسنا الى الكافر بهذه الأمور إذ انما فعلها فيهم ليكفروا ويصيروا الى النار ،

__________________

(١) في مط : أن يعذبهم.

(٢) في مط : لا يضر.

(٣) في مط : يضرهم.

(٤) في مط : أن يفسد.

(٥) الزيادات من أ.

(٦) الزيادات من أ.

٢١١

فلا بد لهم ان لا يروا الشكر لله العباد واجبا ، فيخرجوا من دين أهل القبلة.

ويقال لهم : أليس الله بفعله للصواب مصيبا؟ فمن قولهم : نعم يقال لهم : فإذا زعمتم أنه قد جعل الخطأ فما أنكرتم أن يكون مخطئا؟ فإن قالوا : انه مخطئ ، بان كفرهم ، وان قالوا : لا يكون بفعله للخطإ مخطئا. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله للصواب مصيبا كما لم يكن بفعله للخطإ مخطئا؟ وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله عزوجل مصلحا للمؤمنين بما خلق فيهم من الصلاح؟ فإذا قالوا : نعم قيل لهم : فما أنكرتم أن كون مفسدا للكافرين بما خلق فيهم من الكفر والفساد؟ فان قالوا بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ظالما بما خلق فيهم من الظلم؟ فإن أبوا ذلك يسألوا الفصل بينهما ولن يجدوه ، وان قالوا : انه ظالم ، فقد وضح شتمهم الله تعالى.

ويقال لهم : أتقولون ان الله مصيب عادل في جميع ما خلق؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون جميع ما خلق صوابا وعدلا ان كان عادلا مصيبا في خلقه (١) فان قالوا : ان جميع ما خلق عدل وصواب. قيل لهم : أفليس من قولكم ن الظلم والكفر والخطأ عدل وصواب. فان قالوا : ان ذلك عدل وصواب. قيل لهم : فما أنكرتم ان يكون [ذلك (٢)] حقا وصلاحا.

فان قالوا : بذلك فقد وضح فساد قولهم ولزمهم أن يكون الكافر عادلا بفعله الكفر وان يكون مصيبا محقا (٣) مصلحا ان كان فعله عدلا وصوابا وحقا وصلاحا. فان أبو أن يكون الكفر صلاحا وصوابا وحقا وعدلا قيل لهم : فما أنكرتم ان لا

__________________

(١) في مط : بخلقه.

(٢) الزيادة من مط.

(٣) في مط : حقا.

٢١٢

يكون بفعله الجور عادلا ، ولا بفعله الخطأ مصيبا ولا بفعله الفساد مصلحا إذا ، فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم ان لا يكون الخطأ والجور من فعله إذ كان مصيبا عادلا في جميع فعله. فان قالوا بذلك ، تركوا قولهم وصاروا الى قول أهل الحق : ان الله لا يفعل خطأ ولا جورا ولا باطلا ولا فسادا.

ويقال لهم : أتقولون ان الله يفعل الظلم ولا يكون ظالما؟ فمن قولهم : نعم. يقال [لهم](١) فما الفرق بينكم وبين من قال انه ظالم وانه لم يفعل ظلما؟ وان قالوا : [انه (٢)] لا يجوز أن يكون ظالما الا من فعل ظلما ، قيل لهم : وكذلك لا يجوز أن يكون للظلم فاعلا ولا يكون ظالما ، بل يجب أن يكون من كان للظلم فاعلا أن يكون ظالما.

ويقال لهم : أليس من قولكم ان الله خلق الكفر في الكافرين ثم عذبهم عليه؟ فإذا قالوا : نعم. يقال لهم : فما أنكرتم يضطرهم الى الكفر ثم يعذبهم عليه؟ فان قالوا : لو اضطرهم الى الكفر لم يكونوا مأمورين ولا منهيين لانه لا يجوز أن يؤمروا ولا ينهوا بما اضطرهم اليه. قيل لهم : ولو كان الكفر قد خلق فيهم لم يكونوا مأمورين ولا منهيين لانه لا يجوز أن يؤمروا وينهوا بما خلق الله فيهم ، وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.

