شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

فصل

وأما جعله القلب قاسيا فقال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (١٣)) [المائدة].

والقسوة : الشدة والصلابة في كل شيء ، يقال : حجر قاس ، وأرض قاسية : لا تنبت شيئا. قال ابن عباس : قاسية عن الإيمان. وقال الحسن : طبع عليها.

والقلوب ثلاثة : قلب قاس ، وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق ، ولا تنطبع فيه ، وضده القلب الليّن المتماسك ، وهو السليم من المرض الذي يقبل صورة الحق بلينه ، ويحفظه بتماسكه ، بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه ، لميعانه ، ورخاوته ، كالمائع الذي إذا طبعت فيه الشيء ، قبل صورته بما فيه من اللين ، ولكن رخاوته تمنعه من حفظها. فخير القلوب القلب الصلب الصافي اللين ، فهو يرى الحق بصفائه ، ويقبله بلينه ، ويحفظه بصلابته.

وفي المسند وغيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب آنية الله في أرضه ، فأحبّها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها» (١).

وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً

__________________

(١) لم أجده في المسند والذي فيه حديث آخر : «القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض ..» (٢ / ١٧٧) عن عبد الله بن عمرو ، وفيه ابن لهيعة : ضعيف ، والله أعلم.

٢٨١

لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ (٥٤)) [الحج].

فذكر القلب المريض ، وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق ، والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ، ولا تنطبع فيه ، فهذان القلبان شقيّان معذّبان ، ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه ، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.

قال الكلبي : فتخبت له قلوبهم ، فترقّ للقرآن قلوبهم ، وقد بين سبحانه حقيقة الإخبات ، ووصف المخبتين في قوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)) [الحج].

فذكر للمخبتين أربع علامات : وجل قلوبهم عند ذكره ، والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة. وصبرهم على أقداره. وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا. وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم. وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت ، قال ابن عباس : المخبتين : المتواضعين. وقال مجاهد : المطمئنين إلى الله. وقال الأخفش : الخاشعين. وقال ابن جرير : الخاضعين. قال الزجاج : اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض ، وكل مخبت متواضع ، فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.

فإن قيل : فإذا كان معناه التواضع والخشوع ، فكيف عدّي بإلى في قوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ (٢٣)) [هود] قيل : ضمّن معنى أنابوا واطمأنوا وتابوا ، وهذه عبارات السلف في هذا الموضع ، والمقصود أنّ القلب المخبت ضد القاسي

٢٨٢

والمريض ، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا ، وجعل للقسوة آثارا ، وللإخبات آثارا ، فمن آثار القسوة تحريف الكلم عن مواضعه ، وذلك من سوء الفهم وسوء القصد ، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكّر به وهو ترك ما أمر به ، علما وعملا ، ومن آثار الإخبات وجل القلوب لذكره سبحانه ، والصبر على أقداره ، والإخلاص في عبوديته والإحسان إلى خلقه.

فصل

وأما تضييق الصدر ، وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ (١٢٥)) [الانعام] والحرج : هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم ، يقال : رجل حرج ، وحرج أي : ضيّق الصدر ، قال الشاعر :

لا حرج الصدر ولا عنيف.

وقال عبيد بن عمير : قرأ ابن عباس هذه الآية فقال : هل هنا أحد من بني بكر؟ قال رجل : نعم ، قال : ما الحرجة فيكم؟ قالوا : الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه ، فقال ابن عباس : كذلك قلب الكافر.

وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال : ايتوني رجلا من كنانة ، واجعلوه راعيا ، فأتوه به فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ فقال : الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة ، فلا تصل إليها راعية ولا وحشية ، فقال عمر : كذلك قلب الكافر ، لا يصل إليه شيء من الخير.

٢٨٣

قال ابن عباس : يجعل صدره ضيقا حرجا ، إذا سمع ذكر الله اشمأزّ قلبه ، وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.

ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة ، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها ، فإذا أراد الله هداية عبد وسّع صدره وشرحه ، فدخلت فيه وسكنته ، وإذا أراد ضلاله ضيّق صدره وأحرجه ، فلم يجد محلا يدخل فيه ، فيعدل عنه ولا يساكنه. وكلّ إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به ، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين ، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسخ ، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى.

وفي الترمذي وغيره عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم : «إذا دخل النور القلب ، انفسخ وانشرح ، قالوا : فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله» (١).

فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى ، وتضييقه من أسباب الضلال ، كما أن شرحه من أجلّ النعم ، وتضييقه من أعظم النقم ، فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار ، على ما ناله من مكروهها ، وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب ، كان على مكارهها أشرح صدرا منه على شهواتها ومحابها ، فإذا فارقها ، كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير ، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له ، فإنها سجن المؤمن ، فإذا بعثه الله يوم القيامة ، رأى من انشراح صدره وسعته

__________________

(١) ضعيف ، ولم أره في الترمذي. بل رواه ابن جرير (٨ / ٢١) عن ابن مسعود من رواية أبي عبيدة عنه ولم يسمع منه ، وفيه سعيد بن عبد الملك الحرّاني : ضعيف. وجاء من طرق أخرى ضعيفة ومن حديث ابن عباس وعن الحسن وأبي جعفر المدائني مرسلا ، وليس يصح.

٢٨٤

ما لا نسبة لما قبله إليه ، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية ، فهو أصل كلّ نعمة وأساس كل خير.

وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربّه أن يشرح له صدره ، لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره ، وقد عدّد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له ، وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام.

فإن قلت : فما الأسباب التي تشرح الصدر والتي تضيقه؟.

قلت : السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه ، فإذا دخله ذلك النور ، اتّسع بحسب قوة النور وضعفه ، وإذا فقد ذلك النور ، أظلم وتضايق.

فإن قلت : فهل يمكن اكتساب هذا النور ، أم هو وهبي؟.

قلت : هو وهبي وكسبيّ ، واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى ، فالأمر كله لله ، والحمد كله له ، والخير كله بيديه ، وليس مع العبد من نفسه شيء البتة ، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها ، وجاعلها أسبابا ، ومانحها من يشاء ، ومانعها من يشاء ، إذا أراد بعبده خيرا ، وفّقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه ، فإنهما مادتا التوفيق ، فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق.

فإن قلت : فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد؟.

قلت : نعم والله! وهما مجرّد فضله ومنّته ، وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ، ويحبسهما عمن لا يصلح لهما.

فإن قلت : فما ذنب من لا يصلح؟.

٢٨٥

قلت : أكثر ذنوبه أنه لا يصلح ، لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه ، وآثره وأحبّه من الضلال والغي ، على بصيرة من أمره ، فآثر هواه على حقّ ربه ومرضاته ، واستحبّ العمى على الهدى ، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم جحدا لهيئته ، والشرك به ، والسعي في مساخطه أحبّ إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته ، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه ، وأيّ ذنب فوق هذا؟ فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمّن هذا شأنه ، كان قد عدل فيه ، وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد ، فأظلم قلبه ، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه ، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا.

وإذا تأمّل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية ، وما تضمّنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل ، وعظمة شأن الربوبية ، صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة ، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار ، وأن الرب تعالى ربّ كل شيء ومليكه ، من الأعيان والصفات والأفعال ، والأمر كله بيده ، والحمد كله له ، وأزمّة الأمور بيده ، ومرجعها كلها إليه ، ولهذه الآية شأن فوق عقولنا ، وأجلّ من أفهامنا ، وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها ، وأنفسهم كانوا يظلمون. تالله لقد غلظ عنها حجابهم ، وكثفت عنها أفهامهم ، ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصّلوها وقواعدهم التي أسسوها ، فإنها تضمنت إثبات التوحيد ، والعدل الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر ، وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ، ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه ، وصفات كماله ، ونعوت جلاله ، وحكمته في شرعه وقدره ، وعدله في عقابه ، وفضله في ثوابه.

٢٨٦

وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيّوميته وإلهيته ، وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ، ومردّها إلى كمال حكمته ، وأنّ المهدي من خصّه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته ، وأن الضال من جعل صدره ضيّقا حرجا عن معرفته ومحبته ، كأنّما يتصاعد في السماء ، وليس ذلك في قدرته ، وأن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حقّ قدرته ، وجحد كمال ربوبيته ، وكفر بنعمته ، وآثر عبادة الشيطان على عبوديته ، فسدّ عليه باب توفيقه وهدايته ، وفتح عليه أبواب غيّه وضلاله ، فضاق صدره ، وقسا قلبه ، وتعطلت من عبودية ربّها جوارحه ، وامتلأت بالظلمة جوانحه ؛ والذنب له حيث أعرض عن الإيمان ، واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان ، ورضي بموالاة الشيطان ، وهانت عليه معاداة الرحمن ، فلا يحدّث نفسه بالرجوع إلى مولاه ، ولا يعزم يوما على إقلاعه عن هواه ، قد ضادّ الله في أمره ، بحبّ ما يبغضه وببغض ما يحبه ، ويوالي من يعاديه ، ويعادي من يواليه ، يغضب إذا رضي الرب ، ويرضى إذا غضب ، هذا وهو يتقلّب في إحسانه ويسكن في داره ، ويتغذى برزقه ، ويتقوّى على معاصيه بنعمه ، فمن أعدل منه سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون ، إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون.

