شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

الديلمي قال : دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو محاضر فتى من قريش يزنّ (١) بشرب الخمر فقلت : بلغني عنك حديث أنّ من شرب شربة خمر ، لم تقبل توبته أربعين صباحا ، وأن الشّقيّ من شقي في بطن أمه وأن من أتى بيت المقدس ، لا ينهزه إلا الصلاة فيه ، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ، فلما سمع الفتى ذكر الخمر ، اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو : إني لا أحلّ لأحد أن يقول عليّ ما لم أقل ، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال : فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة».

قال : وسمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إن الله عزوجل خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول : جفّ القلم على علم الله» (٢).

وسمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن سليمان بن داود سأل الله عزوجل ثلاثا ، فأعطاه اثنتين ، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة ، سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه ، فأعطاه الله إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد ، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمّه ، فنحن نرجو أن يكون

__________________

(١) يزن : يتّهم.

(٢) هما تتمة للحديث الآنف. وأخرجه أحمد ٢ / ١٧٦ و ١٩٧ ، والترمذي (٢٦٤٢) ، وابن حبان (٦١٦٩) و (٦١٧٠) ، والحاكم ١ / ٣٠.

٢١

الله تعالى عزوجل قد أعطانا إياه» (١) ورواه الحاكم في صحيحه (٢) ، وهو على شرط الشيخين ولا علة له.

__________________

(١) هو أيضا تتمة للحديث الآنف.

(٢) الحاكم ١ / ٣٠.

٢٢

الباب الثاني

في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم

وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم ، وهو تقدير ثان

بعد التقدير الأول

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال : فقال رجل : يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠)) [الليل] (١).

وفي لفظ : اعملوا فكلّ ميسّر. أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى

__________________

(١) البخاري (١٦٣٢) ، ومسلم (٢٦٤٧).

٢٣

وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠)) [الليل].

وعن عمران بن حصين قال : قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ فقال : نعم قيل : ففيم يعمل العاملون؟ قال : كلّ ميسّر لما خلق له متفق عليه : وفي بعض طرق البخاري : كلّ يعمل لما خلق له أو لما يسّر له.

وعن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم قال : فقال : أفلا يكون ظلما؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون قال : فقال لي : يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك. إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال : «بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» رواه مسلم في صحيحه (١).

وعن شفيّ (٢) الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان قال : قلنا : لا إلّا أن تخبرنا يا رسول الله. قال ، للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم

__________________

(١) مسلم (٢٦٥٠) عن عمران بن حصين.

(٢) تحرف في المطبوع إلى : «شغي».

٢٤

وقبائلهم ، ثم أجمل عليهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبدا ، ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فلأيّ شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سدّدوا وقاربوا ، فإنّ صاحب الجنّة يختم له بعمل الجنة ، وإن عمل أيّ عمل ، وإنّ صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أيّ عمل ، ثم قال بيده فقبضها ثم قال : فرغ ربّكم عزوجل من العباد ، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة ، ونبذ باليسرى فقال : فريق في السعير. رواه الترمذي (١) عن قتيبة عن ليث عن (٢) أبي قبيل عن شفيّ (٣) ، وعن قتيبة عن بكر بن نصر عن أبي قبيل به ، وقال : حديث حسن صحيح غريب ، ورواه النسائي (٤) والإمام أحمد (٥) وهذا السياق له.

وفي صحيح الحاكم (٦) وغيره من حديث أبي جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (١٧٢)) [الأعراف] قال : جمعهم له يومئذ جمعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صوّرهم واستنطقهم

__________________

(١) صحيح. رواه الترمذي (٢١٤١) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(٢) سقطت من المطبوع.

(٣) تحرفت في المطبوع إلى : «شغى».

(٤) النسائي في الكبرى (تحفة الأشراف) (٨٨٢٥).

(٥) أحمد ٢ / ١٦٧.

(٦) الحاكم ٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤ وهو ضعيف من حديث أبي ، ففيه أبو جعفر الرازي وهو سيئ الحفظ ، والربيع بن أنس له أوهام.

٢٥

فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)) [الأعراف] إلى قوله (الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)) قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السّبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم ، أو تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي ، يذكرونكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي. فقالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا لا ربّ لنا غيرك. ورفع لهم أبوهم آدم ، فرأى فيهم الغنيّ والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال : ربّ لو سوّيت بين عبادك فقال : إني أحبّ أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السّرج. وذكر تمام الحديث.

