شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

فصل

[التحريم الكوني والتحريم الديني]

وأما التحريم الكوني فكقوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (١٢)) [القصص] وقوله : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً (٢٦)) [المائدة] وقوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)) [الأنبياء].

وأما التحريم الديني فكقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (٢٣)) [النساء] (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (٣)) [المائدة] ، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (٩٦)) [المائدة] ، (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (٢٧٥)) [البقرة].

فصل

[الإيتاء الكوني والإيتاء الديني]

وأما الإيتاء الكوني فكقوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ (٢٤٧)) [البقرة] وقوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (٢٦)) [آل عمران] وقوله : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)) [النساء].

وأما الإيتاء الديني فكقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (٧)) [الحشر] وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ (٦٣)) [البقرة].

٧٠١

وأما قوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (٢٦٩)) [البقرة] فهذا يتناول النوعين ، فإنه يؤتيها من يشاء أمرا ودينا وتوفيقا وإلهاما.

فصل

وأنبياؤه ورسله وأتباعهم ، حظّهم من هذه الأمور الدينيّ منها ، وأعداؤه واقفون مع القدر الكوني ، فحيث ما مال القدر مالوا معه ، فدينهم دين القدر ، ودين الرّسل وأتباعهم دين الأمر ، فهم يدينون بأمره ، ويؤمنون بقدره ، وخصماء الله يعصون أمره ويحتجون بقدره ، لا يقولون : نحن واقفون مع مراد الله ، نعم مع مراده الدينيّ أو الكونيّ ، ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني ولا يكون ذلكم عذرا لكم عنده ، إذ لو عذر بذلك ، لم يذم أحدا من خلقه ، ولم يعاقبه ، ولم يكن في خلقه عاص ولا كافر ، ومن زعم ذلك ، فقد كفر بالله وكتبه كلها وجميع رسله. وبالله التوفيق.

٧٠٢

الباب الموفي ثلاثين

في ذكر الفطرة الأولى ومعناها ، واختلاف الناس في

المراد بها وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)) [الروم].

وفي الصحيحين (١) من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه كما ينتج البهيمة جمعاء ، هل تحسّون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» ثم قرأ أبو هريرة : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ (٣٠)) [الروم].

وفي لفظ آخر : «ما من مولود إلا يولد على هذه الملة» (٢).

وقد اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها ، فقال القاضي أبو يعلى : في معنى الفطرة هاهنا روايتان ، عن أحمد : إحداهما : الإقرار بمعرفة الله تعالى ، وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم ، حتى مسح ظهر

__________________

(١) البخاري (١٣٥٨) ، ومسلم (٢٦٥٨).

(٢) رواه مسلم (٢٦٥٨) (٢٣) عن أبي هريرة.

٧٠٣

آدم ، فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم؟ قالوا : بلى. فليس أحد إلا وهو يقرّ بأنّ له صانعا ومدبرا ، وإن سماه بغير اسمه. قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ (٨٧)) [الزخرف] فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول.

قال : وليس الفطرة هنا الإسلام ، لوجهين :

أحدهما : أنّ معنى الفطرة ابتداء الخلقة ، ومنه قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (١٤)) [الأنعام] أي : مبتدئها ، وإذا كانت الفطرة هي الابتداء ، وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة ، وجرت في فطرة المعقول ، وهو استخراجهم ذرية ، لأن تلك حالة ابتدائهم ، ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام ، لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا ، لأنه مسلم ، واختلاف الدين يمنع الإرث ، ولوجب أن لا يصح استرقاقه ، ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم. قال : وهذا تأويل ابن قتيبة ، وذكره ابن بطة في «الإبانة». قال : وليس كلّ من تثبت له المعرفة حكم بإسلامه ، كالبالغين من الكفار ، فإنّ المعرفة حاصلة ، وليسوا بمسلمين. قال : وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل. وفي رواية الميموني فقال : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، فقال له الميموني : الفطرة الدين. قال نعم. قال القاضي : وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها.

