شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

فصل

ومن ذلك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥)) [إبراهيم] فها هنا أمران : تجنيب عبادتها واجتنابه ، فسأل الخليل ربه أن يجنّبه وبنيه عبادتها ، ليحصل منهم اجتنابها ، فالاجتناب فعلهم ، والتجنيب فعله ، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.

ونظير ذلك قول يوسف الصديق : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)) [يوسف] وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن ، وتلك أفعال اختيارية ، وهو سبحانه الصارف لها ، فالصّرف فعله ، والانصراف أثر فعله ، وهو فعل النسوة.

ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)) [الإسراء] فالتثبيت فعله ، والثبات فعل رسوله ، فهو سبحانه المثبت وعبده الثابت.

ومثله قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) [إبراهيم] فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين فعله ، فإنه يفعل ما يشاء ؛ وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً

١٦١

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (١٣)) [المائدة] فأخبر أنه هو الذي قسّى قلوبهم حتى صارت قاسية ، فالقساوة وصفها وفعلها وهي أثر فعله ، وهو جعلها قاسية ، وذلك إثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم وتركهم بعض ما ذكروا به ، فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)) [الدخان] وهم إنما خرجوا باختيارهم ، وقد أخبر أنه هو الذي أخرجهم ، فالإخراج فعله حقيقة ، والخروج فعلهم حقيقة ، ولو لا إخراجه لما خرجوا ، وهذا بخلاف قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨)) [نوح] وقوله : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (٢)) [الحشر] وقوله : (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ (٧٨)) [النحل] فإنّ هذا إخراج لا صنع لهم فيه ، فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم ، وأما قوله :(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ (٥)) [الأنفال] فيحتمل أن يكون إخراجا بقدره ومشيئته ، فيكون من الأول ، ويحتمل أن يكون إخراجا يوجبه بأمره ، فلا يكون من هذا ، فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع. أحدها : إخراج الخارج باختياره ومشيئته. والثاني : إخراجه قهرا وكرها. والثالث : إخراجه أمرا وشرعا.

١٦٢

فصل

وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى (١٧)) [الأنفال] وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية ، ولم يفهموا مراد الآية ، وليست من هذا الباب ، فإن هذا خطاب لهم في وقعة بدر ، حيث أنزل الله سبحانه ملائكته ، فقتلوا أعداءه ، فلم يفرد المسلمون بقتلهم ، بل قتلتهم الملائكة. وأما رميه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمقدوره كان هو الحذف والإلقاء ، وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد ، وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم ، فلم يكن من فعله ولكنه فعل الله وحده ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت له الحذف بقوله :

إذ رميت ، ونفى عنه الإيصال بقوله : وما رميت.

فصل

ومن ذلك قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)) [النجم] والضحك والبكاء فعلان اختياريان ، فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة ، والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة ، وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام عن ظاهره بغير موجب ، ولا منافاة بين ما يذكر من تلك التأويلات وبين ظاهره ، فإن إضحاك الأرض بالنبات وإبكاء السماء بالمطر ، وإضحاك العبد وإبكاءه بخلق آلات الضحك والبكاء له ، لا ينافي حقيقة اللفظ وموضوعه ومعناه من أنه جاعل

١٦٣

الضحك والبكاء فيه بل الجميع حق.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً (١٢)) [الرعد] ورؤية البرق أمر واقع بإحساسهم ، فالإراءة فعله ، والرؤية فعلنا ، ولا يقال : إراءة البرق خلقه ، فإن خلقه لا يسمى إراءة ، ولا يستلزم رؤيتنا له ، بل إراءتنا له جعلنا نراه ، وذلك فعله سبحانه. ومن ذلك قول الخضر لموسى : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما (٨٢)) [الكهف] فبلوغ الأشدّ ليس من فعلهما واستخراج الكنز من أفعالهما الاختيارية ، وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه ، ومن ذلك قوله تعالى عن السحرة : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١٠٢)) [البقرة] وليس إذنه هاهنا أمره وشرعه ، بل قضاؤه وقدره ومشيئته ، فهو إذا كوني قدري ، لا دينيّ أمري.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها (٢٦)) [الفتح].

