شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

سبحانه في العقول ، وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض ، ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض ، بل يقال بها كلها ، ويذهب إلى موجبها ، فإنها يصدّق بعضها بعضا ، وإنما يعارض بينهما من ضعفت بصيرته ، وإن كثر كلامه وكثرت شكوكه ، والعلم أمر آخر وراء الشكوك والإشكالات ، ولهذا تناقض الخصوم.

وهذا رأس مال المتكلّمين ، والقول الحق لم ينحصر في هذه الأقوال التي حكوها في المسألة.

والصواب أن يقال : تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه ، فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد ، خلق له القدرة والداعي إلى فعله ، فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى مسبّبه ، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق ، فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين ، قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر ، وهي جزء سبب ، وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير. والتعبير عن هذا المعنى ، بمقدور بين قادرين ، تعبير فاسد وتلبيس ، فإنه يوهم أنهما متكافئان في القدرة ، كما تقول : هذا الثوب بين هذين الرجلين ، وهذه الدار بين هذين الشريكين ، وإنما المقدور واقع بالقدرة الحادثة وقوع المسبب بسببه ، والسبب أو المسبّب والفاعل والآلة كله أثر القدرة القديمة ، ولا نعطّل قدرة الرب سبحانه عن شمولها وكمالهما وتناولها لكل ممكن ، ولا نعطل قدرة الرب التي هي سبب عما جعلها الله سببا له ومؤثرة فيه ، وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته ، وكل ما سواه مخلوق له ، وهو أثر قدرته ومشيئته ، ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله ، أو القول بوجود مخلوق لا خالق له ، فإنّ فعل العبد إن لم يكن مخلوقا لله ، كان مخلوقا للعبد ، إما استقلالا ، وإما على سبيل الشركة ، وإما أن يقع بغير خالق ، ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر

٣٨١

دخول الأفعال تحت قدرة الرب ومشيئته وخلقه ، وإذا عرف هذا ، فنقول : الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا ، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه ، وبقدرة العبد سببا ومباشرة ، والله خلق الفعل ، والعبد فعله وباشره ، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الربّ ومشيئته.

فصل

قال الجبري : لو كان العبد فاعلا لأفعاله ، لكان عالما بتفاصيلها ، لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص ، فوقوعه على ذلك الوجه مشروط بالعلم بتفصيله ، ومعلوم أنّ النائم والغافل قد يفعل الفعل ، ولا يشعر بكيفية ولا قدرة ، وأيضا فالمتحرك يقطع المسافة ، ولا شعور له بتفاصيل الحركة ولا أجزاء المسافة ، ومحرك إصبعه محرك لأجزائها ، ولا يشعر بعدد أجزائها ولا بعدد أحيازها ، والمنفس يتنفس باختياره ، ولا يشعر في الغالب بنفسه فضلا عن أن يشعر بكميته وكيفيته ومبدئه ونهايته ، والغافل قد يتكلم بالكلمة ، ويفعل الفعل باختياره ، ثم بعد فراغه منه ، يعلم أنه لم يكن قاصدا له ، فنحن نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا ، في حالة المشي والقيام والقعود ، ولو أردنا فصل كلّ جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به ، لم يمكنّا ذلك ، بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء ، فما الظنّ بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها حتى الذر والبعوض ، وهذا مشاهد في السكران ، ومن اشتدّ به الغضب ، ولهذا قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (٤٣)) [النساء].

٣٨٢

فدلّ على أنّ السكران يصدر منه أقوال ، لا يعلم بها ، فكيف يكون هو المحدث لتلك الأقوال ، وهو لا يشعر بها؟! والإرادة فرع الشعور ، ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران ، نزّلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا طلاق في الإغلاق» (١) لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة ، فكيف يكون التطليق فعله ، وهو غير عالم به ولا مريد له؟ وأيضا فقد قال جمهور الفقهاء : إنّ الناسي غير مكلّف ، لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار ، ففعله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره.

وقد أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المعنى بعينه في قوله : «من أكل أو شرب ناسيا فليتمّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (٢).

فأضاف فعله إلى الله لا إليه ، فلم يكن له فعل في الأكل والشرب ، فلم يفطر به.