وفي صحيحه وجامع الترمذي (١) من حديث هشام بن سعد (٢) عن زيد بن أسلم عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذرّ ، ثم جعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا (٣) من نور ، ثم عرضهم على آدم فقال : من هؤلاء يا ربّ فقال : هؤلاء ذرّيّتك ، فرأى فيهم رجلا أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال : يا رب من هذا قال : ابنك داود يكون في آخر الأمم قال : كم جعلت له من العمر؟ قال : ستين سنة ، قال : يا رب زده من عمري أربعين سنة قال الله : إذا يكتب ويختم فلا يبدّل فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة قال له : أولم تجعلها لابنك داود قال : فجحد فجحدت

__________________

(١) الترمذي ٣٠٧٦ و ٣٠٧٨ وهو صحيح.

(٢) تحرفت في المطبوع إلى «يزيد».

(٣) الوبيص : اللمع والبرق ، ووبصت الأرض : كثر نبتها.

٢٦

ذرّيته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته» قال : هذا على شرط مسلم.

وفي موطأ مالك (١) عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني : أنّ عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (١٧٢)) [الأعراف] فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عنها فقال : إنّ الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال : «إنّ الله إذا خلق العبد للجنة ، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله النار.

قال الحاكم : هذا الحديث على شرط مسلم ، وليس كما قاله ؛ بل هو حديث منقطع (قال) أبو عمر (٢) : هو حديث منقطع ، فإنّ مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب ، بينهما نعيم بن ربيعة ، هذا إن صحّ أنّ الذي رواه عن زيد بن أبي أنيسة ، فذكر فيه نعيم بن ربيعة إذ ليس هو بأحفظ من مالك ولا ممن يحتجّ به إذا خالفه مالك ، ومع ذلك فإنّ نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث ، وليس هو مسلم بن يسار العابد البصري ، وإنما هو رجل مدنيّ مجهول ، ثم ذكر من

__________________

(١) الموطأ ٢ / ٨٩٨.

(٢) هو ابن عبد البر.

٢٧

تاريخ ابن أبي خيثمة قال : قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا ، فكتب بيده على مسلم بن يسار : لا يعرف.

قال أبو عمر : هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإنّ معناه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد روي من وجوه كثيرة ، من حديث عمر بن الخطاب وغيره ، وممن روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معناه في القدر علي بن أبي طالب ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو سريحة العبادي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وذو اللحية الكلابي ، وعمران بن حصين ، وعائشة ، وأنس بن مالك ، وسراقة بن جعشم ، وأبو موسى الأشعري ، وعبادة بن الصامت. قلت : وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن عبد الله ، وحذيفة بن أسيد ، وأبو ذر ، ومعاذ بن جبل ، وهشام بن حكيم ، وأبو عبد الله رجل من الصحابة روى عنه أبو نصر ، وعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وأبو الدرداء ، وعمرو بن العاص ، وعائشة أم المؤمنين ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو أمامة الباهلي ، وأبو الطفيل وعبد الرحمن بن عوف. وبعض أحاديثهم موقوفة ، وستمر بك جميعا متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء الله عزوجل.

وقال إسحاق بن راهويه : أخبرنا بقية بن الوليد قال : أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد ، عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة (١) عن أبيه وهشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال : يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال : «إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره ، أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ، فأهل الجنة

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «عبد الرحمن بن أبي قتادة عن أبيه عن هشام».

٢٨

ميسّرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار (١).

قال إسحاق : وأخبرنا عبد الصمد قال : حدثنا حماد حدثنا الجريريّ (٢) عن أبي نضرة (٣) أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا له : ما يبكيك؟ قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيده الأخرى قال : هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي ، فلا أدري في أي القبضتين أنا» (٤).

أخبرنا عمرو بن محمد ، عن (٥) اسماعيل بن رافع ، عن المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن الله تعالى خلق آدم من تراب ، ثم جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار ، كان إبليس يمرّ به فيقول : خلقت لأمر عظيم ، ثم نفخ الله فيه من روحه قال : يا رب ما ذريتي ، قال : اختر يا آدم قال : اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين فبسط الله كفه فإذا كل من هو كائن من ذريته في كفّ الرحمن» (٦).