قال : والرواية الثانية : الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه ، لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم ، وهو الإقرار بمعرفته ، حمل للفطرة على الإسلام ، لأنّ الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان ، والمؤمن مسلم ، ولو كانت الفطرة الإسلام ، لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما. قال : ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله ، وأصول أهل السنة بخلافه. قال : وقد أومأ أحمد إلى هذا ، في رواية علي بن سعيد ، وقد سأله عن قوله : «كل

٧٠٤

مولود يولد على الفطرة» ، فقال : على الشقاوة والسعادة ، ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله ، فقال : هي التي فطر الناس عليها ، شقي أو سعيد. وكذلك نقل جبيل عنه ، قال : الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة. قال : وهذا كله يدل من كلامه على أنّ المراد بالفطرة هاهنا ابتداء خلقه في بطن أمه.

قال شيخنا ابو العباس ابن تيمية : أحمد لم يذكر العهد الأول ، وإنما قال للفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، وهي الدين. وقال في غير موضع : إنّ الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما ، حكم بإسلامه ، واستدل بهذا الحديث ، فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام ، كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ، ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام ، لما صح استدلاله بالحديث.

وقوله في موضع آخر : يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة ، لا ينافي ذلك ، فإن الله سبحانه قدّر السعادة والشقاوة ، وكتبهما ، وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها ، كفعل الأبوين ، فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما ، هو مما قدّره الله أنه يفعل بالمولود. والمولود ولد على الفطرة سليما ، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر سبحانه ذلك وكتبه ، كما مثّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله : كما ينتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ فبين أن البهيمة تولد سليمة ، ثم يجدعها الناس ، وذلك بقضاء الله وقدره ، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ، ثم يفسده أبواه. وذلك أيضا بقضاء الله وقدره ، وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة : على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة ، لأنّ القدرية يحتجون بهذا الحديث على أنّ الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره ، بل مما ابتدأ الناس إحداثه ، ولهذا قالوا لمالك بن أنس : إنّ القدرية يحتجون علينا بأول الحديث ، فقال :

٧٠٥

احتجوا عليهم بآخره ، وهو قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين.

فبيّن الإمام أحمد وغيره أنه لا حجّة فيه للقدرية ، فإنهم لا يقولون : إن نفس الأبوين خلقا تهويده وتنصيره ، بل هو تهوّد وتنصّر باختياره ، ولكن كان سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين ، فإذا أضيف إليهما هذا الاعتبار ، فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كلّ شيء بطريق الأولى ، لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودا على الفطرة سليما ، فقد قدّر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره ، وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح : «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» (١) ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا. فقوله : طبع يوم طبع ، أي : قدر وقضى في الكتاب أنه يكفر ، لا أنّ كفره كان موجودا قبل أن يولد ، ولا في حال ولادته ، فإنه مولود على الفطرة السليمة ، وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر. ومن ظنّ أنّ الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار ، فهو غالط ، فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع ، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.

وقد ثبت في صحيح مسلم (٢) عن عياض بن حمار ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربه ، تبارك وتعالى ، أنه قال : «خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فاجتالتهم الشياطين ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية ، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.

وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره ، قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية ، فأفضى بهم القتل إلى الذرية ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما

__________________

(١) مر سابقا.

(٢) مسلم (٢٨٦٥).

٧٠٦

حملكم على قتل الذرية؟» قالوا : يا رسول الله : أليسوا أولاد المشركين؟ قال : «أوليس خياركم أولاد المشركين؟ ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا فقال : «ألا إنّ كلّ مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه» (١).

فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين ، وقوله لهم : أو ليس خياركم أولاد المشركين. نص أنه أراد بهم : ولدوا غير كفار ، ثم الكفر طرأ بعد ذلك ، ولو أراد أنّ المولود حين يولد ، يكون إمّا مسلما ، وإما كافرا على ما سبق له به القدر ، لم يكن فيما ذكر حجة على ما قصد من نهيه عن قتل أولاد المشركين.