قال السني : هذا موضع تفصيل ، لا يليق به الإجمال ، فنقول : ما يصدر من العبد من الأفعال ينقسم أقساما متعددة ، بحسب قدرته وعلمه وداعيته وإرادته ، فتارة يكون ملجأ إلى الفعل ، لا إرادة له فيه بوجه ما ، كمن أمسكت يده وضرب بها غيره ، أو أمسكت إصبعه ، وقلع بها عين غيره ، فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح ، ولهذا لا يترتب عليه حكم البتة ، ولا يمدح عليه ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب ، وهذا لا يسمى فاعلا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، وتارة يكون مكرها على أن يفعل ، فهذا فعله يضاف إليه ، وليس كالملجإ الذي لا فعل له ، واختلف الناس هل يقال : إنه فعل باختياره ، وإنه

__________________

(١) مر سابقا.

(٢) رواه البخاري (١٩٣٣) عن أبي هريرة.

٣٨٣

يختار ما فعله ، أولا يطلق عليه ذلك ، على قولين.

والتحقيق أنّ النزاع لفظي ، فإنه فعل بإرادة ، هو محمول عليها مكره عليها ، فهو مكره مختار ، مكره على أن يفعل بإرادته ، مريد ليفعل ما أكره عليه ، فإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته ، وإن كان كارها للفعل ، فالمكره مختار ، وأيضا فهو مختار ليفعل ما أكره ، لتخلصه به مما هو أكره إليه من الفعل ، فلما عرض له مكروهان ، أحدهما أكره إليه من الآخر ، اختار أيسرهما دفعا لأشقّهما ، ولهذا يقتل قصاصا ، إذا قتل ، عند الجمهور ، والملجأ لا يقتل باتفاق الناس ؛ ومما يوضح هذا أن المكره على التكلم لا يتأتى منه التكلم إلا باختياره وإرادته ، ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء ، والجمهور قالوا : لا يقع يقع لأنّ الله جعل كلام المكره على كلمة الكفر لغوا ، لا يترتب عليه أثره ، لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعا عن نفسه ، فلم يقصد معناه وموجبه ، حتى قال بعض الفقهاء : لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم يقع طلاقه ، لأن قوله هدر ولغو عند الشارع ، فوجوده كعدمه في حكمه ، فبقي مجرد القصد ، وهو غير موجب للطلاق ، وهذا ضعيف ، فإنّ الشارع إنما ألغى قول المكره ، إذا تجرد عن القصد ، وكان قلبه مطمئنا بضده ، فأما إذا قارن اللفظ القصد ، واطمأن القلب بموجبه ، فإنه لا يعذر.

فإن قيل : فما تقولون فيمن ظنّ أن الإكراه لا يمنع وقوع الطلاق ، فقصده جاهلا بأن الإكراه مانع من وقوعه؟.

قيل : هذا لا يقع طلاقه ، لأنه لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه ، إذا تكلم به ، كان حكم قصده حكم لفظه ، فإنه إنما قصده دفعا عن نفسه ، لما علم أنه لا يتخلص إلا به ، ولم يظن أن الكلمة بدون القصد لغو ، ودهش عن ذلك ، ولا وطر له في الطلاق ، فهذا لا يقع ، بخلاف الأول ، فإنه لما أكره على الطلاق ، نشأ له قصد طلاقها ، إذ لا غرض له أن يقيم مع

٣٨٤

امرأة ، أكره على طلاقها ، وإن كان لو لم يكره ، لم يبتدئ طلاقها ، والمقصود أنّ المكره مريد لفعله غير ملجأ إليه.

فصل

وأما أفعال النائم فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه ، والكلام المفيد ، واختلف الناس هل تلك الأفعال مقدورة له ، أو مكتسبة ، أو ضرورية ، بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت التكليف.

فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية : هي مقدورة له ، والنوم لا يضاد القدرة ، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات.

وذهب أبو إسحاق وغيره إلى أن ذلك الفعل غير مقدور له ، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم.

وذهب القاضي أبو بكر وكثير من الأشعرية إلى أنّ فعل النائم ، لا يقطع بكونه مكتسبا ، ولا بكونه ضروريا ، وكل من الأمرين ممكن.

قال أصحاب القدرة : كان النائم قادرا في يقظته ، وقدرته باقية ، والنوم لا ينافيها ، فوجب استصحاب حكمها.

قالوا : وأيضا فالنائم إذا انتبه ، فهو على ما كان عليه في نومه ، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم ، وهو قادر بعد الانتباه ، وزوال النوم غير موجب للاقتدار ، ولا وجوده نافيا للقدرة.