وكلمة التقوى هي الكلمة التي يتّقى الله بها ، وأعلى أنواع هذه الكلمة هي قول لا إله إلا الله ، ثم كل كلمة يتقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى ، وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عباده المؤمنين ، فجعلها لازمة لهم ، لا ينفكّون

١٦٤

عنها ، فبإلزامه التزموها ، ولو لا إلزامه لهم إياها لما التزموها ، والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم ، فهو الملزم وهم الملتزمون.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١)) [المعارج] وهذا تفسير الهلوع ، وهو شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع والمنع ، فأخبر سبحانه أنه خلق الإنسان كذلك ، وذلك صريح في أن هلعه مخلوق لله ، كما أن ذاته مخلوقة ، فالإنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلاقه مخلوق لله ، ليس فيه شيء خلق لله وشيء خلق لغيره ، بل الله خالق الإنسان بجملته وأحواله كلها ، فالهلع فعله حقيقة ، والله خالق ذلك فيه حقيقة ، فليس الله سبحانه بهلوع ، ولا العبد هو الخالق لذلك.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)) [يونس] وإذنه هاهنا قضاؤه وقدره ، لا مجرد أمره وشرعه ، كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية. قال ابن المبارك ، عن الثوري : بقضاء الله. وقال محمد بن جرير : يقول جل ذكره لنبيه : وما لنفس خلقها من سبيل إلى أن تصدقك إلا أن يأذن لها في ذلك ، فلا تجهدن نفسك

١٦٥

في طلب هداها ، وبلّغها وعيد الله ثم خلّها ، فإنّ هداها بيد خالقها ، وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك ، فإنه سبحانه قال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١٠٠)) [يونس] أي : لا تكفي دعوتك في حصول الإيمان حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن ، ثم قال : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)) [يونس].

قال ابن جرير : يقول تعالى : يا محمد ، قل لهؤلاء السائلينك الآيات ، على صحة ما تدعو إليه ، من توحيد الله ، وخلع الأنداد والأوثان : انظروا أيها القوم ، ما ذا في السموات من الآيات الدالة على حقّية ما أدعوكم إليه ، من توحيد الله ، من شمسها وقمرها ، واختلاف ليلها ونهارها ، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها وفي الأرض من جبالها وتصدّعها بنباتها وأقوات أهلها وسائر صنوف عجائبها ، فإنّ في ذلك لكم ، إن عقلتم وتدبرتم ، عظة ومعتبرا ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ، ولا له على حفظه وتدبيره ظهير ، يغنيكم عما سواها من الآيات ، وما يغني عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء ، وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار ، فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك ، ولا يصدقون به ، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣)) [الإسراء].

١٦٦

قال ابن جرير : وكل إنسان ألزمناه ما قضي إليه أنه عامله وما هو صائر إليه ، من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه ، وهذا ما قاله الناس في الآية ، وهو ما طار له من الشقاء والسعادة وما طار عنه من العمل ، ثم ذكر عن ابن عباس قال : طائره : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان وزائل معه أينما زال. وكذلك قال ابن جريج وقتادة ومجاهد : هو عمله. زاد مجاهد : وما كتب له ، وقال قتادة أيضا : سعادته وشقاوته بعمله.

قال ابن جرير : فإن قال قائل ، فكيف قال : ألزمناه طائره في عنقه ، إن كان الأمر على ما وصفت ، ولم يقل : في يديه أو رجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟.

قيل : إن العنق هي موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه ، وإن كان الذي جرّه عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله : «ألزمناه طائره في عنقه».

وقال الفرّاء : الطائر معناه عندهم العمل. قال الزهري : والأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم ، علم المطيع ، من ذريته ، والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى بسعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا ، فطار لكل ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه.