وقد ظن بعضهم أن معنى قوله : أو ليس خياركم أولاد المشركين ، أنه قد يكون في علم الله أنهم لو بقوا ، لآمنوا ، فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز ، وليس هذا معنى الحديث ، لكن معناه : أن خياركم هم السابقون الأولون ، وهؤلاء من أولاد المشركين ، فإن آباءهم كانوا كفارا ، ثم إنّ البنين أسلموا بعد ذلك ، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين ، إذا كان مؤمنا ، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه ، وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، كما يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي.

فصل

وهذا الحديث قد روي بألفاظ ، تفسّر بعضها بعضا ، ففي الصحيحين ،

__________________

(١) مر قريبا.

٧٠٧

واللفظ للبخاري ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء» (١). ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (٣٠)) [الروم] قالوا : يا رسول الله : أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين».

وفي الصحيح قال الزهري : نصلي على مولود يتوفى وإن كان (٢) من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام ، إذا استهلّ صارخا ، ولا نصلي على من لم يستهل ، من أجل أنه سقط فإن أبا هريرة كان يحدث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة : فطرة الله التي فطر الناس عليها.

وفي الصحيحين من رواية الأعمش : «ما من مولود إلا وهو على الملة» (٣) وفي رواية ابن معاوية عنه : «إلا على هذه الملة ، حتى يعرب عنه لسانه». فهذا صريح بأنه يولد على ملة الإسلام كما فسّره ابن شهاب راوي الحديث. واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.

قال ابن عبد البر : وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة ، أيجزئ أن يعتقه ، وهو رضيع ، قال : نعم! لأنه ولد على الفطرة ، وقال أبو عمر : وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث. وقال آخرون : الفطرة هاهنا

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) هنا بياض بالأصل ولعله (من أولاد المشركين) أو ما هذا معناه.

(٣) مر قريبا.

٧٠٨

الإسلام. قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل ، قد أجمعوا في تأويل قول الله عزوجل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (٣٠)) [الروم] قالوا : فطرة الله دين الله الإسلام ، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث اقرءوا إن شئتم : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (٣٠)) [الروم] وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة ، في قوله عزوجل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (٣٠)) [الروم].

قالوا : فطرة الله دين الله الإسلام. لا تبديل لخلق الله. قالوا لدين الله ، واحتجّوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد ، عن يحيى بن جابر ، عن عبد الرحمن بن عابد الأزدي ، عن عياض بن حمار (١) المجاشعي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للناس يوما : «ألا أحدّثكم بما حدّثني الله في الكتاب؟ إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا ، لا حرام فيه ، فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا» (٢) الحديث.

قال : وكذلك روى بكر بن مهاجر ، عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث ، حنفاء مسلمين ، قال أبو عمر : روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله ، عن عياض. ولم يسمعه قتادة من مطرف ، ولكن قال : حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ، ويزيد بن عبد الله بن الشّخير ، والعلاء بن زياد ، كلهم يقول : حدثني مطرف ، عن عياض ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال فيه : وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، لم يقل : مسلمين.

وكذلك رواه الحسن عن مطرف ، ورواه ابن إسحاق عمن لا يتّهم ، عن قتادة بإسناده ، قال فيه : وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. ولم يقل :

__________________

(١) تحرف في المطبوع إلى : «حماد».

(٢) مر حديث عياض سابقا.

٧٠٩

مسلمين ، قال : فدلّ هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه ، لأنه ذكر مسلمين ، في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث ، وأسقطه من رواية قتادة ، وقصر فيه عن قوله : مسلمين. وزاده ثور بإسناده ، فالله أعلم.