قالوا : وأيضا قد يوجد من النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة ، لكان

٣٨٥

واقعا على حسب الداعي والاختيار ، والنوم وإن نافى القصد ، فلا ينافي القدرة.

قال النافون للقدرة : قولكم : النوم لا ينافي القدرة ، دعوى كاذبة ، فإنّ النائم منفعل محض ، متأثر صرف ، ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه ، وقولكم : لم يتجدد له أمر غير زوال النوم ، فالتجدد زوال المانع من القدرة ، فعاد إلى ما كان عليه ، كمن أوثق غيره رباطا ، ومنعه من الحركة ، فإذا حل رباطه ، تجدد زوال المانع. قالوا : نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المرتعش والمفلوج ، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له ، وحركة المرتعش غير مقدورة له.

والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة ، وكما فرّقنا في حقّ المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه ، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.

فصل

وأما زائل العقل بجنون أو سكر ، فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجأ ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العامل العالم بما يفعله ، بل هي قسم آخر من الاضطرارية ، وهي جارية مجرى أفعال الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له بل لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها ، وله إرادة يقصد بها ، وقدرة ينفذ بها ، وإن كان داعيه نوع آخر غير داعي العاقل العالم بما يفعله ، فلا بد أن يتصور ما في الفعل من الغرض ، ثم يريده ويفعله ، وهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة والقدرة ، والدواعي والإرادات تختلف ، ولهذا

٣٨٦

لا يكلف أحد هؤلاء بالفعل ، فأفعاله لا تدخل تحت التكليف ، وليست كأفعال الملجأ ولا المكره ، وهي مضافة إليهم مباشرة ، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خلقا ، فهي مفعولة ، وأفعال لهم ، والساهي الذي يفعل الفعل ، مع غفلته وذهوله ، فهو إنما يفعله بقدرته ، إذ لو كان عاجزا ، لما تأتّى منه الفعل ، وله إرادة ، لكنه غافل عنها ، فالإرادة شيء ، والشعور بها شيء آخر ، فالعبد قد يكون له إرادة ، وهو ذاهل عن شعوره بها ، لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر ، منعه من الشعور بالإرادة ، فعملت عملها ، وهي غير مشعور بها ، وإن كان لا بدّ من الشعور عند كل جزء من أجزائه ، وبالله التوفيق.

وبالجملة فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة ، وأما الشعور به على التفصيل فلا يستلزمه.

فصل

قال الجبري : ضلال الكافر وجهله عند القدريّ مخلوق له ، موجود بإيجاده اختيارا ، وهذا ممتنع ، فإنه لو كان كذلك ، لكان قاصدا له ، إذ القصد من لوازم الفعل اختيارا ، واللازم ممتنع ، فإنّ عاقلا لا يريد لنفسه الضلال والجهل ، فلا يكون فاعلا له اختيارا.

قال السني : عجبا لك أيها الجبريّ : تنزّه العبد أن يكون فاعلا للكفر والجهل والظلم ، ثم تجعل ذلك كله فعل الله سبحانه ، ومن العجب قولك : إن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل ، وأنت ترى كثيرا من الناس يقصد لنفسه ذلك عنادا وبغيا وحسدا ، مع علمه بأنّ الرشد والحقّ في خلافه ،

٣٨٧

فيطيع دواعي هواه وغيّه وجهله ، ويخالف داعي رشده وهداه ، ويسلك طريق الضلال ، ويتنكّب عن طريق الهدى ، وهو يراهما جميعا.

قال أصدق القائلين : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦)) [الأعراف].

وقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (١٧)) [فصلت].

وقال تعالى عن قوم فرعون : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا (١٤)) [النمل].

وقال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)) [العنكبوت].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (١٠٢)) [البقرة].

وقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (٩٠)) [البقرة].

وقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)) [آل عمران].

وقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ (٩٩)) [آل عمران].

وهذا في القرآن كثير ، يبين سبحانه فيه اختيارهم الضلال والكفر عمدا ، على علم ، هذا وكم من قاصد أمرا ، يظن أنه رشد ، وهو ضلال وغي.

٣٨٨

فصل

قال الجبري : لو جاز تأثير قدرة العبد في القول بالإيجاد ، لجاز تأثيرها في إيجاد كلّ موجود ، لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات الممكنة ، وإن اختلفت محالّه وجهاته ، ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة تأثيرها في جميعه ، لاتحاد المتعلق ، وإنّ ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر ، وأيضا فالمصحح للتأثير هو الإمكان ، ويلزم من الاشتراك في المصحح للتأثير الاشتراك في الصحة ، ومعلوم قطعا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام ، وأكثر الأعراض ، إنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة لمحل قدرته.

