رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة :

أن سائل سائل فقال : أراكم تقولون في كثير من المسائل على القول بأنه لو كان كذا وكذا لكان عليه دليل ، وإذا لم يكن عليه دليل وجب نفيه على ما يستدلون به على نفي العبادة بالقياس في الشريعة والعمل بأخبار الآحاد.

ومثله ما عولتم عليه في كثير من مسائل فروع الحج من التمسك بأصل حكم العقل ، وأنه لو كان فيه شرع حادث لكان عليه دليل.

فبينوا صحة هذه الطريقة؟ وما الفصل بينكم وبين من عكس الكلام؟.

فقال : إذا أوجبتم نفي أمر من الأمور من حيث لا دليل على إثباته.

فما الفصل بينكم وبين من أثبته من حيث لا دليل على نفي ، فلا يكون النفي هاهنا أولى منه بالإثبات.

١٠١

الجواب :

اعلم أنه لا بد لكل مثبت أو ناف حكما عقليا أو شرعيا من دليل ، غير أن الدليل في بعض المواضع على نفي أمر من الأمور قد يكون فقد دليل إثباته ، إذا كان مما علم بأنه لو كان ثابتا ، لكان لا بد من قيام دليل عليه مقطع (١) هاهنا على نفيه لفقد الدليل على إثباته ، ولم ينفه (٢) الا بدليل ، وهو الذي أشرنا اليه.

ولهذا ننفي نبوة كل من لم يظهر على يده معجزة ، ونقطع على انتفاء نبوته دليل النبوة وهو المعجز ، ولا نحتاج في كونه نبيا الى دليل سوى ذلك.

ولو قيل لنا : ما الدليل على نبوة نبي بعينه لاحتجنا الى دليل يخصها ، ولا يتبع في ذلك بأنه لو لم يكن نبيا لكان على نفي نبوته دليل ، وإذا فقدناه حكمنا بأنه نبي.

وكذلك نستدل كلنا على أنه لا صلاة زائدة على الخمس الواجبات ، ولا صوم يجب يزيد على شهر رمضان ، أو ما أشبه ذلك من الأحكام الشرعية.

بأن نقول : لو وجب شيء من ذلك لوجب قيام دليل شرعي عليه ، وإذا فقدنا الدليل قطعنا على انتفاء الحكم ، ولهذا لانقطع على انتفاء كون زيد في الدار من حيث لا دليل على كونه فيها ، لان كونه فيها ليس من الباب الذي إذا وقع فلا بد من نصب دليل عليه.

ولهذه الطريقة أصل في الضروريات ، لأنا ننفي كون جبل بحضرتنا من حيث لو كان حاضرا لرأيناه فعلمناه ، فإذا لم نره دل ذلك على نفي حضوره.

وأما العكس في السؤال الذي مضى ، فليس بصحيح ، ولو كان صحيحا للزم

__________________

(١) ظ : فقطع.

(٢) ظ : ولم ننفه.

١٠٢

في نفي النبوة والشرع الزائد على ما علمناه :

أن يقال لنا : إذا عولتم في نفي كون بعض الأشخاص نبيا على نفي دلالة نبوته ، فالأوجب إثبات نبوته ، لفقد ما يدل على نفيها ، فلما لم يلزم ذلك لأي (١) شيء قبل لم يلزمها ، فما اعتمدناه من نفي العبادة بالقياس وأخبار الآحاد وغير ذلك.

والذي يبين صحة ما ذكرناه من الطريقة ، وبطل ما عارضوا به من العكس أنه لو احتيج في نفي كل شيء تنفيه من نبوة وشريعة وغير ذلك الى دليل يخص ذلك المنفي من غير اعتبار بفقد دلالة إثباته [لاحتيج إلى (٢)] مالا نهاية له من الأدلة ، لأنه لا نهاية لما تنفيه من النبوات ، وكذلك لا نهاية لما تنفيه من الشرائع والاحكام.

وليس كذلك ما تثبته ، لانه متناه محصور ، فجاز أن يخصه أدلة محصورة. وهذا يكشف لك عن الفرق بين الأمرين وفساد مذهب من سوى بينهما.

ولو قيل لمن سلك هذه الطريقة : ولنا (٣) إذا لم ترض ما أشرنا اليه على أن زيدا ليس بنبي ، فإنه لا يقدر [إلا (٤)] على أنه لو كان نبيا لظهرت على يده معجزة ، وحصل (٥) فقد المعجزة دليلا على نفي نبوته.