قال : والحنيف في كلام العرب ، المستقيم المخلص ، ولا استقامة أكثر من الإسلام. قال : وقد روى عن الحسن : الحنيفية حج البيت ، وهذا يدل أنه أراد الإسلام ، وكذلك روى عن الضحاك والسدي ، قال : حنفاء : حجاجا. وعن مجاهد : حنفاء : متّبعين. قال : وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام. قال : وقال أكثر العلماء : الحنيف المخلص. وقال الله عزوجل : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً (٦٧)) [آل عمران] وقال تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (١٦١)) [الإنعام] وقال : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (٧٨)) [الحج] وقال الشاعر ، وهو الراعي :

أخليفة الرحمن إنا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله في أموالنا

حقّ الزكاة منزلا تنزيلا

قال : فهذا وصف الحنيفية بالإسلام ، وهو أمر واضح لا خفاء به. قال : ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس من الفطرة» (١). ويروى : عشر من الفطرة. قال شيخنا : والدلائل على ذلك كثيرة ، ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام ، لما سألوا عقيب ذلك ، أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟ لأنه لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه.

__________________

(١) رواه البخاري في الأدب المفرد (١٢٥٧ و ١٢٩٢ و ١٢٩٣) ، والنسائي ٨ / ١٢٨ و ١٢٩ ، وأحمد ٢ / ٢٢٩ ، و ٢٣٩ و ٢ / ٢٨٣ و ٤١٠ و ٤٨٩ ، ومسلم ١ / ١٥٢ ، والترمذي ٢٧٥٦.

٧١٠

والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير. وقوله : فأبواه يهودانه ، بيّن فيه أنهم يغيّرون الفطرة التي فطر عليها ، وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق ، لا نقص فيها ، ثم تجدع بعد ذلك ، فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها ، وأيضا فإن الحديث مطابق للقرآن كقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (٣٠)) [الروم] وهذا يعمّ جميع الناس ، فعلم أن الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة ، وأيضا فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح لا إضافة ذم ، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة ، كدين الله وبيته وناقته ، وأيضا فإنه قال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (٣٠)) [الروم] ، وأيضا فإن هذا تفسير السلف.

قال ابن جرير : يقول : فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك الله يا محمد بطاعته ، وهي الدين حنيفا. يقول : مستقيما لدينه وطاعته. فطرة الله ، يقول : صنعة الله التي خلق الناس عليها ، ونصب فطرة على المصدر. معنى قوله : فأقم وجهك للدين حنيفا ، لأن المعنى فطر الله الناس على ذلك فطرة. قال بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، ثم روى عن ابن زيد قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، قال : الإسلام منذ خلقهم الله من آدم جميعا ، يقرون بذلك. وعن مجاهد : فطرة الله قال : الدين الإسلام ، ثم روى عن يزيد بن أبي مريم ، قال عمر لمعاذ بن جبل ، فقال : ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ : ثلاث ، وهنّ المنجيات : الإخلاص ، وهو الفطرة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها. والصلاة ، وهي الملة ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت.

وقوله : لا تبديل لخلق الله ، يقول : لا تغيير لدين الله ، أي : لا يصلح ذلك ، ولا ينبغي أن يفعل. قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا تبديل لخلق الله ، أي : لدين الله ، ثم ذكر أن مجاهدا أرسل إلى عكرمة يسأله عن قوله : لا تبديل لخلق الله ، قال : هو الخصا ، فقال مجاهد : أخطأ. لا تبديل لخلق

٧١١

الله ، إنما هو الدين ، ثم قال : لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم. وروى عن عكرمة : لا تبديل لخلق الله ، قال : لدين الله ، وهو قول سعيد بن جبير والضحّاك وإبراهيم النخعي وابن زيد ، وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، هو الخصا. ولا منافاة بين القولين كما قال تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ (١١٩)) [النساء] فتغيير ما فطر الله عباده من الدين تغيير لخلقه ، والخصا وقطع آذان الأنعام تغيير لخلقه أيضا ، ولهذا شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهما بالآخر ، فأولئك يغيرون الشريعة ، وهؤلاء يغيرون الخلقة ، فذلك يغير ما خلقت عليه نفسه وروحه ، وهذا يغير ما خلق عليه بدنه.