وان قالوا : ان الله اضطرهم الى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون [قد (٣) حملهم عليه واجبرهم ، [عليه (٤)] واكرههم. فان قالوا بذلك [فقد (٥)] صاروا الى قول جهم انه لا فعل للعباد وانما هم كالحجارة تقلب وان لم تفعل شيئا كالأبواب تفتح وتغلق وان لم تفعل شيئا ، ولزمهم ما لزم جهما.

__________________

(١) الزيادة من مط.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) الزيادتان من أ.

(٤) الزيادتان من أ.

(٥) الزيادتان من أ.

٢١٣

فان صاروا الى قول جهم ، قيل لهم : إذا جاز عندكم أن يعذب الله العباد على ما لم يكن منهم بل يعذبهم على ما اضطرهم اليه وحملهم [عليه (١)] فما أنكرتم أن يعذبهم على ألوانهم وصورهم وطولهم وقصرهم.

فان قالوا بذلك ، قيل لهم : فلم لا يجوز أن يعذبهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض. فإن قالوا بذلك سقطت مئونتهم ولم يؤمنوا لعل الله سيعذب قوما على ما ذكرنا ، وان قالوا : لا يجوز أن يعذبهم على ما ذكرتم. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يعذبهم على ما اضطرهم اليه واجبرهم عليه.

ويقال لهم ان صاروا الى قول جهم : إذا زعمتم أن لا فاعل الا الله فما أنكرتم أن يكون لا قائل إلا الله؟ فان قالوا بذلك : قيل لهم فما أنكرتم أن يكون هو القائل إني ثالث ثلاثة ، وان لي ولدا ، وهو الكاذب بقول الكاذب ، ولزمهم ان يكون (٢) جميع أخباره كذبا ، وان قالوا : لا يجب أن يكون لا قائل إلا الله لان هذا يوجب انه ظالم عابث إذ لم يفعل الظلم والعبث غيره.

وان امتنع القوم من أن يقولوا انه اضطرهم (٣) الى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون قد خلق فيهم الكفر كما لم يضطرهم اليه ويحملهم عليه.

ويقال لهم : أليس الله تعالى خلق الكفر والايمان ، وأمر بالايمان ونهى عن الكفر ، وأثاب على الايمان وعاقب على الكفر؟ فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم فقد أمر الله تعالى العباد أن يفعلوا خلقه ونهاهم وغضب من خلقه لأن الله تعالى غضب من الكفر [وسخط (٤)] وهو خلقه. فان قالوا بذلك قيل لهم : فلم

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) في مط : ان تكون.

(٣) في أ : ان اضطرهم.

(٤) الزيادة من أ.

٢١٤

لا يجوز أن يغضب من كل خلقه كما غضب من بعض [خلقه (١)] ، ولم لا يجوز أن يأمر وينهى العباد ويثيبهم ويعاقبهم على السواد والبياض والطول والقصر ، كما أمرهم بخلقه ونهاهم عن خلقه وأثابهم وعاقبهم على خلقه.

ويقال لهم : أليس الله تعالى [قد (٢)] فعل الظلم وليس بظالم؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : فما أنكرتم أن يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فان قالوا بذلك لم يؤمنوا ان جميع اخباره عن الغيب والحساب والجنة والنار كذب وان لم يكن كاذبا ، وان قالوا : لا يجوز أن يخبر بالكذب الا كاذب ، قيل لهما : فما أنكرتم ان لا يفعل الظلم الا ظالم.

فان قالوا : لا يجب أن يكون الله ظالما لأنه إنما فعل ظلم العباد. قيل : فما أنكرتم ان لا يكون كاذبا لأنه إنما قال كذبا للعباد (٣) ، ولم يجدوا مما سألناهم [عنه (٤)] مخلصا.

ويقال لهم : أليس الله تعالى قد فعل [عندكم (٥)] شتم نفسه ولعن أنبيائه؟ فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم ان يكون شاتما لنفسه لا عنا لأنبيائه. فإن قالوا : انه شاتم لنفسه لا عن لأنبيائه ، فقد سقطت مئونتهم وخرجوا عن دين أهل القبلة. وان قالوا : ان الله لا يجوز أن يشتم نفسه ويلعن (٦) أنبياءه ، قيل لهم : فما أنكرتم ان لا يجوز أن يفعل شتم نفسه ولا لعن (٧) أنبيائه. وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.