فصل

وإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه ، أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد ، إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر ، وأراه في ضوء ذلك النور

٢٨٧

حقائق الإيمان وحقائق العبودية وما يصحّحها وما يفسدها ، وتفاوت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور. قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها (١٢٢)) [الأنعام] وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ (٢٨)) [الحديد].

فيكشف لقلب المؤمن ، في ضوء ذلك النور ، عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن ، فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء ، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، السموات السبع قبضة إحدى يديه ، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى ، يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثرى على إصبع ، ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك. فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد ، يحيط ولا يحاط به ، ويحصر خلقه ولا يحصرونه ، ويدركهم ولا يدركونه ، لو أنّ الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه ، ثم يشهده في علمه فوق كل عليم ، وفي قدرته فوق كل قدير ، وفي جوده فوق كل جواد ، وفي رحمته فوق كل رحيم ، وفي جماله فوق كل جميل ، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ، ثم أعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجمال ، لكانت نسبته إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.

ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ، ثم أعطي كل منهم مثل تلك القوة ، لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش ، ولو كان جودهم على رجل واحد ، وكل الخلائق على ذلك

٢٨٨

الجود ، لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر ، وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه ، كان كنقرة عصفور من البحر ، وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته ، فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادا ، تحيط به سبعة أبحر ، وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام ، لفني ذلك المداد والأقلام ، ولا تفنى كلماته ولا تنفد ، فهو أكبر في علمه من كل عالم ، وفي قدرته من كل قادر ، وفي جوده من كل جواد ، وفي غناه من كل غني ، وفي علوه من كل عال ، وفي رحمته من كل رحيم ؛ استوى على عرشه ، واستولى على خلقه.

متفرّد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ، ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضرّ إلا بيده ، لا مالك غيره ، ولا مدبّر سواه ، لا يستقلّ أحد معه بملك مثقال ذرة في السموات والأرض ، ولا له شركة في ملكها ، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين ، ولا يغيب فيخلفه غيره ، ولا يعي فيعينه سواه ، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء ، فهو أول مشاهد المعرفة ، ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه ، لا يتم إلا به ، وهو مشهد الإلهية ، فيشهده سبحانه متجلّيا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه ، فيشهد ربا قيّوما متكلما آمرا ناهيا ، يحب ويبغض ويرضى ويغضب ، قد أرسل رسله وأنزل كتبه ، وأقام على عباده الحجة البالغة ، وأتمّ عليهم نعمته السابغة ، يهدي من يشاء منه نعمة وفضلا ، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا ، ينزل إليهم أوامره ، وتعرض عليه أعمالهم ، لم يخلقهم عبثا ، ولم يتركهم سدى ، بل أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم. فلله عليهم حكم وأمر في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة ، وينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه ، وإحسانه ، وبرّه في شرعه وأحكامه.

٢٨٩

وإنها أحكام ربّ رحيم محسن لطيف حكيم ، قد بهرت حكمته العقول ، وأقرت بها الفطر ، وشهدت لمنزلها بالوحدانية ، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة.

وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال ، وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال ، وأنّ كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحقّ به وأولى ، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزّه متعال عنه.

وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر ، وما أخبر به الرسول عنه ، حتى كأنه يشاهده عيانا ، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده إخبار من كأنه قد رأى وعاين ، وشاهد ما أخبر به ، فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا ، فاتّسع له وانفسخ ، ومن أراد ضلالته ، جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج ، لا يجد فيه مسلكا ولا منفذا ، والله الموفق المعين.

وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة ، ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ (١٩)) [آل عمران].

٢٩٠

الباب السادس عشر

فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال

العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

قال البخاريّ في كتاب «خلق أفعال العباد» : حدثنا علي بن عبد الله ، قال : حدثنا مروان بن معاوية قال : حدثنا أبو مالك ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته» (١). قال البخاري : وتلا بعضهم عند ذلك : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصافات].