أخبرنا النضر قال : أخبرنا أبو معشر ، عن أبي سعيد المقبري ونافع مولى الزبير ، عن أبي هريرة قال : «لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له : يا آدم أيّ يديّ أحب إليك أن أريك ذريتك فيها قال : يمين ربي ، وكلتا

__________________

(١) صحيح. رواه إسحاق بن راهويه ، وأحمد (٤ / ١٨٦) عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي.

(٢) تصحفت في المطبوع إلى «الحريري».

(٣) تصحفت في المطبوع إلى «أبي نصرة».

(٤) صحيح. ورواه أحمد (٥ / ٦٨) عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) تحرفت في المطبوع إلى : «بن».

(٦) ضعيف. رواه إسحاق بن راهويه ، وفيه إسماعيل بن رافع : ضعيف.

٢٩

يدي ربي يمين ، فبسط يمينه وإذا فيها ذريته كلّهم ما هو خالق إلى يوم القيامة ؛ الصحيح على هيئته ، والمبتلى على هيئته ، والأنبياء على هيئاتهم فقال : ألا أعفيتهم كلهم فقال : إني أحببت أن أشكر» (١) وذكر الحديث.

وقال محمد بن نصر المروزيّ : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن أبي مريم قال : أخبرنا الليث بن سعد قال : حدثني ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن عبد الله بن سلام قال : «خلق الله آدم ثم قال بيده فقبضها فقال : اختر يا آدم فقال : اخترت يمين ربي وكلتا يديك يمين ، فبسطها فإذا فيها ذريته فقال : من هؤلاء يا رب؟ قال : من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة» (٢).

قال : وحدثنا إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا جعفر بن عون قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن سالم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة» (٣) وذكر الحديث.

وقال إسحاق بن الملاي قال : حدثنا المسعودي عن علي بن بذيمة (٤) عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (١٧٢)) [الأعراف] قال : إنّ الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه ، وكتب رزقه وأجله ومصيباته ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم.

__________________

(١) ضعيف. فيه أبو معشر وهو نجيح السندي المدني.

(٢) صحيح.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) تصحفت في المطبوع إلى : «نديمة».

٣٠

قال : وحدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس قال : مسح الله ظهر آدم ، فأخرج كل طيب في يمينه ، وفي يده الأخرى كل خبيث.

وقال محمد بن نصر : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، وحدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن الزبير بن موسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن الله ضرب منكبه الأيمن ، فخرجت كلّ نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقيّة فقال : هؤلاء أهل الجنة ، ثم ضرب منكبه الأيسر ، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء فقال : هؤلاء أهل النار ، ثم أخذ عهده على الإيمان والمعرفة به والتصديق له وبأمره ، من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم ، فآمنوا وصدّقوا وعرفوا وأقرّوا.

حدثنا إسحاق قال : حدثنا روح بن عبادة عن (١) محمد بن عبد الملك ، عن أبيه ، عن الزبير بن موسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بهذا الحديث وزاد : قال ابن جريج : وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل.

قال إسحاق : وأخبرنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ (١٧٢)) [الأعراف] قال : أخذهم كما يؤخذ بالمشط.

وفي تفسير أسباط عن السدّي عن أصحابه أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية قال : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء ، مسح صفحة ظهر آدم اليمنى

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «بن».

٣١

فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي ، فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ألست بربكم قالوا : بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ (١٧٣)) [الأعراف] الآية.

فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أنّ الله ربه ، ولا مشرك إلا وهو يقول : إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فذلك قوله عزوجل (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (١٧٢)) [الأعراف] وذلك حين يقول (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً (٨٣)) [آل عمران] وذلك حين يقول : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام] قال يعني يوم أخذ الميثاق.

وقال إسحاق : حدثنا وكيع قال : حدثنا مضر ، عن ابن سابط قال : قال أبو بكر رضي الله عنه : خلق الله الخلق قبضتين ، فقال لمن في يمينه : ادخلوا الجنة بسلام ، وقال لمن في يده الأخرى : ادخلوا النار ولا أبالي.

وأخبرنا جرير عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن رجل من الأنصار من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما خلق الله الخلق قبض قبضتين بيده ، فقال لمن في يمينه : أنتم أصحاب اليمين ، وقال لمن في اليد الأخرى : أنتم أصحاب الشمال فذهبت إلى يوم القيامة.