__________________

(١) ظ : فأي شيء قيل لم لم يلزم ذلك فنقول مثله فيما اعتمدناه .. إلخ.

(٢) الزيادة منا.

(٣) ظ : دلنا.

(٤) الزيادة منا.

(٥) ظ : جعل.

١٠٣

حتى يقال : فبأي شيء ينفصل من قال لك : فما أنكرت من كونه نبيا كذلك أنه لو لم يكن نبيا لكان على نفي نبوته دليل ، وذا فقدنا ذلك ، فلا بد من إثبات نبوته.

فان رام الفصل بغير ما ذكرناه لم يجده.

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد وآله الطاهرين ، والمنة لله.

١٠٤

(١٧)

شرح الخطبة الشقشقية

١٠٥
١٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير الخطبة الشقشقية

مسألة يحيط على تفسير الخطبة المقمصة وهي الشقشقية ، من إملاء السيد المرتضى (رضي الله عنه) من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أما قوله عليه‌السلام : «لقد تقمصها فلان» وانما أراد لبسها واشتملت (١) عليه كما يشتمل القميص على لابسه.

وقوله عليه‌السلام : «وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى» فالمراد أن أمرها علي يدور وبي يقوم ، وأنه لا عوض عني فيها ولا بديل مني لها ، كما أن قطب الرحى هو الحديد الموضوعة في وسطها عليها مدار الرحى ، ولولاها لما انتظمت حركاتها ولأظهرت منفعتها.

وقوله عليه‌السلام : «ينحدر عني السيل ، ولا يرقى الي الطير» هذا كلام

__________________

(١) ظ : واشتمل.

١٠٧

مستأنف غير موصول المعنى بذكر قطب الرحى ، المراد به أني عالي المكان بعيد المرتقى ، لان السيل لا ينحدر الا عن الأماكن العالية والمواضع المرتفعة.

ثم أكد عليه‌السلام هذا المعنى بقوله : «ولا يرقى الي الطير» ولانه ليس كل مكان عال عن استقرار السيل عليه واقتضى تحدره عنه ، يكون مما لا يرقى اليه الطير ، فان هذا وصف يقتضي بلوغ الغاية في العلو والارتفاع.

وقوله عليه‌السلام : «لكني سدلت (١) دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا» فمعنى «سدلت» ألقيت بيني وبينها حجابا ، أي عرضت (٢) عنها وتنزهت عن طلبها وحجبت نفسي عن مرامها.

وقوله عليه‌السلام : «وطويت عنها كشحا» نظير قوله : «وسدلت دونها ثوبا» ومعنى الكلام : أنني أعرضت عنها وعدلت عن جهتها ، ومن عدل عن جهة إلى غيرها فقد طوى كشحة عنها ، لان الكشح : الخاصرة.

وقوله عليه‌السلام : «بين أن أصول بيد جداء» فإنما أراد : مقطوعة ، لأن الجد : القطع، ويحتمل أيضا أن يروى جذاء بالذال المعجمة ، لان الجذ أيضا : القطع ، والجذاء : المنقطعة، قال الطائي :

أبا جعفر أن الجهالة أمها

ولو وأم العقل عقماء جذاء

فأما «الطخية» فهي الظلمة ، وليلة طخياء أي مظلمة.

فأما قوله عليه‌السلام : «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا» ف «هاتا» لغة تجري مجرى هاذي وهذه ، و «أحجى» أولى ، وقذى العين معروف.

و «الشجى» ما اعترض في الحلق.

__________________

(١) في النهج : فسدلت.

(٢) ظ : أعرضت.

١٠٨

فأما التراث فهو الميراث ، وليس كل شيء يملكه يسمى تراثا ، حتى يكون قد ورثه عن غيره. وأراد عليه‌السلام «أرى تراثي نهبا» أي حقي من لامامة وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ورثته عنه بنصه علي وإشارته الي «نهبا» منقسما ومتوزعا متداولا.

وقوله عليه‌السلام : «فأدلى بها الى فلان بعده» انما يريد ألقاها اليه وأرسلها إلى جهته ، الأصل فيه قولهم : أدليت الدلو إذا ألقيتها إلى البئر ، ومنه : أدلى الرجل بحجته.