قال السني : لقد كشف الله عوار مذهب ، يكون إثباته مستندا إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها أنه يلزم من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل ، ومن إمكان حمله لرطل ، إمكان حمله لمائة ألف رطل ، ومن إيجاده للفعل القائم به ، من الأكل والشرب والصلاة وغيرها ، صحة إيجاده لخلق السموات والأرض وما بينهما ، وهل سمع في الهذيان بأسمج من هذا وأغثّ منه ، واشتراك الموجودات في مسمّى الوجود الكلي العام ، لا يلزم منه أنّ ما جاز على موجود ما جاز على كل موجود ، وهذا أسمج من الأول وأبين فسادا ، ولا يلزم من ذلك تماثل البعوضة والفيل ، وتماثل الأجسام والأعراض. ومن يجعل من الجبرية للقدرة الحادثة تعلّقا ما بفعل العبد ، يعترف بالفرق ، ويقول : قدرته تتعلق ببعض الأعراض ، ولا تتعلق بالأجسام ، ولا بكل الأعراض ، فإن احتج على إبطال التأثير بهذه

٣٨٩

الشبهة الغثّة ، ألزم بها بعينها في عموم تعلق قدرته بكل موجود.

فصل

قال الجبري : دليل التوحيد ينفي كون العبد فاعلا ، وأن يكون لقدرته تأثير في فعله وتقريره ، بدليل التمانع.

قال السني : دليل التوحيد إنما ينفي وجود ربّ ثان ، ويدل على أنه لا ربّ إلا هو سبحانه ، ولا يدل على امتناع وجود مخلوق ، له قدرة وإرادة مخلوقة ، يحدث بها ، وهو وقدرته وإرادته وفعله مخلوق لله ، فهو بعد طول مقدماته ، واعتراف فضلائكم بالعجز عن تقريره ، وذكر ما في مقدماته من منع ومعارضة ، إنما ينفي وجود قادرين متكافئين ، قدرة كل واحد منهما من لوازم ذاته ، ليست مستفادة من الآخر ، وهو دليل صحيح في نفسه ، وإن عجزتم عن تقريره ، ولكن ليس فيه ما ينفي أن تكون قدرة العبد وإرادته سببا لوجود مقدوره ، وتأثيرها فيه تأثير الأسباب في مسبباتها ، فلا للتوحيد قررتم ، بدليل التمانع ، ولا للجبر ، وقد كفانا أفضل متأخّريكم بيان تنافي هذا الدليل ، من الممنوع والمعارضات.

قال الجبري : دعنا من هذا كلّه ، أليس في القول بتأثير قدرة العبد في مقدوره ، مع الاعتراف بأنّ الله سبحانه قادر على مقدور العبد ، إلزام وقوع المقدور الواحد بين القادرين؟ والدليل ينفيه.

قال السني : ما تعني بقولك : يلزم وقوع مقدور بين قادرين ، أتعني به قادرين مستقلين متكافئين ، أم تعني به قادرين ، تكون قدرة أحدهما مستفادة

٣٩٠

من الآخر؟ فإن عنيت الأول ، منعت الملازمة ، وإن عنيت الثاني ، منع انتفاء اللازم ، ومثبتو الكسب يجيبون عن هذا بأنه لا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين ، لقدرة أحدهما تأثير في إيجاده ، ولقدرة الآخر تأثير في صفته ، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن تبعه ، والأشعريّ يجيب عنه على أصله بأنّ الفعل وقع بين قادرين ، لا تأثير بقدرة أحدهما في المقدور ، بل تعلّق قدرته بمقدورها كتعلّق العلم بمعلومه ، وإنما الممتنع عنده وقوع مقدور بين قادرين مؤثرين ، وهذا الاعتذار لا يخرج عن الجبر ، وإن زخرفت له العبارات.

وأجاب عنه الحسينية بما حكيناه ، أنه لا يمتنع مقدور بين قادرين على سبيل البدل ، ويمتنع على سبيل الجمع ، وقد تقدّم فساده ، وأجاب عنه المشايخية بأنه مقدور للعبد ، وليس مقدورا للرب ، وهذا أبطل الأجوبة وأفسدها ، والقائلون به يقولون : إن الله ، سبحانه عن إفكهم ، يريد الشيء ، فلا يكون ، ويكون الشيء بغير إرادته ومشيئته ، فيريد ما لا يكون ، ويكون ما لا يريد ، وكفى بهذا بطلانا وفسادا.

