شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

وأجلّ» (١).

وقوله : أسرعهما عمرانا يحتمل معنيين :

أحدهما : مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم ، وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى.

والثاني : إن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها ، فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط ، وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه ، وأهل النار قد تبوءوا منازلهم منها ، فإنهم لا يجوزون على الصراط ، ولا يحبسون على تلك القنطرة.

وأيضا ففي الحديث الصحيح أنه «لمّا ينادي المنادي : لتتبع كلّ أمة ما كانت تعبد ، فتتبع المشركون أوثانهم وآلهتهم ، فتتساقط بهم في النار ، وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربّها عزوجل ، ويقول : ألا تنطلقون حيث انطلق الناس» (٢).

وقد ذكر الخطيب في «تاريخه» (٣) في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود بن سليمان أبو نصر البخاري ، قال : حدثنا محمد بن نوح الجنديسابوري ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد ، قال : حدثنا سهل بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الله بن مسعر بن كدام ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد ، تخفق أبوابها ، كأنها أبواب الموحدين» وليس العمدة على هذا

__________________

(١) رواه البخاري (٤٠٤٣) عن البراء بن عازب.

(٢) صحيح. رواه الترمذي (٢٥٥٧) عن أبي هريرة.

(٣) تاريخ بغداد ٩ / ١٢٢ وانظر ما سبق قريبا.

٦٤١

وحده ، فإن إسناده ضعيف (١) ، وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود وقد تقدم.

فصل

والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق :

أحدها : الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها ، وأنهم لا يموتون ، وما هم منها بمخرجين ، وأنّ الموت يذبح بين الجنة والنار ، وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، وأمثال هذه النصوص ، وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه ، وإنما يدل على أنها ما دامت باقية ، فهم فيها ، فأين فيها ما يدل على عدم فنائها.

الطريق الثاني : دعوى الإجماع على ذلك ، وقد ذكرنا من أقوال الصحابة والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا ، حتى لقد ادعي إجماع الصحابة من هذا الجانب ، استنادا إلى تلك النقول التي لا يعلم عنها خلافها.

الطريق الثالث : إنه كالمعلوم بالضرورة ، من دين الإسلام ، أنّ الجنة والنار لا تفنيان ، بل هما باقيتان ، ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهذيل وجهم وشيعتهما ممن قال بفنائها ، وعدّوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول ، ولا ريب أنّ هذا من أقوال أهل البدع

__________________

(١) بل ضعيف جدا ، فإن جعفر بن الزبير وعبد الله بن مسعر بن كدام متروكان.

٦٤٢

التي خرجوا بها عن السنة ، ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري ، أنّ النار باقية ببقاء الله دائمة بدوامه فضلا عن العلم الضروري ، فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك.

الطريق الرابع : أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار ، وهذا معلوم من السنة قطعا ، وهذا الذي قالوه حقّ لا ريب فيه ، ولكن أهل التوحيد خرجوا منها ، وهي باقية لم تفن ، ولم تعدم ، والكفار لا يحصل لهم ذلك ، بل هم باقون فيها ما بقيت.

الطريق الخامس : إن العقل يدل على خلود الكفار فيها وعدم خروجهم منها ، فإن نفوسهم غير قابلة للخير ، فإنهم لو خرجوا منها ، لعادوا كفارا كما كانوا ، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (٢٨)) [الأنعام] وهذا يدل على غاية عتوّهم وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه ، فلا تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة إلا للعذاب ، ولو صلحت ، لصلحت على طول العذاب ، فحيث لم يؤثر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم ، ولم يطيّبها ، علم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلا ، وأن أسباب العذاب لم يطف من نفوسهم ، فلا يطفى العذاب المترتب عليها ، وهذه الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي ، فهي طريق قوية ، وهي ترجع إلى طريق الحكمة ، وإن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم.