وقوله عليه‌السلام : «فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ جعلها (١) لآخر بعد وفاته» من دقيق المحاسبة وشديد المواقفة أن من يستقيل من الأمر على ظاهر الحال ، يجب أن يكون زاهدا فيه منقبضا منه متبرما به ، ومن عقده لغيره ووصى بها الى سواه فهو على غاية التمسك به ، والتحمل لأوقاره والتلبس لأوزاره.

وقوله عليه‌السلام : «لشد ما تشطرا ضرعيها» يريد اقتسما منفعتها ، من الشطر الذي هو النصف.

وأما إنشاده عليه‌السلام :

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

فهذا البيت لأعشى قيس من جملة قصيدة ، أولها :

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار والواتر

فأما حيان أخو جابر ، فهو رجل من بني حنيفة ، فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية أدأب وأنصب في الهواجر والصنابر وبين يومي وادعا قارا منادما لحيان أخي جابر في نعمة وخفض وأمن وخصب.

وروي : ان حيان هذا كان شريفا معظما عتب على الأعشى ، كيف نسبه الى

__________________

(١) في النهج : عقدها.

١٠٩

أخيه وعرفه به؟! واعتذر الأعشى أن القافية ساقته الى ذلك.

والغرض في تمثيله (صلوات الله عليه) بهذا البيت ، تباعد ما بينه عليه‌السلام وبين القوم ، لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم ، وظفروا بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه. وهو عليه‌السلام في أثناء ذلك كله مجفو في حقه مكمد من نصيبه ، فالبعد كما رآه عنهم ، والاختلاف شديد والاستشهاد بالبيت واقع في موقعه ووارد في موضعه.

وقوله عليه‌السلام : «يصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها ويعظم كلمها» (١) انما هو تعريض لجفاء خلق الرجل التالي للأول ، وضيق صدره ونفار طبعه.

وقوله عليه‌السلام : «كراكب الصعبة» التي ما ذللت وريضت بين خطتين ، ان أرخى لها في الزمام توجهت به حيث شاءت بعسف وخبط. و «ان أشنق لها» بمعنى ضيق عليها المشناق «خرم» بمعنى خرم أنفها ، لان الزمام يكون متصلا بالأنف ، فإذا والى بين جذبه لامساكه خرقه. وعلى الرواية الأخرى «ان أشنق لها خرم» وهو معنى خرق.

«وان أسلس لها تقحم به» مثل المعنى الذي أراده بلفظة عسف من ورود ما يكره وروده من الموارد ، ويأبى سلوكه من المقاصد.

وقوله عليه‌السلام : «فبلي (٢) الناس لعمرو الله بخبط وشماس» و «الخبط» هو السير على غير جادة ومحجة ، و «الشماس» : النفار ، و «التلون» التلفت والتبذل ، وأما «الاعتراض» فهو هاهنا أيضا ضربان : التلون والتغير وترك لزوم القصد والجادة ، يقال : مشى للعرضة أي ترك القصد والمحجة وجادة الطريق

__________________

(١) كذا في النسخة وفي النهج : فصيرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها.

(٢) في النهج : فمنى.

١١٠

وسار في عرضها عاسفا خابطا.

وانما تلويحه عليه‌السلام ، بل تصريحه بذم الشورى ، والانفة من اقترانه من لا يساويه ولا يضاهيه ، فهو كثير التردد في كلامه عليه‌السلام ، ثم خبر بأنه فعل ذلك كله مقاربة ومساهلة واستصلاحا وسماحا.

فقال عليه‌السلام : «لكن (١) أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا» يقال : سف الطائر بغير ألف وأسف الرجل الى الأمر إذا دخل فيه بالألف لا غير.

قول عليه‌السلام : «فمال رجل لضغنه ، وأصغى آخر لصهره» (٢) وانما أراد المائل إلى صهره عبد الرحمن بن عوف الزهري فإنه كان بينه وبين عثمان مصاهرة معروفة ، فعقد له الأمر ومال إليه بالمصاهرة ، والذي مال اليه لضغنه انما هو سعد بن أبي وقاص الزهري ، فإنه كان منحرفا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو أحد من قعد عن بيعته في وقت ولايته.

وأما لفظة «هن» فان العرب تستعملها في الأمور العظيمة الشديدة ، يقولون : جرت هنة وهنات.