قال الجبري : الفعل عند المرجح التام واجب ، والمرجح ليس من العبد ، وإلا لزم التسلسل ، فهو من الرب ، فإذا وجب الفعل عنده ، فهو الجبر بعينه.

قال السني : قد تقدم هذا الدليل وبيان ما فيه ، وحيث أعدتموه بهذه العبارة الوجيزة المختصرة ، فنحن نذكر الأجوبة عنه كذلك.

قولكم : لا بد من مرجح يرجّح الفعل على الترك أو بالعكس مسلم.

قولكم : المرجح إن كان من العبد ، لزم التسلسل ، وإن كان من الرب لزم الجبر.

جوابه : ما المانع أن يكون من فعل العبد ، ولا يلزم التسلسل بأن يكون

٣٩١

من فعله على وجه ، لا يكون الترك ممكنا له حينئذ ، ولا يلزم من سلب الاختيار عنه في فعل المرجح سلبه عنه مطلقا؟ ثم ما المانع أن يكون المرجح من فعل الله ، ولا يلزم الجبر؟ فإنكم إن عنيتم بالجبر أنه غير مختار للفعل ، ولا مريد له ، لم يلزم الجبر بهذا الاعتبار ، لأن الرب سبحانه جعل المرجح اختيار العبد ومشيئته ، فانتفى الجبر ، وإن عنيتم بالجبر أنه وجد ، لا بإيجاد العبد ، لم يلزم الجبر أيضا بهذا الاعتبار ، وإن عنيتم أنه يجب عند وجود المرجح ، وأنه لا بد منه ، فنحن لا ننفي الجبر بهذا الاعتبار ، وتسمية ذلك جبرا اصطلاح يختص بكم ، وهو اصطلاح فاسد ، فإنّ فعل الرب سبحانه يجب عند وجود مرجحه التام ، ولا يكون ذلك جبرا بالنسبة إليه سبحانه ، ثم هذا لازم على من أثبت الكسب منكم ، فنقول له في الكسب ما قاله في أصل الفعل سواء ، ومن لم يثبت الكسب ، لزم ذلك في فعل الرب كما تقدم.

فإن قلتم : الفرق أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة ، وإرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى محدث ، فإن كان ذلك المحدث هو العبد ، لزم التسلسل ، فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية ، يخلقها الله في القلب ابتداء ، ويلزم منه الجبر ، بخلاف إرادة الرب سبحانه ، فإنها قديمة مستغنية عن إرادة أخرى ، فلا تسلسل.

قيل لكم : لا يجدي هذا عليكم في دفع الإلزام ، فإنّ الإرادة القديمة إما أن يصحّ معها الفعل بدلا عن الترك وبالعكس ، أو لا ، فإن كان الأول ، فلا بدّ لأحد الطرفين من مرجح ، والكلام في ذلك المرجح كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل ، وإن كان الثاني لزم الجبر.

قال الجبري : معتمدي في الجبر على حرف ، لا خلاص لكم منه ، إلا بإلزام الجبر ، وهو أنّ العبد لو كان فاعلا لفعله ، لكان محدثا له ، ولو كان

٣٩٢

محدثا له ، لكان خالقا له ، والشرع والعقل ينفيه قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)) [فاطر].

قال السني : قد دلّ العقل والشرع والحس على أن العبد فاعل له ، وأنه يستحق عليه الذمّ واللعن ، كما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه رأى حمارا قد وسم في وجهه ، فقال : «ألم أنه عن هذا؟! لعن الله من فعل هذا» (١).

وقال تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ (٧٤)) [الأنبياء] وقال : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)) [النمل] وقال : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ (٧٠)) [الزمر].

وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ، والحسّ شاهد به ، فلا تقبل شبهة تقام على خلافه ، ويكون حكم تلك الشبهة حكم القدح في الضروريات ، فلا يلتفت إليه ، ولا يجب على العالم حلّ كلّ شبهة تعرض لكل أحد ، فإنّ هذا لا آخر له ، فقولكم : لو كان فاعلا لفعله ، لكان محدثا له ، إن أردتم بكونه محدثا صدور الفعل منه ، اتحد اللازم والملزوم ، وصار حقيقة قولكم : لو كان فاعلا لكان فاعلا ، وإن أردتم بكونه محدثا كونه خالقا ، سألناكم ، ما تعنون بكونه خالقا ، هل تعنون به كونه فاعلا ، أم تعنون به أمرا آخر؟ فإن أردتم الأول ، كان اللازم فيه عين الملزوم ، وإن أردتم أمرا آخر غير كونه فاعلا ، فبيّنوه.