وأما قوله : في عنقه ، فقال أبو إسحاق : إنما يقال للشيء اللازم : هذا في عنق فلان ، أي : لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق. قال أبو علي : هذا مثل قولهم : طوّقتك كذا ، وقلّدتك كذا ، أي : صرفته نحوك ،

١٦٧

وألزمتك إياه ، ومنه : قلّده السلطان كذا أي : صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق. وقيل : إنما خصّ العنق لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرا أو شرا ، وذلك مما يزين أو يشين ، كالحلي والغل ، فأضيف إلى الأعناق.

قالت القدرية : إلزامه ذلك وسمه به وتعليمه بعلامة ، يعرف الملائكة أنه سعيد أو شقي ، والخبر عنه ، لا أنه ألزمه العمل ، فجعله لازما له.

قال أهل السنة : هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه ، سلكتموها في الجسم والطبع والعقل ، وهذا لا يعرفه أهل اللغة ، وهو خلاف حقيقة اللفظ ، وما فسّره به أعلم الأمة بالقرآن ، ولا يعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة البتة ، ولا فسّر الآية غيركم به ، ولا يصحّ حمل الآية ، عليه ، فإنّ الخبر عنه بذلك ، والعلامة أعلم بها ، أنما حصل بعد طائره اللازم له من عمله ، فلما لزمه ذلك الطائر ، ولم ينفكّ عنه ، أخبر عنه بذلك ، وصارت عليه علامة وسمة ، ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر ، فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم ، وكلّ طائفة من أهل البدع تجرّ القرآن إلى بدعها وضلالها ، وتفسره بمذاهبها وآرائها ، والقرآن يريء من ذلك ، وبالله التوفيق.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ (١٣)) [الحجر] وقد وقع هذا المعنى

١٦٨

في القرآن في موضعين ، هذا أحدهما. والثاني : في سورة الشعراء في قوله : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)) [الشعراء].

قال ابن عباس : سلك الشرك في قلوب المكذبين كما سلك الخرزة في الخيط. وقال أبو إسحاق : أي : كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا بمن تقدّم من الرّسل ، كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين. واختلفوا في مفسر الضمير في قوله : نسلكه ، فقال ابن عباس : سلكنا الشرك ، وهو قول الحسن. وقال الزجاج وغيره : هو الضلال. وقال الربيع : يعني الاستهزاء. وقال الفراء : التكذيب.

وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد ، والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة ، وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم. وعندي في هذه الأقوال شيء ، فإنّ الظاهر أن الضمير في قوله : لا يؤمنون به ، هو الضمير في قوله : سلكناه ، فلا يصحّ أن يكون المعنى : لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء ، فلا تصح تلك الأقوال إلا باختلاف مفسر الضميرين ، والظاهر اتحاده ، فالذين لا يؤمنون به ، هو الذي سلكه في قلوبهم ، وهو القرآن ، فإن قيل : فما معنى سلكه إياه في قلوبهم ، وهم ينكرونه قبل سلكه في قلوبهم بهذه الحال ، أي : سلكناه غير مؤمنين به ، فدخل في قلوبهم مكذبا به ، كما دخل في قلوب المؤمنين مصدقا به ، وهذا مراد من قال : إنّ الذي سلكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال ، ولكن فسر الآية بالمعنى ، فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به ، فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم ، فإن قيل : فما معنى إدخاله في قلوبهم ، وهم لا يؤمنون به؟ قيل : لتقوم عليهم بذلك حجة الله ، فدخل في قلوبهم ، وعلموا أنه حقّ ، وكذّبوا به ، فلم يدخل في قلوبهم دخول مصدق به مؤمن به مرضي