فصل

ولما صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم ، صار الناس يتأولونه على تأويلات ، يخرجونه بها عن مقتضاه ، فقالت القدرية : كل مولود يولد على الإسلام ، والله سبحانه لا يضلّ أحدا ، وإنما أبواه يضلانه.

قال لهم أهل السنة : أنتم لا تقولون بأول الحديث ولا بآخره ، أما أوله فإنه لم يولد أحد عندكم على الإسلام أصلا ، ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا عندكم ، وهذا أحدث لنفسه الكفر ، وهذا أحدث لنفسه الإسلام ، والله لم يخلق واحدا منهما ، ولكن دعاهما إلى الإسلام ، وأزاح عللهما ، وأعطاهما قدرة مماثلة ، فهما يصلح للضدين ، ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان ، فإن ذلك عندكم غير مقدور له ، ولو كان مقدورا لكان منع الكافر منه ظلما ، هذا قول عامة القدرية ، وإن كان أبو الحسين

٧١٢

يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ، ويقول : عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان ، وهذا في الحقيقة موافق لقول أهل السنة.

قالوا : فأنتم قلتم : إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل ، ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة ، أو تكون من فعل الله ، وأما كونكم لا تقولون بآخره ، فهو أنه ينسب فيه التهويد والتنصير إلى الأبوين ، وعندكم أنّ المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون الأبوين ، والأبوان لا قدرة لهما على ذلك البتة.

وأيضا فقوله : الله أعلم بما كانوا عاملين ، دليل على أنّ الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة ، هل يبقون عليها ، فيكونون مؤمنين ، أو يغيّرون فيصيرون كفارا. فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاة القدرية ، واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره ، فالذي استدللتم به ، من الحديث ، على قولكم الباطل ، وهو قوله : فأبواه يهودانه وينصرانه ، لا حجة لكم ، بل هو حجة عليكم ، فغير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد ، بل المراد بالحديث دعوة الأبوين إلى ذلك ، وتربيتهما له ، وتربيتهما على ذلك ، مما يفعله المعلّم والمربي ، وخص الأبوين بالذكر على الغالب أنه جعل أبوين وإلا فقد يقع من أحدهما أو من غيرهما.

فصل

قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في الفطرة المذكورة ، في هذا الحديث ، اختلافا كثيرا ، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة ، فسئل عنه ابن المبارك ، فقال : تفسيره آخر الحديث ، وهو قوله :

٧١٣

الله أعلم بما كانوا عاملين. هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك ، لم يزد شيئا. وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا الحديث ، فقال : كان هذا القول من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. هذا ما ذكره أبو عبيدة. قال أبو عمر : أما ما ذكره عن ابن المبارك ، فقد روي عن مالك نحو ذلك ، وليس فيه مقنع من التأويل ، ولا شرح موعب في أمر الأطفال ، ولكنها تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم ، بكفر وإيمان أو جنة ونار ، ما لم يبلغوا العمل. قال : وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن ، فأظنّ محمدا حاد عن الجواب فيه ، إمّا لإشكاله ، وإما لجهله به ، أو لما شاء الله ، وأما قوله : إن ذلك كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ، فلا أدري ما هذا ، فإن كان أراد أن ذلك منسوخ ، فغير جائز ، عند العلماء ، دخول النسخ في إخبار الله ورسوله ، إذ المخبر بشيء كان أو يكون ، إذا رجع عن ذلك ، لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه ، أو غلطه فيما أخبر به أو نسيانه ، وقد جلّ الله عن ذلك وعصم رسوله منه ، وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد ، وقول محمد بن الحسن : إنّ هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ، ليس كما قال : إن في حديث الأسود بن سريع ما يتبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد ، ثم روى بإسناده عن الحسن عن الأسود بن سريع ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟» فقال رجل : أوليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة ، حتى يعبر عنه لسانه ، ويهوّده أبواه أو ينصّرانه» (١) قال : وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة ، منهم أبو بكر المزني والعلاء بن زياد ، والسّريّ (٢) بن يحيى ، وقد روى عن الأحنف ، عن

__________________

(١) مر سابقا وهذا حديث الأسود بن سريع.