وقوله عليه‌السلام : «الى أن قام ثالث القوم» يعني عثمان «نافجا حضنيه» فالنفج والنفح بمعنى واحد ، والحضن هو الصدر والعضدان وما بينهما ، ومنه حضنت الصبي حضنا وحضانة ، والحضن أيضا أصل الحبل.

ومعنى «بين نثيله ومعتلفه» أي بين الموضع الذي يأكل فيه.

وقوله عليه‌السلام : «وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم (٣) الإبل نبتة الربيع» والخضم أقوى من القضم ، وتعمل فيه الأشداق ، ويكون في الأكثر

__________________

(١) في النهج : لكني.

(٢) في النهج : فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الأخر لصهره.

(٣) في النهج : خضمة.

١١١

للأشياء اللينة الرطبة. والقضم بمقاديم الإنسان ، ويكون للأشياء اليابسة.

وقوله عليه‌السلام : «الى أن انتكث [عليه (١)] فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته» والانتكاث : الانتقاض ، وإذا تزايلت قوى الحبل وتفرقت مرده قيل : انه انتكث ، ومنه نكث العهد ، لانه فتح الرجل العقدة.

ومعنى «أجهز عليه عمله» أي قتله فعله ، والإجهاز لا يستعمل إلا في إتمام ما بدئ به من الجراح وغيرها.

فإما البطنة : فهي كثرة الأكل والسرف في الشبع ، وذلك غير محمود في نجباء الرجال وذوي الفضل منهم.

وقوله عليه‌السلام : «فما راعني الا والناس كعرف الضبع [إلى (٢)] ينثالون علي من كل وجه» والضبع ذات عرف كثيرة ، والعرب تسمى الضبع «عرفا» لعظم عرفها. ومعنى «ينثالون» أي يتتابعون ويتزاحمون.

وقوله عليه‌السلام : «حتى [لقد (٣)] وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم» فأراد ب «الحسنين» الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وغلب في الاسم الكبير على الصغير.

و «العطف» المنكب. و «ربيضة الغنم» الرابضة ، وانما شبههم بالغنم لقلة الفطنة عندهم وبعد القائل منهم ، والعرب تصف الغنم بالغباء وقلة الذكاء.

وقوله عليه‌السلام : «فلما نهضت بالأمر نكصت طائفة ، ومرقت أخرى ، وفسق (٤) آخرون» وفي رواية : نكثت طائفة وقسطت أخرى ، بمعنى جارت عن الحد ومن القصد. والعرب تسمي السهم إذا لم يصب الغرض ومضى جانبا

__________________

(١) الزيادة من النهج.

(٢) الزيادة من النهج.

(٣) الزيادة من النهج.

(٤) وفي النهج : وقسط آخرون.

١١٢

فإنه مارق.

وأما قوله عليه‌السلام : «ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم» وفي رواية أخرى : حلت لهم دنياهم. فمعنى «حليت» تبرقت وتزينت في أعينهم من الحلي ، ويحكى : احلولات فهو من حلاوة الطعم. ومعنى «راقتهم زبرجها» أي أعجبهم زخرفها ، والزبرج كالزخرف ، يبدو لهم ظاهر جميل معجب وباطن بخلاف ذلك ، وأصله الغيم الرقيق الذي لا ماء فيه ، فهو مغر بظاهره ولا خير فيه.

وقوله عليه‌السلام : «لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر» الى آخر الكلام ، فمعناه أن الفرض تعين ويوجب مع وجود من انتصر به على رفع المنكر ومنع الباطل ، واعتذار الى من لا علم له من القعود في أول الأمر ، والنهوض في حرب الجمل وما بعدها ، لفقد الناصر أولا وحضورهم ثانيا.

فأما «الكظة» فهي البطنة وشدة الامتلاء من الطعام. و «السغب» هو الجوع. ومعنى «ألقيت حبلها على غاربها» أي تركتها وتخليت منها ، لان الرجل إذا ألقى زمام الناقة على غاربها فقد بدا له في إمساكها وزمها وخلى بينها وبين اختيارها ، ولهذا صارت هذه اللفظة من كنايات الطلاق والفرقة. والغارب : أعلى العنق.

وقوله عليه‌السلام : «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» والعرب تقول : عطفت الناقة تعفط عفطا وعفيطا وعفطانا فهي عافطة ، وهو نثرها بأنفها كما ينثر الحمار. ويقال : عفطت ضرطت. وكلا من المعنيين تحتملهما اللفظة في هذا الموضع.