فإن قلتم : نعني به كونه موجدا للفعل من العدم إلى الوجود.

قيل : هذا معنى كونه فاعلا ، فما الدليل على إحالة هذا المعنى؟ فسمّوه ما

__________________

(١) روى أصل الحديث : مسلم (٢١١٧) عن جابر و (٢١١٨) عن ابن عباس. وقد قال مثل هذا القول عند ما رأى رجلين يتعاطيان سيفا مسلولا أيضا.

٣٩٣

شئتم إحداثا أو إيجادا أو خلقا ، فليس الشأن في التسميات ، وليس الممتنع إلا أن يكون مستقلا بالإيجاد ، وهذا غير لازم لكونه فاعلا ، فإنا قد بينا أن غاية قدرة العبد وإرادته وداعيه وحركته أن تكون جزء سبب ، وما توقف عليه الفعل من الأسباب التي لا تدخل تحت قدرته أكثر من الجزء الذي إليه بأضعاف مضاعفة ، والفعل لا يتم إلا بها.

فإن قيل : فهذا الجبر بعينه ، قيل : ذلك السبب الذي أعني به من القدرة والإرادة هو الذي أخرجه من الجبر وأدخله في الاختيار ، وكون ذلك السبب من خالقه وفاطره ومنشيه هو الذي أخرجه من الشّرك والتعطيل ، وأدخله في باب التوحيد ، فالأول أدخله في باب العدل ، والثاني أدخله في باب التوحيد ، ولم يكن ممّن نقض التوحيد بالعدل ، ولا ممن نقض العدل بالتوحيد ، فهؤلاء جنوا على التوحيد ، وهؤلاء جنوا على العدل ، وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

٣٩٤

الباب العشرون

في ذكر مناظرة بين قدري وسني

قال القدري : قد أضاف الله الأعمال إلى العباد بأنواع الإضافة العامة والخاصة ، فأضافها إليهم بالاستطاعة تارة ، كقوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ (٢٥)) [النساء] ، وبالمشيئة تارة ، كقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)) [التكوير] ، وبالإرادة تارة ، كقول الخضر : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (٧٩)) [الكهف] ، وبالفعل والكسب والصنع ، كقوله : يفعلون ، يعملون ، بما كنتم تكسبون ، لبئس ما كانوا يصنعون. وأما بالإضافة الخاصة فكإضافة الصلاة والصيام والحج والطهارة والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق وسائر أفعالهم إليهم ، وهذه الإضافة تمتنع إضافتها إليه ، كما أن إضافة أفعاله تعالى تمتنع إضافتها إليهم ، فلا تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم ، ولا إليه معهم ، فهي إذا مضافة إليهم دونه.

قال السني : هذا الكلام مشتمل على حقّ وباطل ، وأما قولك إنه أضاف الأفعال إليهم ، فحقّ لا ريب فيه ، وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية ، وهم يجيبونك بأن هذا الإسناد لا حقيقة له ، وإنما هو نسبة مجازية ، صحّحها قيام الأفعال بهم كما يقال : جرى الماء ، وبرد وسخن ، ومات زيد ، ونحن نساعدك على بطلان هذا الجواب ومنافاته للعقول والشرائع والفطر ، ولكن قولك : هذه الإضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه ،

٣٩٥

كلام فيه إجمال وتلبيس ، فإن أردت بمنع الإضافة إليه منع قيامها به ووصفه بها وجريان أحكامها عليه واشتقاق الأسماء منه له ، فنعم! هي غير مضافة إليه بشيء من هذه الاعتبارات والوجوه ، وإن أردت بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها وقدرته عليها ومشيئته العامة وخلقه ، فهذا باطل ، فإنها معلومة له سبحانه ، مقدورة له ، مخلوقة ، وإضافتها إليهم لا تمنع هذه الإضافة كالأموال ، فإنها مخلوقة له سبحانه ، وهي ملكه حقيقة ، قد أضافها إليهم ؛ فالأعمال والأموال خلقه وملكه ، وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده ، وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها فصحت النسبتان.