ولكن هذه الطريق محرّم سلوكها على نفاة الحكمة وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية ، أما النفاة فظاهر ، وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم ، وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان : حالة يعذبون فيها لأجل مصلحتهم ، وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة ، وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدا ، وأما من يثبت حكمة

٦٤٣

راجعة إلى الرب تعالى ، فيمكنهم سلوك هذه الطريق ، لكن يقال : الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه ، وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك ، وإنما يعذبون لغاية محدودة (١) إذا حصلت ، حصل المقصود من عذابهم ، وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى ، وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم ، وقد أزالها طول العذاب ، فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة ، وهذا القبول لازم لخلقتهم ، وبه أقروا بصانعهم وفاطرهم ، وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه ، فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل ، بقي أصل القبول بلا معارض.

وأما قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (٢٨)) [الأنعام] فهذا قبل مثابرتهم للعذاب ، قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)) [الأنعام] فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم ، لم تزلها النار ، فلو ردّوا لعادوا لقيام المقتضى للعود ، ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردّهم بعد العذاب الطويل السرمدي ، لعادوا لما نهوا عنه ، وسرّ المسألة أن الفطرة الأصلية لا بد أن تعمل عملها ، كما عمل الطارئ عليها عمله ، وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم ، كما في الصحيحين (٢) من حديث أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» وفي لفظ : «على هذه الملة».

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «محمودة».

(٢) البخاري (١٣٥٨) ، ومسلم (٢٦٥٨).

٦٤٤

وفي صحيح مسلم (١) ، من حديث عياض بن حمار المجاشعي ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما يروي عن ربه قال : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا».

فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية ، وأنهم خلقوا عليها ، وإن صدّها عارض فيهم ، باقتطاع الشياطين لهم عنها ، فمن الممتنع أن يعمل أثر اقتطاع الشياطين ، ولا يعمل أثر خلق الرحمن جل جلاله عمله ، والكل خلقه سبحانه ، فلا خالق سواه ، ولكن ذاك خلق يحبه ويرضاه ، ويضاف أثره إليه ، وهذا خلق يبغضه ويسخطه ، ولا يضاف أثره إليه ، فإن الشر ليس إليه ، والخير كله في يديه ، فإن قيل : فقد قال سبحانه : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ (٢٣)) [الأنفال] وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ، ولا خير عندهم البتة ، ولو كان عندهم ، لخرجوا به من النار مع الموحّدين ، فإنه سبحانه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير ، فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير.

قيل : الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله ، كما في اللفظ الآخر : أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، وهو تصديق رسله ، والانقياد لهم بالقلب والجوارح. وأما الخير في الآية ، فالمراد به القبول والزكاء ، ومعرفة قدر النعمة ، وشكر المنعم عليها ، فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم ، لأسمعهم إسماعا ينتفعون به ، فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة ، فتلك القابلية ذهب أثرها ، وتعطلت بالكفر والجحود ، وعادت كالشيء المعدوم الذي لا ينتفع به ، وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ، ولم

__________________

(١) مسلم (٢٨٦٥).

٦٤٥

يظهر أثرها في انتفاعهم بما عملوه وتيقنوه.

فإن قيل : فالغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ، وقال نوح عن قومه : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)) [نوح].

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا : «أن بني آدم خلقوا على طبقات شتّى ، فمنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت كافرا» (١) ... الحديث.

قيل : هذا لا يناقض كونه مولودا على الفطرة ، فإنه طبع وولد مقدرا كفره إذا عقل ، وإلا ففي حال ولادته لا يعرف كفرا ولا إيمانا ، فهي حال مقدرة ، لا مقارنة للعامل ، فهو مولود على الفطرة ، ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين له ، هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خلّي ، وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل ، فإذا جمعت بين الفطرة السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى التام ، وقرنت بين فطرته ورحمته وحكمته وغناه ، تبيّن لك الأمر.