وأما قوله عليه‌السلام : «تلك شقشقة هدرت ثم قرت» استقرت ، ف «الشقشقة» هي التي يخرجها البعير من فيه عند جرجرته وعصه أو فطمه ، وانما يريد عليه‌السلام أنها سورة التهبت وثارت ثم وقفت.

ولما اقتضى ابن عباس (رضي الله عنه) بقية الكلام وقد انقطع بما اعترضه

١١٣

وزال عن سننه ، اعتذر عليه‌السلام في العدول عن تمامه بانقضاء أسبابه وانطفاء ناره وتلاشي دواعيه ، فان الكلام يتبع بعضه بعضها ويقتضي أوله آخره ، فإذا قطع انحل نظامه وخبا ضرامه.

ونسأل الله التوفيق ، تمت بحمد الله ومنه.

١١٤

(١٨)

مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم

١١٥
١١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اعلم أن الطريق إلى صحة ما يذهب إليه الشيعة الإمامية في فروع الشريعة فيما أجمعوا عليه هو إجماعهم ، لأنه الطريق الموصل الى العلم ، فذلك هو على الحفيقة الدليل على أحكام هذه الحوادث.

لأنا قد بينا في مواضع كثيرة أن إجماع هذه الطائفة حجة ، وبينا العلة في ذلك والوجه المقتضي له.

وقد بينا كيفية الطريق إلى معرفة إجماعهم على حكم الحادثة ، على تباعد ديارهم واختلاف أزمانهم ، وشرحناه وأوضحناه ، فلا معنى لذكره هاهنا.

وليس يمتنع مع ذلك أن يكون في بعض ما أجمعوا عليه من الاحكام ، ظاهر كتاب يتناوله ، أو طريقة تقتضي العلم ، مثل أن يكون ما ذهبوا اليه هو الأصل في العقل ، فيقع التمسك به ، مع فقد الدليل الموجب للانتقال عنه.

أو طريقة قسمة ، مثل أن تكون الأقوال في هذه الحادثة محصورة ، فإذا بطل ما عدا قسما واحدا من الأقسام ، ثبت لا محالة ذلك القسم ، وكان الدليل على

١١٧

صحته بطلان ما عداه.

فان اتفق شيء من ذلك في بعض المسائل ، جاز الاعتماد عليه من حيث كان طريقا الى العلم ، وصار نظيرا للإجماع الذي ذكرناه في جواز الاعتماد عليه.

هذا فيما اتفقوا عليه من المذهب ، فأما ما اختلفوا فيه : فقال بعضهم في الحادثة بشيء ، وقال آخرون بخلافه. فلا يخلو من أن يصح دخوله تحت بعض ظواهر القران ومعرفة حكمه من عمومه ، فيعتمد على ذلك فيه.

أو أن يكون مما يرجع فيه الى حكم أصل العقل ، فيرجع فيه اليه مع فقد أدلة الشرع، إذ يمكن فيه طريقة القسمة وإبطال بعضها وتصحيح ما يبقى ، فيسلك ذلك فيه.

أو يكون جميع الطرق التي ذكرناها فيه متعذرة ، فحينئذ يكون مخيرا بين تلك الأقوال التي وقع الاختلاف فيها ، ولك أن تذهب وتفتي بأي شيء شئت منها ، لأن الحق لا يعدوها ، لإجماع الطائفة عليها ، وقد فقد الدليل المميز بينها ، فلم يبق في التكليف الا التخيير.

وأما ما لم يوجد للإمامية فيه نص على خلاف ولا وفاق ، كان لك عند حدوثه أن تعرضه على الأدلة التي ذكرناها ، من عمومات الكتاب وظواهره ، فقل ما يفوت تناول بعضها من قرب أو بعد له.

فان لم يوجد له فيها دليل ، عرض على أصل العقل وعمل بمقتضاه. وان كانت طريقة القسمة فيه متأتية ، عمل بها. فان قدرنا تعذر ذلك كله ، كنت بالخيار فيما تعمله فيه على ما ذكرناه.

وهذا الذي بيناه هو طريق معرفة الحق في جميع أحكام الشرع ، ولم يبق الا كيف نناظر الخصوم في هذه المسألة.