وحصول الأموال بكسبهم وإرادتهم كحصول الأعمال ، وهو الذي خلق الأموال وكاسبيها والأعمال وعامليها ، فأموالهم وأعمالهم ملكه وبيده ، كما أنّ أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده ، فهو الذي جعلهم يسمعون ويبصرون ويعملون ، فأعطاهم حاسة السمع والبصر ، وقوة السمع والبصر ، وفعل الأسماع والأبصار ، وأعطاهم آلة العمل وقوة العمل ونفس العمل ، فنسبة قوة العمل إلى اليد والكلام إلى اللسان ، كنسبة قوة السمع إلى الأذن ، والبصر إلى العين ، ونسبة الرؤية والاستماع اختيارا إلى محلهما ، كنسبة الكلام والبطش إلى محلّهما ، وإن كانوا هم الذين خلقوا لأنفسهم الرؤية والسمع ، فهل خلقوا محلهما ، وقوى المحل ، والأسباب الكثيرة التي تصلح معها الرؤية والسمع ، أم الكلّ خلق من هو خالق كل شيء؟ وهو الواحد القهار.

قال القدريّ : لو كان الله سبحانه هو الفاعل لأفعالهم ، لاشتقت له منها الأسماء ، وكان أولى بأسمائها منهم ، إذ لا يعقل الناس على اختلاف لغاتهم وعاداتهم ودياناتهم قائما إلا من فعل القيام ، وآكلا إلا من فعل الأكل ، وسارقا إلا من فعل السرقة ، وهكذا جميع الأفعال لازمها ومتعدّيها ، فقلبتم

٣٩٦

أنتم الأمر ، وقلبتم الحقائق ، فقلتم : من فعل هذه الأفعال حقيقة لا يشتق له منها اسم ، وإنما يشتق منها الأسماء لمن لم يفعلها ، ولم يحدثها ، وهذا خلاف العقول واللغات ، وما تتعارفه الأمم.

قال السني : هذا إنما يلزم إخوانك وخصومك الجبرية القائلين بأنّ العبد لم يفعل شيئا البتة ، وأما من قال : العبد فاعل لفعله حقيقة ، والله خالقه وخالق آلات فعله الظاهرة والباطنة ، فإنه إنما يشتق الأسماء لمن فعل تلك الأفعال ، فهو القائم والقاعد والمصلي والسارق والزاني حقيقة ، فإنّ الفعل إذا قام بالفاعل ، عاد حكمه إليه ، ولم يعد إلى غيره ، واشتقّ له منه اسم ، ولم يشتق لمن لم يقم به ، فههنا أربعة أمور : أمران معنويان في النفي والإثبات ، وأمران لفظيان فيهما ، فلما قام الأكل والشرب والزنا والسرقة بالعبد ، عادت أحكام هذه الأفعال إليه ، واشتقّت له منها الأسماء ، وامتنع عود أحكامها إلى الرب واشتقاق أسمائها له ، ولكن من أين يمنع هذا أن تكون معلومة للرب سبحانه ، مقدورة له ، مكونة له ، واقعة من العباد بقدرة ربهم وتكوينه؟.

قال القدري : لو كان خالقا لها ، لزمته هذه الأمور.

قال السني : هذا باطل ، ودعوى كاذبة ، فإنه سبحانه لا يشتق له اسم مما خلقه في غيره ، ولا يعود حكمه عليه ، وإنما يشتق الاسم لمن قام به ذلك ، فإنه سبحانه خلق الألوان والطعوم والروائح والحركات في محالها ، ولم يشتق له منها اسم ، ولا عادت أحكامها إليه ، ومعنى عود الحكم إلى المحل : الإخبار عنه بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب.

قال السنيّ : ومن هاهنا علم ضلال المعتزلة الذين يقولون : إنّ القرآن مخلوق ، خلقه الله في محل ، ثم اشتق له اسم المتكلم باعتبار خلقه له ،

٣٩٧

وعاد حكمه إليه ، فأخبر عنه أنه تكلم به ، ومعلوم أنّ الله سبحانه خالق صفات الأجسام وأعراضها وقواها ، فكيف جاز أن يشتقّ له اسم مما خلقه من الكلام في غيره ، ولم يشتق له اسم مما خلقه من الصفات والأعراض في غيره؟ فأنت أيها القدريّ نقضت أصولك بعضها ببعض ، وأفسدت قولك في مسألة الكلام بقولك في مسألة القدر ، وقولك في القدر بقولك في الكلام ، فجعلته متكلما بكلام قائم بغيره ، وأبطلت أن يكون فاعل الفعل قائما بغيره ، فإن كنت أصبت في مسألة الكلام ، فقد نقضت أصلك في القدر ، وإن أصبت في هذا الأصل ، لزم خطأك في مسألة الكلام ، فأنت مخطئ على التقديرين.