الطريق السادس : قياس دار العدل على دار الفضل ، وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك ، لأن هذه توجب عدله ، وعدله ورحمته من لوازم ذاته ، وهذه الطريق غير نافذة ، فإنّ العدل حقّه سبحانه ، لا يجب عليه أن يستوفيه ، ولا يلحقه بتركه نقص ولا ذم بوجه من الوجوه ، والفضل وعده الذي وعد به عباده ، وأحقه على نفسه.

والفرق بين الدارين من وجوه عديدة شرعا وعقلا.

__________________

(١) ضعيف. رواه أحمد (٣ / ١٩) ، والترمذي (٢١٩١) عن أبي سعيد الخدري. وفيه علي بن زيد بن جدعان : ضعيف. وفي الصحيح ما يغني عنه.

٦٤٦

أحدها : أنّ الله سبحانه أخبر بأنّ نعيم الجنة ما له من نفاد ، وأن عطاء أهلها غير مجذوذ (١) ، وأنه غير ممنون ، ولم يجئ ذلك في عذاب أهل النار.

الثاني : أنه أخبر بما يدلّ على انتهاء عذاب أهل النار ، في عدة آيات ، كما تقدم ، ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة ، ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات ، ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجون إلى تخصيصه بالتأويل.

الثالث : أنّ الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار ، لم يجئ شيء منها في انتهاء نعيم الجنة.

الرابع : أن الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب ، ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم.

الخامس : أنه قد ثبت أن الله سبحانه يدخل الجنة بلا عمل أصلا ، بخلاف النار.

السادس : أنه سبحانه ينشئ في الجنة خلقا ، ينعّمهم فيها ، ولا ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها.

السابع : أن الجنة من مقتضى رحمته ، والنار من مقتضى غضبه ، وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة ، فلو دام عذاب هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء ، لغلب غضبه رحمته ، فكان الغضب هو الغالب السابق ، وهذا ممتنع.

__________________

(١) مجذوذ : مقطوع.

٦٤٧

الثامن : أن الجنة دار فضله ، والنار دار عدله ، وفضله يغلب عدله.

التاسع : أن النار دار استيفاء حقه الذي له ، والجنة دار وفاء حقه الذي أحقّه هو على نفسه ، وهو سبحانه يترك حقه ، ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه.

العاشر : أنّ الجنة هي الغاية التي خلقوا لها في الآخرة ، وأعمالها هي الغاية التي خلقوا لها في الدنيا ، بخلاف النار ، فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك ، وإنما خلقهم لعبادته وليرحمهم.

الحادي عشر : أن النعيم من موجب أسمائه وصفاته ، والعذاب إنما هو من أفعاله ، قال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)) [الحجر] وقال : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)) [الأعراف] وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)) [المائدة].

وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته ، فإنه يدوم بدوامه.

فإن قيل : فإنّ العذاب صادر عن عزّته وحكمته وعدله ، وهذه أسماء حسنى وصفات كمال ، فيدوم ما صدر عنها بدوامها.

قيل : لعمر الله! إنّ العذاب صدر عن عزة وحكمة وعدل ، وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزة وحكمة وعدل ، فلم يخرج العذاب ولا انقطاعه عن عزته وحكمته وعدله ، ولكن عند انتهائه يكون عزة مقرونة برحمة ، وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح ، فالعزة والحكمة لم يزالا ، ولم ينقصا ، بل صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته.

٦٤٨

الثاني عشر : أن العذاب مقصود لغيره لا لنفسه ، وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه ، فالإحسان والنعيم غاية ، والعذاب والألم وسيلة ، فكيف يقاس أحدهما بالآخر.

الثالث عشر : أنه سبحانه أخبر أنّ رحمته وسعت كلّ شيء ، وأن رحمته سبقت غضبه ، وأنه كتب على نفسه الرحمة ، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين ، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية ، لم تسعهم رحمته ، وهذا ظاهر جدا.