واعلم أن كل مذهب لنا في الشريعة عليه دليل من ظاهر كتاب ، أو حكم

١١٨

الأصل في العقل وما أشبه ذلك ، فإنه يمكن مناظرة الخصوم فيه.

فأما ما لا دليل لنا عليه الا إجماع طائفتنا خاصة ، فمتى ناظرنا الخصوم واستدللنا عليهم بإجماع هذه الطائفة ، دفعوا أن يكون إجماعهم دليلا ، فيحتاج أن نبين ذلك بأن الامام المعصوم في جملتهم ، وننقل الكلام إلى الإمامة ، ونخرج عن الحد الذي يليق بالفقهاء ويبلغه إفهامهم.

وهذا الذي أحوجنا الى عمل مسائل الخلاف ، واعتمدنا فيها على سبيل الاستظهار على الخصوم في المسائل على القياس وأخبار الآحاد ، وان كنا لا نذهب إلى أنهما دليلان في الشرع ، ليتأتى مناظرة الخصوم في المسائل من غير خروج لي أصول لا يقدرون على بلوغها.

غير أن الذي استعملنا في ذلك الكتاب من الاعتماد على القياس وأخبار الآحاد في مناظرة الخصوم في المسائل مما يدل على صحة مذاهبنا ولا يمكننا أن نعتقد له ومن أجله هذا المذهب.

وقد عزمنا الى أن نبيح طريقا يجتمع لنا فيه إمكان مناظرة الخصوم ، وأنه يوصل لي العلم وطريق إلى معرفة الحق ، وهو أن يقصد إلى المسألة التي يقع الخلاف فيها بيننا وبين خصومنا ، إذا لم يكن لنا ظاهر كتاب يتناولها ، ولا ما أشبه ذلك من طريق العلم ، فنبنيها على مسألة أخرى قد دل الدليل على صحتها.

فنقول : قد ثبت وجوب القول بكذا وكذا ، لقيام الدليل الموجب للعلم عليه ، وكل من قال في هذه المسألة بكذا ، قال في المسألة الأخرى بكذا ، والتفرقة بينهما في الموضع الذي ذكرناه خروج من إجماع الأمة لا قائل منهم به مثال ذلك : أن يقصد إلى الدلالة على وجوب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد من غير استيناف ماء جديد.

فنقول : قد ثبت وجوب مسح [الرأس و] الرجلين على التضييق ، وكل

١١٩

من قال بذلك قال بإيجاب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد ، والقول بوجوب مسح الرأس مضيقا مع نفي وجوب المسح بالبلة خلاف الإجماع. وانما اخترنا بذكر التضييق ، لأن في الناس من يقول بمسح الرجلين على التخيير ، ولا يوجب ما ذكرناه في المسألة الأخرى.

ولك أن تسلك مثل هذه الطريقة فيما تريد أن تدل عليه من مسائل الخلاف التي يوافق فيها بعض الفقهاء وان خالفها بعض آخر ، وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه بين ما يخالفنا فيه الجميع ، مثل ما قد بينا من وجوب مسح الرأس ببلة اليد ، وبين ما يخالفنا بعض ويوافقنا فيه بعض آخر ، [وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه ، بين ما يخالفنا فيه بعض ويوافقنا فيه بعض آخر (١)].

مثال ذلك أن نقول : قد ثبت وجوب مسح الرجل مضيقا ، وكل من أوجب ذلك أوجب الترتيب في الوضوء (٢) أو النية (٣) أو الموالاة.

وهذا ترتيب صحيح وبناء مستقيم ، لان كل من أوجب مسح الرجلين دون غيره يوجب النية والموالاة والترتيب في الوضوء ، وانما يوجد من يوجب تلك الاحكام من الفقهاء من غير إيجاب مسح الرجلين.

وليس في الأمة كلها من يوجب مسح الرجلين مضيقا ، وهو لا يوجب ما ذكرناه ، لانه ليس يوجب مسح الرجلين على الوجه الذي ذكرناه الا الإمامية وهم بأجمعهم يوجبون النية والترتيب والموالاة في الوضوء.

ولك أن تبني بناء آخر فتقول إذا أردت مثلا أن تدل على وجوب الترتيب في الوضوء: قد ثبت وجوب الموالاة فيه على كل حال ، وكل من أوجب من الأمة

__________________

(١) كذا في النسخة والظاهر زيادتها.

(٢) ظ : و.

(٣) ظ : و.

١٢٠