١٦٩

به ، وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم ، فإنّ المكذّب بالحق بعد معرفته له شرّ من المكذب به ولم يعرفه ، فتأمله ، فإنه من فقه التفسير ، والله الموفق للصواب.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)) [مريم] فالإرسال هاهنا إرسال كونيّ قدري ، كإرسال الرياح ، وليس بإرسال ديني شرعي ، فهو إرسال تسليط ، بخلاف قوله في المؤمنين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (٤٢)) [الحجر] فهذا السلطان المنفي عنه على المؤمنين هو الذي أرسل به جنده على الكافرين. قال أبو إسحاق : ومعنى الإرسال هاهنا التسليط ، تقول : قد أرسلت فلانا على فلان ، إذا سلطته عليه ، كما قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)) [الحجر] فأعلم أنّ من اتّبعه هو مسلّط عليه ، قلت : ويشهد له قوله تعالى : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)) [النحل].

وقوله : (تؤزهم أزا) فالأزّ في اللغة التحريك والتهييج ، ومنه يقال لغليان القدر : الأزيز ، لتحرك الماء عند الغليان. وفي الحديث : «كان لصدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزيز كأزيز المرجل ، من البكاء» (١). وعبارات السلف تدور على هذا المعنى. قال ابن عباس : تغريهم إغراء. وفي رواية أخرى عنه : تسلّهم سلا ، وفي رواية أخرى : تحرضهم تحريضا. وفي أخرى : تزعجهم للمعاصي

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (٤ / ٢٥ ، ٢٦) ، وأبو داود (٩٠٤) ، والنسائي (٣ / ١٣) عن عبد الله بن الشّخّير.

١٧٠

إزعاجا. وفي أخرى : توقدهم إيقادا أي : كما يتحرك الماء بالوقد تحته. قال أبو عبيدة : الأزيز : الإلهاب والحركة ، كالتهاب النار في الحطب ، يقال : أزّ قدرك ، أي : ألهب تحتها النار ، وائتزت القدر : إذا اشتدّ غليانها. وهذا اختيار الأخفش. والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعا.

قالت القدرية : معنى أرسلنا الشياطين على الكافرين : خلّينا بينهم وبينها ، ليس معناه التسليط. قال أبو علي : الإرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما يريد ، فمعنى الآية : خلّينا بين الشياطين وبين الكافرين ، ولم يمنعهم منهم ، ولم يعدهم ، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم : إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان.

قال الواحدي : وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الآية. قال : وليس المعنى على ما ذهبوا إليه.

وقال أبو إسحاق : والمختار أنهم أرسلوا عليهم ، وقيّضوا لهم بكفرهم كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)) [الزخرف] وقال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ (٢٥)) [فصلت] وإنما معنى الإرسال التسليط.

قلت : وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال كما في الحديث : «إذا أرسلت كلبك المعلم» (١) أي : سلطته ، ولو خلّى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه ، لم يبح صيده ، وكذلك قوله : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١)) [الذاريات] أي : سلطناها وسخرناها عليهم. وكذلك قوله : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣)) [الفيل] وكذلك قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً (٣١)) [القمر].

__________________

(١) رواه البخاري (١٧٥) ، ومسلم (١٩٢٩) عن عديّ بن حاتم.

١٧١

والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ، ولا يتم التسليط إلا به ، فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعلا ، ولم تمنعه من فعله ، فهذا هو التسليط ، ثم إن القدرية تناقضوا في هذا القول ، فإنهم إن جوّزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم ، فقد نقضوا أصلهم ، فإنّ منع المختار من فعله الاختياري ، مع سلامة النية وصحة بنيته ، تدلّ على أنّ فعله وتركه مقدور للرب ، وهذا عين قول أهل السنة ، وإن قالوا : لا يقدر على منعهم وعصمهم منهم وإعادتهم ، فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه ، وهذا أبطل الباطل.