حدثنا محمد أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة نحوه موقوفا عليه.

وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) بحمل ما على المصدر ، أي : خلقكم وأعمالكم ، فالظاهر خلاف هذا ، وأنها موصولة ، أي : خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها ، فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم ، فإنّ الصنم اسم للآلة التي حلّ فيها العمل المخصوص ، فإذا كان مخلوقا لله كان خلقه متناولا لمادته وصورته.

__________________

(١) «خلق أفعال العباد» (٩٢) وهو صحيح من حديث حذيفة.

٢٩١

قال البخاري : وحدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عمر : كل شيء بقدر حتى وضعك يدل على خدك.

قال البخاري : وحدثني إسماعيل قال : حدثني مالك عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.

ورواه مسلم في صحيحه عن طاوس ، وقال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء خلق بقدر حتى العجز والكيس» (١).

قال البخاري : وقال ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)) [القمر] حتى العجز والكيس. قال البخاري : سمعت عبيد الله بن سعيد يقول : سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة. قال البخاري : حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة.

وقال جابر بن عبد الله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : «إذا همّ أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فيسّره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أنّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي

__________________

(١) مسلم (٢٦٥٥).

٢٩٢

الخير حيث كان ، ثم رضّني به. قال : ويسمي حاجته» (١).

قال الترمذي (٢) : هذا حديث حسن صحيح.

فقوله : إذا همّ أحدكم بالأمر ، صريح في أنه الفعل الاختياريّ المتعلق بإرادة العبد ، وإذا علم ذلك ، فقوله : أستقدرك بقدرتك ، أي : أسألك أن تقدرني على فعله بقدرتك ، ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المصححة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البنية ، وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل ، فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له ، وأكّد ذلك بقوله : فإنك تقدر ولا أقدر ، أي : تقدر أن تجعلني قادرا فاعلا ، ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك ، وكذلك قوله : تعلم ولا أعلم ، أي : حقيقة العلم بعواقب الأمور ومآلها ، والنافع منها والضار عندك ، وليس عندي. وقوله : يسّره لي ، أو اصرفه عني ، فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة ، وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة. وهذا التيسير والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب ، أو إلقاء داعية الترك فيه ، ومتى حصلت داعية الفعل ، حصل الفعل ، وداعية الترك امتنع الفعل.

وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على الترك منه ، ليس للرب فيه صنع ولا تأثير ، فطلب هذا التيسير منه لا معنى له عندهم ، فإنّ تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجود ، ولم يسأله العبد.

وقوله : ثم رضّني به ، يدلّ على أن حصول الرضا ، وهو فعل اختياري من أفعال القلوب ، أمر مقدور للرب تعالى ، وهو الذي يجعل نفسه راضيا.

__________________

(١) رواه البخاري (١١٦٢) عن جابر بن عبد الله.

(٢) في (٤٨٠).

٢٩٣

وقوله : فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري ، إذا شاء صرفه عنه ، كما قال تعالى في حق يوسف الصديق (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ (٢٤)) [يوسف] وصرف السوء والفحشاء هو صرف دواعي القلب وميله إليهما ، فينصرفان عنه بصرف دواعيهما.

وقوله : واقدر لي الخير حيث كان ، يعم الخير المقدور للعبد من طاعته وغير المقدور له ، فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير أمر مقدور لله ، إن لم يقدره الله لعبده ، لم يقع من العبد.

ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر ، وأمر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الداعي به أن يقدّم بين يدي هذا الدعاء ركعتين عبودية منه بين يدي نجواه ، وأن يكونا من غير الفريضة ، ليتجرّد فعلهما لهذا الغرض المطلوب ، ولما كان الفعل الاختياري متوقفا على العلم والقدرة والإرادة ، لا يحصل إلا بها ، توسّل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله ، وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك ، فقال : إنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر. وأمر الداعي أن يعلّق التيسير بالخير ، والصرف بالشر ، وهو علم الله سبحانه تحقيقا للتفويض إليه واعترافا بجهل العبد بعواقب الأمور ، كما اعترف بعجزه ، ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها وإعطاء الربوبية حقها ، وبالله المستعان.

وفي الترمذي (١) وغيره من حديث الحسن بن علي قال : علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمات أقولهن في الوتر : «اللهمّ اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولّني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شرّ ما

__________________

(١) الترمذي (٤٦٤) وهو صحيح من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب.

٢٩٤

قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذلّ من واليت ، تباركت وتعاليت».

فقوله : اهدني ، سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلّف عنها الاهتداء.