(٢) تحرفت في المطبوع إلى : «المسرى».

٧١٤

الأسود بن سريع ، قال : وهو حديث بصري صحيح. قال : وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة» فناداه الناس : يا رسول الله : وأولاد المشركين قال : «وأولاد المشركين» (١).

قال شيخنا : أما ما ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك ، فيمكن أن يقال : إنّ المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأول قد سبق في علم الله ، يعملون إذا بلغوا ، أو أنّ منهم من يؤمن ، فيدخل الجنة ، ومنهم من يكفر ، فيدخل النار ، فلا يحتج بقوله : «كل مولود يولد على الفطرة» على نفي القدر كما احتجت القدرية به ، وعلى أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة ، فيكون مقصود مالك وابن المبارك أن حكم الأطفال على ما في آخر الحديث. وأما قول محمد ، فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا ، فيحكم له بحكم الكفر ، في أنه لا يصلّى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يرثه المسلمون ، ويجوز استرقاقهم ، فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين ، حتى تعرب عنهم ألسنتهم ، وهذا حق ، ولكن ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين ، فقال : هذا منسوخ ، كان قبل الجهاد ، لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال ، والمؤمن لا يسترقّ ، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين ، في الأحكام الدنيوية ، أمر ما زال مشروعا ، وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية ، والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام ، وإنما قصد بيان ما ولد عليه الأطفال من الفطرة.

__________________

(١) سبق تخريجه.

٧١٥

فصل

وما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل : إنه ولد على الفطرة ، أو على الإسلام ، أو على هذه الملة ، أو خلق حنيفا ، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده ، فإن الله يقول : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (٧٨)) [النحل] ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين الإسلام لقروبه (١) ومحبته ، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته ، وإخلاص الدين له ، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء ، بحسب كمال الفطرة ، إذا سلمت من المعارض ، وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك ، فإن هذا القبول تغير بتهويد الأبوين وتنصيرهما ، بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها ، وإن سعيا بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول. وأيضا فإنّ هذا القبول ليس هو الإسلام ، وليس هو هذه الملة ، وليس هو الحنيفية ، وأيضا فإنه شبّه تغيير الفطرة بجدع البهيمة الجمعاء ، ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ، ولو تغير القبول وزال ، لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره ، وإقراره له بربوبيته ، وادعائه له بالعبودية ، فلو خلّي ، وعدم المعارض ، لم يعدل عن ذلك إلى غيره ، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة ، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه ، وهذا من قوله تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه] وقوله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى] فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى

__________________

(١) هكذا وردت.

٧١٦

جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ، ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة ، فهكذا ما ولد عليه من الفطرة ، ولهذا شبّهت الفطرة باللبن ، بل كانت إياه في التأويل للرؤيا ، ولما عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء اللبن والخمر ، أخذ اللبن ، فقيل له : أخذت الفطرة ، ولو أخذت الخمر ، لغوت أمّتك (١). فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره ، لمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها.

فصل

قال ابن عبد البر : وقالت طائفة : المراد بالفطرة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود ، من المعرفة بربه ، فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة ، يعرف بها ربّه ، إذا بلغ مبلغ المعرفة. يريد : أنه خلق خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقها إلى معرفة ربها. قالوا : والفاطر هو الخالق. وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر.

قال شيخنا : صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها ، فهذا ضعيف ، فإن مجرد القدرة على ذلك ، لا يقتضي أن يكون حنيفا ، ولا أن يكون على الملة ، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته ، حين يسأل عمن مات صغيرا ، ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير ، وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان ، فقالوا : إنهم أولاد المشركين!