فإن قيل : فقد قال سبحانه عقيبها : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (١٥٦)) [الأعراف] إلى آخر الآية ، يخرج غيرهم منها ، لخروجهم من الوصف الذي يستحق به.

قيل : الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق ، بل هي رحمة خاصة ، خصّهم بها دون غيرهم ، وكتبها لهم دون من سواهم ، وهم أهل الفلاح الذين لا يعذبون ، بل هم أهل الرحمة والفوز والنعيم. وذكر الخاص بعد العام استطرادا ، وهو كثير في القرآن ، بل قد يستطرد من الخاص إلى العام كقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)) [الأعراف] فهذا استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية.

ومن الاستطراد قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)) [الصافات] (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ (٥)) [الملك] فالتي جعلت رجوما ليست هي التي زيّنت بها السماء ، ولكن استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر ، وأعاد

٦٤٩

ضمير الثاني على الأول لدخولهما تحت جنس واحد ، فهكذا قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (١٥٦)) [الأعراف] فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة ، والمقصود : أنّ الرحمة لا بد أن تسع أهل النار ، ولا بد أن تنتهي حيث ينتهي العلم ، كما قالت الملائكة : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً (٧)) [غافر].

الرابع عشر : أنه قد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث الشفاعة ، قول أولي العزم : «إنّ ربي قد غضب اليوم غضبا ، لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» (١) وهذا صريح في أنّ ذلك الغضب العظيم لا يدوم ، ومعلوم أنّ أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب ، فلو دام ذلك الغضب ، لدام عذابهم. إذ هو موجب ذلك الغضب ، فإذا رضي الربّ تبارك وتعالى ، وزال ذلك الغضب ، زال موجبه. وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاءها آثار غضبه ، فإذا استمر غضبه ، استمر ذلك البلاء ، فإذا رضي وزال غضبه ، زال البلاء ، وخلفته الرحمة.

الجواب الخامس : أنّ رضاه أحب إليه من غضبه ، وعفوه أحب إليه من عقوبته ، ورحمته أحب إليه من عذابه ، وعطاءه أحب إليه من منعه ، وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب ، تناقض موجب تلك الصفات والأسماء ، وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته ، ويحب آثارها وموجبها ، كما في الحديث : «إنه وتر يحبّ الوتر ، جميل يحب الجمال ، نظيف يحب النظافة ، عفو يحب العفو» (٢) وهو شكور يحب الشاكرين ، عليم يحب العالمين ، جواد يحب أهل الجود ، حييّ ستّير ، يحب أهل الحياء والستر ،

__________________

(١) رواه البخاري (٣٣٤٠) ، ومسلم (١٩٤) عن أبي هريرة.

(٢) رواه مسلم (٩١) ، والترمذي في الأدب ٤١ ، وأحمد ٤ / ١٢٣ و ١٢٤ و ١٥١.

٦٥٠

صبور يحب الصابرين ، رحيم يحب الرحماء ، فهو يكره ما يضاد ذلك. وكذلك كره الكفر والفسوق والعصيان والظلم والجهل ، لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله الموافقة لأسمائه وصفاته ، ولكن يريده سبحانه ، لاستلزامه ما يحبه ويرضاه ، فهو مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها ، إذ هي معصية (١) إلى ما يحبّ ، فإذا حصل بها ما يحبه ، وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه ، لم تبق مقصودة ، لا لنفسها ولا لغيرها ، فتزول ، ويخلفها أضدادها التي هي أحبّ إليه سبحانه منها ، وهي موجب أسمائه وصفاته ، فإن فهمت سر هذا الوجه ، وإلّا فجاوزه إلى ما قبله ، ولا تعجل بإنكاره.