ثم قالت القدرية : تؤزهم أزا : تأمرهم بالمعاصي أمرا ، وحكوا ذلك عن الضحاك ، وهذا لا يلتفت إليه ، إذ لا يقال لمن أمر غيره بشيء ، قد أزّه ، ولا تساعد اللغة على ذلك ، ولو كان ذلك صحيحا لكان يؤز المؤمنين أيضا ، فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين ، فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان ، فلا يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين ؛ بل يأمر الكافر مرة ، ويأمر المؤمن مرات ، فلو كان الأزّ الأمر ، لم يكن له اختصاص بالكافرين.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)) [الناس] وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)) [المؤمنون] وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ

١٧٢

فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)) [النحل].

ومن المعلوم أنّ الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته ولا تعطيل آلات كيده ، وإنما هي بأن يعصم المستعيذ من أذاه له ، ويحول بينه وبين فعله الاختياري له ، فدلّ على أن فعله مقدور له سبحانه ، إن شاء سلّطه على العبد ، وإن شاء حال بينه وبينه ، وهذا على أصول القدرية باطل ، فلا يثبتون حقيقة الإعاذة ، وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد ، وجعلوا الآية ردا على الجبرية. والجبرية أثبتوا حقيقة الإعاذة ، ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد ، بل الاستعاذة فعل الرب حقيقة كما أن الإعاذة فعله ، وقد ضلّ الطائفتان عن الصراط المستقيم ، وأصابت كلّ طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ (١٢٧)) [النحل] وقول هود (١) : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ (٨٨)) [هود].

ومعلوم أنّ الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد ، وقد أخبر أنه به لا بالعبد ، وهذا لا ينبغي أن يكون فعلا للعبد حقيقة ، ولهذا أمر به ، وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه ، وإنما يؤمر العبد بفعله هو ، ومع هذا فليس فعله واقعا به ، وإنما هو بالخالق لكلّ شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالتصبير منه سبحانه ، وهو فعله ، والصبر هو القائم بالعبد ، وهو فعل

__________________

(١) القائل شعيب عليه‌السلام ، ولعله أراد : وقوله في سورة هود.

١٧٣

العبد ، ولهذا أثنى على من يسأله أن يصبره ، فقال تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ (٢٥١)) [البقرة] ففي الآية أربعة أدلة.

أحدها : قولهم : «أفرغ علينا صبرا» ، والصبر فعلهم الاختياري ، فسألوه ممن هو بيده ومشيئته وإذنه ، إن شاء أعطاهموه ، وإن شاء منعهموه.

الثاني : قولهم : «وثبّت أقدامنا» ، وثبات الأقدام فعل اختياري ، ولكنّ التثبيت فعله ، والثبات فعلهم ، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.

الثالث : قولهم : «وانصرنا على القوم الكافرين» فسألوه النصر وذلك بأن يقوّي عزائمهم ، ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم ، ويلقي في قلوب أعدائهم الخور والخوف والرعب ، فيحصل النصر ، وأيضا فإنّ كون الإنسان منصورا على غيره ، إما أن يكون بأفعال الجوارح ، وهو واقع بقدرة العبد واختياره ، وإما أن يكون بالحجة والبيان والعلم ، وذلك أيضا فعل العبد ، وقد أخبر سبحانه أن النصر بجملته من عنده ، وأثنى على من طلبه منه ، وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الرب.

الرابع : قوله : «فهزموهم بإذن الله» وإذنه هاهنا هو الإذن الكونيّ القدريّ ، أي : بمشيئته وقضائه. وقدره ليس هو الإذن الشرعي الذي بمعنى الأمر ، فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة بخلاف إذنه الكوني وأمره الكونيّ ، فإنّ المأمور المكون لا يتخلف عنه البتة.

١٧٤

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ (٢٨)) [الكهف].