وقال عبد الله بن وهب في «كتاب القدر» : أخبرني جرير بن حازم ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة قال : إن الله عزوجل لما خلق آدم أخرج

٣٢

ذريته ثم نشرهم في كفه ثم أفاضهم فألقى التي في يمينه عن يمينه ، والتي في يده الأخرى عن شماله ثم قال : هؤلاء لهذه ولا أبالي ، وهؤلاء لهذه ولا أبالي ، وكتب أهل النار وما هم عاملون ، وأهل الجنة وما هم عاملون ، فطوى الكتاب ورفع القلم.

وقال أبو داود : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي صالح فذكره.

قال ابن وهب : وأخبرني عمرو بن الحرث وحياة بن شريح عن ابن أبي أسيد هكذا قال عن أبي فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : إن الله عزوجل لما خلق آدم ، نفضه نفض المزود فأخرج من ظهره ذريته أمثال النّغف (١) فقبضهم قبضتين ثم ألقاهما فقال : فريق في الجنة وفريق في السعير.

قال ابن وهب : وأخبرني يونس بن يزيد ، عن الأوزاعي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا ، أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا ، لقي الله فأدحض حجّته وأحرق لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء ، وقطع به الأسباب وأكبّه الله على وجهه في النار وقال : إنّ الله خلق الخلق فأخذ منهم الميثاق. وكان عرشه على الماء.

وذكر أبو داود : حدثنا يحيى بن حبيب قال : حدثنا معتمر قال : حدثنا أبي ، عن أبي العالية في قوله عزوجل (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ

__________________

(١) النغف : نوع من الدود.

٣٣

اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)) [آل عمران] قال : صاروا فريقين ، وقال لمن سوّد وجوههم وغيرهم : أكفرتم بعد إيمانكم قال : هو الإيمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة مسلمين.

قال أبو داود : وحدثنا موسى بن اسماعيل قال : حدثنا حماد قال : حدثنا أبو نعامة السعدي قال : كنا عند أبي عثمان النهدي ، فحمدنا الله عزوجل فذكرناه ودعوناه فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشدّ فرحا مني بآخره ، فقال أبو عثمان : ثبّتك الله ، كنا عند سلمان فحمدنا الله عزوجل وذكرناه ودعوناه ، فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره فقال سلمان : ثبتك الله إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم ، مسح ظهره فأخرج من ظهره ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فخلق الذكر والأنثى والشقوة والسعادة والأرزاق والآجال والألوان ، ومن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ، ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر.

وقال أبو داود : حدثنا موسى بن اسماعيل قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مسح ربّك تعالى ظهر آدم فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، أخذ عهودهم ومواثيقهم قال سعيد : فيرون أنّ القلم جفّ يومئذ.

وقال الضحاك : خرجوا كأمثال الذر ثم أعادهم ، فهذه وغيرها تدلّ على أن الله سبحانه قدّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم وأراهم لأبيهم آدم صورهم وأشكالهم وحلاهم ، وهذا والله أعلم أمثالهم وصورهم.

وأما تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية به ففيه ما فيه ،

٣٤

وحديث عمر لو صحّ لم يكن تفسيرا للآية ، وبيان أن ذلك هو المراد بها فلا يدل الحديث عليه ، ولكن الآية دلت على أنّ هذا الأخذ من بني آدم لا من آدم ، وأنه من ظهورهم لا من ظهره ، وأنهم ذرياتهم أمة بعد أمة ، وأنه إشهاد تقوم به الحجة له سبحانه ، فلا يقول الكافر يوم القيامة : كنت غافلا عن هذا ، ولا يقول الولد : أشرك أبي وتبعته ، فإن ما فطرهم الله عليه من الإقرار بربوبيته ، وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم حجة عليهم ، ثم دلّ حديث عمر وغيره على أمر آخر ، لم تدل عليه الآية ، وهو القدر السابق والميثاق الأول ، وهو سبحانه لا يحتج عليهم بذلك ، وإنما يحتج عليهم برسله ، وهو الذي دلّت عليه الآية ، فتضمنت الآية والأحاديث إثبات القدر والشرع وإقامة الحجة والإيمان بالقدر ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والإقرار به معها ، وبالله التوفيق.

٣٥
٣٦

الباب الثالث

في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى

لله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم! أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة ، فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله بكلامه ، وخطّ لك التوراة بيده ، أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحجّ آدم موسى ، فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى» (١).

وفي رواية : كتب لك التوراة بيده (٢).