هذا وسرّ المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم ، إنما يخلق بحكمة ورحمة ، فإذا عذّب من يعذب لحكمة ، كان هذا جاريا على مقتضاها ، كما يوجد في الدنيا من العقوبات الشرعية والقدرية ، من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ، ما يزكّي النفوس ، ويطيبها ، ويمحّصها ، ويخلّصها من شرّها وخبثها. والنفوس الشريرة الظالمة التي لو ردّت إلى الدنيا قبل العذاب ، لعادت لما نهيت عنه ، لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشر والظلم ، فإذا عذبت هذه النفوس بالنار عذابا يخلصها من ذلك الشر ، ويخرج خبثها ، كان هذا معقولا في الحكمة ، كما يوجد في عذاب الدنيا ، وخلق من فيه شر ، يزول بالتعذيب ، من تمام الحكمة ، أما خلق نفوس شريرة ، لا يزول شرّها البتة ، وإنما خلقت للشر المحض ، وللعذاب السرمد الدائم بدوام خالقها سبحانه ، فهذا لا يظهر موافقته للحكمة والرحمة ، وإن دخل تحت القدرة ، فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليس

__________________

(١) معصية : هكذا في المطبوع والسياق يقتضي أن تكون (مفضية).

٦٥١

بالبيّن ، فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تكع (١) فيها عقول العقلاء.

وكنت سألت عنها شيخ الإسلام ، قدس الله روحه ، فقال لي : هذه المسألة عظيمة كبيرة ، ولم يجب فيها بشيء ، فمضى على ذلك زمن ، حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكشي بعض تلك الآثار التي ذكرت ، فأرسلت إليه الكتاب ، وهو في مجلسه الأخير ، وعلّمت على ذلك الموضع ، وقلت للرسول : قل له : هذا الموضع يشكل عليه ، ولا يدري ما هو ، فكتب فيها مصنفه المشهور ، رحمة الله عليه ، فمن كان عنده فضل علم ، فليحدثه ، فإنّ فوق كلّ ذي علم عليم.

وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ووصف ذلك أحسن صفة ، ثم قال : ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء.

وعلى مذهب عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، حيث يقول : لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارا ، وذكر ذلك في تفسير قوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ (١٢٨)) [الأنعام].

وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول : انتهى القرآن كله إلى هذه الآية : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)) [هود].

وعلى مذهب قتادة حيث يقول في قوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ (١٠٧)) [هود] الله أعلم بتبينه على ما وقعت.

__________________

(١) أي : تجهد وتتعب فيها عقول العقلاء.

٦٥٢

وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : عطاء غير مجذوذ ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. والقول بأنّ النار وعذابها دائم بدوام الله ، خبر عن الله بما يفعله ، فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك ، وإلا كان قولا عليه بغير علم ، والنصوص لا تفهم ذلك ، والله أعلم.

فصل

وهاهنا مذاهب أخرى باطلة ، منها قول من قال : إنهم يعذبون في النار مدة لبثهم في الدنيا. وقول من قال : إنها تنقلب عليهم طبيعة نارية ، يلتذون بها كما يلتذ صاحب الجرب بالحكّ. وقول من يقول : إنها تفنى هي والجنة جميعا ، ويعودان عدما. وقول من يقول : تفنى حركاتها ، وتبقى أهلها في سكون دائم.

ولم يوفّق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ومن سلك سبيلهم ، وبالله التوفيق.

فصل

فإن قيل : فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين ، وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)) [يوسف] وقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)) [سبأ]

٦٥٣

وقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ (٢٤)) [ص] وقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (١١٦)) [الأنعام] وبعث النار من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون ، وواحد إلى الجنة؟ وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة ، وعن الحكمة البالغة ، وهلّا كان الأمر بالضد من ذلك؟.

قيل : هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة ، وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء ، وسبقت الغضب وغلبته ، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول : المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني ، كما في المسند والترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة ، قبضها من جميع الأرض ، فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك» (١).

فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم ، ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها ، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالا (٢) ولا يغفل عنه ، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا ، وبالهوى الذي أمر بمخالفته ، هذا على ضعفه وحاجته ، وزين له حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، وأمره بترك قضاء أوطاره (٣) وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة ، إلى دار أخرى غايته ، إنما تحصل فيها بعد طيّ الدنيا ، والذهاب بها. وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد ، وأن يذهب كلهم مع

__________________

(١) مر سابقا.