وعند القدرية : إن الرب ، سبحانه وتعالى عن قولهم ، لا يقدر على هذه الهداية ، وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار.

وقوله : فيمن هديت ، فيه فوائد :

أحدها : أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم ورفقتهم.

الثانية : توسل إليه بإحسانه وإنعامه ، أي : يا ربي قد هديت من عبادك بشرا كثيرا فضلا منك وإحسانا ، فأحسن إليّ كما أحسنت إليهم ، كما يقول الرجل للملك : اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه.

الثالثة : أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم ، وإنما كان منك ، فأنت الذي هديتهم.

وقوله : وعافني فيمن عافيت ، إنما يسأل ربه العافية المطلقة ، وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض وفعل ما لا يحبه وترك ما يحبه ، فهذا حقيقة العافية ، ولهذا ما سئل الربّ شيئا أحبّ إليه من العافية ، لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه.

وقوله : وتولّني فيمن توليت ، سؤال للتولّي الكامل ، ليس المراد به ما فعله بالكافرين من خلق القدرة وسلامة الآلة وبيان الطريق ، فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين ، فهو وليّ الكفار كما هو وليّ المؤمنين ، وهو سبحانه يتولى أولياءه بأمور ، لا توجد في حق الكفار ، من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم

٢٩٥

مهديين مطيعين ، ويدل عليه قوله : إنه لا يذل من واليت ، فإنه منصور عزيز غالب بسبب تولّيك له ، وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس ، فهو بنقصان ما فاته من تولّي الله ، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذلّ كله ، ولو سلط عليه بالأذى من في أقطارها ، فهو العزيز غير الذليل.

وقوله : وقني شر ما قضيت ، يتضمن أن الشر بقضائه فإنه هو الذي يقي منه.

وفي المسند (١) وغيره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ بن جبل : «يا معاذ والله إني لأحبّك فلا تنس أن تقول دبر كلّ صلاة : اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».

وهذه أفعال اختيارية ، وقد سأل الله أن يعينه على فعلها ، وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية ، فإنّ الإعانة عندهم الإقدار والتمكين ، وإزاحة الأعذار وسلامة الآلة ، وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضا ؛ والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرا شاكرا محسنا لعبادته كما في حديث ابن عباس ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه المشهور : «ربّ أعنّي ولا تعن عليّ ، وانصرني ولا تنصر عليّ ، وامكر لي ولا تمكر عليّ ، واهدني ويسّر الهدى لي ، وانصرني على من بغى عليّ ، رب اجعلني لك شكّارا ، لك ذكّارا ، لك رهّابا ، لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أوّاها منيبا ، ربّ تقبّل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبّت حجّتي ، واهد قلبي ، وسدّد لساني ، واسلل سخيمة صدري» رواه الإمام أحمد في المسند (٢) ، وفيه أحد وعشرون دليلا ، فتأملها.

__________________

(١) أحمد (٥ / ٢٤٥ ، ٢٤٧) ، وأخرجه أبو داود (١٥٢٢) عن معاذ بن جبل ، وهو صحيح.

(٢) أحمد (١ / ٢٢٧) وهو صحيح من حديث ابن عباس.

٢٩٦

وفي الصحيحين (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول بعد انقضاء صلاته : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع».

ففي هذا نفي الشريك عنه بكلّ اعتبار ، وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار ، وإثبات عموم الحمد ، وإثبات عموم القدرة ، وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدا فلا مانع له ، وإذا منعه ، فلا معطي له.

وعند القدرية : إن العبد قد يمنع من أعطى الله ، ويعطي من منعه ، فإنه يفعل باختياره عطاء ومنعا لم يشأه الله ، ولم يجعله معطيا مانعا ، فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع ، ولمن منع معط.

وفي الصحيح أن رجلا سأله أن يدله على عمل ، يدخل به الجنة فقال : «إنه ليسير على من يسره الله عليه» (٢).

فدلّ على أنّ التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل ، وعدم التيسير يستلزم عدم العمل ، لأنه ملزومه ، والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه. والتيسير بمعنى التمكين ، وخلق الفعل وإزاحة الأعذار وسلامة الأعضاء حاصل للمؤمن والكافر ، والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك ، وبالله التوفيق والتيسير.

وفي الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبي موسى : «ألا أدلك على كنز من كنوز

__________________

(١) رواه البخاري (٨٤٤) ، ومسلم (٥٩٣) عن المغيرة بن شعبة.