وفي لفظ آخر : تحاجّ آدم وموسى ، فحج آدم موسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس ، وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : أنت موسى الذي أعطاه الله علم كلّ شيء ، واصطفاه على الناس برسالته قال : نعم. قال : أفتلومني على أمر قدّر عليّ قبل أن أخلق (٣).

__________________

(١) رواه البخاري (٣٤٠٩). ومسلم (٢٦٥٢) عن أبي هريرة.

(٢) انظر في آخر حديث مسلم (٢٦٥٢) (١٣).

(٣) رواه مسلم (٢٦٥٢) (١٤).

٣٧

وفي لفظ آخر : «احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى ، فقال موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقرّبك نجيا ، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاما. قال آدم : هل وجدت فيها : وعصى آدم ربّه فغوى قال : نعم. قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحج آدم موسى» (١).

وفي لفظ آخر : «احتج آدم وموسى فقال له موسى : أنت الذي أخرجتنا خطيئتك من الجنة» (٢) وذكر الحديث. متفق على صحته وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق بخلق السموات بخمسين ألف سنة.

وقد ردّ هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك وقال : لو صحّ لبطلت نبوات الأنبياء فإنّ القدر إذا كان حجّة للعاصي بطل الأمر والنهي ، فإنّ العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه ، وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته ، فإنّ هذا حديث صحيح متفق على صحته ، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن ، وتقابله بالتصديق والتسليم ، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قاله وحكموا بصحته ، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسّمة ومشبّهة حشوية وهذا الشأن.

__________________

(١) رواه مسلم (٢٦٥٢) (١٥).

(٢) رواه البخاري (٣٤٠٩) ، ومسلم (٢٦٥٢).

٣٨

ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين بردّ أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة ، كما ردّوا أحاديث الرؤية وأحاديث علوّ الله على خلقه ، وأحاديث صفاته القائمة به ، وأحاديث الشفاعة ، وأحاديث نزوله إلى سمائه ، ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده ، وأحاديث تكلّمه بالوحي كلاما يسمعه من شاء من خلقه حقيقة ، إلى أمثال ذلك ، وكما ردّت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها ، وكما ردت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة ، وكما ردت المعطّلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية ، وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.

وكلّ من أصّل أصلا لم يؤصله الله ورسوله ، قاده قسرا إلى ردّ السنة وتحريفها عن مواضعها ، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول ، فهو أصلهم الذي عليه يعوّلون وجنّتهم التي إليها يرجعون.

ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث ووجه الحجة التي توجهت لآدم على موسى.

فقالت فرقة : إنما حجّه لأن آدم أبوه ، فحجه كما يحج الرجل ابنه. وهذا الكلام لا محصّل فيه البتة ، فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن أو العبد أو السيد ، ولو حجّ الرجل أباه بحق ، وجب المصير إلى الحجة.

وقالت فرقة : إنما حجّه لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة ، وهذا من جنس ما قبله إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه ، وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة ويقبل الله شهادتهم عليهم وإن كانوا من غير أهل شريعتهم.

٣٩

وقالت فرقة أخرى : إنما حجّه لأنه كان قد تاب من الذنب. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولا يجوز لومه ، وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصحّ لثلاثة أوجه أحدها : أن آدم لم يذكر ذلك الوجه ولا جعله حجة على موسى ولم يقل : أتلومني على ذنب قد تبت منه. الثاني : أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله واجتباه بعده وهداه ، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلا عن كليم الرحمن. الثالث : أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه الحجة واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه.

وقالت فرقة أخرى : إنما حجّه لأنه لامه في غير دار التكليف ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه. وهذا أيضا فاسد من وجهين أحدهما : أن آدم لم يقل له : لمتني في غير دار التكليف وإنما قال : أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق؟! فلم يتعرض للدار وإنما احتج في القدر السابق. الثاني : أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف فيلومهم بعد الموت ويلومهم يوم القيامة.

وقالت فرقة أخرى : إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة وتفرّد الربّ سبحانه بربوبيته وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه وأنه لا رادّ لقضائه وقدره وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قالوا : ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة لأنه شهد نفسه عدما محضا والأحكام جارية عليه معروفة له وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له. قالوا : ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.

وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث ، وهو شرّ من مسلك القدرية في رده ، وهم إنما ردوه إبطالا لهذا القول وردا على قائليه وأصابوا في رد حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن هذا المسلك لو صحّ لبطلت الديانات

٤٠