(٢) يألو : يستطيع. خبالا : هلاكا ، عناء ، نقصانا.

(٣) أوطار : حاجات ، جمع حاجة ، ومفرد أوطار : وطر.

٦٥٤

ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة ، فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم ، بل أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه ، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم ، فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا ، على هذا العاجل الحاضر المشاهد ، وقالوا : كيف يباع نقد حاضر ، وهو قبض باليد ، بنسيئة مؤخّرة ، وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ، ولسان حال أكثرهم يقول :

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به

فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله ، فأمدّه بقوة إيمان وبصيرة رأي في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها ، وما أعدّ الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ، ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقلّة وفائها وظلم شركائها ، وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد ، وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرّا ، ثم يكون حطاما ، فنشأنا في هذه الدار ، ونحن منها وبنوها ، لا نألف غيرها ، وحكمت العادات ، وقهر السلطان الهوى ، وساعده داعي النفوس ، وتقاضاه موجب الطباع ، وغلب الحسّ على العقل ، وكانت الدولة له. والناس على دين الملك. ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب ، ويقطع هذه العلائق ، ويخالف العوائد ، ولا يستجيب لدواعي الطبع ، ويعصي سلطان الهوى ، لا يكون إلا الأقل ، ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية ، لخفة النار وطيشها ، وكثرة نقلتها ، وسرعة حركتها ، وعدم ثباتها. والماء المادة الملكية ، فتربه من ذلك ، فلذلك كان المخلوق خيرا كله.

فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث ، واقتضت الحكمة

٦٥٥

أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة ، ولو كانوا على غير ذلك ، لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية ، وظهور آثار الأسماء والصفات ، فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين ، لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجلّ أنواع العبودية ، وفات الكمال المترتب على ذلك ، فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين ، في المخلوق من هذه المواد ، ثم إنه سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ، ويمحّصه ، ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين ، ويلقي خبيثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ ، وهذا غاية الحكمة ، كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها ، من الذهب والفضة والحديد والصفر ، فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها ، والناس زرع الأرض ، والخير الصافي من الزرع بعد زوانه (١) وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء ، وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية ، كالحطب والشوك للثمر ، والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.

فصل

الوجه السابع والثلاثون : قوله : وأيّ حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه ، يسومونهم سوء العذاب؟ فكم لله في ذلك من حكم باهرة ، منها حصول محبوبه من عبودية الصبر والجهاد ، وتحمّل الأذى فيه ، والرضى عنه في السراء والضراء ، والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته ، وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ، ببذل نفوسهم

__________________

(١) نبات يخالط البرّ (القمح).

٦٥٦

له ، وأذى أعدائه لهم ، وتميز الصادق من الكاذب ، ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف ، وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ، ولا شيء أبرّ عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ، ومجاهدة عدوه ، فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة ، وإذا شئت أن تعلم ذلك ، فتأمل الآيات من أواخر آل عمران ، من قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ (١٣٧)) [آل عمران] إلى قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)) [آل عمران] إلى قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (١٧٩)) [آل عمران].

فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط ، ولو لا ذلك التسليط ، لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ، ولا حلاوة النصر والظفر والقهر ، فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ، ولو لا ذلك التسليط ، لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت ، فاستخرج ذلك التسليط ، من القوة إلى الفعل ، ما عند أوليائه ، فاستحقوا كرامتهم عليه ، وما عند أعدائه ، فاستحقوا عقوبتهم عليه ، فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين ، وهو العزيز الحكيم.

الوجه الثامن والثلاثون : قوله : وأيّ حكمة في تكليف الثقلين ، وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق؟.