(٢) صحيح. رواه أحمد (٥ / ٢٣١ ، ٢٣٧ ، ٢٤٥) عن معاذ بن جبل.

٢٩٧

الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» (١).

وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول ، وهي شافية كافية في إثبات القدر وإبطال قول القدرية. وفي بعض الحديث : إذا قالها العبد ، قال الله : أسلم عبدي واستسلم ، وفي بعضه : فوّض إليّ عبدي.

قال بعض المنتسبين للقدر : لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك ، بحصول الدواعي ، على التسوية ، وما دام الأمر كذلك ، امتنع صدور الفعل ، فإذا رجح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي وإزالة الصوارف ، حصل الفعل ، وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وشأن الكلمة أعظم مما قال ، فإنّ العالم العلوي والسفلي له تحوّل من حال إلى حال ، وذلك التحوّل لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول ، فكذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده ، ليست بالتحويل ، فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي ، وكل قوة على تلك الحركة ، سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية ، وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط ، وسواء كانت في الكمّ أو الكيف أو في الأين ، كحركة النبات وحركة الطبيعة وحركة الحيوان وحركة الفلك وحركة النفس والقلب ، والقوة على هذه الحركات التي هي حول ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس ، وكان هذا شأن هذه الكلمة ، كانت كنزا من كنوز الجنة ، فأوتيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من كنز تحت العرش ، وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمّة الأمور بيديه ، وفوّض أمره إليه.

وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي ، قال : أتيت أبيّ بن كعب ، فقلت :

__________________

(١) رواه البخاري (٤٢٠٥) ، ومسلم (٢٧٠٤) عن أبي موسى الأشعري.

٢٩٨

في نفسي شيء من القدر ، فحدثني بشيء ، لعلّ الله يذهبه عني من قلبي ، فقال : «إنّ الله لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم ، لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير ذلك ، كنت من أهل النار» (١).

قال : فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت ، فكلّ منهم حدثني بمثل ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا الحديث حديث صحيح رواه الحاكم في «صحيحه» ، وله شأن عظيم ، وهو دال على أنّ من تكلم به أعرف الخلق بالله ، وأعظمهم له توحيدا ، وأكثرهم له تعظيما ؛ وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد ، فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي ، وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدّر الذي لا بدّ للعبد من فعله ، ثم سلك كلّ طائفة في هذا المقام واديا وطريقا ، فسلك الجبرية وادي الجبر وطريق المشيئة المحضة الذي يرجع مثلا على مثل ، من غير اعتبار علة ولا غاية ولا حكمة ، قالوا : وكلّ ممكن عدل ، والظلم هو الممتنع لذاته ، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لكان متصرفا في ملكه ، والظلم تصرّف القادر في غير ملكه ، وذلك مستحيل عليه سبحانه.

قالوا : ولما كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة ، لم تكن الأعمال سببا للنجاة ، فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم ، فكانت رحمته خيرا من

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (٥ / ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٩) وغيره عن زيد بن ثابت ، وقد مر.

٢٩٩

أعمالهم.

وهؤلاء راعوا جانب الملك ، وعطّلوا جانب الحمد ، والله سبحانه له الملك وله الحمد.

وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة ، ولم يوفوه حقّه ، وعطّلوا جانب التوحيد ، وحاروا في هذا الحديث ، ولم يدروا ما وجهه ، وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والردّ له ، وأن الرسول لم يقل ذلك ، قالوا : وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفد أوقات عمره كلها ، واستفرغ قواه في طاعته ، وفعل ما يحبه ، ولم يعصه طرفة عين ، وكان يعمل بأمره دائما ، فكيف يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما؟! قالوا : ولا يقال : إن حقه عليهم ، وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم ، فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه ، فلو عذّبهم ، لعذّبهم بحقه عليهم ، لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته ، لم يكلفوا بغيره ، فكيف يعذبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه ، وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السموات والأرض ، ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم.

قالوا : فلا وجه لهذا الحديث إلا ردّه ، أو تأويله وحمله على معنى يصح ، وهو أنه لو أراد تعذيبهم ، جعلهم أمة واحدة على الكفر ، فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم ، وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ثم أخبر أنه لو عمّهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ، ثم أخبر أنه لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن بالقدر ، والقدر علم الله بالكائنات وحكمه فيها.

ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر والثواب والعقاب ، فتارة يغلب عليهم شهود القدر ، فيغيبون به عن الأمر ، وتارة يغلب عليهم

٣٠٠