قال القدري : فما تقول أنت في هذا المقام؟.

قال السني : لا تناقض في هذا ولا في هذا ، بل أصفه سبحانه بما قام به.

وأمتنع من وصفه بما لم يقم.

قال القدري : فالآن حمي الوطيس ، فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقا ورازقا ومميتا ، والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت ، إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه ، فالخلق إما قديم ، وإما حادث ، فإن كان قديما ، لزم قدم المخلوق ، لأنه نسبة بين الخالق والمخلوق ، ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها ، وإن كان حادثا ، لزم قيام الحوادث به ، وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر ، فلزم التسلسل ، فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه ، وقد اشتق له منه اسم.

قال السني : أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء ، كان خيرا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب سبحانه ، فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق ، فإنّ إثبات خالق بلا خلق إثبات اسم لا معنى له وهو كإثبات سميع لا سمع له ،

٣٩٨

وبصير لا بصر له ، ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة ، فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به.

والتعطيل أنواع : تعطيل المصنوع عن الصانع ، وهو تعطيل الدهرية والزنادقة ، وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله ، وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات ، وتعطيله عن أفعاله وهو أيضا تعطيل الجهمية وهم أبناؤه ، ودبّ فيمن عداهم من الطوائف ، فقالوا : لا يقوم بذاته فعل ، لأن الفعل حادث ، وليس محلا للحوادث ، كما قال إخوانهم : لا تقوم بذاته صفة ، لأن الصفة عرض ، وليس محلا للأعراض ، فلو التزم الملتزم أيّ قول التزمه ، كان خيرا من تعطيل صفات الرب وأفعاله ، فالمشبّهة ضلالهم وبدعتهم خير من المعطّلة ، ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات ، وإن كان التعطيلان متلازمين ، لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها ، لا توصف بصفة ، فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج ، ومعطّلة الأفعال خير من معطلة الصفات ، فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل ، وإخوانهم نفوا صفات الذات.

وأهل السمع والعقل وحزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم ، فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى ، إذ جعلها المعطلة مجازا ، لا حقيقة له ، فشرّ هذه الفرق لخيرها الفداء.

والمقصود : أنه أي قول لزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق وتعطيل هذه الصفة عن الله ، وإذا عرض على العقل السليم مفعول لا فاعل له ، ومفعول لا فاعل لفعله ، لم يجد بين الأمرين فرقا في الإحالة ، فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل ، لا فرق بينهما البتة ، فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث ، والقول بقيام الأفعال بذات الرب سبحانه ، والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم بذات الرب سبحانه ، والقول بوجود مفعول بلا فعل ، ولينظر أيّ هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع ،

٣٩٩

وأيها أقرب إليهما.

ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال.

فقالت طائفة : يختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديما قائما بذات الرب سبحانه ، ولا يلزمنا قدم المخلوق المكون ، كما نقول نحن وأنتم : إنّ الإرادة قديمة ، ولا يلزم من قدمها قدم المراد ، وكلّ ما أجبتم به في صورة الإلزام ، فهو جوابنا بعينه في مسألة المكوّن ، وهذا جواب سديد ، وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة.

فإن قلتم : إنما لا يلزم من قدم الإرادة قدم المراد ، لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته ، فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت ، وأما تكوينه وخلقه ، قبل وجوده ، فمحال.

قيل لكم : لسنا نقول : إنه كوّنه قبل وقت كونه ، بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته ، كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته.

فإن قلتم : كيف يعقل تكوين ولا مكوّن؟.

قيل : كما عقلتم إرادة ولا مراد.

فإن قلتم : المريد قد يريد الشيء قبل كونه ، ولا يكونه قبل كونه.

قيل : كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده في الإرادة التي لا تستلزم المراد ، وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده ، وكذلك التكوين يوضحه ، أنّ التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين ، وذلك كله قديم ، ولم يلزم منه قدم المكوّن ، قالوا : وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة ، وعرضنا عليها مفعولا بلا فعل ، بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا ، فهذا جواب هؤلاء.

٤٠٠