فاعلم أنه لو لا التكليف ، لكان خلق الإنسان عبثا وسدى ، والله يتعالى عن ذلك ، وقد نزه نفسه عنه ، كما نزّه نفسه عن العيوب والنقائص ، قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)) [المؤمنون] وقال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)) [القيامة].

قال الشافعي : لا يؤمر ولا ينهى.

٦٥٧

ومعلوم أنّ ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة ، فإنه خلق لغاية كماله ، وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات] وقال : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)) [الطلاق] وقال : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)) [المائدة].

فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر ، وهما أعظم كمال الإنسان ، والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرّضه لهذا الكمال ، وهيّأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ، ومكّنه منها.

ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان ، وهي ترجع إلى شكر النعم كلها دقيقها وجليلها منه ، وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامل به ، فتذكر آلاؤه وتشكر ، فلا يكفر ، ويطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، هذا مع تضمن التكليف لإيصاف العبد بكل خلق جميل ، وإثباته بكل فعل جميل ، وقول سديد ، واجتنابه لكل خلق سيّئ ، وترك كل فعل قبيح وقول زور ، فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة ، وتكميل نفسه بأنواع الكمالات ، وهجر أضداد ذلك ، والتنزه عنها ، مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ، ومجاورة ربه في دار البقاء ، فأيّ الأمرين أليق بالحكمة ، هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير ، يأكل ويشرب وينكح كالبهائم ، أيقتضي كماله المقدس ذلك ، فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم.

وكيف يليق بذلك الكمال طيّ بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب ، وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام! وهل عرف الله من جوّز عليه خلاف ذلك ، وهل ذلك إلا من سوء الظن به ، قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ (٩١)) [الأنعام] فحسن

٦٥٨

التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول ، بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام ، ولهذا سمى سبحانه ذلك نعمة ومنة وفضلا ورحمة ، وأخبر أنّ الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار.

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً (٢٨)) [إبراهيم] فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعثه به من الهدى ودين الحق ، وقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)) [آل عمران] وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)) [الجمعة] وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) [الأنبياء] وقال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)) [يونس] وقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (٣)) [المائدة] وقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (٢٣١)) [البقرة] وقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)) [الحجرات] وقال لرسوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)) [النساء].

وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة ، وهل في العقول السليمة والفطر المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته.

٦٥٩

الوجه التاسع والثلاثون : قوله في مناظرة الأشعري للجبائي في الإخوة الثلاثة ، الذين مات أحدهم صغيرا ، وبلغ الآخر كافرا ، والثالث مسلما : إنها مناظرة كافية في إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الأصلح.

فلعمر الله! إنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربّهم مراعاة الأصلح لكل عبد ، وهو الأصلح عندهم ، فيشرعون له شريعة بعقولهم ، ويحجرون عليه ويحرمون عليه أن يخرج عنها ، ويوجبون عليه القيام بها ، وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله ، وأعظمهم تعطيلا عن صفات كماله ، فنزهوه عن صفات الكمال ، وشبهوه بخلقه في الأفعال ، وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة بآراء الرجال ، وسمّوا ذلك عدلا وتوحيدا بالزور والبهتان ، وتلك تسمية ما أنزل الله بها من سلطان. فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله والتوحيد وإثبات صفات كماله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ (١٩)) [آل عمران] فهذا العدل والتوحيد الذي جاء به المرسلون ، وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطلون.

والمقصود : أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء ، وزلزلت قواعدهم ، فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه ، وطوى بساط الإحاطة بها عنهم ، ولم يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا ، فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي أخرمه صغيرا ، وحكمة في الذي مدّ له في العمر حتى بلغ ، وأسلم ، وحكمة في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر ، ولو كان كلّ من علم أنه إذا بلغ ، يكفر يخترمه صغيرا ، لتعطّل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها ، ولم يكن هناك معارض ، وكان الناس أمّة واحدة ، ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم ، ووقائعه وأيامه في أعدائه ،

٦٦٠