__________________

(١) الزيادة من أ.

(٢) الزيادة من أ.

(٣) في ا : كذب العباد.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) الزيادة من أ.

(٦) في مط : ولا يلعن.

(٧) في أ : ولا قتل.

٢١٥

فصل

[التنديد بالقائلين بخلق الافعال (١)]

قد كان الاولى ان لا ندل على مثل هذه المسألة اعني ان أفعال العباد فعلهم وخلقهم لان المنكر لذلك ينكر المحسوسات التي قد تبين صحتها ، ولو لا ما رجوته من زوال شبهة ، ومن وضوح (٢) حجة تحصل لقارئ كتابي هذا لما كان هذا الباب مما ينتشر فيه القول.

ولا أعجب ممن ينفي فعله مع علمه بأنه يقع بحسب اختياره ودواعيه ومقاصده ، نعوذ بالله من الجهل ، فإنه إذا استولى وغمر طبق وعم ، وقد قال الرسول الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبك الشيء (٣) يعمي ويصم.

وقد قال الله سبحانه في قوم عرفوا ثم عاندوا (٤)(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(٥).

فصل

[تنزيهه تعالى عن القضاء بغير الحق (٦)]

فان قال منهم قائل : ما ذا نفيتم ان يكون الله فاعلا لأفعالكم ، أفتقولون انه

__________________

(١) العنوان زيد من مط.

(٢) في مط : ومن وضوح [وضوح].

(٣) في ا : للشيء.

(٤) في ا ثم : عاندوه.

(٥) سورة النمل : ١٤.

(٦) العنوان زيد من مط.

٢١٦

قضى أعمالكم؟ قيل له : ان الله تعالى قضى الطاعة إذا أمر بها ولم يقض الكفر والفجور والفسوق.

فان قال : فما الدليل على ما قلتم؟ قيل له : من الدليل على ذلك قول الخالق الصادق عزوجل : والله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين (١) فعلمنا انه يقضي بالحق ولا يقضي بالباطل ، لانه لو جاز أن يتمدح بأنه يقضي بالحق وهو يقضي غير الحق ويقضي بالباطل لجاز ان يقول : والله يقول الحق وهو يقول غير الحق ، فلما كان قوله والله يقول الحق دليلا على انه لا يقول غير الحق كان قوله يقضي الحق دليلا على أنه لا يقضي غير الحق.

ويدل على ذلك قوله تعالى (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ)(٢) ، فعلمنا انه يقضي بالحق ولا يقضي بالجور.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(٣) ، فعلمنا أنه لم يقض عبادة الأصنام والأوثان ولا عقوق الوالدين.

ومما يبين ذلك أيضا أن الله أوجب علينا أن نرضى بقضائه ولا نسخطه ، وأوجب علينا أن نسخط الكفر ولا نرضاه ، فعلمنا أن الكفر ليس من قضاء ربنا.

ومما يبين ذلك أن الله تعالى أوجب علينا أن ننكر المنكر وأن نمنع الظلم ، فلو كان الظلم من قضاء ربنا كان أوجب علينا ان ننكر قضاءه وقدره ، فلما لم يجز أن يوجب الله تعالى إنكار قضائه ولا رد قدره ، علمنا أن الظلم ليس من قضائه ولا قدره.

وأيضا قال الله تعالى في كتابه (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ)(٤) وقال :

__________________

(١) اتفقت النسخ على هذا ، والآية في سورة الانعام ٥٧ هكذا (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ).

(٢) سورة غافر : ٢٠.

(٣) سورة الإسراء : ٢٣.

(٤) سورة البقرة : ٦١.

٢١٧

يَقْضِي بِالْحَقِ)(١) فعلمنا أن ما كان بغير الحق غير ما قضى بالحق ، فلو كان قتل الأنبياء من قضاء الله كان حقا ، وكان يجب علينا الرضا به ، لانه يجب علينا الرضا بقضاء الله ، وقد أمر الله تعالى أن لا يرضى بغير الحق ولا يرضى بقتل الأنبياء. فعلمنا أن قتلهم ليس بقضاء ربنا ولا من فعل خالقنا.