وفي الآية ردّ ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما ، فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره ، فغفل هو. فالإغفال فعل الله. والغفلة فعل العبد. ثم أخبر عن اتّباعه هواه ، وذلك فعل العبد حقيقة ، والقدرية تحرّف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم ، فيقولون : معنى أغفلنا قلبه ، سميناه غافلا ، أو وجدناه غافلا ، أي : علمناه كذلك ، وهذا من تحريفهم. بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته وأفقرته ، أي : جعلته كذلك ، وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كأحمدته وأجبنته وأبخلته وأعجزته فلا يقع في أفعال الله البتة ، إنما يقع في أفعال العاجز ، أن يجعل جبانا وبخيلا وعاجزا ، فيكون معناه : صادفته كذلك ، وهل يخطر بقلب الداعي : اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني ، أي : سمّني وأعلمني كذلك ، وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه. والعقلاء يعلمون علما ضروريا أنّ الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ، ويشاءه له ، ويقدره عليه ، حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه ، وبقي وفطرته ، لم يخطر بقلبه سوى ذلك. وأيضا فلا يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن الشيء ، فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به ، وذلك مضاد لغفلته عنه ، بخلاف إغفال الرب تعالى له ، فإنه لا يضاد علمه بما يغفل عنه العبد ، وبخلاف غفلة العبد ، فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه ؛ وهذا ظاهر جدا. فثبت أنّ الإغفال فعل

١٧٥

الله بعبده ، والغفلة فعل العبد.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا (٨٩)) [الأعراف].

وهذا يبطل تأويل القدرية المشيئة في مثل ذلك بمعنى الأمر ، فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به ، ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء ، ويهدي من يشاء. ثم قال شعيب : وسع ربّنا كلّ شيء علما ، فردّ الأمر إلى مشيئته وعلمه ، فإن له سبحانه في خلقه علما محيطا ، ومشيئته نافذة وراء ما يعلمه الخلائق ، فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا. ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا ، فلذلك ردّ الأمر إليه.

ومثله قول إبراهيم : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)) [الأنعام] فأعادت الرّسل ، بكمال معرفتها بالله ، أمورها إلى مشيئة الرب وعلمه ، ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء أنه فاعله حتى يستثني بمشيئة الله ، فإنه إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ، وقد تقدم تقرير هذا المعنى.

وبالجملة فكلّ دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ، ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد.

١٧٦

قال ابن عباس : الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن كذّب بالقدر ، نقض تكذيبه توحيده.

١٧٧
١٧٨

الباب الرابع عشر

في الهدى والضلال ومراتبهما ، والمقدور منهما للخلق ،

وغير المقدور لهم

هذا المذهب هو قلب أبواب القدر ومسائله ، فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له الهدى ، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال ، وكلّ نعمة دون نعمة الهدى ، وكلّ مصيبة دون مصيبة الضلال. وقد اتفقت رسل الله ، من أولهم إلى آخرهم ، وكتبه المنزلة عليهم ، على أنه سبحانه يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد ، وأن العبد هو الضال أو المهتدي ؛ فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره ، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه ، ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن.

فأما مراتب الهدى فأربعة.

إحداها : الهدى العام ، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها ، وهذا أعمّ مراتبه.

المرتبة الثانية : الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده ، وهذا خاص بالمكلفين ، وهذه المرتبة أخص من المرتبة

١٧٩

الأولى وأعم من الثالثة.

المرتبة الثالثة : الهداية المستلزمة للاهتداء ، وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية ، وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد ، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عزوجل.

المرتبة الرابعة : الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.

فصل

فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى] فذكر سبحانه أربعة أمور عامة : الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وجعل التسوية من تمام الخلق ، والهداية من تمام التقدير.

قال عطاء : «خلق فسوى» : أحسن ما خلقه ، وشاهده قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٧)) [السجدة] فإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت ، يخل بالتناسب والاعتدال. فالخلق الإيجاد ، والتسوية إتقانه وإحسان خلقه.

وقال الكلبي : خلق كل ذي روح ، فجمع خلقه وسوّاه باليدين والعينين والرجلين.

وقال مقاتل : خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق.

وقال أبو إسحاق : خلق الإنسان مستويا ، وهذا تمثيل ، وإلا فالخلق

١٨٠