__________________

(١) رواه البخاري (٣٣٩٤) ، ومسلم (١٦٨) عن أبي هريرة.

٧١٧

قال : أوليس خياركم أولاد المشركين ، ما من مولود إلا ويولد على الفطرة. ولو أريد : القدرة ، لكان البالغون كذلك ، مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل ، وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها ، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور ، فدلّ على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها ، وذلك مستلزم للإيمان.

فصل

قال أبو عمر : وقال آخرون : معنى قوله : يولد على الفطرة ، يعني البداءة التي ابتدأهم عليها : يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خليقته من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء ، إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ ، من قبولهم غير إيمانهم واعتقادهم. قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة ، وألفاظ المبتدئ ، وكأنه قال : يولد ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة ، وغير ذلك مما يصير إليه ، وقد فطر عليه. واحتجوا بقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (٣٠)) [الأعراف] وروى بإسناده إلى ابن عباس ، قال : لم أدر ما فاطر السموات والأرض حتى أتانا أعرابيان ، يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها : وذكر دعاء عليّ : اللهم جبّار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها.

قال شيخنا : حقيقة هذا القول أنّ كلّ مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ، ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة ، فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها ، والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله ، وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خلق على الفطرة ، وأيضا فلو

٧١٨

كان المراد ذلك ، لم يكن لقوله : فأبواه يهودانه ، معنى ، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها ، وعلى هذا القول : فلا فرق بين التهويد والتنصير ، وبين تلقّي الإسلام وتعليمه ، وبين تعلّم سائر الحرف والصنائع ، فإن ذلك كله واحد فيما سبق به العلم ، وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ، ثم جدعت ، تبيّن أنّ أبويه غيّرا ما ولد عليه ، وأيضا فقوله : على هذه الملة ، وقوله : إني خلقت عبادي حنفاء ، مخالف لهذا ، وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان ، فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله. فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بلا مخصص ، وقد ثبت في الصحيح (١) أنه قيل حين نفخ الروح فيه ، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فلو قيل : كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة ، لكان أشبه بهذا المعنى ، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.

فصل

قال أبو عمر : قال محمد بن نصر المروزي : وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيدة عن ابن المبارك ، أنه سئل عن هذا الحديث ، فقال : يفسره قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين. قال المروزي : وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ، ثم تركه. قال أبو عمر : وما رسمه مالك في موطئه ، وذكر في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدلّ على أنّ مذهبه في ذلك نحو

__________________

(١) سبق تخريجه.

٧١٩

هذا.

قال شيخنا : أئمة السنة مقصودهم أنّ الخلق صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم ، من إيمان وكفر ، كما في الحديث الآخر : إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا. والطبع الكتاب. أي : كتب كافرا ، كما في الحديث الصحيح ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، وليس إذا كان الله كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر ، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر ، وذلك الكفر هو التغيير ، كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء ، وقد سبق في علمه أنها تجدع ، كتب أنها مجدوعة بجدع ، يحدث لها بعد الولادة ، ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.

فصل

وكلام أحمد في أجوبة له أخرى ، يدل على أن الفطرة عنده الإسلام ، كما ذكر محمد بن نصر عنه ، أنه آخر قوليه ، فإنه كان يقول : إنّ صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين ، كانوا مسلمين ، وإن كانوا معهما ، فهم على دينهما ، فإن سبوا مع أحدهما ، ففيه عنه روايتان ، وكان يحتج بالحديث.

قال الخلال في الجامع : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : أخبرنا عبد الله ، قال : سبي أهل الحرب ، إنهم مسلمون إذا كانوا صفارا ، وإن كانوا مع أحد الأبوين ، وكان يحتجّ بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأبواه يهودانه وينصرانه. قال : وأما أهل الثغر ، فيقولون : إذا كان مع أبويه ، إنهم يخيرونه على الإسلام. قال : ونحن لا نذهب إلى هذا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأبواه يهودانه وينصرانه.

٧٢٠