ومما يبين أن الله تعالى لم يقدر الكفر قوله تعالى في كتابه (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)(٢) ولم يقل انه قدر الظلال على خلقه ، ولا قدر الشقاء على خلقه ، لأنه لا يجوز أن يتمدح بأنه قدر الضلال (٣) عن الحق ، وكل ضلال عن الحق فمن تقديره ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

فصل

[معنى خلق الأشياء كلها (٤)]

فان قيل : فما معنى قول الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٥) و (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(٦)؟ قيل له : انما أراد به خلق السماوات والأرض والليل والنهار والجن والانس وما أشبه ذلك [ولم يرد أنه خلق الكفر والظلم والكذب ، إذ لم يجز أن يكون ظالما ولا كاذبا ، عزوجل (٧)] وقد بين الله لنا صنعه فقال (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ

__________________

(١) سورة غافر : ٢٠.

(٢) سورة الأعلى : ١ ٣.

(٣) في ا : بأنه قدر الهدى وقدر الضلال.

(٤) الزيادة من مط.

(٥) سورة الانعام : ١٠٢.

(٦) سورة الانعام : ١٠١.

(٧) الزيادة من أ.

٢١٨

كُلَّ شَيْءٍ)(١) فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم ولا بحق ولا بعدل علمنا أنه ليس من صنعة ، لانه متفاوت متناقض ، وقد قال تعالى (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٢) فأخبر أن الاختلاف لا يكون من عنده ، وقال تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(٣) والكفر متفاوت [فاسد (٤)] متناقض ، فثبت انه ليس من خلقه وانه عمل الكافرين.

فان قال : فلم زعمتم ان قوله (كُلِّ شَيْءٍ) قد خرج منه بعض الأشياء؟ قيل له : قد قال الله تعالى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٥) ولم يخلقها ، والايمان الذي أمر الله به فرعون والكافرين لم يخلقه ، فثبت أن الأشياء [أطلق (٦)] في بعض دون بعض ، وقد قال الله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٧) ولم تؤت من ملك سليمان شيئا ، وانما أراد مما أوتيته [هي (٨) دون ما لم تؤته.

وقال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)(٩) وقد علمنا أنه لم تجب (١٠) اليه ثمرات الشرق والغرب ، وانما أراد مما يجبى [اليه و (١١)] كذلك قوله تعالى

__________________

(١) سورة النمل : ٨٨.

(٢) سورة النساء : ٨٢.

(٣) سورة الملك : ٣.

(٤) الزيادة من أ.

(٥) سورة الحج : ١.

(٦) الزيادة من أوفوقها «ظ».

(٧)]. سورة النمل : ٢٣.

(٨) الزيادة من مط.

(٩) سورة القصص : ٥٧.

(١٠) في مط : لم يجب.

(١١) الزيادة من مط.

٢١٩

(خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) مما خلقه تعالى.

وقال تعالى (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) وانما أراد ما فتح عليهم.

وقال تعالى (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٣) ولم يرد تبيان عدد النجوم وعدد الانس والجن ، وانما أراد تبيان (٤) كل شيء مما بالخلق إليه حاجة في دينهم.

وقال تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها)(٥) ولم يرد أنها (٦) تدمر هودا والذين معه ، وانما [أراد (٧)] تدمر من أرسلت لتدميره.

وقال (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(٨) ولم ينطق الحجارة والحركة والسكون (٩).

وما أشبه ما ذكرناه كثير ، كذلك أيضا قوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) و (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(١٠) أراد الأزواج والأولاد والأجسام ، لأن هذا رد على النصارى ولم يرد الفجور والفسوق.

__________________

(١) سورة الانعام : ١٠٢.

(٢) سورة الانعام : ٤٤.

(٣) سورة النحل : ٨٢.

(٤) في مط : بيان.

(٥) سورة الأحقاف : ٢٥.

(٦) في مط : أنه.

(٧) الزيادة من مط.

(٨) سورة فصلت : ٢١.

(٩) في أ : والحركات والسكنات.

(١٠) سورة الانعام : ١٠١.

٢٢٠